موسوعة الفرق

تمهيد: الوقوعُ في التَّعطيلِ فرارًا من التَّشبيهِ


عَرَضَت للمُتكلِّمين من المُعتزِلةِ والماتُريديَّةِ والأشاعرةِ شُبهةٌ حولَ صفاتِ اللهِ تعالى، وهي أنَّ ظاهِرَ نُصوصِ الصِّفاتِ تَشبيهُ اللهِ تعالى بخَلقِه، ولو تركْنا هذه النُّصوصَ على ظاهِرِها بدونِ تفويضٍ أو تأويلٍ، وأثبَتْنا ما تدُلُّ عليها دلالةً حقيقيَّةً من العُلُوِّ، والاستواءِ، والنُّزولِ، والوَجهِ، واليَدَينِ، والغَضَبِ، والرِّضا، ونحوِها، ولم نصرِفْها إلى المعاني المجازيَّةِ؛ فإنَّه يلزَمُ من ذلك التَّشبيهُ، وهذا يخالِفُ التَّنزيهَ، فوقعوا في تعطيلِ الصِّفاتِ إمَّا كُلِّها وإمَّا أغلَبِها، وخالَفوا منهَجَ السَّلَفِ الصَّالحِ الذين كانوا يُثبِتونها بلا تشبيهٍ.
فالسَّلَفُ الصَّالحُ لَمَّا كانت قلوبُهم سليمةً، وفِطَرُهم مستقيمةً، وأذهانُهم صافيةً، لم يخطُرْ ببالهم أنَّ نصوصَ الصِّفاتِ تُوهِمُ التَّشبيهَ، فكان منهجُهم إثباتَها بلا تمثيلٍ، وكان قولُهم في بعضِ الصِّفاتِ كالقَولِ في بعضِها على طريقةٍ واحدةٍ، فلم يكُنْ عِندَهم شيءٌ من التَّشبيهِ والتَّعطيلِ، ولا التَّفويضِ والتَّأويلِ [347] يُنظر: ((الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات)) لشمس الدين الأفغاني (1/470). .
والنُّصوصُ عن السَّلَفِ الصَّالحِ في إثباتِ الصِّفاتِ كثيرةٌ، ولكن نكتفي بذِكرِ قَولِ أبي حنيفةَ وتلميذِه محمَّدِ بنِ الحَسَنِ الشَّيبانيِّ، فهما حُجَّةٌ عِندَ الماتُريديَّةِ:
قال أبو حنيفةَ: (لا ينبغي لأحَدٍ أن يَنطِقَ في اللهِ تعالى بشَيءٍ في ذاتِه، ولكِنْ نَصِفُه بما وصف سُبحانَه به نَفسَه) [348] رواه صاعد بن محمد الحنفي في كتابه: الاعتقاد عن أبي يوسف عنه. يُنظر ((جلاء العينين)) لنعمان الآلوسي (ص: 368). .
وقال أيضًا: (لا يوصَفُ اللهُ بصفاتِ المخلوقينَ، وغَضَبُه ورضاه صفتانِ مِن صفاتِه بلا كيفٍ، وهو قَولُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، وهو يغضَبُ ويرضى، ولا يقالُ: غَضَبُه عقوبتُه، ورضاه ثوابُه، ونَصِفُه كما وَصَف نفسَه) [349] ((الفقه الأبسط)) (ص: 56). .
وقال محمَّدُ بنُ الحَسَنِ الشَّيبانيُّ صاحِبُ أبي حنيفةَ: (اتَّفق الفُقَهاءُ كُلُّهم من المشرِقِ إلى المغرِبِ على الإيمانِ بالقُرآنِ والأحاديثِ التي جاء بها الثِّقاتُ عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في صِفةِ الرَّبِّ عزَّ وجَلَّ، من غيرِ تغييرٍ ولا وصفٍ ولا تشبيهٍ، فمن فسَّر اليومَ شيئًا من ذلك فقد خرج ممَّا كان عليه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفارَق الجماعةَ؛ فإنَّهم لم يَصِفوا ولم يُفسِّروا، ولكِنْ أفتَوا بما في الكِتابِ والسُّنَّةِ ثمَّ سكتوا، فمَن قال بقولِ جَهمٍ فقد فارق الجماعةَ؛ لأنَّه قد وصَفه بصِفةِ لا شَيءٍ!) [350] رواه اللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (740). .
فهذه عقيدةُ أبي حنيفةَ وصاحِبِه، ولكِنَّ الحَنَفيَّةَ الماتُريديَّةَ بسَبَبِ تأثُّرِهم ببيئةِ الجَهْميَّةِ تخيَّلوا من صفاتِ اللهِ تعالى ما يليقُ بالمخلوقين، فكان هذا هو الدَّافِعَ لهم على التَّفويضِ أو التَّأويلِ.
قال أحمَدُ بنُ حَنبَلٍ عن الجَهمِ بنِ صَفوانَ: (وجَد ثلاثَ آياتٍ من المُتشابِهِ:
قَولَه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] ، وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ [الأنعام: 3] ، لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام: 103] . فبنى أصلَ كلامِه على هذه الآياتِ، وتأوَّل القرآنَ على غيرِ تأويلِه، وكذَّب بأحاديثِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وزعَم أنَّ مَن وصَف اللهَ بشيءٍ ممَّا وصَف به نفسَه في كِتابِه أو حدَّث عنه رسولُه، كان كافِرًا، وكان من المُشبِّهةِ، فأضلَّ بكلامِه بشرًا كثيرًا، وتَبِعَه على قَولِه رجالٌ من أصحابِ أبي حنيفةَ، وأصحابِ عَمرِو بنِ عُبَيدٍ بالبصرةِ، ووضَع دينَ الجَهْميَّةِ) [351] ((الرد على الجهمية)) (ص: 104-105). .
وقال أيضًا: (قالوا: لم يتكَلَّمْ ولا يتكلَّمُ؛ لأنَّ الكلامَ لا يكونُ إلَّا بجارحةٍ، والجوارحُ منفيَّةٌ) [352] ((الرد على الجهمية)) (ص: 106). .
وقال أيضًا: (قالوا: إنَّ اللهَ لم يتكلَّمْ ولا يتكلَّمُ، إنما كوَّن شيئًا فعبَّر عن اللهِ، وخلق صوتًا فأسمَعَ، وزعموا أنَّ الكلامَ لا يكونُ إلَّا من جوفٍ ولسانٍ وشَفَتينِ) [353] ((الرد على الجهمية)) (ص: 130). .
هذه كانت شُبهةَ الجَهْميَّةِ في التَّعطيلِ بشهادةِ أحمَدَ بنِ حَنبلٍ، وتبعهم على ذلك الحَنَفيَّةُ الماتُريديَّةُ، فترى هذه الشُّبهةَ مُقرَّرةً في كتُبِهم، وكلَّما أوَّلوا صفةً من صفاتِ اللهِ تعالى تشبَّثوا بهذه الشُّبهةِ الباطِلةِ [354] يُنظر: ((المسامرة)) للمقدسي (ص: 29، 35) ((أصول الدين)) لأبي اليسر البَزْدَوي (ص: 25)، ((إشارات المرام)) للبياضي (ص: 107، 189)، ((شرح العقائد النسفية)) للتفتازاني (ص: 42)، ((حاشية الكستلي على شرح العقائد)) (ص: 73)، ((حاشية الخيالي على شرح العقائد)) (ص: 57)، ((حاشية البهشتي على حاشية الخيالي)) (ص: 57)، ((حاشية العصام على شرح التفتازاني على العقائد النسفية)) (ص: 158، 163)، ((شرح المقاصد)) للتفتازاني (4/50). .
ويزعُمونَ أنَّ حملَ هذه النُّصوصِ على ظاهِرِها يستحيلُه العَقلُ؛ فهي إمَّا أن يفوَّضَ معانيها أو تُؤَوَّلَ، فوقعوا أولًا في التَّشبيهِ، وثانيًا: فرُّوا منه، وثالثًا: حرَّفوا النُّصوصَ، ورابعًا: عطَّلوا الصِّفاتِ، وخامسًا: وقعوا في أشدَّ ممَّا فرُّوا منه من التَّشبيهِ والتَّمثيلِ؛ حيثُ وَصَفوا اللهَ بصفاتِ المعدومِ، بل الممتَنِعِ [355] يُنظر: ((رسالة في إثبات الاستواء والفوقية)) للجويني ضمن مجموعة الرسائل المنيرية (1/181)، ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (4/9)، ((التدمرية)) لابن تيمية (ص: 19، 79 – 85)، ((الحموية)) لابن تيمية (ص: 32-33)، ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (ص: 245)، ((جلاء العينين)) لنعمان الآلوسي (ص: 391)، ومقدمة أبي الحسن الندوي لكتاب ((العقيدة السنية)) للدهلوي (ص: 7). .
ووقعوا في التَّناقُضِ الواضِحِ والاضطرابِ الفاضِحِ؛ حيثُ أثبتوا بعضَ الصِّفاتِ، وعَطَّلوا بعضَها بهذه الشُّبهةِ، مع أنَّ تلك الشُّبهةَ موجودةٌ فيما أثبتوه من الصِّفاتِ أيضًا؛ إذ لا فرقَ بَينَ ما أثبتوه وبَينَ ما نفَوه؛ ولذلك نرى الجَهْميَّةَ الأولى والمُعتزِلةَ ينفون جميعَ الصِّفاتِ بهذه الشُّبهةِ، والغُلاةَ من الجَهْميَّةِ ينفون الأسماءَ أيضًا [356] يُنظر: ((التدمرية)) لابن تيمية (ص: 182-183) .
قال عبدُ اللهِ بنُ يوسُفَ الجُوَينيُّ والدُ إمامِ الحرَمينِ، في صَدَدِ بيانِ انشراحِ صَدرِه للعقيدةِ السَّلَفيَّةِ، ورجوعِه عن العقيدةِ الجَهميَّةِ: (الذي شرح اللهُ صدري في حالِ هؤلاء الشُّيوخِ الذين أوَّلوا الاستواءَ بالاستيلاءِ، والنُّزولَ بنزولِ الأمرِ، واليدَينِ بالنِّعمَتينِ والقُدرتَينِ- هو عِلمي بأنَّهم ما فهموا من صفاتِ الرَّبِّ تعالى إلَّا ما يليقُ بالمخلوقينَ، فما فَهِموا عن اللهِ استواءً يليقُ به، ولا نزولًا يليقُ به، ولا يَدينِ تليقُ بعظمتِه، بلا تكييفٍ ولا تشبيهٍ؛ فلذلك حرَّفوا الكَلِمَ عن مواضِعِه، وعطَّلوا ما وصَفَ اللهُ تعالى نَفسَه به) [357] ((رسالة في إثبات الاستواء والفوقية)) (1/181). .

انظر أيضا: