موسوعة الفرق

المبحث الثَّاني: توحيدُ الألوهيَّةِ عِندَ الماتُريديَّةِ


الماتُريديَّةُ والأشْعَريَّةُ ليس عندهم بعد توحيدِ الذَّاتِ إلَّا نوعانِ من التَّوحيدِ [320] يُنظر: ((الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات)) لشمس الدين الأفغاني (3/163- 170). :
الأوَّلُ: توحيدُ الصِّفاتِ.
الثَّاني: توحيدُ الأفعالِ.
أمَّا توحيدُ الصِّفاتِ فيتضمَّنُ عِندَهم التَّأويلَ والتَّعطيلَ والتَّحريفَ؛ حيث أرادوا تحقيقَ التَّنزيهِ فوقعوا في أقبَحِ التَّشبيهِ، فشَبَّهوا اللهَ سُبحانَه بالجَماداتِ الصَّامتاتِ، والمعدوماتِ والممتَنِعاتِ المستحيلاتِ المُحالاتِ.
أمَّا توحيدُ الأفعالِ فهو أشهَرُ أنواعِ التَّوحيدِ عندَهم، وهو توحيدُ الرُّبوبيَّةِ والخالِقيَّةِ، بمعنى أنَّ اللهَ خالِقُ العالَمِ وَحدَه، ويظنُّون أنَّ هذا هو التَّوحيدُ المطلوبُ، والغايةُ من العِلمِ، وأنَّه معنى لا إلهَ إلَّا اللهُ! وفسَّروا الألوهيَّةَ بمعنى القُدرةِ على الاختراعِ [321] يُنظر: ((التدمرية)) لابن تيمية (ص: 179-180، 185-186). .
فعطَّلوا صفةَ ألوهيَّةِ اللهِ تعالى، وحرَّفوها إلى صفةِ الخالقيَّةِ والقادريَّةِ.
وقد صرَّح محمَّد عبده الماتُريديُّ بأنَّ توحيدَ الرُّبوبيَّةِ هو الغايةُ؛ حيث قال بعد تعريفِه: (هذا المبحَثُ كان الغايةَ العُظمى من بَعثةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [322] ((رسالة التوحيد)) (ص: 43). .
وبسبَبِ عَدَمِ تفريقِ الماتُريديَّةِ والأشاعرةِ بَينَ توحيدِ الألوهيَّةِ والرُّبوبيَّةِ قرَّر بعضُهم أنَّ من قال: ربي اللهُ فهو معترِفٌ بتوحيدِ الرُّبوبيَّةِ والألوهيَّةِ جميعًا [323] يُنظر: ((البراهين الساطعة)) للقضاعي (ص: 38)، ((براءة الأشعريين)) لأبي حامد بن مرزوق (ص: 91-92)، ((التوسل)) لأبي حامد بن مرزوق (ص: 22-23). .
ويلزَمُ من هذا أن يكونَ مُشرِكو العَرَبِ مُوَحِّدينَ مؤمنين بلا إلهَ إلَّا اللهُ!
وقرَّر محمَّدُ بنُ عَلَويٍّ المالكيُّ أنَّ أولئك المشركينَ ما كانوا جادِّين فيما يحكي ربُّنا عنهم من اعترافِهم بأنَّ اللهَ هو الخالِقُ الرَّازقِ الرَّبِّ المدَبِّرُ المحيي المُميتُ؛ إذ قالوا: ما نعبُدُهم إلَّا ليُقَرِّبونا إلى اللهِ زُلفى، بل كانوا هازلينَ فيما اعترفوا به [324] يُنظر: ((مفاهيم يجب أن تصحح)) (ص: 26، 27). ويُنظر الرد عليه في ((هذه مفاهيمنا)) لصالح آل الشيخ (ص: 104-120). !
فإن قيل: إنَّ توحيدَ الألوهيَّةِ يدخُلُ في توحيدِ الصِّفاتِ.
فالجوابُ: أنَّه لا شَكَّ بأنَّ صفةَ الألوهيَّةِ من أعظَمِ صفاتِ اللهِ تعالى التي انفرد بها، ولكِنَّ الماتُريديَّةَ والأشْعَريَّةَ لم يُثبِتوها صفةً لله تعالى؛ لأنَّهم حصروا الصِّفاتِ الثُّبوتيَّةَ الذَّاتيَّةَ -التي يسمُّونَها صفاتِ المعاني- في أربَعِ صفاتٍ على الاتِّفاقِ، وهي: الحياة، والعِلم، والقدرة، والإرادة، واختلفوا في السَّمعِ والبصرِ، وزادت الماتُريديَّةُ صفة التكوين، خلافًا للأشْعَريَّةِ، ولكنَّ الخلافَ في الحقيقةِ راجعٌ إلى اللَّفظِ، فالتَّكوينُ عبارةٌ عن القُدرة والإرادةِ.
أمَّا صفةُ الكلامِ فقد عطَّلوها وحرَّفوا نصوصَها إلى الكلامِ النَّفسيِّ.
ولم يَعدُّوا من بَينِ الصِّفاتِ صفةَ الألوهيَّةِ التي هي غايةُ خَلقِ الجنِّ والإنسِ، ولتحقيقِها أُنزِلت الكتُبُ وأُرسِلَت الرُّسُلُ!
بل إنَّ الماتُريديَّةَ أرجعوا هذه الصِّفةَ العظيمةَ إلى صفةِ «التكوين» «والصُّنع» و«الاختراع»، ويشهدُ لذلك وجوهٌ ثلاثةٌ:
الوَجهُ الأوَّلُ: قال الكَشْمِيريُّ الماتُريديُّ الديوبنديُّ: (الأسماءُ الحُسنى عبارةٌ عن الإضافاتِ عِندَ الأشاعرةِ، أمَّا عِندَ الماتُريديَّةِ فكُلُّها مندَرِجةٌ في صفةِ التَّكوينِ) [325] ((فيض الباري)) (4/517). .
ومن المعلومِ أنَّ من أسماءِ اللهِ الحُسنى اسمُ: «الله» كما أنَّ منها اسمًا حسنًا آخَرَ هو «الإلهُ»، وهذان الاسمانِ الحَسَنانِ يدلَّانِ على صفةِ "الألوهيَّة" لله تعالى، فكيف تكونُ صفةُ الألوهيَّة من صفاتِ الأفعالِ التي مرجِعُها إلى صفةِ التَّكوينِ، مع أنَّها من أعظَمِ صِفاتِ اللهِ الثُّبوتيَّةِ الذَّاتيَّةِ؟!
الوَجهُ الثَّاني: أنَّ الماتُريديَّةَ فَسَّروا «الإله» بالصَّانعِ القادِرِ المالِكِ [326] يُنظر: ((حاشية الخيالي على شرح التفتازاني للعقائد النسفية، مع حاشية البهشتي على حاشية الخيالي)) (ص: 51)، ((حاشية الكستلي على شرح التفتازاني للعقائد النسفية)) (ص: 63)، ((حاشية الملا أحمد الجندي)) (ص 87)، ((التبيان)) للفنجفيري (ص: 58-59). .
الوَجهُ الثَّالثُ: أنَّ أبا منصورٍ الماتُريديَّ وكبارَ الماتُريديَّةِ مِن بعدِه يحتجُّون على إثباتِ توحيدِ الرُّبوبيَّةِ وكونِ الله تعالى صانعًا وَحدَه للعالَمِ ومُحدِثًا له، بما يُسَمُّونه «بُرْهان التَّمانُع».
قال التَّفْتازانيُّ: (المحدِثُ للعالِم هو اللهُ تعالى، أي الذَّاتُ الواجِبُ الوُجوبِ...، الواحِدُ، يعني: أن صانِعَ العالمِ واحِدٌ... والمشهورُ في ذلك بَينَ المُتكلِّمين «بُرْهان التَّمانُع» المشارُ إليه بقولِه تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء: 22] ، وتقريرُه: أنَّه لو أمكن إلهانِ لأمكن بينهما تمانعٌ، بأن يريدَ أحدُهما حركةَ زَيدٍ، والآخَرُ سُكونَه،... وحينئذٍ إمَّا أن يحصُلَ الأمرانِ فيجتَمِعَ الضِّدَّانِ، أوْ لا، فيلزمُ عَجزُ أحدِهما) [327] ((شرح العقائد النسفية)) (ص: 31-33). .
فجَعلوا الآيةَ العظيمةَ التي جاءت لتقريرِ توحيدِ الألوهيَّةِ بُرْهانَ التَّمانُعِ على إبطالِ صانِعَينِ ربَّينِ لهذا العالَمِ؛ ففسَّروا الإلهَ "بالرَّب الخالِق" وفسَّروا صفةَ "الألوهيَّة" بالرُّبوبيَّةِ والخالقيَّةِ والصَّانعيَّةِ والمالكيَّةِ، وعطَّلوا صفة "الألوهيَّة"، وحرَّفوا نصوصَها إلى صفةِ "الربوبيَّةِ الخالقيَّةِ الصَّانعيَّةِ"؛ لأنَّ تفسيرَ صفةٍ بأُخرى -كتفسيرِ "اليد" بالقُدرةِ أو النِّعمةِ- تعطيلٌ وإبطالٌ لها.
وإنَّ تفسيرَ الألوهيَّةِ بالرُّبوبيَّةِ، وكذا تفسيرُ الإلهِ بالقادِرِ على الاختراعِ والخالِقِ المالِكِ: باطِلٌ لُغةً واصطلاحًا، وحَملُ نُصوصِ صفةِ الألوهيَّةِ على صفةِ الرُّبوبيَّةِ تحريفٌ واضِحٌ؛ فإنَّ الألوهيَّةَ والرُّبوبيَّةَ مفهومانِ متغايرانِ لغةً واصطلاحًا.
أمَّا لغةً فالإلهُ فِعَالٌ، بمعنى مألوهٍ، أي: معبودٌ، كإمامٍ بمعنى مؤتَمٍّ به، وأَلَهَ إلهةً: عبَدَ عبادةً، والتَّأليهُ: التَّعبيدُ، والآلهةُ: المعبودونُ من الأصنامِ وغيرِها.
 وأمَّا اصطلاحًا: فمعنى "الألوهيَّة" و"الإله" لا يختَلِفُ عن معناهما في اللُّغةِ: فالإلهُ عِندَ العربِ الأوَّلينَ: اسمٌ لكُلِّ معبودٍ يَشمَلُ الإلهَ الحقَّ، وهو اللهُ تعالى، والآلهةَ الباطلةَ، كالأصنامِ والأوثانِ، وكلَّ ما عُبِد من دونِ اللهِ، بشرًا كان أو مَلَكًا أو جنًّا، شمسًا أو قمرًا، حجَرًا أو شَجرًا، نورًا أو نارًا، قبرًا أو غارًا، حيًّا أو ميِّتًا، عينًا أو معنًى، وغيرَ ذلك.
وفيما يلي نصوصُ بعضِ عُلَماءِ اللُّغةِ:
1- قال الرَّاغِبُ الأصْفَهانيُّ: ("إلهٌ": جعلوه اسمًا لكُلِّ معبودٍ لهم) [328] ((المفردات)) (ص: 21). .
2- قال ابن بري: (فإذا قيل: " الإلاه" انطلِقَ على اللهِ سُبحانَه، وعلى ما يُعبَدُ من الأصنامِ. وإذا قُلتُ: "الله" لم ينطَلِقْ إلَّا عليه سُبحانَه وتعالى) [329] ((لسان العرب)) لابن منظور (13/ 469). .
3- قال ابنُ منظورٍ: ("الإلهُ": اللهُ عزَّ وجَلَّ، وكُلُّ ما اتُّخِذ من دونِ اللهِ معبودًا "إلهٌ" عِندَ متَّخِذه، والجَمعُ "آلهة" ...) [330] ((لسان العرب)) (13/ 467). .
4- قال الفَيروز آباديُّ: ("إِلَهٌ" كفِعَال، بمعنى: مألوهٍ، وكُلُّ ما اتُّخِذ معبودًا "إلهٌ" عِندَ متَّخِذِه) [331] ((القاموس)) (ص: 1603). .
فمعنى "الألوهيَّة" و"الإله" في لغةِ القُرآنِ واصطلاحِه وما حكى اللهُ سُبحانَه وتعالى عن مُشرِكي العرَبِ هو الذي ذكَرْناه عن معاجِمِ اللُّغةِ، فالإلهُ يُطلَقُ على كُلِّ معبودٍ حَقًّا كان أو باطلًا، فاللهُ سُبحانَه وتعالى سمَّى معبوداتِ المُشرِكين "آلهةً"، وأبطل كونَها آلهةً حقًّا.
قال اللهُ تعالى: وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا *الفرقان: 3*.
وكان مُشرِكو العَرَبِ يُسَمُّونَ مَعبوداتِهم "آلهةً" مع اعتقادِهم أنَّها ليست خالقةً لهذا الكونِ ولا مالِكةً؛ كما حكى اللهُ عنهم: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص: 5] ، وحكى عنهم قولَهم: إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا [الفرقان: 42] ، وقال سُبحانَه وتعالى: وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ [الصافات: 36] .
فثبت أنَّ تفسير"الألوهيَّةِ" و "الإلهِ" "بالرُّبوبيَّةِ" تحريفٌ وتعطيلٌ وإبطالٌ.
فقد كان مُشرِكو العَرَبِ يُسَمُّون معبوداتِهم "آلهةً" وهم مع ذلك لا يعتقدون أنَّها خالقةٌ للكونِ أو شريكةٌ مع اللهِ تعالى في الخلقِ والرُّبوبيَّةِ والتَّدبيرِ أو مالكةٌ، بل يعتقدون أنَّها مملوكةٌ، ويدُلُّ على ذلك وجوهٌ:
الوَجهُ الأوَّلُ: اعترافُ المُشرِكين بأنَّ آلهتَهم من دونِ اللهِ ليست خالقةً لهذا الكونِ، ولا مُدَبِّرةً ولا رازقةً ولا مالكةً.
قال اللهُ تعالى: قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ [يونس: 31] .
الوَجهُ الثَّاني: أنَّ المُشرِكين إذا أصابهم ضرٌّ عظيمٌ وخَطبٌ جسيمٌ، تركوا دعاءَ آلهتِهم من دونِ اللهِ وتضرَّعوا إلى اللهِ تعالى وَحدَه؛ لعِلمِهم أنَّها لا تنفَعُ ولا تُنجي.
قال اللهُ تعالى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء: 67] .
وقال سُبحانَه وتعالى: وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [لقمان: 32] .
الوَجهُ الثَّالثُ: أنَّ المُشرِكين من العَرَبِ قد صرَّحوا واعترَفوا بأنَّهم قد اتَّخذوا آلهةً من دونِ اللهِ تعالى شفعاءَ لهم عِندَ اللهِ سُبحانَه، وأنَّهم لا يعبُدون آلهتَهم إلَّا ليُقَرِّبوهم من اللهِ تعالى، ومعلومٌ أنَّ الشَّفيعَ غيرُ مالكٍ، وأنَّ الوسيلةَ ليست هي المقصودةَ؛ فالخالِقُ، الرَّازِقُ، المالِكُ، المدَبِّرُ عندَهم هو "الله" سُبحانَه وحدَه، أمَّا آلهتُهم من دونِ اللهِ من مَلَكٍ مُقَرَّبٍ أو نبيٍّ مرسَلٍ أو وَليٍّ صالحٍ وغيرِهم، فهي للشَّفاعةِ لهم عِندَ اللهِ تعالى، وللتوسُّلِ إلى الله سُبحانَه والتَّقرُّبِ إليه عزَّ وجلَّ؛ فقد كان أصلُ شِرْكِهم الوسيلةَ الشِّركيَّةَ.
قال اللهُ تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ [يونس: 18] ، وقال الله سُبحانَه: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر: 3] .
وهذه النُّصوصُ صريحةٌ في أنَّهم كانوا يعبُدون آلهتَهم لا لأجْلِ أنَّها خالقةٌ رازقةٌ، صانعةٌ مالكةٌ، مدبِّرةٌ للعالَمِ، أو أنَّها أربابٌ بهذا المعنى، بل كانوا يعبُدون الملائكةَ والأنبياءَ والأولياءَ ليشفَعوا لهم عِندَ اللهِ تعالى.
الوَجهُ الرَّابعُ: أنَّ كثيرًا من كبارِ أئمَّةِ الإسلامِ وكبارِ أساطينِ الكلامِ من الماتُريديَّةِ والأشْعَريَّةِ
صرَّحوا -في تصويرِ عقائِدِ مُشرِكي العرَبِ- بأنَّ أصلَ إشراكِهم باللهِ تعالى إنما هو التَّوسُّلُ الشِّركيُّ، وأنَّهم لم يعبُدوا آلهةً باطلةً من دونِ اللهِ تعالى إلَّا رجاءَ أن يكونوا شُفَعاءَ لهم عِندَ اللهِ، وأنَّهم لم يعتَقِدوا في آلهتِهم الباطلةِ أنَّها خالقةٌ رازقةٌ، صانعةٌ مُدَبِّرةٌ لهذا الكونِ ومالِكِه؛ فكيف يصِحُّ جَعلُ "الإله" بمعنى "الرَّبِّ، الصَّانعِ، الرَّازقِ، الخالِقِ، المالِكِ" لهذا الكونِ، والمُدَبِّرِ له؟!
وهذا دليلٌ قاطِعٌ وبُرْهانٌ ساطِعٌ على أنَّ تفسيرَ "الألوهيَّة" بالمالكيَّةِ تعطيلٌ وتحريفٌ.
وفيما يلي نماذِجُ من نصوصِ هؤلاء الأعلامِ من أئمَّةِ الإسلامِ وأساطينِ الكلامِ على أنَّ أصل شرك مشركي العرب إنما هو التَّوسل الشِّركي وأنَّهم كانوا يعبدون آلهتهم الباطلة ليشفعوا لهم عِندَ الله تعالى:
1- قال الرَّازيُّ في تفسيرِ قَولِه تعالى: وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ [يونس: 18] : (وَضَعوا هذه الأصنامَ والأوثانَ على صُوَرِ أنبيائِهم وأكابِرِهم، وزَعَموا أنَّهم متى اشتَغَلوا بعبادةِ هذه التماثيلِ فإنَّ أولئك الأكابِرَ تكونُ شُفَعاءَ لهم عند الله تعالى، ونظيرُه في هذا الزَّمانِ اشتِغالُ كثيرٍ مِن الخَلقِ بتعظيمِ قُبورِ الأكابِرِ، على اعتقادِ أنَّهم إذا عَظَّموا قبورَهم فإنَّهم يكونون شُفَعاءَ لهم عند اللهِ!) [332] ((مفاتيح الغيب)) (17/63). .
2- قال وَليُّ اللهِ الدِّهْلَويُّ الحَنَفيُّ في تصويرِ عقائِدِ مُشرِكي العَرَبِ وبيانِ أنَّ أصلَ إشراكِهم باللهِ تعالى هو التَّوسُّلُ الشِّركيُّ: (المُشرِكون وافقوا المُسلِمين في تدبيرِ الأمورِ العِظامِ، وفيما أبرم وجزم، ولم يترك لغيرِه خِيرةً، ولم يوافقوهم في سائرِ الأمورِ. ذهبوا إلى أنَّ الصَّالحينَ من قَبلِهم عبدوا اللهَ وتقرَّبوا إليه، فأعطاهم اللهُ "الألوهيَّة" فاستحقُّوا العبادةَ من سائرِ خَلقِ الله. كما أنَّ مَلِكَ الملوكِ يخدُمُه عبدُه فيُحسِنُ خِدمتَه، فيُعطيه خلعةَ المُلكِ ويفوِّضُ إليه تدبيرَ بلدٍ من بلادِه، فيستحِقُّ السَّمعَ والطَّاعةَ من أهلِ ذلك البَلَدِ. وقالوا: لا تُقبَلُ عبادةُ اللهِ إلَّا مضمومةً بعبادتِهم. بل الحقُّ في غايةِ التَّعالي فلا تفيدُ عبادتُه تقرُّبًا منه، بل لا بدَّ من عبادةِ هؤلاء ليُقَرِّبونا إلى اللهِ زُلفى، وقالوا: هؤلاء يَسمَعون ويُبصِرون، ويشفَعون لعُبَّادِهم، ويُدَبِّرون أمورَهم وينصرونَهم. فنحتوا على أسمائِهم أحجارًا، وجعلوها قِبلةً عِندَ توجُّهِهم إلى هؤلاء، فخَلَفَ من بعدِهم خَلْفٌ فلم يَفطِنوا للفَرقِ بَينَ الأصنامِ وبَينَ مَن هي على صورتِه؛ فظنُّوها معبوداتٍ بأعيانِها؛ ولذلك ردَّ اللهُ تعالى عليهم تارةً بالتَّنبيهِ على أنَّ الحُكمَ والمُلكَ له خاصَّةً، وتارةً ببيانِ أنَّها جماداتٌ) [333] ((حجة الله البالغة)) (1/59، 61). .
3- قال محمود الآلوسيُّ في تفسيرِ قَولِ اللهِ تعالى: وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ [يونس: 18] : (نسبةُ الشَّفاعةِ للأصنامِ قيل باعتبارِ السَّببيَّةِ، وذلك لأنَّهم -كما هو المشهورُ- وضعوها على صُوَرِ رِجالٍ صالحينَ ذَوي خَطَرٍ عندَهم، وزعموا أنَّهم متى اشتغلوا بعبادتِها فإنَّ أولئك الرِّجالَ يَشفَعونَ لهم...) [334] ((روح المعاني)) (11/88). .
وقال الآلوسيُّ أيضًا: (يندرجُ فيهم كُلُّ من أقَرَّ باللهِ تعالى وخالقيَّتِه مثلًا، وكان مرتكبًا ما يُعَدُّ شركًا كيفما كان، ومن أولئك عَبَدةُ القُبورِ النَّاذِرون لها، المعتَقِدون للنَّفعِ والضُّرِّ ممَّن اللهُ أعلَمُ بحالِه فيها، وهم اليومَ أكثَرُ من الدُّودِ) [335] ((روح المعاني)) (13/66-67). .
الوَجهُ الخامِسُ: إن كان معنى "الألوهيَّةِ" الرُّبوبيَّةَ، ومعنى "الإلهِ" "الخالِقَ"، فيلزَمُ أن تكونَ "كلمةُ التَّوحيدِ" غيرَ مفيدةٍ للتوحيدِ؛ لكِنَّ التَّاليَ باطِلٌ، فالمقدَّمُ مِثلُه. أمَّا بطلانُ التَّالي فأمرٌ مُتَّفَقٌ عليه بَينَ الفِرَقِ المنتَسِبةِ إلى الإسلامِ، ولأنَّه قد عُلِم بالضَّرورةِ والاضطرارِ من دينِ الإسلامِ: أنَّ كلمةَ "لا إلهَ إلَّا اللهُ" كَلِمةُ التَّوحيدِ، ومفيدةٌ للتوحيدِ، ولأنَّ المُشركين لم يعارِضوا الرُّسُلَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ في "لا خالِقَ إلَّا اللهُ" أو "لا ربَّ إلَّا اللهُ". بل كانوا يعارضونَهم في "لا إلهَ إلَّا اللهُ" المفيدةِ لتوحيدِ العبادةِ، واختصاصِ العبادةِ باللهِ وَحدَه لا شريكَ له، والمتضَمِّنةِ لإبطالِ الآلهةِ الباطِلةِ، كما قال اللهُ سُبحانَه وتعالى: قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا [الأعراف: 70] ، وقال تعالى: إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ [الصافات: 35] ، وقال جَلَّ وعلا عن المُشرِكين: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص: 5] .
وقال عزَّ مِن قائلٍ: وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الزمر: 45] .
وقال عزَّ وجَلَّ: ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [غافر: 12] .
وقال تبارك وتعالى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ [غافر: 84] .
وقال سُبحانَه وتعالى: وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة: 4] .
وأمَّا بُطلانُ المقدَّمِ فقد ظهر من بُطلانِ التَّالي.
الفُروقُ بَينَ الرُّبوبيَّةِ والألوهيَّةِ:
توجَدُ فُروقٌ واضِحةٌ بَينَ الرُّبوبيَّةِ والألوهيَّةِ؛ منها ما يلي:
1- أنَّ الألوهيَّةَ هي الغايةُ العُظمى من خَلقِ الجِنِّ والإنسِ، وإرسالِ الرُّسُلِ وإنزالِ الكُتُبِ، بخلافِ الرُّبوبيَّةِ [336] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (2/37)، ((تجريد التوحيد)) للمقريزي (ص: 5). .
2- أنَّ الرُّبوبيَّةَ دليلٌ على الألوهيَّةِ، فالأُولى دالَّةٌ، والثَّانيةُ مدلولةٌ، والأُولى مُستلزِمةٌ للثانيةِ استلزامَ الدَّليلِ للمدلولِ [337] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (ص: 86). .
3- الألوهيَّةُ مُستَلزِمةٌ للرُّبوبيَّةِ استلزامَ العِلَّةِ الغائيَّةِ للفاعليَّةِ [338] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (2/37). ؛ فالأولى عِلَّةٌ غائيَّةٌ، والثَّانيةُ عِلَّةٌ فاعِليَّةٌ، ولا شَكَّ أنَّ الغائيَّةَ والفاعليَّةَ شيئانِ متغايرانِ لا مترادفانِ.
4- الألوهيَّةُ متضَمِّنةٌ للربوبيَّةِ دونَ عَكسٍ [339] يُنظر: ((منهاج السنة)) (3/313)، ((درء التعارض)) (7/391) كلاهما لابن تيمية، ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (ص: 79، 81، 84، 85، 87)، ((شرح الفقه الأكبر)) للقاري (ص: 15). ، ومتضَمِّنةٌ لتوحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ أيضًا [340] يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (1/284)، ((تجريد التوحيد)) للمقريزي (ص: 45). ، ولا شكَّ أنَّ المُتَضَمِّنَ والمُتَضَمَّنَ شيئانِ لا شيءٌ واحِدٌ.
وصحَّ أن يقالَ: إنَّ توحيدَ الألوهيَّةِ كالكُلِّ، وإنَّ توحيدَيِ الرُّبوبيَّةِ والصِّفاتِ كالجُزأَينِ له، والرُّبوبيَّةُ والألوهيَّةُ من الصِّفاتِ أيضًا.
5- من أفنى عُمُرَه وأنهى قُواه في تحقيقِ الرُّبوبيَّةِ للهِ تعالى لا يصيرُ مُؤمِنًا بمجَرَّدِ ذلك، ما لم يحقِّقِ الألوهيَّةَ للهِ عزَّ وجَلَّ، أمَّا من حقَّق الألوهيَّةَ للهِ تعالى فقد حقَّق الرُّبوبيَّةَ له تعالى أيضًا، بل حقَّق توحيدَ الصِّفاتِ أيضًا.
6- أنَّ توحيدَ الألوهيَّةِ أخصُّ من توحيدِ الرُّبوبيَّةِ، فكُلُّ مُوَحِّدٍ بتوحيدِ الألوهيَّةِ مُوَحِّدٌ بتوحيدِ الرُّبوبيَّةِ ولا عَكسَ؛ لأنَّ المُشرِكين كانوا معترفينَ بتوحيدِ الرُّبوبيَّةِ، ومع ذلك كانوا مُشرِكين في توحيدِ الألوهيَّةِ [341] يُنظر: ((شرح الفقه الأكبر)) للقاري (ص: 15). .
7- أنَّ أركانَ توحيدِ الألوهيَّةِ هي عبادةُ اللهِ تعالى بغايةِ الذُّلِّ والخضوعِ له سُبحانَه وتعالى، وغايةِ الحبِّ له تعالى، وغايةِ الرَّغبةِ في ثوابِه عزَّ وجَلَّ، وغايةِ الرَّهبةِ من عقابِه جَلَّ وعلا، مع الإخلاصِ واتِّباعِ السُّنَّةِ، فمن عبد اللهَ بالحُبِّ والخوفِ والرَّجاءِ فهو مؤمِنٌ مُوَحِّدٌ [342] يُنظر: ((العبودية)) لابن تيمية (ص: 37)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (ص: 85)، ((توضيح المقاصد)) لابن عيسى (2/257-258)، ((شرح النونية)) لهراس (2/120-122). .
ومن عبدَه بدونِ إخلاصٍ فهو المرائي المنافِقُ، ومن عبَدَه بدونِ اتِّباعِ السُّنَّةِ فهو مبتَدِعٌ ضالٌّ [343] يُنظر: ((التدمرية)) لابن تيمية (ص: 232-233)، ((تفسير ابن كثير)) (1/155-156). .
فتبيَّن بما سبق ما يلي:
أولًا: مفهومُ "الألوهيَّة" ومفهومُ "الرُّبوبيَّةِ" مفهومانِ متغايرانِ، وليسا مترادِفَينِ، كذلك مفهومُ "الإلهِ" ومفهومُ "الرَّبِّ".
ثانيًا: توحيدُ الألوهيَّةِ: هو العِلمُ والاعترافُ بأنَّ اللهَ ذو الألوهيَّةِ والعبوديَّةِ على خَلقِه أجمعينَ، وإفرادُه تعالى بالعبادةِ كُلِّها، وإخلاصُ الدِّينِ له وَحدَه [344] يُنظر: ((مدارج السالكين)) (3/504)، ((اجتماع الجيوش)) (ص: 93) كلاهما لابن القيم، ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (ص: 79)، ((شرح الفقه الأكبر)) للقاري (ص: 19)، ((تيسير العزيز الحميد)) لآل الشيخ (ص: 36)، ((القول السديد)) للسعدي (ص: 14)، ((مجموع فتاوى ابن باز)) (1/15، 38-39). .
ثالثًا: توحيدُ الرُّبوبيَّةِ: هو الإقرارُ بأنَّ اللهَ تعالى ربُّ كُلِّ شيءٍ ومالِكُه وخالقُه ورازقُه، وأنَّه المحيي والمُميتُ، النَّافِعُ الضَّارُّ، الذي له الأمرُ كُلُّه وبيَدِه الخيرُ كُلُّه، القادِرُ ليس له شريكٌ في ذلك كُلِّه [345] يُنظر: ((شرح العقيدة الطحاوية)) لابن أبي العز (ص: 76)، ((شرح الفقه الأكبر)) (ص: 15)، ((ضوء المعالي)) (ص: 10) كلاهما للقاري، ((تيسير العزيز الحميد)) لآل الشيخ (ص: 33)، ((القول السديد)) للسعدي (ص: 13)، ((مجموع فتاوى ابن باز)) (1/34، 36، 2/34، 74)، ((الكواشف الجلية)) للسلمان (ص: 417). .
رابعًا: تفسيرُ "الألوهيَّةِ" بالمالكيَّةِ والرُّبوبيَّةِ، وتفسيرُ "الإلهِ" بالخالِقِ والرَّبِّ: تعطيلٌ لصفةِ "ألوهيَّة" اللهِ تعالى، وتحريفٌ لنُصوصِها، وإلحادٌ في اسمِه "الإله" سُبحانَه وتعالى.
خامسًا: المعنى الصَّحيحُ لكلمةِ "لا إلهَ إلَّا اللهُ" هو: "لا معبودَ بحَقٍّ إلَّا اللهُ"، وأخطأ من قال: إنَّ معنى لا إلهَ إلَّا اللهُ: لا مُطاعَ بحَقٍّ إلَّا اللهُ؛ لأنَّه يجِبُ أيضًا طاعةُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فليست الطَّاعةُ لله وَحدَه، بل للهِ ولرسولِه، وكذا أخطأ من فسَّر كَلِمةَ التَّوحيدِ بقَولِه: لا ربَّ إلَّا اللهُ؛ لأنَّ إفرادَ اللهِ بالرُّبوبيَّةِ ممَّا اعترف به المُشرِكون، وكذلك أخطأ من فسَّر كلمةَ التَّوحيدِ من النُّحاةِ بقَولِه: "لا إلهَ موجودٌ إلَّا اللهُ؛ لوجودِ آلهةٍ باطلةٍ يَعبُدها المُشرِكون [346] يُنظر: ((التدمرية)) لابن تيمية (ص: 179-180)، ((التجريد)) للقاري (ص: 19، 24، 32)، ((مجموع فتاوى ابن باز)) (1/16، 38، 2/5). .

انظر أيضا: