موسوعة الفرق

المَبحَثُ الأوَّلُ: مراتِبُ القضاءِ والقَدَرِ عِندَ الماتُريديَّةِ


الإيمانُ بالقضاءِ والقَدَرِ رُكنٌ من أركانِ الإيمانِ، ولا يصِحُّ الإيمانُ إلَّا به، والماتُريديَّةُ توافِقُ أهلَ السُّنَّةِ في الإيمانِ بالقَدَرِ مِن حَيثُ الجملةُ؛ فهم من مُثبتةِ القَدَرِ، وإن كان عندهم في بعضِ مسائِلِه بعضُ الخَلَلِ؛ بسببِ تأثُّرِهم بالفلسفةِ وخَوضِهم في عِلمِ الكلامِ [602] يُنظر: ((الماتريدية دراسة وتقويمًا)) للحربي (ص: 433 - 449). .
 والأدِلَّةُ على إثباتِ القَضاءِ والقَدَرِ كثيرةٌ، قال اللهُ تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر: 49]، وقال تعالى: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا [الأحزاب: 38] ، وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في حديثِ عُمَرَ رَضِيَ الله عنه عندما سأله جبريلُ عن الإيمانِ: ((أن تؤمِنَ باللهِ وملائكتِه وكتُبِه ورسُلِه واليومِ الآخِرِ، وتؤمِنَ بالقَدَرِ خَيرِه وشَرِّه )) [603] رواه مسلم (8) مطولًا. .
والإيمانُ بالقَدر كما قال ابنُ تيميَّةَ: (على دَرجتَينِ، كلُّ درجةٍ تتضمَّنُ شيئينِ؛ فالدرجةُ الأُولى: الإيمانُ بأنَّ اللهَ عليمٌ بالخَلقِ، وهم عامِلون بعِلمِه القديمِ، الذي هو موصوفٌ به أزلًا وأبدًا وعَلِمَ جميعَ أحوالهم من الطَّاعاتِ والمعاصي والأرزاقِ والآجالِ.
ثم كتب اللهُ تعالى في اللَّوحِ المحفوظِ مقاديرَ الخلائِقِ.
فأوَّلُ ما خلَق اللهُ القَلَمُ، قال له: اكتُبْ! قال: ما أكتُبُ؟ قال: اكتُبْ ما هو كائِنٌ إلى يومِ القيامةِ [604] أخرجه من طُرُقٍ أبو داود (4700)، والترمذي (3319)، وأحمد (22705) بألفاظٍ مختَلِفةٍ من حديثِ عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عنه؛ ولفظ أحمد: (إنَّ أوَّلَ ما خلَق اللهُ القَلَمُ، ثمَّ قال: اكتُبْ، فجرى في تلك السَّاعةِ بما هو كائنٌ إلى يومِ القيامةِ). صَحَّحه الطبري في ((تاريخ الطبري)) (1/32)، وابن العربي في ((أحكام القرآن)) (2/335)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3319). ، فما أصاب الإنسانَ لم يكُنْ ليُخطِئَه، وما أخطأه لم يكُنْ ليُصيبَه، جَفَّت الأقلامُ وطُوِيَت الصُّحُفُ، كما قال سُبحانَه وتعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحـج: 70].
وأما الدرجةُ الثانيةُ: فهي: مشيئةُ اللهِ تعالى النَّافذةُ، وقدرتُه الشَّامِلةُ.
وهو الإيمانُ بأنَّ ما شاء اللهُ كان، وما لم يشَأْ لم يكُنْ.
وأنَّه ما في السَّمَواتِ والأرضِ من حركةٍ ولا سكونٍ إلَّا بمشيئةِ اللهِ سُبحانَه، لا يكونُ في مُلكِه إلَّا ما يريدُ، وأنَّه سُبحانَه وتعالى على كُلِّ شَيءٍ قديرٌ من الموجوداتِ والمعدوماتِ، فما من مخلوقٍ في الأرضِ ولا في السَّماءِ إلَّا اللهُ خالِقُه سُبحانَه لا خالِقَ غيرُه، ولا رَبَّ سِواه، ومع ذلك فقد أمر العبادَ بطاعتِه وطاعةِ رُسُلِه، ونهاهم عن معصيتِه، وهو سُبحانَه يحِبُّ المتَّقينَ والمحسنينَ والمُقسِطين، ويرضى عن الذين آمنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ، ولا يحِبُّ الكافرينَ، ولا يرضى عن القومِ الفاسِقين، ولا يأمُرُ بالفحشاءِ، ولا يرضى لعبادِه الكُفرَ، ولا يحِبُّ الفسادَ، والعبادُ فاعلون حقيقةً، واللهُ خالِقُ أفعالِهم، والعبدُ هو المؤمِنُ والكافِرُ، والبَرُّ والفاجِرُ، والمصلِّي والصَّائِمُ، وللعبادِ قُدرةٌ على أعمالِهم، ولهم إرادةٌ، واللهُ خالِقُهم وخالِقُ قُدرتِهم وإرادتِهم، كما قال سُبحانَه: لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاؤُونَ إِلا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:28-29] ) [605] ((مجموع الفتاوى)) (3/148- 150). ويُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 29- 65). .
فالإيمانُ بالقَدَرِ يَشتَمِلُ على أربَعِ مَراتِبَ، لا يكونُ العبدُ مُؤمِنًا بالقَدَرِ حتَّى يؤمِنَ بها، وهي:
1- عِلمُ اللهِ القديمُ، وأنَّه قد عَلِم أعمالَ العبادِ قبل أن يَعمَلوها.
2- كتابةُ ذلك في اللَّوحِ المحفوظِ.
3- مشيئةُ اللهِ العامَّةُ وقُدرتُه الشَّاملةُ.
4- إيجادُ اللهِ لكُلِّ المخلوقاتِ، وأنَّه الخالِقُ وما سواه مخلوقٌ.
وهذا هو قولُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، وهو القولُ الحقُّ الذي يدُلُّ عليه الكِتابُ والسُّنَّةُ وإجماعُ الصَّحابةِ والتَّابعينَ لهم بإحسانٍ [606] يُنظر: ((معارج القبول)) لحكمي (2/294)، ((الروضة الندية شرح الواسطية)) لآل فياض (ص: 352، 353)، ((القضاء والقدر)) لعبد الرحمن المحمود (ص: 27- 55، 305-321). .
والماتُريديَّةُ تُثبِت هذه المراتِبَ: العِلمَ، والكتابةَ، وعُمومَ المشيئةِ، والخَلقَ، وما وقع منهم من انحرافٍ في القضاءِ والقدَرِ إنما هو فيما يتعلَّقُ بأفعالِ العبادِ، كما أنَّ هذه المراتِبَ الأربَعَ ليست واضحةً في كلامِ الماتُريديَّةِ كوضوحِها في كلامِ أهلِ السُّنَّةِ؛ فالماتُريديَّةُ عندما يعرفون القضاءَ والقَدَرَ ينصُّون على العِلمِ والخلقِ، أمَّا المشيئةُ فيذكرونَها في بحثِهم لمسألةِ الإرادةِ، وأمَّا الكتابةُ فقَلَّ أن يذكُروها.
نُقولاتٌ من كُتُبِ الماتُريديَّةِ في بابِ القضاءِ والقَدَرِ:
1- قال الماتُريديُّ: (القضاءُ في حقيقتِه الحُكمُ بالشَّيءِ، والقطعُ على ما يليقُ به، وأحقُّ أن يقطَعَ عليه، فرجع مرةً إلى خلقِ الأشياءِ؛ لأنَّه تحقيقُ كونِها على ما هي عليه، وعلى الأولى بكُلِّ شيءٍ أن يكونَ على ما خُلِق؛ إذ الذي خَلَق الخلقَ هو الحكيمُ العليمُ، والحكمةُ هي إصابةُ الحقيقةِ لكُلِّ شيءٍ ووَضعُه مَوضِعَه، قال اللهُ تعالى: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ [فصلت: 12] ، وعلى ذلك يجوزُ وَصفُ أفعالِ الخَلقِ أنَّ قضى بهنَّ، أي: خلقَهنَّ وحَكَم... وأمَّا القَدَرُ فهو على وجهينِ:
أحَدُهما: الحَدُّ الذي عليه يخرجُ الشَّيءُ، وهو جَعلُ كُلِّ شيءٍ على ما هو عليه من خيرٍ أو شرٍّ، من حُسنٍ أو قبحٍ، وعلى مِثلِ هذا قَولُه: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر: 49].
والثَّاني: بيانُ ما عليه يقعُ كُلُّ شَيءٍ من زمانٍ ومكانٍ، وحَقٍّ وباطلٍ، وما له من الثَّوابِ والعقابِ) [607] ((التوحيد)) (ص: 306، 307).  .
وقال أيضًا: (الحمدُ للهِ... الذي فَطَر الخَلقَ بقُدرتِه، وصرَّفهم بحكمتِه، على سابِقِ عِلمٍ ومشيئةٍ... أنشأ الأشياءَ كيف شاء لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء: 23] ) [608] ((التوحيد)) (ص: 221)، ويُنظر فيه أيضًا: (ص: 287، 291، 294،303، 304)، ((التمهيد لقواعد التوحيد)) لأبي المعين النسفي (ص: 81 ، 82).  .
2- قال أبو المُعينِ النَّسَفيُّ: (إذا ثبت أنَّ اللهَ تعالى هو الذي يتولَّى تخليقَ أفعالِ العبادِ؛ خَيرِها وشَرِّها، طاعتِها ومعصيتِها، واللهُ تعالى مختارٌ في تخليقِ ما يخلُقُ، غيرُ مُضطرٍّ فيه، ولا اختيارَ بدونِ الإرادةِ، ثبت أنَّ ما وُجِد من أفعالِ العبادِ كُلِّها بإرادةِ اللهِ تعالى، وما لم يوجَدْ منها لم يكُنْ بإرادةِ اللهِ تعالى إذ لم يخلُقْه، ثمَّ حاصِلُ المَذهَبِ أنَّ كُلَّ حادِثٍ حدث بإرادةِ اللهِ تعالى على أيِّ وصفٍ كان) [609] ((التمهيد لقواعد التوحيد)) (ص: 75). .
3- قال النَّاصريُّ: (إنما أوجبوا الاعتقادَ بسَبقِ عِلمِ اللهِ تعالى بكُلِّ كائنٍ مِن خَلقِه قبل كونِهم؛ لأنَّه تعالى هو القديمُ الكاملُ، وما سِواه مُحدَثٌ، وثبوتُ العِلمِ من صفاتِ الكَمالِ، فيستحيلُ عليه الجَهلُ لِما فيه من التَّعرِّي عن الكمالِ، وإنما قَرَنوا التَّخليقَ بالعِلمِ؛ لأنَّ العِلمَ بالمخلوقِ من شرطِ التَّخليقِ) [610] ((النور اللامع)) (ص: 55). .
وقال أيضًا مبيِّنًا مَذهَبَ الماتُريديَّةِ: (أمَّا قولهم: وكُلُّ شَيءٍ يجري بقدرتِه ومشيئتِه، فإنما قالوا ذلك لما قامت عليه الأدِلَّةُ القاطعةُ على أنَّ كُلَّ حادثٍ حَدَث فهو بإرادةِ اللهِ تعالى وتخليقِه وتكوينِه؛ خيرًا كان أو شَرًّا، حَسَنًا كان أو قبيحًا، جوهرًا كان أو عَرَضًا) [611] ((النور اللامع)) (ص: 56).  .
وقال مبينًا إثباتَ الكتابةِ: (قد كتب اللهُ تعالى في اللَّوحِ المحفوظِ جميعَ ما يكونُ، وجميعَ ما تفعَلُ العبادُ قَبلَ خَلقِهم) [612] ((النور اللامع)) (ص: 110). .

انظر أيضا: