موسوعة الفرق

المطلَبُ الثَّاني: إثباتُ وحدانيَّةِ اللهِ تعالى في ربوبيَّتِه عِندَ الماتُريديَّةِ


استدلَّت الماتُريديَّةُ على إثباتِ وحدانيَّةِ اللهِ تعالى في ربوبيَّتِه بالدَّليلِ المشهورِ عِندَ المُتكلِّمين والمعروفِ بدليلِ التَّمانُعِ [306] يُنظر: ((اللمع)) للأشعري (ص: 8)، ((الإنصاف)) (ص: 30)، ((التمهيد)) (ص: 46) كلاهما للباقلاني، ((الإرشاد)) للجويني (ص: 53)، ((نهاية الإقدام)) للشهرستاني (ص: 91- 93)، ((المواقف)) للإيجي (ص: 278، 279)، ((شرح العقائد النسفية)) للتفتازاني (ص: 93، 95) في ((التوحيد)) للنيسابوري (ص: 628)، ((شرح الأصول الخمسة)) للقاضي عبدالجبار (ص: 285، 286). ، وهذا الدَّليلُ نجِدُه بصورةٍ مطَّرِدةٍ عِندَ جميعِ الماتُريديَّةِ، حتى إنَّهم في كثيرٍ من كتُبِهم لا يذكُرونَ غيرَه [307] يُنظر: ((التوحيد)) للماتريدي (ص: 20، 21 ، 140)، ((تبصرة الأدلة)) (ص: 112، 113)، ((التمهيد لقواعد التوحيد)) (ص: 6) كلاهما لأبي المعين النسفي، ((المسايرة)) للمقدسي (ص: 42- 48)، ((شرح الطحاوية)) للميداني (ص: 48). .
وقد استدلَّ الماتُريديُّ بأدِلَّةٍ أُخرى، فقال: (الدَّلالةُ أنَّ محدِثَ العالَمِ واحِدٌ لا أكثَرُ: السَّمعُ، والعقلُ، وشهادةُ العالَمِ بالخِلقةِ؛ فأمَّا السَّمعُ فهو اتِّفاقُ القولِ -على اختلافِهم- على الواحِدِ؛ إذ من يقولُ بالأكثَرِ يقولُ به على أنَّ الواحِدَ اسمٌ لابتداءِ العَدَدِ واسمٌ للعَظَمةِ والسُّلطانِ والرِّفعةِ والفَضلِ، كما يقالُ: فلانٌ واحِدُ الزَّمانِ، ومُنقَطِعُ القرينِ في الرِّفعةِ والفَضلِ والجلالِ، وما جاوز ذلك لا يحتَمِلُ غيرَ العَدَدِ، فيَجِبُ أن يكونَ العالَمُ غيرَ مُتناهٍ؛ إذ لو كان منهم شيءٌ واحِدٌ فيُخرجُ الجملةَ عن التَّناهي بخروجِ المحدَثينَ، وذلك بعيدٌ، ثمَّ ما من عددٍ يشارُ إليه إلَّا وأمكن من الدَّعوى أن يزادَ عليه ويُنقَصَ منه، فلم يجِبِ القَولُ بشَيءٍ لِما لا حقيقةَ لذلك بحَقِّ العدَدِ لا يشارِكُ فيه غيرَه؛ لذلك بطَل القولُ به) [308] ((التوحيد)) (ص: 19). قال فتح الله خليف حول استدلال الماتريدي بتناهي العالم: (أمَّا فكرةُ تناهي العالم التي يتَّخِذها الماتريديُّ هنا أساسًا للبرهنة على وحدانيَّةِ اللهِ، فهي فكرة أرسطيَّةٌ) يُنظر: مقدمة ((كتاب التوحيد)) (م 35). ولا يبعد أنَّ الماتريديَّ قد تأثَّر بفكر أرسطو؛ فقد اطَّلع على بعض كتُبِه، كما أشار إلى ذلك في كتاب ((التوحيد)) (ص: 147). .
وقال في استدلالِه بآياتِ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ واتِّساقِ العالَمِ: (إنَّه لم يُذكَرْ عن غيرِ الإلهِ الذي يعرفُه أهلُ التَّوحيدِ دعوى الألوهيَّةِ، والإشارةُ إلى أثَرِ فِعلٍ منه يدُلُّ على ربوبيَّتِه، ولا وُجِد في شيءٍ معنًى أمكن إخراجُه عن حمله، ولا بعث رسلًا بالآياتِ التي تقهرُ العقولَ ويُبهرُ لها فتثبتُ أنَّ القولَ بذلك خيالٌ ووسواسٌ. وأيضًا مجيءُ الرُّسُلِ بالآياتِ التي يضطَرُّ من شهدها أنَّها فِعلُ من لو كان معه شريكٌ لمنَعَهم عن إظهارِها؛ إذ بذلك إبطالُ ربوبيَّتِهم وألوهيَّتِهم، فإذا لم يوجَدْ ولا مُنعوا عن ذلك مع كثرةِ المكابِرين لهم والمعانِدين ممَّن لو أحبُّوا وجودَ الإبصارِ لهم في إظهارِ آياتِهم لوُجِدوا، فثبت أنَّ ذلك إنما سَلِم للرُّسُلِ لَمَّا لم يكُنِ الإلهُ الحقُّ والخالِقُ للخلقِ غَيرَ الواحِدِ القهَّارِ الذي قهر كُلَّ متعنِّتٍ مكابرٍ عن التَّمويهِ فَضلًا عن التَّحقيقِ) [309] ((التوحيد)) (ص: 20). .
وقال أيضًا: (أمَّا دلالةُ الاستدلالِ بالخَلقِ فهو أنَّه لو كان أكثَرُ من واحدٍ لتقلَّب فيهم التَّدبيرُ، نحوَ أن تُحوَّلَ الأزمنةُ من الشِّتاءِ والصَّيفِ، أو تحوَّلَ خروجُ الإنزالِ وينعُها، أو تقديرُ السَّماءِ والأرضِ، أو تسييرُ الشَّمسِ والقَمَرِ والنُّجومِ، أو أغذيةُ الخَلقِ، أو تدبيرُ مَعاشِ جواهرِ الحيوانِ، فإذْ دار كلُّه على مسلكٍ واحدٍ ونوعٍ من التَّدبيرِ وانساقَ ذلك على سَنَنٍ واحِدٍ لا يتِمُّ إلَّا بمُدَبِّرين؛ لذلك لزم القَولُ بالواحِدِ) [310] ((التوحيد)) (ص: 21). .
وهذه الأدِلَّةُ عِندَ الماتُريديِّ أدِلَّةٌ سمعيَّةٌ حسِّيَّة، وأمَّا الدَّليلُ العقليُّ عنده فهو دليلُ التَّمانعِ [311] يُنظر: ((التوحيد)) (ص:20، 21). ، فقد احتلَّ دليلُ التَّمانُعِ عِندَ الماتُريديَّةِ الصَّدارةَ حتى لا يكادون يذكُرون غيرَه؛ لأنَّ مصدَرَ التَّلقِّي عندَهم العَقلُ.
قال أبو المُعينِ النَّسَفيُّ مبيِّنًا دليلَ التَّمانُعِ عِندَ الماتُريديَّةِ: (إذا ثبت أنَّ للعالَمِ مُحدِثًا أحدثه وصانِعًا صنَعَه كان الصَّانِعُ واحِدًا؛ إذ لو كان له صانعانِ لثبت بينهما تمانعٌ، وذلك دليلُ حُدوثِهما أو حدوثِ أحدِهما؛ فإنَّ أحَدَهما لو أراد أن يخلُقَ في شخصٍ حياةً، والآخَرُ أراد أن يخلُقَ فيه موتًا، وكذا هذا في جميعِ المتضادَّاتِ، كالحَركةِ والسُّكونِ، والاجتماعِ والافتراقِ، والسَّوادِ والبياضِ، وغيرِ ذلك، إمَّا أن حصل مرادُهما ووُجِد في المحَلِّ المتضادَّاتُ، وهو محالٌ، وإمَّا أن تعطَّلت إرادتُهما ولم تنفُذْ ولم يحصُلْ في المحَلِّ لا هذا ولا ذاك، وهو تعجيزُهما، وإمَّا أن نفَذَت إرادةُ أحَدِهما دون الآخَرِ وفيه تعجيزُ من لم تَنفُذْ إرادتُه، والعَجزُ من أماراتِ الحَدَثِ، فإذا لم يُتصَوَّرْ إثباتُ صانعينِ قديمينِ للعالمِ، فكان الصَّانعُ واحِدًا ضرورةً) [312] ((التمهيد)) (ص: 6). .
وهذا الدَّليلُ لا ريبَ أنَّه دليلٌ صحيحٌ، وبُرْهانٌ تامٌّ على إثباتِ امتناعِ صُدورِ العالَمِ عن اثنينِ [313] يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (9/354، 355). . ولكِنَّ اعتقادَ الماتُريديَّةِ بأنَّ هذا الدَّليلَ هو المقصودُ من قَولِه تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء: 22] ، خطأٌ في فهمِ الآيةِ، والذي جعلهم يقولون هذا هو اعتقادُهم أنَّ الإلَه بمعنى الآلِه -اسم فاعِلٍ-، وأنَّ الإلهيَّةَ بمعنى القدرةِ على الاختراعِ [314] يُنظر: ((التوحيد)) للماتريدي (ص: 20، 21)، ((تبصرة الأدلة)) لأبي المعين النسفي (ص: 109 - 111)، ((المسايرة)) للمقدسي (ص: 42- 48)، ((ضوء المعالي)) للقاري (ص: 18، 19)، ((شرح الطحاوية)) للميداني (ص: 48).     ، فالإلهُ عندهم بمعنى الرَّبِّ، والآيةُ دَلَّت على انتفاءِ ربَّينِ فقط، وذلك بتقديرِ امتناعِ الفِعلِ من رَبَّينِ، فالآيةُ عندهم دلَّت على نفيِ الشِّركِ في الرُّبوبيَّةِ فقط، وهو مطلوبُ دليلِ التَّمانُعِ، بينما الصَّحيحُ أنَّ الآيةَ (دلَّت على ما هو أكمَلُ وأعظَمُ من هذا، وأنَّ إثباتَ ربَّينِ للعالَمِ لم يذهَبْ إليه أحدٌ من بني آدَمَ... ولكِنَّ الإشراكَ الذي وقع في العالَمِ إنما وقع بجَعلِ بعضِ المخلوقاتِ مخلوقةً لغيرِ اللهِ، وفي الإلهيَّةِ بعبادةِ غيرِ اللهِ تعالى، واتخاذِ الوسائِطِ ودعائِها والتَّقربِ إليها، ... فأمَّا إثباتُ خالقينِ للعالَمِ متماثِلَينِ فلم يذهَبْ إليه أحدٌ من الآدميِّين، وقد قال تعالى: وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ، والرُّسُلُ دَعَوا الخَلقَ إلى توحيدِ الإلهيَّةِ، وذلك متضمِّنٌ لتوحيدِ الرُّبوبيَّةِ، كما قال كُلٌّ منهم لقَومِه: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيرُهُ، وإلَّا فمجرَّدُ توحيدِ الرُّبوبيَّةِ قد كان المشرِكون يقرُّونَ به، وذلك وَحدَه لا ينفَعُ، وهؤلاء الذين يريدون تقريرَ الرُّبوبيَّةِ من أهلِ الكلامِ والفلسفةِ يظنُّون أنَّ هذا هو غايةُ التَّوحيدِ، وهذا من أعظَمِ ما وقع فيه هؤلاء من الجَهلِ بالتَّوحيدِ الذي بعث اللهُ به الرُّسُلَ وأنزل به الكُتُبَ) [315] ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (9/344، 345). .
فأدلَّتُهم (وإن كانت صحيحةً فلم تنازِعْ في هذا التَّوحيدِ أمَّةٌ من الأمَمِ، وليست الطُّرُقُ المذكورةُ في القرآنِ هي طرُقَهم، كما أنَّه ليس مقصودُ القرآنِ هو مجرَّدَ ما عرفوه من التَّوحيدِ) [316] ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (9/378). .
فيوجَدُ فَرقٌ كبيرٌ بَينَ مطلوبِ الآيةِ ومطلوبِ دليلِ التَّمانُعِ؛ فمطلوبُ الآيةِ هو إثباتُ توحيدِ الإلهيَّةِ بإثباتِ فَسادِ العالَمِ لو وُجِد من يستحِقُّ العبادةَ غيرُ اللهِ تعالى، بينما مطلوبُ دليلِ التَّمانُعِ هو إثباتُ توحيدِ الرُّبوبيَّةِ بإثباتِ فَسادِ العالَمِ لو وُجِد خالِقٌ آخَرُ للعالَمِ؛ فالفَرقُ بَينَ المطلوبينِ فرقٌ شاسِعٌ، فلا يصِحُّ القولُ بأنَّ مطلوبَ الآيةِ هو مطلوبُ دليلِ التَّمانُعِ.
قال ابنُ أبي العِزِّ: (كَثيرٌ مِن أهْلِ النَّظَرِ يَزعُمونَ أنَّ دَليلَ التَّمانُعِ هو مَعْنى قَولِه تَعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء: 22] ؛ لاعْتِقادِهم أنَّ تَوْحيدَ الرُّبوبيَّةِ الَّذي قَرَّروه هو تَوْحيدُ الإلَهيَّةِ الَّذي بَيَّنَه القُرْآنُ، ودَعَتْ إليه الرُّسُلُ عليهم السَّلامُ، وليس الأمْرُ كذلك، بلِ التَّوْحيدُ الَّذي دَعَتْ إليه الرُّسُلُ ونَزَلَتْ به الكُتُبُ هو تَوْحيدُ الإلَهيَّةِ المُتَضَمِّنُ تَوْحيدَ الرُّبوبيَّةِ، وهو عِبادةُ اللهِ وَحْدَه لا شَريكَ له؛ فإنَّ المُشرِكينَ مِن العَربِ كانوا يُقِرُّونَ بتَوْحيدِ الرُّبوبيَّةِ، وأنَّ خالِقَ السَّمَواتِ والأرْضِ واحِدٌ، كما أَخبَرَ تَعالى عنهم بقَولِه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: 25] ، قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [المؤمنون: 84-85] ، ومِثلُ هذا كَثيرٌ في القُرْآنِ. ولم يَكونوا يَعْتَقِدونَ في الأصْنامِ أنَّها مُشارِكةٌ للهِ في خَلْقِ العالَمِ، بلْ كانَ حالُهم فيها كحالِ أمْثالِهم مِن مُشرِكي الأُمَمِ مِن الهِنْدِ والتُّرْكِ والبَرْبَرِ وغَيرِهم؛ تارةً يَعْتَقِدونَ أنَّ هذه تَماثيلُ قَوْمٍ صالِحينَ مِن الأنْبياءِ والصَّالِحينَ، ويَتَّخِذونَهم شُفَعاءَ، ويَتَوَسَّلونَ بِهم إلى اللهِ، وهذا كانَ أصْلَ شِرْكِ العَربِ ...، ومِن أسْبابِ الشِّرْكِ عِبادةُ الكَواكِبِ، واتِّخاذُ الأصْنامِ بحَسَبِ ما يُظَنُّ أنَّه مُناسِبٌ للكَواكِبِ مِن طِباعِها. وشِرْكُ قَوْمِ إبْراهيمَ عليه السَّلامُ كانَ -فيما يُقالُ- مِن هذا البابِ. وكذلك الشِّرْكُ بالمَلائِكةِ والجِنِّ، واتِّخاذُ الأصْنامِ لهم. وهؤلاء كانوا مُقِرِّينَ بالصَّانِعِ، وأنَّه ليس لِلعالَمِ صانِعانِ، ولكنِ اتَّخَذوا هؤلاء شُفَعاءَ، كما أَخبَرَ عنهم تَعالى بقَولِه: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر: 3] ، وقال تَعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس: 18] . وكذلك كانَ حالُ الأُمَمِ السَّالِفةِ المُشرِكةِ الَّتي كَذَّبَتِ الرُّسُلَ، كما حَكى اللهُ تَعالى في قِصَّةِ صالِحٍ عليه السَّلامُ عن تِسْعةِ الرَّهْطِ الَّذين تَقاسَموا باللهِ، أي: تَحالَفوا باللهِ، لنُبَيِّتَنَّه وأهْلَه، فهؤلاء المُفسِدونَ المُشرِكونَ تحَالَفوا باللهِ عِندَ قَتْل نَبيِّهم وأهْلِه، وهذا يُبَيِّنُ أنَّهم كانوا مُؤمِنينَ باللهِ إيمانَ المُشرِكينَ؛ فعُلِمَ أنَّ التَّوْحيدَ المَطْلوبَ هو تَوْحيدُ الإلَهيَّةِ الَّذي يَتَضَمَّنُ تَوْحيدَ الرُّبوبيَّةِ) [317] ((شرح الطحاوية)) (1/ 28 - 32).  .
وقال المَقْريزيُّ: (لا رَيْبَ أنَّ تَوْحيدَ الرُّبوبيَّةِ لم يُنكِرْه المُشرِكونَ، بلْ أَقَرُّوا بأنَّه سُبْحانَه وَحْدَه خالِقُهم، وخالِقُ السَّمَواتِ والأرْضِ، والقائِمُ بمَصالِحِ العالَمِ كلِّه، وإنَّما أَنْكَروا تَوْحيدَ الإلَهيَّةِ والمَحَبَّةِ، كما قد حَكى اللهُ تَعالى عنهم في قَولِه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة: 165] ، فلمَّا سَوَّوا غَيرَه به في هذا التَّوْحيدِ كانوا مُشرِكينَ، كما قال تَعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام: 1] .
وقدْ عَلَّمَ اللهُ سُبْحانَه وتَعالى عِبادَه كَيْفيَّةَ مُبايَنةِ الشِّرْكِ في تَوْحيدِ الإلَهيَّةِ، وأنَّه تَعالى حَقيقٌ بإفْرادِه وَلِيًّا وحَكَمًا ورَبًّا، فقال تَعالى: قُلْ أَغَيرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا [الأنعام: 14] ، وقال: أَفَغَيرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا [الأنعام: 114] ، وقال: قُلْ أَغَيرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا [الأنعام: 164] ، فلا وَلِيَّ ولا حَكَمَ ولا رَبَّ إلَّا اللهُ، الَّذي مَن عَدَلَ به غَيرَه فقدْ أَشرَكَ في أُلوهِيَّتِه ولو وَحَّدَ رُبوبِيَّتَه، فتَوْحيدُ الرُّبوبيَّةِ هو الَّذي اجْتَمَعَتْ فيه الخَلائِقُ مُؤمِنُها وكافِرُها، وتَوْحيدُ الإلَهيَّةِ مَفرَقُ الطُّرُقِ بَيْنَ المُؤمِنينَ والمُشرِكينَ، ولِهذا كانَتْ كَلِمةُ الإسلامِ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، ولو قال: لا رَبَّ إلَّا اللهُ، أَجْزاه عِندَ المُحَقِّقينَ، فتَوْحيدُ الأُلوهيَّةِ هو المَطْلوبُ مِن العِبادِ) [318] ((تجريد التوحيد المفيد)) (ص: 7 - 9).  .
وقال مَلْكاويٌّ: (جَعَلَ المُتَكلِّمونَ هَدَفَهم الأوَّلَ إثْباتَ تَوْحيدِ الرُّبوبيَّةِ، والاسْتِدْلالَ على وُجودِ اللهِ، مُعْتَمِدينَ في ذلك على دَليلِ التَّمانُعِ، رَغْمَ أنَّ هذا الدَّليلَ قد وَرَدَ في القُرْآنِ للدَّلالةِ على وَحْدانيَّةِ اللهِ ...، ومِن مُمَيِّزاتِ طَريقةِ المُتَكلِّمينَ بُعْدُها عن تَوْحيدِ الأُلوهيَّةِ والأسْماءِ والصِّفاتِ؛ لاكْتِفائِهم بتَوْحيدِ الرُّبوبيَّةِ، ولأنَّ بعضَ طَوائِفِهم يُفَسِّرُ التَّوْحيدَ بِما يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الصِّفاتِ، فجَعَلوا وُجودَ اللهِ وُجودًا مُطلَقًا لا يوصَفُ بوَحْدةٍ ولا كَثْرةٍ، وإثْباتُ الصِّفاتِ تَعَدُّدٌ وكَثْرةٌ، وهُمْ يُدرِجونَ في تَوْحيدِهم نَفْيَ عُلُوِّ اللهِ على خَلْقِه ومُبايَنتِه لهم وعِلمِه وقُدْرتِه وسائِرِ صِفاتِه؛ لأنَّ إثْباتَ ذلك مُناقِضٌ لاعْتِقادِهم بأنَّ اللهَ لا صِفةَ له) [319] ((عقيدة التوحيد في القرآن الكريم)) (ص: 311، 314). .

انظر أيضا: