موسوعة الفرق

المَبحَثُ الثَّاني: مَذهَبُ الماتُريديَّةِ في أفعالِ العبادِ


ذهبت الماتُريديَّةُ إلى أنَّ أفعالَ العبادِ مَخلوقةٌ لله تعالى، وأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ خلَقَها كُلَّها خيرًا كانت أو شرًّا، واستدلُّوا على ذلك بأدِلَّةٍ كثيرةٍ نقليَّةٍ وعقليَّةٍ.
1- قال الماتُريديُّ: (الدَّليلُ عندنا من طريقِ القُرآنِ على لزومِ القَولِ بخَلقِ الأفعالِ قَولُه: وَأَسِرُّوا قَولَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: 14] ، فلو لم يكُنْ جَلَّ ثناؤه خالِقًا لِما يجهر ويخفى لم يكُنْ ليحتَجَّ به على عِلمِه،... وأيضًا أنَّ اللهَ تعالى قال: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [يونس: 22] ، وقال في موضعٍ آخَرَ: وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ [سبأ: 18] أخبَرَ أنَّ تقديرَ السَّيرِ والتَّسييرِ فِعلُه، وبه كان السَّيرُ) [613] ((التوحيد)) (ص: 254). .
وقال أيضًا: (القولُ بالمتعارَفِ في الخَلقِ أنْ لا خالِقَ غَيرُ اللهِ، ولا رَبَّ سواه، ولو جعَلْنا حَدثَ الأفعالِ وخُروجَها من العَدَمِ إلى الوجودِ، ثمَّ فناءَها بعد الوجودِ، ثمَّ خروجَها؛ على تقديرٍ مِن أربابِها، لجعلنا لها وصفَ الخَلقِ الذي به صار الخَلقُ خَلقًا، وفي ذلك لزومُ القَولِ بخالِقٍ سِواه) [614] ((التوحيد)) (ص: 230)، ويُنظر فيه أيضًا: (ص: 221-256). .
2- قال البَزْدَويُّ حاكيًا مَذهَبَ الماتُريديَّةِ: (قال أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ: أفعالُ العبادِ مخلوقةٌ للهِ تعالى، ومفعولةٌ، واللهُ تعالى موجِدُها ومُحدِثُها ومُنشِئُها... وجهُ قَولِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ قَولُ اللهِ تعالى: اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [الرعد: 16] ، والفعلُ شيءٌ، فيكونُ اللهُ تعالى خالِقَه، وقَولُه تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات: 96] أي: الذي تعملون، فجعل أفعالَنا مخلوقاتِه كأنفُسِنا... والدَّليلُ المعقولُ في المسألةِ أنَّ أفعالَ العَبدِ لا يستحيلُ دُخولُها تحت قُدرةِ اللهِ تعالى، فإنَّها تدخل تحتَ قُدرةِ اللهِ تعالى، كما في المعلوماتِ كُلِّها فيما يدخُلُ تحتَ عِلمِ العبادِ، لا يستحيلُ دُخولُه تحتَ عِلمِ اللهِ تعالى، فإذا لم يَستَحِلْ دخولَها تحتَ قُدرةِ اللهِ تعالى فاللهُ تعالى غيرُ متناهي القُدرةِ، فيدخُلُ تحتَ قُدرتِه... وإذا دخل تحتَ قُدرةِ اللهِ تعالى يكونُ اللهُ موجِدَه، كما في الأجسامِ) [615] ((أصول الدين)) (ص: 99، 102، 105). .
3- قال أبو المُعينِ النَّسَفيُّ: (قال أهلُ الحَقِّ: للخَلقِ أفعالٌ بها صاروا عُصاةً ومطيعينَ، وهي مخلوقةٌ لله تعالى... وأهلُ الحقِّ يتعلَّقون بقولِه تعالى: اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد: 16] ، والآيةُ خارجةٌ مخرَجَ التَّمدُّحِ، ولا تمدُّحَ بما يساويه فيه غيرُه، وفي إخراجِ فعلِ غيرِه عن تخليقِه إزالةُ التَّمدُّحِ؛ لأنَّه يصيرُ في التَّقديرِ كأنَّه قال: خالِقُ كُلِّ شَيءٍ، وهو فِعلُه، أو خالِقُ كُلِّ شيءٍ ليس بفِعلٍ لغيرِه... وهذا باطلٌ... وبقولِه تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات: 96] أي: وعمَلَكم... والمعقولُ لنا أنَّ إثباتَ قُدرةِ التَّخليقِ للعَبدِ محالٌ؛ لأنَّ مِن شرطِ قُدرةِ التَّخليقِ ثُبوتَ العِلمِ للخالِقِ بالمخلوقِ قبلَ الوُجودِ، بدليلِ قَولِه تعالى: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: 14] ، وكذا بَداهةُ العقولِ، واعترافُ الخُصومِ باشتراطِ العِلمِ يدلَّانِ على هذا، ثمَّ الخلقُ لا عِلمَ لهم بكيفيَّةِ الاختراعِ، والإخراجِ من العَدَمِ إلى الوجودِ... فدَلَّ أنَّ الفِعلَ وُجِد بإيجادِ اللهِ تعالى) [616] ((التمهيد لقواعد التوحيد)) (ص: 62، 64، 65). .
وقولُ الماتُريديَّةِ بأنَّ اللهَ تعالى خالِقُ أفعالِ العِبادِ خَيرِها وشَرِّها هو القولُ الحقُّ الذي دلَّ عليه السَّمعُ والعقلُ، وهو قولُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ وسَلَفِ الأمَّةِ، لكِنْ بالنِّسبةِ لعلاقةِ العِبادِ بأفعالِهم فقد حاولت الماتُريديَّةُ التَّوسُّطَ بَينَ قولِ المُعتزِلةِ وقولِ الجبريَّةِ، فقالوا: أفعالُ العبادِ مخلوقةٌ لله تعالى، وهي كَسبٌ من العبادِ.
قال الماتُريديُّ: (إنَّ حقيقةَ ذلك الفِعلِ الذي هو للعبادِ من طريقِ الكَسْبِ، ولله من طريقِ الخَلقِ) [617] ((التوحيد)) (ص: 228). .
وقد اختلفت عباراتُهم في بيانِ معنى الكَسْبِ [618] يُنظر: ((التمهيد لقواعد التوحيد)) لأبي المعين النسفي (ص: 71). ، وحاصِلُ كلامِهم: أنَّ المؤثِّرَ في أصلِ الفِعلِ قُدرةُ اللهِ تعالى، والمؤثِّرَ في صفةِ الفِعلِ قُدرةُ العبدِ، وتأثيرُ العبدِ هذا هو الكَسْبُ عندَهم.
قال البياضيُّ: (أصلُ الفعلِ بقُدرةِ اللهِ، والاتصافُ بكَونِه طاعةً أو معصيةً بقُدرةِ العبدِ، وهو مَذهَبُ جُمهورِ الماتُريديَّةِ) [619] ((إشارات المرام)) (ص: 256). ، وهم يقصِدون بهذا أنَّ اللهَ تعالى لا يخلُقُ فِعلَ العبدِ إلَّا بعد أن يريدَه العبدُ ويختارَه.
وحقيقةُ قولِ الماتُريديَّةِ أنَّ للعبادِ إرادةً غيرَ مخلوقةٍ، وهي مبدأُ الفِعلِ، فعلى مَذهَبِهم العبادُ يتصرَّفون بمبادئِ أفعالِهم باستقلالٍ تامٍّ كما يشاؤونَ، وخَلقُ اللهِ تعالى لأفعالِهم إنَّما هو تَبَعٌ لإرادتِهم غيرِ المخلوقةِ، وقولُهم هذا قريبٌ من قَولِ المُعتزِلةِ.
ولا شَكَّ أنَّ قَولَ الماتُريديَّةِ هذا باطِلٌ؛ لأنَّ اللهَ تعالى خالِقُ كُلِّ شيءٍ، ومَعاذَ اللهِ أن يكونَ في عبدِه شَيءٌ غيرُ مخلوقٍ له، ولا داخِلٍ تحتَ قُدرتِه ومشيئتِه، بل العبدُ؛ جِسمُه ورُوحُه وصِفاتُه وأفعالُه ودواعيه وكُلُّ ذرةٍ فيه- مخلوقٌ للهِ خَلقًا تصَرَّف به في عبدِه... فهو عبدٌ مخلوقٌ من كُلِّ وجهٍ، وبكُلِّ اعتبارٍ، وفَقرُه إلى خالقِه وبارِئِه من لوازمِ ذاتِه، وقلبُه بيَدِ خالقِه، وبَينَ أُصبُعينِ من أصابِعِه يُقَلِّبُه كيف يشاءُ، فيجعلُه مريدًا لِما شاء وقوعَه منه، كارهًا لِما لم يشَأْ وقوعَه؛ فما شاء كان، وما لم يشَأْ لم يكُنْ [620] يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 144). .
وهذا لا يعني أنَّ العبدَ مجبورٌ لا اختيارَ له، بل إنَّ اللهَ تعالى خَلَقَه على نشأةٍ وصِفةٍ يتمَكَّنُ بها من إحداثِ إرادتِه وأفعالِه، وتلك النَّشأةُ بمشيئةِ اللهِ وقُدرتِه وتكوينِه، فهو الذي خلَقَه وكوَّنه كذلك، وهو لم يجعَلْ نَفْسَه كذلك، بل خالِقُه وباريه جعَلَه مُحدِثًا لإرادتِه وأفعالِه، وبذلك أمره ونهاه، وأقام عليه حجَّتَه، وعَرَّضه للثَّوابِ والعقابِ، فأمرَه بما هو متمكِّنٌ من إحداثِه، ونهاه عمَّا هو متمكِّنٌ من تركِه، ورتَّب ثوابَه وعقابَه على هذه الأفعالِ والتُّروكِ التي مكَّنه منها، وأقدره عليها، وناطها به، وفطَرَ خَلْقَه على مدحِه وذَمِّه عليها؛ مؤمِنَهم وكافِرَهم، المُقِرَّ بالشَّرائعِ منهم والجاحِدَ لها، فكان مريدًا شائيًا بمشيئةِ اللهِ له، ولولا مشيئةُ اللهِ أن يكونَ شائيًا لكان أعجَزَ وأضعَفَ من أن يجعَلَ نَفسَه شائيًا؛ فالرَّبُّ سُبحانَه أعطاه مشيئةً وقُدرةً وإرادةً، وعرَّفه ما ينفعُه وما يضرُّه، وأمره أن يجريَ مشيئتَه وإرادتَه وقدرتَه في الطَّريقِ التي يصِلُ بها إلى غايةِ صلاحِه [621] يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 137، 138). .
فأفعالُ العبادِ إذًا هي أفعالُهم حقيقةً ومفعولةٌ للرَّبِّ تعالى؛ إذ إنَّ الفعلَ غيرُ المفعولِ، فالعبدُ فَعَل فِعلَه حقيقةً، واللهُ خالِقُه، وخالِقُ ما فَعَل به من القُدرةِ والإرادةِ، وخالِقُ فاعليَّتِه، وسِرُّ المسألةِ: أنَّ العبدَ فاعِلٌ مُنفَعِلٌ؛ فربُّه هو الذي جعله فاعِلًا بقدرتِه ومشيئتِه، وأقدَرَه على الفعلِ، وأحدث له المشيئةَ التي يفعَلُ بها [622] يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 131). .

انظر أيضا: