موسوعة الفرق

الفَرعُ الأوَّلُ: تقريرُ عقيدةِ الماتُريديَّةِ في أسماءِ اللهِ الحُسنى


قرَّر الماتُريديَّةُ وجوبَ إثباتِ أسماءِ اللهِ تعالى، وأنَّ إثباتَها لا يستلزمُ التَّشبيهَ، بدليلِ أنَّ الأنبياءَ عليهم السَّلامُ والكتُبَ السَّماويَّةَ قد جاءت بها، ولو كان في إثباتِها تشبيهٌ لكان ذلك طعنًا في الأنبياءِ عليهم السَّلامُ [358] يُنظر: ((الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات)) لشمس الدين الأفغاني (2/404)، ((الماتريدية دراسة وتقويمًا)) للحربي (ص: 219- 234). .
قال الماتُريديُّ: (الأصلُ عِندَنا أنَّ للهِ أسماءً ذاتيَّةً يُسَمَّى بها، نحوُ قولِه: الرَّحْمَنُ [الرحمن: 1]، ثمَّ الدَّليلُ على ما قُلْنا مجيءُ الرُّسُلِ والكُتُبِ السَّماويَّةِ بها، ولو كان في التَّسميةِ بما جاءت به الرُّسُلُ تشبيهٌ، لكانوا سَبَبَ نقضِ التَّوحيدِ) [359] ((التوحيد)) (ص: 93، 947). .
وذهب جمهورُ الماتُريديَّةِ إلى القَولِ بالتَّوقيفِ في أسماءِ اللهِ تعالى، أي أنَّ طريقَ إثباتِ الأسماءِ الحُسنى هو السَّمعُ، كما هو مَذهَبُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، فلا يُسَمَّى اللهُ إلَّا بما سمَّى به نفسَه وجاء به الشَّرعُ.
قال الماتُريديُّ في نفيِه لاسمِ الجِسمِ عن اللهِ: (حقُّه السَّمعُ عن اللهِ، أنَّ الِجسمَ ليس من أسمائهِ، ولم يَرِدْ عنه ولا عن أحدٍ ممَّن أذِنَ لأحدٍ تقليدُه، فالقولُ به لا يَسَعُ، ولو وَسِع بالنَّحتِ من غيرِ دليلٍ حِسِّيٍّ أو سمعيٍّ أو عقليٍّ لوَسِع القولُ بالجسَدِ والشَّخصِ، وكُلُّ ذلك مستنكَرٌ بالسَّمعِ، وليس القولُ بكُلِّ ما يُسَمَّى به الخلقُ، وذلك فاسِدٌ) [360] ((التوحيد)) (ص: 38). .
وقال أيضًا: (لا يجوزُ أن يقالَ للهِ تعالى: يا مبارَكُ، وإن كان المعنى منه يؤدِّي إلى أن يأتيَ منه كُلُّ خيرٍ؛ لأنَّه لا يُعرَفُ في أسمائِه هذا بالنَّقلِ، وعلينا أن نسكُتَ عن تسميتِه بما لم يُسَمِّ نفسَه بذلك؛ لذلك قُلْنا بأنَّه لا يجوزُ التَّسمِّي بالمبارَكِ، واللهُ الموفِّقُ) [361] ((تأويلات أهل السنة)) (9/ 604). .
وقال في إثباتِ جوازِ إطلاقِ لَفظِ (الشَّيءِ) على اللهِ، وأنَّه من أسمائِه مستدِلًّا على ذلك بقولِه تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] ، وقَولِه تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الأنعام: 19] : (إنَّ القولَ بهذا كُلِّه واجِبٌ بما ثبت في السَّمعِ التَّسميةُ به) [362] ((التوحيد)) (ص: 42، 94). .
وقال أبو المُعينِ النَّسَفيُّ: (إنَّ معنى الاسمِ لو كان ثابتًا من غيرِ إحالةٍ لامتنَعْنا عن إطلاقِ الاسمِ بدونِ الشَّرعِ الوارِدِ به؛ لأنَّا ننتهي في أسماءِ اللهِ تعالى إلى ما أنهانا إليه الشَّرعُ؛ ولهذا لا نسَمِّيه طبيبًا وإن كانا عالِمًا بالأدواءِ والعِلَلِ والأدويةِ، ولا فقيهًا وإن كان عالِمًا بالأحكامِ ومعانيها) [363] ((التمهيد لقواعد التوحيد)) (ص: 10). .
وقال عبدُ الحميدِ الألوسيُّ: (اعلَمْ أنَّ المحقِّقينَ من العُلَماءِ على أنَّ أسماءَه تعالى توقيفيَّةٌ، بمعنى أنَّ جوازَ تسميتِه تعالى باسمٍ موقوفٌ على ورودِ الكتابِ والسُّنَّةِ أو الإجماعِ) [364] ((نثر اللآلئ)) (ص: 34، 35). .
والذي دفَعَهم للقولِ بأنَّ أسماءَ اللهِ توقيفيَّةٌ -مع أنَّ مصدَرَهم في التَّلقِّي العَقلُ- هو خشيةُ إطلاقِ أسماءٍ على اللهِ تعالى تُوهِمُ اتِّصافَه سُبحانَه بما فيه نَقصٌ، فقالوا بالتَّوقيفِ من بابِ الاحتياطِ [365] يُنظر: ((بيان الاعتقاد)) (ص: 13). .
والقولُ بالتَّوقيفِ في أسمائِه تعالى هو قولُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، وسَلَفِ هذه الأمَّةِ.
قال محمَّدُ بنُ أبي زَمنينَ: (اعلَمْ أنَّ أهلَ العِلمِ باللهِ وبما جاءت به أنبياؤُه ورُسُلُه يَرَونَ الجَهلَ بما لم يخبِرْ به تبارك وتعالى عن نَفْسِه عِلمًا، والعَجْزَ عمَّا لم يَدْعُ إيمانًا، وأنَّهم إنما ينتهون من وَصْفِه بصفاتِه وأسمائِه إلى حيثُ انتهى في كتابِه، وعلى لسانِ نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [366] ((أصول السنة)) (ص: 60). .
وهذا الأصلُ كان يجِبُ على الماتُريديَّةِ أن يعتَمِدوا عليه في إثباتِ جميعِ العقائِدِ لا أن يقتَصِروا عليه في بعضِها دونَ بعضٍ، وهذا التَّفريقُ في التَّلقِّي هو الذي أوقعهم في الاضطرابِ والانحرافِ.
ثمَّ إنَّ الماتُريديَّةَ في إثباتِهم للأسماءِ لم يُفَرِّقوا بَينَ بابِ الإخبارِ عن اللهِ تعالى، وبابِ التَّسميةِ، فأدخلوا في أسمائِه تعالى ما ليس من أسمائِه؛ كالصَّانِعِ، والقديمِ، والذَّاتِ، والشَّيءِ، ونحوِ ذلك، حتى إنَّ الماتُريديَّ نقل في تفسيرِه لقولِه تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [الحشر: 22] ، أنَّ لفظَ (هو) من أسماءِ اللهِ تعالى! وأقرَّ هذا القولَ الذي نَقَله، ولم يتعَقَّبْه [367] يُنظر: ((تأويلات أهل السنة)) (9/ 603)، ويُنظر: ((التوحيد)) للماتريدي (ص: 42، 65). .
والصَّوابُ: أنَّه يجِبُ التَّفريقُ بَينَ بابِ التَّسميَّةِ وبابِ الإخبارِ؛ إذ إنَّ ما يدخُلُ في بابِ الإخبارِ عنه تعالى أوسَعُ ممَّا يدخُلُ في بابِ أسمائِه الحُسنى وصفاتِه العُليا. فما يُطلَقُ عليه تعالى في بابِ الأسماءِ والصِّفاتِ توقيفيٌّ، وما يُطلَقُ عليه في بابِ الإخبارِ لا يجِبُ أن يكونَ توقيفيًّا [368] يُنظر: ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (3/203)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/161، 162)، ((لوامع الأنوار البهية)) للسفاريني (1/124). .
قال ابنُ تيميَّةَ: (يُفرَّقُ بين دُعائِه والإخبارِ عنه؛ فلا يُدْعَى إلَّا بالأسماءِ الحُسنى، وأمَّا الإخبارُ عنه فلا يكونُ باسمٍ سيِّئٍ، لكن قد يكونُ باسمٍ حسَنٍ، أو باسمٍ ليسَ بسَيِّئٍ، وإنْ لم يُحكَمْ بحُسْنِه، مِثل: شَيْءٍ، وذاتٍ، ومَوجُودٍ... وكذلك المريدُ والمُتكلِّمُ، فإنَّ الإرادةَ والكلامَ تنقَسِمُ إلى محمودٍ ومذمومٍ، فليس ذلك من الأسماءِ الحُسنى، بخلافِ الحكيمِ والرَّحيمِ والصَّادِقِ ونحوِ ذلك، فإنَّ ذلك لا يكونُ إلَّا محمودًا، وهكذا كما في حقِّ الرَّسولِ؛ حيثُ قال: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا [النور: 63] ، فأمَرَهم أن يقولوا: يا رسولَ اللهِ، يا نبيَّ اللهِ، كما خاطبه اللهُ بقولِه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الأنفال: 64 - 65] يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ [المائدة: 67] لا يقولُ: يا محمَّدُ، يا أحمدُ، يا أبا القاسِمِ! وإن كانوا يقولونَ في الإخبارِ كالأذانِ ونحوِه: أشهَدُ أنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ، كما قال تعالى: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ [الفتح: 29] ، وقال: وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف: 6] ، وقال: مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ [الأحزاب: 40] . فهو سُبحانَه لم يخاطِبْ محمَّدًا إلَّا بنعتِ التَّشريفِ... مع أنَّه في مقامِ الإخبارِ عنه قد يذكُرُ اسمَه، فقد فرَّق سُبحانَه بَينَ حالتَيِ الخطابِ في حقِّ الرَّسولِ، وأمَرَنا بالتَّفريقِ بينهما في حَقِّه، وكذلك هو المعتادُ في عقولِ النَّاسِ إذا خاطبوا الأكابِرَ من الأُمَراءِ والعُلَماءِ والمشايخِ والرُّؤساءِ لم يخاطِبوهم ويدعوهم إلَّا باسمٍ حَسَنٍ، وإن كان في حالِ الخبرِ عن أحَدِهم، يقالُ: هو إنسانٌ، وحيوانٌ ناطِقٌ، وجِسمٌ، ومُحدَثٌ، ومخلوقٌ) [369] ((مجموع الفتاوى)) (6/142، 143). .
وأمَّا بالنِّسبةِ لإثباتِهم لمدلولاتِ الأسماءِ فهم إمَّا أن يجعلوا مدلولَ الاسمِ هو الذَّاتَ، وهذا في اسمِ (اللهِ) فقط، وإمَّا أن يكونَ المدلولُ مأخوذًا عندَهم باعتبارِ ما أثبتوه من الصِّفاتِ، كاسمِ السَّميعِ والبصيرِ والعليمِ، وإمَّا أن يرُدُّوه إلى الصِّفاتِ السَّلبيَّةِ والإضافيَّةِ؛ فالاسمُ عندهم إن دلَّ على ما أثبتوه من الصِّفاتِ أثبتوه على حقيقتِه، وإن خالف صرَفوه عن حقيقتِه بالتَّأويلِ؛ وذلك لاعتقادِهم أنَّ ما دلَّ عليه الاسمُ من المعاني والحقائِقِ يعارِضُ الدَّليلَ العقليَّ.
قال ابنُ الهُمَامِ: (إنَّه تعالى سميعٌ بسَمعٍ، وبصيرٌ بصفةٍ تُسَمَّى بصرًا، وكذا عليمٌ بعلمٍ، وقديرٌ بقدرةٍ، ومريدٌ بإرادةٍ؛ لأنَّه تعالى أطلق على نفسِه هذه الأسماءَ خطابًا لِمن هو من أهلِ اللُّغةِ، والمفهومُ في اللُّغةِ من عليمٍ ذاتٌ له عِلمٌ، بل يستحيلُ عندَهم عليمٌ بلا علمٍ، كاستحالتِه بلا معلومٍ، فلا يجوزُ صرفُه عنه إلَّا لقاطعٍ عقليٍّ يوجِبُ نَفيَه) [370] ((المسايرة)) (ص: 68، 69). .
وقال البياضيُّ: (إنَّ العالِمَ والقادِرَ وسائِرَ الأسماءِ المشتقَّةِ ليست أسماءً للذَّاتِ من غيرِ اعتبارِ معنًى، بل معناها إثباتُ ما هو لازمٌ مأخَذَ الاشتقاقِ، ولا معنى له سوى إدراكِ المعاني، والتَّمكنِ من الفِعلِ والتَّركِ ونحوِ ذلك، فلزم بالضَّرورةِ ثبوتُ هذه المعاني للواجِبِ تعالى، كيف والخُلُوُّ عنها نقصٌ، وذهابٌ إلى أنَّه لا يعلَمُ ولا يقدِرُ؟) [371] ((إشارات المرام)) (ص: 119). .
وقال أيضًا: (إنَّ مفهومَ الاسمِ قد يكونُ نفسَ الذَّاتِ والحقيقةِ، وهو اسمُ الجلالةِ فقط، وقد يكونُ مأخوذًا باعتبارِ الصِّفاتِ والأفعالِ والسُّلوبِ والإضافاتِ، ولا خفاءَ في تكثيرِ أسمائِه تعالى بهذا الاعتبارِ) [372] ((إشارات المرام)) (ص: 114). .
والقولُ بأنَّ اسمَ (الله) يدلُّ على الذَّاتِ مِن غيرِ اعتبارٍ للمعنى، معناه أنَّه لا يدُلُّ على صفةٍ، وهو خَطَأٌ ظاهِرٌ، وذلك أنَّ جميعَ أسماءِ الله تعالى حُسنى، كما قال تعالى: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الأعراف: 180] ، فهي حُسنى لدلالتِها على صفاتِ الكَمالِ والجلالِ والعظمةِ للهِ تعالى، ولو كان اسمُ (الله) لا معنى له، لم يكُنْ فيه مدحٌ ولا ثناءٌ للهِ تعالى، فكيف وهو أعظَمُ أسماءِ اللهِ تعالى؟! وإنما كان أعظَمَها لدلالتِه على جميعِ صفاتِ الكمالِ والجلالِ، كما قال عبدُ العزيزِ الدَّمِيريُّ:
ويجمَعُ اسمُ اللهِ كُلَّ معنى
من الصِّفاتِ والأسامي الحُسنى
إذ الإلهُ من له الكَمالُ
والكِبْرِيا والعِزُّ والجَلالُ [373] ((نور الغسق في بيان هل اسم الجلالة مرتجل أم مشتق))، لمحمد الغيث، مطبوع بذيل آخر الجزء الثاني من كتاب ((النفحة الأحمدية في بيان الأوقات المحمدية)) لأبي العباس أحمد بن الشمس (2/147). .
وقال ابنُ القَيِّم: (اسمُ (الله) دالٌّ على جميعِ الأسماءِ الحُسنى والصِّفاتِ العُليا بالدَّلالاتِ الثَّلاثِ: فإنَّه دالٌّ على إلهيَّتِه المتضَمِّنةِ لثبوتِ صِفاتِ الإلهيَّةِ له، مع نفيِ أضدادِها عنه. وصفاتُ الإلهيَّةِ هي صفاتُ الكمالِ، المُنزَّهةُ عن التَّشبيهِ والمثالِ، وعن العيوبِ والنَّقائِضِ؛ ولهذا يضيفُ اللهُ تعالى سائرَ الأسماءِ الحسنى إلى هذا الاسمِ العظيمِ، كقَولِه تعالى: وَلِلَّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى [الأعراف: 180] ، ويقالُ: الرَّحمنُ، والرَّحيمُ، والقُدُّوسُ، والسَّلامُ: من أسماءِ اللهِ، ولا يقالُ: اللهُ من أسماءِ (الرَّحمنِ) ونحوُ ذلك. فعُلِم أنَّ اسمَ (الله) مستلزِمٌ لجميعِ معاني الأسماءِ الحسنى، دالٌّ عليها بالإجمالِ، والأسماءُ الحُسنى تفصيلٌ وتبيينٌ لصفاتِ الألوهيَّةِ، التي اشتُقَّ منها اسمُ (الله). واسمُ (الله) دالٌّ على كونِه مألوهًا معبودًا، تألهُه الخلائقُ محبَّةً وتعظيمًا وخضوعًا، وفزعًا إليه في الحوائجِ والنَّوائِبِ) [374] ((مدارج السالكين)) (1/32، 33). .
وأمَّا بالنِّسبةِ لبقيَّةِ الأسماءِ، فإنَّ الماتُريديَّةَ تُقِرُّ بأنَّ لها معانيَ مأخوذةً باعتبارِ الصِّفاتِ، أي: إنَّها تدلُّ على الصِّفاتِ كما تدُلُّ على الذَّاتِ، إلَّا أنَّهم في الأسماءِ التي مدلولاتُها لا تتَّفِقُ مع ما اعتقدوه في بابِ الصِّفاتِ لا يُثبتون ما دلَّت عليه من المعاني والحقائِقِ على الوَجهِ الصَّحيحِ، بل يُأَوِّلونها بما يتَّفِقُ مع اعتقادِهم في الصِّفاتِ، مِثلُ اسمِ اللهِ (الأعلى)، و (الظَّاهر).
قال الماتُريديُّ في تفسيرِ اسمِ (الأعلى): (هو أعلى من أن تمسَّه حاجةٌ أو تلحَقَه آفةٌ) [375] ((تفسير الماتريدي)) (10/ 501). .
وقال أبو البرَكاتِ النَّسَفيُّ: (الأعلى: بمعنى العُلُوِّ الذي هو القَهرُ والاقتدارُ، لا بمعنى العُلُوِّ في المكانِ) [376] ((تفسير النسفي)) (4/349). .
ونقل الماتُريديُّ عن آخرينَ تفسيرَ اسمِ (الظَّاهر) مقرًّا له: (الظَّاهِرُ: هو الغالِبُ القاهِرُ الذي لا يغلِبُه شيءٌ) [377] ((تفسير الماتريدي)) (9/ 513). .
يظهَرُ ممَّا تقدَّم كيف أثَّر نفيُ الماتُريديَّةِ لعُلُوِّ اللهِ بذاتِه فوقَ خَلقِه في فهمِهم لهذينِ الاسمينِ حتى قصَروا معناهما على عُلُوِّ القَدرِ والقَهرِ.
وجوابُ أهلِ السُّنَّةِ عمَّا نفَتْه الماتُريديَّةُ من معاني هذه الأسماءِ هو جوابُ الماتُريديَّةِ لِمنازعيهم من المُعتزِلةِ فيما أثبتوه من المعاني في نحوِ السَّميعِ والبصيرِ والعليمِ؛ إذ إنَّ القولَ في دلالاتِ الأسماءِ جميعُها واحدٌ، ولا دليلَ على التَّفريقِ، فهي تجري على قاعدةٍ واحدةٍ، وهي: (أنَّ الاسمَ من أسمائِه (تعالى) له دلالاتٌ: دلالةٌ على الذَّاتِ والصِّفةِ بالمطابقةِ، ودلالةٌ على أحَدِهما بالتَّضمُّنِ، ودلالةٌ على الصِّفةِ الأخرى باللُّزومِ) [378] ((بدائع الفوائد)) (1/162). .
قال ابنُ القَيِّم:ِ (الاسمُ مِن أسمائِه تبارك وتعالى كما يَدُلُّ على الذَّاتِ والصِّفةِ التي اشتُقَّ منها بالمطابقةِ، فإنَّه يَدُلُّ عليه دَلالَتيِن أُخرَيَينِ بالتضَمُّنِ واللُّزومِ، فيدُلُّ على الصِّفةِ بمُفرَدِها بالتضَمُّنِ، وكذلك على الذَّاتِ المجَرَّدةِ عن الصِّفةِ، ويدُلُّ على الصِّفةِ الأخرى باللُّزومِ، فإنَّ اسمَ السَّميعِ يَدُلُّ على ذات الرَّبِّ وسَمْعِه بالمطابقةِ، وعلى الذَّاتِ وَحْدَها وعلى السَّمعِ وَحْدَه بالتضَمُّنِ، ويدُلُّ على اسمِ الحَيِّ وصِفةِ الحياةِ بالالتزامِ، وكذلك سائِرُ أسمائِه وصِفاتِ... فإنَّ من لوازِمِ اسمِ (العَلِيِّ) العُلُوُّ المُطلَقُ بكُلِّ اعتبارٍ، فله العُلُوُّ المطلَقُ من جميعِ الوجوهِ: عُلوُّ القَدْرِ، وعُلوُّ القَهْرِ، وعُلوُّ الذَّاتِ، فمن جحد عُلوَّ الذَّاتِ فقد جحد لوازمَ اسمِه (العليِّ)، وكذلك اسمُ (الظَّاهِرِ) من لوازمِه: أنْ لا يكونَ فوقَه شيءٌ، كما في الصَّحيحِ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((وأنت الظَّاهِرُ فليس فوقَك شَيءٌ )) [379] رواه مسلم (2713) مطولًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. . بل هو سُبحانَه فوقَ كُلِّ شيءٍ، فمن جحد فوقيَّتَه سُبحانَه فقد جحَد لوازِمَ اسمِه (الظَّاهِر)... وكذلك سائِرُ أسمائِه الحُسنى) [380] ((مدارج السالكين)) (1/30، 31). .
وتعطيلُ حقائِقِ ومعاني الأسماءِ كُلِّها أو بعضِها قَدحٌ في صحَّةِ إطلاقِها؛ إذ إنَّ شرطَ صحَّةِ إطلاقِ الأسماءِ حُصولُ معانيها وحقائِقِها، ثمَّ إنَّه لا مانعَ ولا محذورَ من إثباتِ هذه المعاني والحقائِقِ، وذلك أنَّ الاسمَ والصِّفةَ له ثلاثةُ اعتباراتٍ، هي:
الأوَّلُ: اعتبارٌ من حيث هو، مع قَطعِ النَّظرِ عن تقييدِه بالرَّبِّ تبارك وتعالى، أو العَبدِ.
الثَّاني: اعتبارُه مضافًا إلى الرَّبِّ مختصًّا به.
الثَّالثُ: اعتبارُه مضافًا إلى العبدِ مقيَّدًا به، فما لَزِم الاسمَ لذاتِه وحقيقتِه كان ثابتًا للرَّبِّ والعبدِ، وللرَّبِّ منه ما يليقُ بكمالِه، وللعبدِ منه ما يليقُ به. وهذا كاسمِ السَّميعِ الذي يلزَمُه إدراكُ المسموعاتِ، والبصيرِ الذي يلزَمُه رؤيةُ المُبصَراتِ، والعليمِ والقديرِ وسائِرِ الأسماءِ؛ فإنَّ شرطَ صحَّةِ إطلاقِها حصولُ معانيها وحقائِقِها للموصوفِ بها، فما لزم هذه الأسماءَ لذاتِها فإثباتُه للرَّبِّ تعالى لا محذورَ فيه بوجهٍ، بل ثبتت له على وجهٍ لا يماثِلُه فيه خَلقُه ولا يشبِهُهم، فمن نفاه عنه لإطلاقِه على المخلوقِ ألحدَ في أسمائِه، وجحَدَ صفاتِ كَمالِه. ومن أثبته له على وجهٍ يماثِلُ فيه خَلقَه فقد شبَّهه بخَلقِه، ومن أثبته له على وَجهٍ يليقُ بجلالِه وعظمَتِه قد بَرِئَ من فَرثِ التَّشبيهِ ودمِ التَّعطيلِ، وهذا طريقُ أهلِ السُّنَّةِ.
وما لَزِم الصِّفةَ لإضافتِها إلى العبدِ وَجَب نفيُه عن اللهِ، كما يلزَمُ حياةَ العبدِ من النَّومِ والسِّنةِ والحاجةِ إلى الغذاءِ ونحوِ ذلك،... وما لزم صفةً من جهةِ اختصاصِه تعالى بها، فإنَّه لا يثبتُ للمَخلوقِ بوَجهٍ، كعِلمِه الذي يلزَمُه القِدَمُ والوُجوبُ، والإحاطةُ بكُلِّ معلومٍ، وقُدرتِه وإرادتِه وسائِرِ صفاتِه؛ فإنَّ ما يختصُّ به منها لا يمكِنُ إثباتُه للمخلوقِ [381] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/165). ويُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (3/330-333)، ((شرح الأصفهانية)) (ص: 44، 77) كلاهما لابن تيمية. .
فمَذهَبُ الماتُريديَّةِ في الأسماءِ الحُسنى على نوعَينِ:
الأوَّلُ: ما اشتمل على الحقِّ:
ومن محاسِنِهم في هذا البابِ موافَقتُهم لأهلِ السُّنَّةِ فيما يلي:
1- إثباتُ جميعِ أسماءِ اللهِ الحُسنى له تعالى، وبذلك فارقوا غُلاةَ الجَهْميَّةِ؛ لأنَّهم لا يُثبتون لله الأسماءَ الحسنى [382] يُنظر: ((التدمرية)) (ص: 182-183)، ((مجموع الفتاوى)) (3/99-100) كلاهما لابن تيمية. .
2- إثباتُ كثيرٍ من معاني أسماءِ اللهِ تعالى، وبذلك فارقوا جَهْميَّةَ المُعتزِلةِ؛ لأنَّهم يُثبتون الأسماءَ مجردةً عن المعاني [383] يُنظر: ((التدمرية)) (ص: 182-183)، ((مجموع الفتاوى)) (3/99-100) كلاهما لابن تيمية. .
3- تقريرُهم أنَّ أسماءَ اللهِ تعالى توقيفيَّةٌ، ولا يجوزُ تسميةُ اللهِ تعالى إلَّا بما ورد في الشَّرعِ [384] يُنظر: ((كتاب التوحيد)) للماتريدي (ص: 38-44)، ((الدر اللقيط)) (4/428)، لتاج الدين الحنفي ((شرح المواقف)) للجرجاني (8/210)، ((نشر الطوالع)) (ص: 309) للمرعشي. .
قال حافِظُ الدِّينِ عبدُ اللهِ النَّسَفيُّ في بيانِ الإلحادِ في أسماءِ اللهِ تعالى: (يسمُّونَه بغيرِ الأسماءِ الحُسنى، وذلك أن يُسَمُّوه بما لا يجوزُ عليه، نحوُ أن يقولوا: يا سَخِيُّ، يا رفيقُ؛ لأنَّه لم يُسَمِّ نَفسَه بذلك، ومن الإلحادِ تسميتُه بالجِسمِ، والجوهَرِ، والعَقلِ، والعِلَّةِ) [385] ((مدارك التنزيل)) (1/591). .
4- تقريرُهم أنَّ أسماءَ اللهِ تعالى كُلَّها حُسنى، وأنَّها ليست ألفاظًا مجرَّدةً عن معانيها، بل تدُلُّ على معانٍ حَسَنةٍ من التَّمجيدِ والتَّقديسِ والتَّعظيمِ [386] يُنظر: ((مدارك التنزيل) للنسفي (1/591) و (2/274)، ((إرشاد العقل السليم)) لأبي السعود (3/296، 5/200)، ((الدر اللقيط)) لتاج الدين الحنفي (4/429). .
والثَّاني: ما اشتمل على باطلٍ وإلحادٍ، ومن ذلك ما يلي
1- أنَّ أسماءَ الله تعالى ليست أسماءً حقيقةً للهِ تعالى.
قال أبو منصورٍ الماتُريديُّ: (يدلُّك أنَّ الأسماءَ التي نسمِّيه بها عباراتٌ عمَّا يقرُبُ إلى الأفهامِ، لا أنَّها في الحقيقةِ أسماؤُه) [387] ((التوحيد)) (ص: 93-94). .
2- الأسماءُ الحُسنى غيرُ مُشتَمِلةٍ على صفاتٍ مستقلَّةٍ، بل هي مندَرِجةٌ في صفةِ التَّكوينِ.
قال أنور شاه الكَشْمِيريُّ: (الأسماءُ الحُسنى عِندَ الأشاعرةِ عبارةٌ عن الإضافاتِ، وأمَّا عِندَ الماتُريديَّةِ فكُلُّها مندَرِجةٌ في صفةِ التَّكوينِ) [388] ((فيض الباري)) (4/517). .
3- أسماءُ اللهِ الحُسنى مخلوقةٌ عندهم؛ لأنَّها عبارةٌ عن الألفاظِ والحروفِ، وهي مخلوقةٌ؛ ولذلك جعلوا أسماءَ الله تعالى الحُسنى تسمياتٍ، وقالوا: إنَّها غيرُ اللهِ تعالى؛ لأنَّ كُلَّ ما هو غيرُ اللهِ فهو مخلوقٌ، وإنَّها حروفٌ وألفاظٌ، وإنَّ الاسمَ الأزليَّ عينُ المسمَّى، وهو اللهُ لا غيرُ [389] يُنظر: ((التوحيد)) للماتريدي (ص: 65-66)، ((ضوء المعالي شرح بدء الأمالي)) للقاري (ص: 26)، ((نشر الطوالع)) للمرعشي (ص: 302 – 303، 306)، ((روح المعاني)) للآلوسي (1/53). ويُنظر في الرد على من قال بأن أسماء الله مخلوقة: ((اعتقاد أهل الحديث)) للإسماعيلي (ص: 47-52)، ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) للالكائي (2/204-215)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (6/181). .
فالماتُريديَّةُ وافقوا الجَهْميَّةَ الأولى في بدعةِ القَولِ بخَلقِ الأسماءِ الحسنى، كما وافقوهم في بدعةِ القَولِ بخلقِ القرآنِ، فهم جميعًا قائلونَ بخَلقِ القرآنِ، وبخَلقِ الأسماءِ الحسنى، غيرَ أنَّ الماتُريديَّةَ كالأشْعَريَّةِ انفردوا عن الجَهْميَّةِ الأولى ببدعةِ الكلامِ النَّفسيِّ.
4- تعطيلُ معاني بعضِ الأسماءِ الحُسنى بأنواعٍ من التَّأويلاتِ، وهذا من أعظَمِ الإلحادِ في الأسماءِ الحسنى عقلًا وشرعًا، ولُغةً وفِطرةً [390] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) (1/169)، ((مدارج السالكين)) (1/37) كلاهما لابن القيم. .

انظر أيضا: