موسوعة الفرق

الفَصلُ الرَّابعُ: عقيدةُ الماتُريديَّةِ في اليومِ الآخِرِ


تُسَمِّي الماتُريديَّةُ المسائِلَ المتعلِّقةَ باليومِ الآخِرِ السَّمعياتِ؛ بناءً على أنَّ هذه المسائِلَ لا تُعلَمُ إلَّا بالسَّمعِ، أي: أنَّ مَصدَرَهم في التَّلقِّي فيما يتعلَّقُ باليومِ الآخِرِ هو السَّمعُ فقط [583] يُنظر: ((الماتريدية دراسة وتقويمًا)) للحربي (ص: 399، 400، 430 - 452)، ((الفرق الإسلامية وأصولها الإيمانية)) لعبد الفتاح فؤاد (1/276). .
فالماتُريديَّةُ وافقوا أهلَ السُّنَّةِ والجماعةِ في جميعِ المباحِثِ المتعلِّقةِ باليومِ الآخِرِ من السَّمعياتِ، فالتَّعويلُ عندهم فيها يقتَصِرُ على الكتابِ والسُّنَّةِ دون الرُّكونِ إلى العقلِ وأحكامِه، ومِن ثمَّ جاءت عقيدةُ الماتُريديَّةِ في اليومِ الآخِرِ مطابِقةً لمَذهَبِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ؛ فقد أثبتوا نعيمَ القبرِ وعذابَه، وأشراطَ السَّاعةِ، والبَعثَ والنُّشورَ، والحسابَ والميزانَ، والصِّراطَ والحَوضَ، والجنَّةَ والنَّارَ، وغيرَ ذلك ممَّا يكونُ في الآخرةِ، إلَّا أنَّ اعتقادَهم بأنَّ اليومَ الآخِرَ وما يتعلَّقُ به لا يُعلَمُ إلَّا بالسَّمعِ ليس بسديدٍ، بل إنَّ العقلَ قد دلَّ على اليومِ الآخِرِ، كما دلَّ عليه السَّمعُ، بل إنَّ السَّمعَ قد نبَّه على دلالةِ العقلِ، كما في قولِ اللهِ تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [آل عمران: 90-92] ، وقولِ اللهِ تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ [الحجر: 85] .
فهذا العالَمُ المحكَمُ المتقَنُ لا يجوزُ في مقتَضَياتِ العُقولِ الصَّحيحةِ أن يكونَ أمرُه عبثًا، ولا أن يكونَ بناؤُه باطلًا، ويستحيلُ عَقلًا ألَّا يكونَ وراءَه حِكمةٌ عُليا هي نتيجةٌ لحِكمةِ خَلقِه ونشأتِه، بل لا بدَّ أنَّ هناك نشأةً أخرى وراء هذه النَّشأةِ، تتجلَّى فيها جميعُ حِكَمِ النَّشأةِ الأولى، وتظهَرُ فيها نتائجُ التَّكاليفِ الشَّرعيَّةِ، ويميِّزُ اللهُ تعالى فيها الخبيثَ من الطَّيبِ، والصَّالحَ من الطَّالحِ، والمسيءَ من المحسِنِ، وينتقِمُ فيها من الظَّالمِ للمظلومِ، ومن الباغي للمَبغيِّ عليه، ولولا تلك النَّشأةُ الآخرةُ لضاعت حكمةُ خَلقِ هذا العالمِ، ولكان أمرُه عَبَثًا باطلًا [584] يُنظر: ((الإيمان بعوالم الآخرة ومواقفها)) لسراج الدين (ص: 7). .
ولمَّا كانت رؤيةُ اللهِ تعالى من المسائِلِ المُتعَلِّقةِ باليومِ الآخِرِ قالت الماتُريديَّةُ بإثباتِها لدلالةِ السَّمعِ عليها، وبجوازِها في العقلِ، إلَّا أنَّهم قيَّدوها بنفيِ الجهةِ والمقابلةِ، وذلك لأنَّهم ينفون عن اللهِ عُلوَّ الذَّاتِ، فاحتاجوا إلى أن يجمعوا بَينَ مسألةِ نفي العُلوِّ وإثباتِ الرُّؤيةِ، وقالوا بـصحَّةِ الدَّليلِ الذي استدلَّت به المُعتزِلةُ على حدوثِ العالمِ، وهو أنَّ الجِسمَ لا يخلو عن الحركةِ والسُّكونِ، وما لا يخلو عن حادِثٍ فهو حادِثٌ؛ لامتناعِ حوادِثَ لا أوَّلَ لها، فيلزَمُ حدوثُ كُلِّ جِسمٍ، فيمتَنعُ أن يكونَ البارئُ جِسمًا؛ لأنَّه قديمٌ، ويمتنعُ أن يكونَ في جهةٍ؛ لأنَّه لا يكونُ في الجهةِ إلَّا جسمٌ، فيمتنعُ أن يكونَ مقابلًا للرَّائي؛ لأنَّ المقابلةَ لا تكونُ إلَّا بَينَ جسمَينِ [585] يُنظر: ((منهاج السنة)) (3/342)، ((بيان تلبيس الجهمية)) (2/77) كلاهما لابن تيمية. .
قال الماتُريديُّ: (القولُ في رؤيةِ الرَّبِّ عزَّ وجلَّ عندنا لازمٌ وحَقٌّ من غيرِ إدراكٍ ولا تفسيرٍ؛ فأمَّا الدَّليلُ على الرُّؤيةِ فقَولُه تعالى: لَّا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام: 103] ، ولو كان لا يُرى لم يكُنْ لنَفيِ الإدراكِ حِكمةٌ... الثَّاني: قولُ موسى عليه السَّلامُ: رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف: 143] ، ولو كان لا يجوزُ الرُّؤيةُ لكان ذلك السُّؤالُ منه جهلًا برَبِّه، وأيضًا قولُه تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 23] ، وأيضًا قَولُه تعالى: لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس: 26] ، وأيضًا ما جاء عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في غيرِ خبرٍ أنَّه قال: ((سترونَ رَبَّكم يومَ القيامةِ كما ترَونَ القَمَرَ لا تُضامُّونَ... )) [586] أخرجه البخاري (554) ومسلم (633) من حديثِ جرير بن عبد الله رضي الله عنه، ولفظه: ((إنَّكم سترون ربَّكم كما ترون هذا القَمَرَ، لا تضامُّون في رؤيتِه)). وفي لفظ: خرج علينا رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليلةَ البدرِ فقال: ((إنَّكم سترون ربَّكم يومَ القيامةِ كما ترونَ هذا، لا تضامُّون في رؤيتِه)) أخرجه البخاري (7436) ... فإن قيل كيف يُرى؟ قيل: بلا كيفٍ؛ إذ الكيفيَّةُ تكونُ لذي صورةٍ، بل يُرى بلا وصفِ قيامٍ وقعودٍ واتِّكاءٍ، وتعَلُّقٍ واتصالٍ وانفصالٍ، ومقابلةٍ ومدابرةٍ، وقصيرٍ وطويلٍ، ونورٍ وظلمةٍ، وساكنٍ ومتحَرِّكٍ، ومماسٍّ ومباينٍ، وخارجٍ وداخلٍ، ولا معنى يأخُذُه الوَهمُ أو يُقَدِّرُه العَقلُ؛ لتعاليه عن ذلك) [587] ((التوحيد)) (ص: 77- 80، 85). .
وقال أبو المُعينِ النَّسَفيُّ: (في العقلِ دليلٌ على جوازِ رؤيةِ اللهِ تعالى، وقد ورد الدَّليلُ السَّمعيُّ بإيجابِ رؤيةِ المؤمنين اللهَ تعالى في الدَّارِ الآخرةِ، فيُرى لا في مكانٍ، ولا على جهةٍ؛ من مقابلةٍ أو اتصالِ شُعاعٍ، أو ثبوتِ مَسافةٍ بَينَ الرَّائي وبَينَ اللهِ تعالى، وغيرِ ذلك من المعاني التي هي من أماراتِ الحَدَثِ) [588] ((التمهيد لقواعد التوحيد)) (ص: 38).  .
وبعدَ ذِكرِه للأدِلَّةِ السَّمعيَّةِ قال: (المعقولُ أنَّا نرى في الشَّاهِدِ الجواهِرَ والألوانَ والأكوانَ؛ إذ كما نميِّزُ بحاسَّةِ البَصَرِ بَينَ جوهَرٍ وجوهَرٍ، نميِّزُ بَينَ الأبيضِ والأسودِ، والمتحَرِّكِ والسَّاكِنِ، والاجتماعِ والافتراقِ، غيرَ مرئيَّةٍ، ولم يُرَ إلَّا الجواهِرُ؛ لِما وقع التَّمييزُ بَينَ الأبيضِ والأسودِ، والمتحرِّكِ والسَّاكِنِ، كما لا يقعُ بَينَ العالمِ والجاهِلِ، والحكيمِ والسَّفيهِ، والسَّاخِطِ والرَّاضي، ثمَّ لما ثبتَت رؤيةُ هذه المعاني ولم نعلَمْ وَضعًا جامعًا بَينَ هذه الأجناسِ إلَّا الوجودَ؛ إذ لا جوهريَّةَ ولا لونيَّةَ في الحركةِ والسُّكونِ، وعند السَّبرِ يتبيَّنُ أنْ ليس وراءَ الوجودِ صِفةٌ تجمَعُ هذه الأجناسَ، فعَلِمْنا أنَّ المعنى المطلَقَ للرُّؤيةِ المجوِّزَ لها ليس إلَّا الوجودَ، ثمَّ رأينا أنَّ الوجودَ يتعدَّى من الشَّاهِدِ إلى الغائِبِ، فيكونُ جائِزَ الرُّؤيةِ في العقلِ، ثمَّ الشَّرعُ ورد بإثباتِها في الآخرةِ للمُؤمنين) [589] ((التمهيد لقواعد التوحيد)) (ص: 40، 41). .
وقولُ الماتُريديَّةِ بإثباتِ الرُّؤيةِ ونَفيِ الجهةِ والمقابلةِ قَولٌ متناقِضٌ، حتى إنَّ المُعتزِلةَ صارت تسخَرُ منهم ومن أمثالِهم، فيقولُ قائلُهم: (من سَلَّم أنَّ اللهَ ليس في جهةٍ، وادَّعى مع ذلك أنَّه يُرى، فقد أضحك النَّاسَ على عَقلِه) [590] ((بيان تلبيس الجهمية)) لابن تيمية (2/88). ويُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 249- 253)، ((المغني في أبواب التوحيد والعدل)) (4/139) كلاهما للقاضي عبدالجبار. .
ولهذا صار كثيرٌ من أهلِ العِلمِ والحديثِ يَصِفُ أقوالَ هؤلاء بأنَّ فيها تناقضًا؛ حيث يوافقون أهلَ السُّنَّةِ والجماعةِ على شَيءٍ من الحَقِّ، ويخالفونَهم فيما هو أولى بالحقِّ منه، ويفسِّرون ما يوافقون فيه بما يحيلُه عن حقيقتِه [591] يُنظر: ((بيان تلبيس الجهمية)) لابن تيمية (2/89). .
وحقيقةُ قولِ الماتُريديَّةِ أنَّهم أثبتوا ما لا يمكِنُ رؤيتُه؛ حيثُ إنَّهم جمعوا بَينَ أمرينِ متناقِضَينِ، فإن ما لا يكونُ داخِلَ العالَمِ ولا خارِجَه، ولا يشارُ إليه، يمتنِعُ أن يُرى بالعينِ، ولو كان وجودُه في الخارِجُ ممكِنًا فكيف وهو ممتنِعٌ؟! وإنما يُقدَّرُ في الأذهانِ من غيرِ أن يكونَ له وجودٌ في الأعيانِ، فهو من بابِ الوَهمِ والخيالِ الباطِلِ [592] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/87). .
وقولُ الماتُريديَّةِ هذا معلومُ الفسادِ بالضَّرورةِ، كما أنَّ الأحاديثَ المتواترةَ الواردةَ في الرُّؤيةِ دَلَّت على أنَّ المؤمنينَ يَرَونَ رَبَّهم في جهةِ العُلوِّ مِن وجوهٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّ الرُّؤيةَ في لغتِهم لا تُعرَفُ إلَّا لرؤيةِ ما يكونُ بجهةٍ منهم، فأمَّا رؤيةُ ما ليس في الجهةِ، فهذا لم يكونوا يتصوَّرونه فضلًا عن أن يكونَ اللَّفظُ يدُلُّ عليه؛ فإنَّك لستَ تجِدُ أحدًا من النَّاسِ يتصوَّرُ وُجودَ موجودٍ في غيرِ جِهةٍ، فضلًا عن أن يتصوَّرَ أنَّه يُرى، فضلًا عن أن يكونَ اسمُ الرُّؤيةِ المشهورُ في اللُّغاتِ كُلِّها يدُلُّ على هذه الرُّؤيةِ الخاصَّةِ [593] يُنظر: ((بيان تلبيس الجهمية)) لابن تيمية (4/ 433).  .
الوَجهُ الثَّاني: أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شبَّه لهم رؤيتَه برؤيةِ الشَّمسِ والقَمرِ، وليس ذلك تشبيهًا للمَرئيِّ بالمرئيِّ، ومن المعلومِ أنَّه إذا كانت رؤيتُه مِثلَ رؤيةِ الشَّمسِ والقَمَرِ، وجب أن يُرى في جهةٍ من الرَّائي كما أنَّ رؤيةَ الشَّمسِ والقَمَرِ كذلك، فإنَّه لو لم يكُنْ كذلك لأخبرهم برؤيةٍ مُطلَقةٍ نتأوَّلُها على ما يتأوَّلُ من يقولُ بالرُّؤيةِ في غيرِ جِهةٍ، أمَّا بعد أن يستفسِرَهم عن رؤيةِ الشَّمسِ صَحْوًا ورؤيةِ البَدْرِ صَحوًا، ويقولَ: ((إنَّكم تَرَونَ رَبَّكم كذلك)) [594] أخرجه البخاري (806)، ومسلم (182) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ولفظ البخاري: (أنَّ النَّاسَ قالوا: يا رسولَ الله، هل نرى ربَّنا يومَ القيامةِ؟ قال: هل تمارُونَ في القمَرِ ليلةَ البدرِ ليس دونه سحابٌ؟ قالوا: لا يا رسولَ الله. قال: فهل تمارون في الشَّمسِ ليس دونها سحابٌ؟ قالوا: لا. قال: فإنَّكم ترونَه كذلك ...). فهذا لا يمكِنُ أن يُتأوَّلَ على الرُّؤيةِ التي يزعمونَها؛ فإنَّ هذا اللَّفظَ لا يحتَمِلُها لا حقيقةً ولا مجازًا [595] يُنظر: ((بيان تلبيس الجهمية)) (2/410، 411)، ((مجموع الفتاوى)) (16/84، 85) كلاهما لابن تيمية. .
الوَجهُ الثَّالثُ: أنَّه قال: ((هل تضارُّونَ في الشَّمسِ ليس دونها سحابٌ؟ وهل تضارُّونَ في القَمِرِ؟ )) [596] أخرجه البخاري (806)، ومسلم (182) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ولفظ البخاري: (أنَّ النَّاسَ قالوا: يا رسولَ الله، هل نرى ربَّنا يومَ القيامةِ؟ قال: هل تمارُونَ في القمَرِ ليلةَ البدرِ ليس دونه سحابٌ؟ قالوا: لا يا رسولَ الله. قال: فهل تمارون في الشَّمسِ ليس دونها سحابٌ؟ قالوا: لا. قال: فإنَّكم ترونَه كذلك...). فشَبَّه رؤيتَه برؤيةِ أظهَرِ المرئيَّاتِ إذا لم يكُنْ ثَمَّ حجابٌ منفَصِلٌ عن الرَّائي يحولُ بينه وبَينَ المرئيِّ، ومن يقولُ: إنَّه يُرى في غيرِ جِهةٍ يمتنعُ عنده أن يكونَ بينه وبَينَ العبادِ حِجابٌ منفَصِلٌ عنهم؛ إذ الحجابُ لا يكونُ إلَّا لجِسمٍ، ولِما يكونُ في جهةٍ، وهم يقولون: الحجابُ عَدَمُ خَلقِ الإدراكِ في العَينِ، والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مثَّل رؤيتَه برؤيةِ هذين النُّورَينِ العظيمَينِ إذا لم يكُنْ دونَهما حِجابٌ [597] يُنظر: ((بيان تلبيس الجهمية)) لابن تيمية (2/411). .
الوَجهُ الرَّابعُ: أنَّه أخبر أنَّهم لا يضارُّونَ في رؤيتِه، وفي حديثٍ آخَرَ: ((لا تُضامُونَ)) [598] أخرجه البخاري (554) ومسلم (633) من حديث جرير بن عبدالله رضي الله عنه؛ ولفظه: ((إنَّكم سترون ربَّكم كما ترونَ هذا القَمَرَ، لا تضامُّونَ في رؤيتِه ...)). ، ونفيُ الضَّيرِ والضَّيمِ إنَّما يكونُ لإمكانِ لحوقِه للرَّائي، ومعلومٌ أنَّ ما يسمُّونَه رؤيةَ ما ليس بجهةٍ من الرَّائي لا فوقَه ولا شيءَ من جهاتِه لا يُتصوَّرُ فيها ضيرٌ ولا ضيمٌ حتى ينفيَ ذلك، بخلافِ رؤيةِ ما يواجِهُ الرَّائيَ، ويكونُ فوقَه؛ فإنَّه قد يلحَقُه فيه ضيمٌ وضَيرٌ، إمَّا بالازدحامِ عليه، أو كلالِ البَصَرِ لخفائِه كالهلالِ، وإمَّا لجلائِه كالشَّمسِ والقَمَرِ [599] يُنظر: ((بيان تلبيس الجهمية)) لابن تيمية (2/411). .
وأمَّا دليلُهم العقليُّ على إمكانِ الرُّؤيةِ، والذي حاصِلُه أنَّ كُلَّ موجودٍ تَصِحُّ رؤيتُه، فهو ضعيفٌ جدًّا؛ لأنَّه يلزَمُ منه رؤيةُ الأصواتِ والرَّوائحِ والعُلومِ والإراداتِ والمعاني، وجوازُ أكلِها وشُربِها ولمسِها.
ومعلومٌ أنَّ من الأشياءِ ما يُرى، ومنها ما لا يُرى، والفارِقُ بينهما لا يجوزُ أن يكونَ أمورًا عدميَّةً؛ لأنَّ الرُّؤيةَ أمرٌ وُجوديٌّ، والمرئيُّ لا يكونُ إلَّا موجودًا، فليست عدميَّةً لا تتعلَّقُ بالمعدومِ، ولا يكونُ الشَّرطُ فيه إلَّا أمرًا وجوديًّا لا يكونُ عَدَميًّا، وكُلُّ ما لا يُشتَرَطُ فيه إلَّا الوجودُ دونَ العَدَمِ كان بالوجودِ الأكمَلِ أولى منه بالأنقَصِ، فكُلُّ ما كان وجودُه أكمَلَ كان أحقَّ بأن يُرى، وكُلُّ ما لم يمكِنْ أن يُرى فهو أضعَفُ وُجودًا ممَّا يمكِنُ أن يُرى، فالأجسامُ الغليظةُ أحَقُّ بالرُّؤيةِ من الهواءِ، والضِّياءُ أحقُّ بالرُّؤيةِ من الظَّلامِ؛ لأنَّ النُّورَ أَولى بالوجودِ، والظُّلمةَ أَولى بالعَدَمِ، والموجودَ الواجِبَ الوجودِ أكمَلُ الموجوداتِ وُجودًا، وأبعَدُ الأشياءِ عن العَدَمِ، فهو أحَقُّ بأن يُرى، وإنَّما لم نَرَه لعَجزِ أبصارِنا عن رؤيتِه، لا لأجْلِ امتناعِ رُؤيتِه. فإذا كان في الدَّارِ الآخرةِ أكمَلَ اللهُ تعالى الآدميِّينَ وقوَّاهم حتى أطاقوا رؤيتَه [600] يُنظر: ((منهاج السنة)) (2/331- 333)، ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/252) كلاهما لابن تيمية. .
فالعَقلُ دلَّ على إمكانِ الرُّؤيةِ ووقوعِها بدليلِ (أنَّ الرُّؤيةَ أمرٌ وُجوديٌّ لا يتعلَّقُ إلَّا بموجودٍ، وما كان أكمَلَ وجودًا كان أحقَّ أن يُرى، فالباري سُبحانَه أحقُّ أن يُرى مِنْ كُلِّ ما سواه؛ لأنَّ وجودَه أكمَلُ من كُلِّ موجودٍ سِواه) [601] ((مختصر الصواعق)) لابن الموصلي (1/280). .

انظر أيضا: