موسوعة الفرق

المَبحَثُ الأوَّلُ: التَّفويضُ


المرادُ بالتَّفويضِ عِندَ الماتُريديَّةِ والأشاعرةِ ومن سلك سبيلَهم تفويضُ المعنى المرادِ من النَّصِّ الموهِمِ للتشبيهِ، وهذا التَّفويضُ إنما يكونُ بعد التَّأويلِ الإجماليِّ، وهو: صرفُ اللَّفظِ عن ظاهِرِه [179] يُنظر: ((التمهيد في أصول الدين)) لأبي المعين النسفي (ص: 37)، ((تبصرة الأدلة)) لأبي المعين النسفي (ص: 171 - 176)، ((تقريب البعيد إلى جوهر التوحيد)) للصفاقسي (ص: 63 - 65)، ((تحفة المريد على جوهرة التوحيد)) للباجوري (ص: 156).   .
ومسلَكُ التَّفويضِ عِندَ الماتُريديَّةِ مبنيٌّ على أمرينِ:
الأوَّلُ: دعوى أنَّ الاتفاقَ حاصِلٌ على عدَمِ إرادةِ الظَّاهرِ؛ إذ الظَّاهِرُ يُوهِمُ التَّشبيهَ!
الثَّاني: أنَّ آيةَ آلِ عِمرانَ دالَّةٌ على صِحَّةِ تفويضِ المعنى المرادِ من نصوصِ الصِّفاتِ.
والآيةُ الكريمةُ هي قولُ اللهِ تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ [آل عمران: 7] .
والرَّدُّ عن الأمرِ الأوَّلِ من عدَّةِ أوجُهٍ:
الوَجْهُ الأوَّلُ: لا نُسلِّمُ أنَّ ظاهِرَ آياتِ وأحاديثِ الصِّفاتِ يُفيدُ التَّشْبيهَ، بل هي تَدُلُّ على إثْباتِ الصِّفاتِ على الوَجْهِ اللَّائِقِ باللهِ تَعالى، ويَتَبيَّنُ ذلك بالآتي:
أنَّ الأشاعِرةَ قد سَلَّموا أنَّ اللهَ تَعالى حَيٌّ بحَياةٍ، وعَليمٌ بعِلمٍ، وقَديرٌ بقُدْرةٍ ...، إلى آخِرِ صِفاتِ المَعاني السَّبْعِ، ويُثبِتونَ ظاهِرَها على ما يَليقُ باللهِ تَعالى، فيَلزَمُهم كذلك إثْباتُ بَقيَّةِ الصِّفاتِ؛ كالاستِواءِ، والعُلُوِّ، والوَجْهِ، واليَدَينِ، والغَضَبِ، وغَيرِها كما يَليقُ باللهِ سُبْحانَه.
الوَجْهُ الثَّاني: القَولُ بأنَّ نُصوصَ الصِّفاتِ ظاهِرُها غَيرُ مُرادٍ يَلزَمُ مِنه لَوازِمُ باطِلةٌ؛ مِنها:
1- أن يكونَ اللهُ ورَسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قد تَكلَّما بالباطِلِ فيما يَتَعلَّقُ بصِفاتِ اللهِ سُبْحانَه!
2- أنَّ قائِلَ هذه المَقالةِ قد مَثَّلَ أوَّلًا؛ إذ هو قد اعْتَقَدَ أنَّ ظاهِرَ نُصوصِ الصِّفاتِ التَّمْثيلُ والتَّشْبيهُ، ثُمَّ عَمَدَ إلى النَّصِّ فعَطَّلَه عن دَلالتِه على الحَقِّ، وعَطَّلَ الصِّفةَ الثَّابِتةَ في نفْسِ الأمْرِ للهِ تَعالى [180] يُنظر: ((التدمرية)) لابن تيمية (ص: 76-81).   .
الوَجْهُ الثَّالثُ: القَولُ بتَفْويضِ المَعْنى ثُمَّ الزَّعْمُ بأنَّ ظاهِرَ النُّصوصِ غَيرُ مُرادٍ تَناقُضٌ واضِحٌ، فلا يُعقَلُ الادِّعاءُ بأنَّ المَعْنى لا يَعلَمُه إلَّا اللهُ معَ الزَّعْمِ بأنَّ الظَّاهِرَ غَيرُ مُرادٍ؛ إذ الَّذي لا يَعلَمُه إلَّا اللهُ لا يكونُ ظاهِرًا لنا.
الوَجْهُ الرَّابعُ: ثَبَتَ عن أئِمَّةِ السَّلَفِ أنَّهم قالوا عن نُصوصِ الصِّفاتِ: أَمِرُّوها كما جاءَتْ، وصَرَّحوا بأنَّ ظَواهِرَ نُصوصِ الصِّفاتِ مُرادةٌ يَجِبُ الإيمانُ بِها معَ عَدَمِ إدْراكِ كَيْفيَّتِها، وهذا يَتَعارَضُ معَ زَعْمِ الأشاعِرةِ بأنَّ ظاهِرَها غَيرُ مُرادٍ، وسيَأتي ذِكْرُ بعضِ النُّقولِ الواضِحةِ عن السَّلَفِ الَّتي تُبَيِّنُ بُطْلانَ نِسْبةِ التَّفويضِ إليهم.
ومُرادُ السَّلَفِ بقَولِهم عن نُصوصِ الصِّفاتِ: (أَمِرُّوها كما جاءَتْ بلا تَفْسيرٍ) أحَدُ مَعْنيَينِ:
الأوَّلُ: أَمِّروها بِلا تَفْسيرٍ مُبتَدَعٍ، كما يُفَسِّرُها الجَهْميَّةُ والمُعْتَزِلةُ ومَن تَأثَّرَ بهم كالأشاعِرةِ.
الثَّاني: أَمِرُّوها بِلا تَفْسيرٍ للكَيْفيَّةِ؛ فمَعاني الصِّفاتِ مَعْلومةٌ لنا، وكَيْفيَّتُها مَجْهولةٌ لنا [181] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (5/ 38 - 46).   .
وأمَّا استدلالُهم على صِحَّةِ التَّفويضِ لديهم بقولِ اللهِ سُبحانَه: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران: 7] .
والرَّدُّ عن الأمرِ الثَّاني من عِدَّةِ أوجُهٍ:
الوَجْهُ الأوَّلُ: المُرادُ بالتَّأويلِ على قِراءةِ الوَقْفِ: مَعْرِفةُ الحَقيقةِ الَّتي يَؤولُ إليها الخَبَرُ؛ إذِ الوَقْفُ التَّامُّ يُفيدُ أنَّ ذلك ممَّا لا يَعلَمُه إلَّا اللهُ؛ لأنَّ حَقائِقَ الصِّفاتِ وكَيْفيَّتَها ممَّا لا يَظهَرُ للخَلْقِ، أمَّا على قَولِ الأشاعِرةِ فلا تَظهَرُ فائِدةٌ مِن الوَقْفِ؛ إذ هُمْ زَعَموا أنَّ لها ظاهِرًا يَعلَمُه البَشَرُ، ولكنَّه غَيرُ مُرادٍ، وإنَّما المُرادُ شيءٌ آخَرُ، فخاضوا في تَعْيينِه بالظَّنِّ رَجْمًا بالغَيْبِ، وهذا يُنافي التَّسْليمَ التَّامَّ الَّذي وَصَفَ اللهُ به المُؤمِنينَ في الآيةِ نفْسِها، وهو قَولُه: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا [آل عمران: 7] .
الوَجْهُ الثَّاني: لو سُلِّمَ لهم قَولُهم هذا للَزِمَ طَرْدُه في كلِّ نُصوصِ الصِّفاتِ الدَّالَّةِ على صِفاتِ المَعاني؛ كصِفةِ الحَياةِ، والإرادةِ، والقُدْرةِ، والعِلمِ؛ إذ لا مُوجِبَ للتَّفْريقِ إلَّا التَّحَكُّمُ، فما كانَ جَوابًا لهم عن نُصوصِ صِفاتِ المَعاني فلْيُجيبوا به عن نُصوصِ بَقيَّةِ الصِّفاتِ.
الوَجْهُ الثَّالثُ: القَولُ بأنَّ التَّأويلَ هنا المُرادُ به حَقائِقُ الأشْياءِ قَولٌ لا يُعارِضُ قَولَ مَن لم يَرَ الوَقْفَ على اسْمِ الجَلالةِ؛ إذِ التَّأويلُ يكونُ على الثَّاني بمَعْنى التَّفْسيرِ الَّذي هو شَرْحُ الكَلِماتِ والألْفاظِ، ومِن المَعْلومِ أنَّ الشَّيءَ قد يُعلَمُ مَعْناه العامُّ، ولكِنْ لا تُعلَمُ حَقيقتُه وكُنْهُه، كما في نَعيمِ الجَنَّةِ؛ فالجَمْعُ بَيْنَ أقْوالِ السَّلَفِ في مَعْنى الآيةِ أَقْوى مِن القَولِ بتَعارُضِها.
الوَجْهُ الرَّابعُ: الماتُريديَّةُ والأشاعِرةُ لهم مَذهَبانِ يدَّعون صِحَّتَهما -هما التَّأويلُ والتَّفويضُ- فلو كانَتِ الآيةُ دالَّةً على تَفْويضِ المَعْنى والكَيْفيَّةِ مُطلَقًا لَما كانَ هناك حاجةٌ للقَولِ بالتَّأويلِ، والعَجَبُ أنَّ الأشاعِرةَ قد احْتَجُّوا بالآيةِ نفْسِها على جَوازِ التَّأويلِ باعْتِبارِ قِراءةِ الوَصْلِ، فلو أرادوا الجَمْعَ الصَّحيحَ كانَ عليهم أن يَقولوا: إنَّ لها مَعانيَ صَحيحةً إلَّا أنَّ حَقائِقَها غَيرُ مَعْلومةٍ لنا، أمَّا القَولُ بأنَّ لها مَعنًى أو لبعضِها مَعنًى، ثُمَّ الزَّعْمُ بأنَّه لا يُعرَفُ لها مَعنًى- تَناقُضٌ واضِحٌ [182] يُنظر: ((التدمرية)) لابن تيمية (ص: 90 - 116).   .
قال ابنُ تَيْميَّةَ: (أمَّا إدْخالُ أسْماءِ اللهِ وصِفاتِه أو بعضِ ذلك في المُتَشابِهِ الَّذي لا يَعلَمُ تَأويلَه إلَّا اللهُ، أو اعْتِقادُ أنَّ ذلك هو المُتَشابِهُ الَّذي اسْتَأثَرَ اللهُ بعِلمِ تَأويلِه كما يَقولُ كلَّ واحِدٍ مِن القَولَينِ طَوائِفُ مِن أصْحابِنا وغَيرِهم، فإنَّهم وإن أصابوا في كَثيرٍ ممَّا يَقولونَه ونَجوا مِن بِدَعٍ وَقَعَ فيها غَيرُهم، فالكَلامُ على هذا مِن وَجْهَينِ: الأوَّلُ: مَن قال: إنَّ هذا مِن المُتَشابِهِ، وإنَّه لا يُفهَمُ مَعْناه فنَقولُ: أمَّا الدَّليلُ على بُطْلانِ ذلك فإنِّي ما أَعلَمُ عن أحَدٍ مِن سَلَفِ الأمَّةِ ولا مِن الأئِمَّةِ؛ لا أَحمَدَ بنِ حَنْبَلٍ ولا غَيرِه، أنَّه جَعَلَ ذلك مِن المُتَشابِهِ الدَّاخِلِ في هذه الآيةِ، ونَفى أن يَعلَمَ أحَدٌ مَعْناه، وجَعَلوا أسْماءَ اللهِ وصِفاتِه بمَنزِلةِ الكَلامِ الأعْجَميِّ الَّذي لا يُفهَمُ، ولا قالوا: إنَّ اللهَ يُنزِلُ كَلامًا لا يَفهَمُ أحدٌ مَعْناه، وإنَّما قالوا كَلِماتٍ لها مَعانٍ صَحيحةٌ، قالوا في أحاديث الصِّفاتِ: تُمَرُّ كما جاءَت، ونَهَوا عن تَأويلاتِ الجَهْميَّةِ ورَدُّوها وأَبطَلوها، الَّتي مَضْمونُها تَعْطيلُ النُّصوصِ عمَّا دَلَّتْ عليه، ونُصوصُ أَحمَدَ والأئِمَّةِ قَبْلَه بَيِّنةٌ في أنَّهم كانوا يُبطِلونَ تَأويلاتِ الجَهْميَّةِ، ويُقِرُّونَ النُّصوصَ على ما دَلَّتْ عليه مِن مَعْناها، ويَفهَمونَ مِنها بعضَ ما دَلَّتْ عليه، كما يَفهَمونَ ذلك في سائِرِ نُصوصِ الوَعْدِ والوَعيدِ والفَضائِلِ وغَيرِ ذلك، وأَحمَدُ قد قال في غَيرِ أحاديثِ الصِّفاتِ: تُمَرُّ كما جاءَتْ، وفي أحاديثِ الوَعيدِ مِثلُ قَولِه: ((مَن غَشَّنا فليس مِنَّا )) [183] أخرجه مسلم (101) مطولًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، وأحاديثِ الفَضائِلِ، ومَقصودُه بِذلك أنَّ الحَديثَ لا يُحَرَّفُ كَلِمُه عن مَواضِعِه كما يَفعَلُه مَن يُحَرِّفُه، ويُسمَّى تَحْريفُه تَأويلًا بالعُرْفِ المُتَأخِّرِ، فتَأويلُ هؤلاء المُتَأخِّرينَ عِندَ الأئِمَّةِ تَحْريفٌ باطِلٌ، وكذلك نَصَّ أَحمَدُ في كِتابِ الرَّدِّ على الزَّنادِقةِ والجَهْميَّةِ أنَّهم تَمَسَّكوا بمُتَشابِهِ القُرْآنِ، وتَكلَّمَ أَحمَدُ على ذلك المُتَشابِهِ، وبَيَّنَ مَعْناه وتَفْسيرَه بما يُخالِفُ تَأويلَ الجَهْميَّةِ، وجَرى في ذلك على سَنَنِ الأئِمَّةِ قَبْلَه، فهذا اتِّفاقٌ مِن الأئِمَّةِ على أنَّهم يَعلَمونَ مَعْنى هذا المُتَشابِهِ، وأنَّه لا يُسكَتُ عن بَيانِه وتَفْسيرِه، بلْ يُبيَّنُ ويُفسَّرُ باتِّفاقِ الأئِمَّةِ مِن غَيرِ تَحْريفٍ له عن مَواضِعِه أو إلْحادٍ في أسْماءِ اللهِ وآياتِه. وممَّا يُوَضِّحُ لك ما وَقَعَ هنا مِن الاضْطِرابِ أنَّ أهْلَ السُّنَّةِ مُتَّفِقونَ على إبْطالِ تَأويلاتِ الجَهْميَّةِ ونَحْوِهم مِن المُنْحَرِفينَ المُلْحِدينَ. والتَّأويلُ المَرْدودُ هو صَرْفُ الكَلامِ عن ظاهِرِه إلى ما يُخالِفُ ظاهِرَه، فلو قيلَ: إنَّ هذا هو التَّأويلُ المَذْكورُ في الآيةِ، وأنَّه لا يَعلَمُه إلَّا اللهُ، لَكانَ في هذا تَسْليمٌ للجَهْميَّةِ أنَّ للآيةِ تَأويلًا يُخالِفُ دَلالتَها، لكنَّ ذلك لا يَعلَمُه إلَّا اللهُ، وليس هذا مَذهَبَ السَّلَفِ والأئِمَّةِ، وإنَّما مَذهَبُهم نَفْيُ هذه التَّأويلاتِ ورَدُّها لا التَّوقُّفُ فيها، وعِندَهم قِراءةُ الآيةِ والحَديثِ تَفْسيرُها، وتُمَرُّ كما جاءَتْ دالَّةً على المَعاني، لا تُحرَّفُ ولا يُلحَدُ فيها) [184] ((مجموع الفتاوى)) (13/ 294 - 296).   .
وقال ابنُ تَيْميَّةَ أيضًا: (قَولُ رَبيعةَ ومالِكٍ: الاستِواءُ غَيرُ مَجْهولٍ، والكَيْفُ غَيرُ مَعْقولٍ، والإيمانُ به واجِبٌ، مُوافِقٌ لقَولِ الباقينَ: أَمِرُّوها كما جاءَتْ بلا كَيْفٍ، فإنَّما نَفَوا عِلمَ الكَيْفيَّةِ، ولم يَنْفوا حَقيقةَ الصِّفةِ، ولو كانَ القَوْمُ قد آمَنوا باللَّفْظِ المُجرَّدِ مِن غَيرِ فَهْمٍ لمَعْناه -على ما يَليقُ باللهِ- لَما قالوا: الاستِواءُ غَيرُ مَجْهولٌ، والكَيْفُ غَيرُ مَعْقولٍ، ولَما قالوا: أَمِرُّوها كما جاءَتْ بِلا كَيْفٍ؛ فإنَّ الاستِواءَ حينَئذٍ لا يكونُ مَعْلومًا بلْ مَجْهولًا بمَنزِلةِ حُروفِ المُعجَمِ. وأيضًا: فإنَّه لا يَحْتاجُ إلى نَفْيِ عِلمِ الكَيْفيَّةِ إذا لم يُفهَمْ عن اللَّفْظِ مَعنًى، وإنَّما يَحْتاجُ إلى نَفْيِ عِلمِ الكَيْفيَّةِ إذا أُثْبِتَتِ الصِّفاتُ. وأيضًا: فإنَّ مَن يَنْفي الصِّفاتِ الخَبَريَّةَ -أو الصِّفاتِ مُطلَقًا- لا يَحْتاجُ إلى أن يقولَ: بِلا كَيْفٍ، فمَن قال: إنَّ اللهَ ليس على العَرْشِ لا يَحْتاجُ أن يقولَ: بِلا كَيْفٍ، فلو كانَ مَذهَبُ السَّلَفِ نَفْيَ الصِّفاتِ في نفْسِ الأمْرِ لَما قالوا: بِلا كَيْفٍ. وأيضًا: فقَولُهم: أَمِرُّوها كما جاءَتْ، يَقْتَضي إبْقاءَ دَلالتِها على ما هي عليه، فإنَّها جاءَتْ ألْفاظٌ دالَّةٌ على مَعانٍ، فلو كانَتْ دَلالتُها مُنْتفِيةً لَكانَ الواجِبُ أن يُقال: أَمِرُّوا لَفْظَها معَ اعْتِقادِ أنَّ المَفْهومَ مِنها غَيرُ مُرادٍ، أو أَمِرُّوا لَفْظَها معَ اعْتِقادِ أنَّ اللهَ لا يُوصَفُ بما دَلَّتْ عليه حَقيقةٌ، وحينَئذٍ فلا تكونُ قد أُمِرَّتْ كما جاءَتْ، ولا يُقالُ حينَئذٍ: بِلا كَيْفٍ؛ إذْ نَفْيُ الكَيْفِ عمَّا ليس بثابِتٍ لَغْوٌ مِن القَولِ!) [185] ((مجموع الفتاوى)) (5/ 41).   .
وقال ابنُ تَيْميَّةَ أيضًا: (قَولُ مالِكِ بنِ أنَسٍ لمَّا سُئِلَ عن قَولِه تَعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] كيف اسْتَوى؟ فقال: الاستِواءُ مَعْلومٌ، والكَيْفُ مَجْهولٌ، والإيمانُ به واجِبٌ، والسُّؤالُ عنه بِدْعةٌ، وكذلك رَبيعةُ قَبْلَه، وقد تَلَقَّى النَّاسُ هذا الكَلامَ بالقَبولِ، فليس في أهْلِ السُّنَّةِ مَن يُنكِرُه، وقدْ بَيَّنَ أنَّ الاستِواءَ مَعْلومٌ كما أنَّ سائِرَ ما أَخبَرَ به مَعْلومٌ، ولكنَّ الكَيْفيَّةَ لا تُعلَمُ، ولا يَجوزُ السُّؤالُ عنها، لا يُقالُ: كيف اسْتَوى ...؟ فإن قيلَ: مَعْنى قَولِه: الاستِواءُ مَعْلومٌ أنَّ وُرودَ هذا اللَّفْظِ في القُرْآنِ مَعْلومٌ، كما قاله بعضُ أصْحابِنا الَّذين يَجعَلونَ مَعْرِفةَ مَعانيها مِن التَّأويلِ الَّذي اسْتَأثَرَ اللهُ بعِلمِه. قيلَ: هذا ضَعيفٌ؛ فإنَّ هذا مِن بابِ تَحْصيلِ الحاصِلِ، فإنَّ السَّائِلَ قد عَلِمَ أنَّ هذا مَوْجودٌ في القُرْآنِ، وقدْ تَلا الآيةَ. وأيضًا فلم يَقُلْ: ذِكْرُ الاستِواءِ في القُرْآنِ ولا إخْبارُ اللهِ بالاستِواءِ، وإنَّما قال: الاستِواءُ مَعْلومٌ، فأَخبَرَ عن الاسْمِ المُفرَدِ أنَّه مَعْلومٌ، لم يُخبِرْ عن الجُملةِ وأيضًا فإنَّه قال: والكَيْفُ مَجْهولٌ، ولو أرادَ ذلك لَقال: مَعْنى الاستِواءِ مَجْهولٌ، أو تَفْسيرُ الاسْتواءِ مَجْهولٌ، أو بَيانُ الاستِواءِ غَيرُ مَعْلومٍ، فلم يَنْفِ إلَّا العِلمَ بكَيْفيَّةِ الاستِواءِ، لا العِلمَ بنفْسِ الاستِواءِ، وهذا شأنُ جَميعِ ما وَصَفَ اللهُ به نفْسَه، لو قال في قَولِه: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه: 46] كيف يَسمَعُ؟ وكيف يَرى؟ لَقُلْنا: السَّمْعُ والرُّؤْيا مَعْلومٌ، والكَيْفُ مَجْهولٌ، ولو قال: كيف كَلَّمَ موسى تَكْليمًا؟ لَقُلْنا: التَّكْليمُ مَعْلومٌ، والكَيْفُ غَيرُ مَعْلومٍ) [186] ((مجموع الفتاوى)) (13/ 308 - 310).   .
وقال ابنُ تَيْميَّةَ أيضًا: (غايةُ ما يَنْتَهي إليه هؤلاء المُعارِضونَ لِكَلامِ اللهِ ورَسولِه بآرائِهم مِن المَشْهورينَ بالإسلامِ، هو التَّأويلُ أو التَّفويضُ...، والتَّأويلُ المَقْبولُ: هو ما دَلَّ على مُرادِ المُتَكلِّمِ، والتَّأويلاتُ الَّتي يَذكُرونَها لا يُعلَمُ أنَّ الرَّسولَ أرادَها، بل يُعلَمُ بالاضْطِرارِ في عامَّةِ النُّصوصِ أنَّ المُرادَ مِنها نَقيضُ ما قاله الرَّسولُ...، وحينَئذٍ فالمُتَأوِّلُ إن لم يكنْ مَقصودُه مَعْرِفةَ مُرادِ المُتَكلِّمِ كانَ تَأويلُه للَّفْظِ بما يَحتَمِلُه مِن حيثُ الجُمْلةُ في كلامِ مَن تَكلَّمَ بمِثلِه مِن العَرَبِ- هو مِن بابِ التَّحْريفِ والإلْحادِ، لا مِن بابِ التَّفْسيرِ وبَيانِ المُرادِ.
وأمَّا التَّفويضُ: فإنَّ مِن المَعْلومِ أنَّ اللهَ تَعالى أمَرَنا أن نَتَدبَّرَ القُرْآنَ، وحَضَّنا على عَقْلِه وفَهْمِه، فكيف يَجوزُ معَ ذلك أن يُرادَ مِنَّا الإعْراضُ عن فَهْمِه ومَعْرِفتِه وعَقْلِه؟! وأيضًا فالخِطابُ الَّذي أُريدَ به هُدانا والبَيانُ لنا، وإخْراجُنا مِن الظُّلَماتِ إلى النُّورِ، إذا كانَ ما ذُكِرَ فيه مِن النُّصوصِ ظاهِرُه باطِلٌ وكُفْرٌ، ولم يُرِدْ منَّا أن نَعرِفَ لا ظاهِرَه ولا باطِنَه، أو أُريدَ منَّا أن نَعرِفَ باطِنَه مِن غَيرِ بَيانٍ في الخِطابِ لِذلك، فعلى التَّقْديرَينِ لم نُخاطَبْ بما بُيِّنَ فيه الحَقُّ، ولا عَرَفْنا أنَّ مَدْلولَ هذا الخِطابِ باطِلٌ وكُفْرٌ. وحَقيقةُ قَولِ هؤلاء في المُخاطَبِ لنا: أنَّه لم يُبَيِّنِ الحَقَّ ولا أَوضَحَه، معَ أمْرِه لنا أن نَعْتقِدَه، وأنَّ ما خاطَبَنا به وأمَرَنا باتِّباعِه والرَّدِّ إليه لم يُبَيِّنْ به الحَقَّ ولا كَشَفَه، بل دَلَّ ظاهِرُه على الكُفْرِ والباطِلِ، وأرادَ منَّا أن نَفهَمَ مِنه شَيئًا، أو أن نَفهَمَ مِنه ما لا دَليلَ عليه فيه! وهذا كلُّه ممَّا يُعلَمُ بالاضْطِرارِ تَنْزيهُ اللهِ ورَسولِه عنه، وأنَّه مِن جِنْسِ أقْوالِ أهْلِ التَّحْريفِ والإلْحادِ) [187] ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 201).   .
والقَولُ بأنَّ مَذهَبَ السَّلَفِ هو عَدَمُ التَّكلُّمِ عن مَعاني الصِّفاتِ، وتَفْويضُ مَعاني الصِّفاتِ للجَهْلِ بها: قَولٌ خاطِئٌ، بلِ السَّلَفُ كانوا يَتَكلَّمونَ عن مَعاني الصِّفاتِ، ويُفوِّضونَ كَيْفيةَ الصِّفاتِ لا مَعانيَها، والأمْثِلةُ على ذلك كَثيرةٌ جِدًّا فمَثَلًا صِفةُ الاستِواءِ تَكلَّمَ السَّلَفُ عن مَعْناها؛ قال البُخارِيُّ في صَحيحِه: (قال أبو العاليةِ: اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ [البقرة: 29] : (ارْتَفَعَ)، فَسَوَّاهُنَّ [البقرة: 29] : (خَلَقَهنَّ)، وقال مُجاهِدٌ: اسْتَوَى: (عَلا على العَرْشِ) [188] ((صحيح البخاري)) (9/ 124).      .
وقال البُخاريُّ أيضًا: (حَذَّرَ يَزيدُ بنُ هارونَ عن الجَهْميَّةِ، وقال: مَن زَعَمَ أنَّ الرَّحْمنَ على العَرْشِ اسْتَوى على خِلافِ ما يَقِرُّ في قُلوبِ العامَّةِ فهو جَهْميٌّ، وقال سُلَيْمانُ التَّيْميُّ: لو سُئِلْتُ أينَ اللهُ؟ لقُلْتُ: في السَّماءِ، فإن قال: فأين كانَ عَرْشُه قَبْلَ السَّماءِ؟ لقُلْتُ: على الماءِ، فإن قال: فأين كانَ عَرْشُه قَبْلَ الماءِ؟ لقُلْتُ: لا أَعلَمُ. قال أبو عَبْدِ اللهِ: وذلك لِقَولِه تَعالى: وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [البقرة: 255] يَعْني إلَّا بما بَيَّنَ) [189] ((خلق أفعال العباد)) (ص: 36).      .
ومَشْهورٌ قَولُ مالِكٍ حينَ سُئِلَ عن الاستِواءِ: (الاستِواءُ مَعْلومٌ، والكَيْفُ مَجْهولٌ، والإيمانُ به واجِبٌ، والسُّؤالُ عنه بِدْعةٌ) [190] ((الأثر المشهور عن الإمام مالك رحمه الله في صفة الاستواء)) لعبد الرزاق البدر (ص: 38 - 93).      .
قال ابنُ عَبْدِ البَرِّ: (هذه الآياتُ كلُّها واضِحاتٌ في إبْطالِ قَولِ المُعْتَزِلةِ، وأمَّا ادِّعاؤُهم المَجازَ في الاستِواءِ، وقَولُهم في تَأويلِ اسْتَوَى: اسْتَولى، فلا مَعْنى له؛ لأنَّه غَيرُ ظاهِرٍ في اللُّغةِ، ومَعْنى الاسْتيلاءِ في اللُّغةِ المُغالَبةُ، واللهُ لا يُغالِبُه ولا يَعْلوه أحَدٌ، وهو الواحِدُ الصَّمَدُ، ومِن حَقِّ الكَلامِ أن يُحمَلَ على حَقيقتِه حتَّى تَتَّفِقَ الأمَّةُ أنَّه أُريدَ به المَجازُ؛ إذ لا سَبيلَ إلى اتِّباعِ ما أُنزِلَ إلينا مِن رَبِّنا إلَّا على ذلك، وإنَّما يُوجَّهُ كَلامُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ إلى الأَشهَرِ والأَظهَرِ مِن وُجوهِه ما لم يَمنَعْ مِن ذلك ما يَجِبُ له التَّسْليمُ، ولو ساغَ ادِّعاءُ المَجازِ لكلِّ مُدَّعٍ ما ثَبَتَ شيءٌ مِن العِباراتِ، وجَلَّ اللهُ عَزَّ وجَلَّ عن أن يُخاطِبَ إلَّا بما تَفهَمُه العَرَبُ في مَعْهودِ مُخاطَباتِها ممَّا يَصِحُّ مَعْناه عِندَ السَّامِعينَ، والاستِواءُ مَعْلومٌ في اللُّغةِ ومَفْهومٌ، وهو العُلُوُّ والارْتِفاعُ على الشَّيءِ والاسْتِقرارُ والتَّمكُّنُ فيه. قال أبو عُبَيْدةَ في قَولِه تَعالى: اسْتَوى، قال: عَلا، قال: وتقولُ العَرَبُ: اسْتَوَيْتُ فَوْقَ الدَّابَّةِ، واسْتَوَيْتُ فَوْقَ البَيْتِ...، قال أبو عُمَرَ: الاستِواءُ: الاسْتِقرارُ في العُلْوِ، وبِهذا خاطَبَنا اللهُ عَزَّ وجَلَّ) [191] ((التمهيد)) (7/ 131).      .
وقال أبو بَكرٍ الكَلَاباذيُّ: (أَجمَعوا على أنَّ للهِ صِفاتٍ على الحَقيقةِ هو بها مَوْصوفٌ مِن العِلمِ والقُدْرةِ، والقُوَّةِ، والعِزِّ، والحِلْمِ، والحِكْمةِ، والكِبْرياءِ، والجَبَروتِ، والقِدَمِ، والحَياةِ، والإرادةِ، والمَشيئةِ، والكَلامِ...، وأنَّ له سَمْعًا، وبَصَرًا، ووَجْهًا، ويَدًا على الحَقيقةِ) [192] ((التعرف لمذهب أهل التصوف)) (ص: 35).      .
وممَّا يُبَيِّن أنَّ السَّلَفَ يؤمنون بمعاني الصِّفاتِ ويعرِفون معانيَها أنَّهم فَسَّروا معانيَ أسماءِ اللهِ الحُسنى، وهي تتضَمَّنُ صفاتٍ للهِ سُبحانَه [193] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/ 127)، ((تفسير أسماء الله الحسنى)) للزجاج (ص: 33،  37)، ((اشتقاق أسماء الله)) للزجاجي (ص: 108، 152)، ((شأن الدعاء)) للخطابي (1/ 47 - 49، 57 - 66، 88، 111). .
قال الأزْهَريُّ الهَرَويُّ: (السَّميعُ مِن صِفاتِ اللهِ وأسمائِه، وهو الَّذي وَسِعَ سَمعُه كلَّ شيءٍ...، والعَجَبُ مِن قَومٍ فَسَّروا السَّميعَ بمَعنى المُسمِعِ، فِرارًا مِن وَصفِ اللهِ بأنَّ له سَمعًا! وقد ذَكَرَ اللهُ الفِعلَ في غَيرِ مَوضِعٍ مِن كِتابِه، فهو سَميعٌ ذو سَمْعٍ بلا تَكْييفٍ ولا تَشْبيهٍ بالسَّميعِ مِن خَلْقِه، ولا سَمْعُه كسَمْعِ خَلْقِه، ونحن نَصِفُه بما وَصَفَ به نَفْسَه، بلا تَحْديدٍ ولا تَكْييفٍ) [194] ((تهذيب اللغة)) (2/ 74).      .
وقال ابنُ تيميَّةَ مبيِّنًا خطورةَ مَذهَبِ التَّفويضِ: (يبقى هذا الكَلامُ سَدًّا لبابِ الهُدى والبيانِ مِن جِهةِ الأنبياءِ، وفتحًا لبابِ مَن يُعارِضُهم ويقولُ: إنَّ الهُدى والبيانَ في طريقِنا لا في طَريقِ الأنبياءِ، لأنَّا نحن نَعلَمُ ما نقولُ ونُبَيِّنُه بالأدِلَّةِ العَقليَّةِ، والأنبياءُ لم يَعلَموا ما يَقولونَ، فضلًا عن أن يُبَيِّنوا مُرادَهم! فتَبَيَّنَ أنَّ قَولَ أهلِ التَّفويضِ -الذين يَزعُمونَ أنَّهم مُتَّبِعونَ للسُّنَّةِ والسَّلَفِ- مِن شَرِّ أقوالِ أهلِ البِدَعِ والإلحادِ) [195] ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/ 205).      .
وقال أيضًا: (أهلُ التَّجهيلِ يَقولونَ: إنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لم يَعرِفْ مَعانيَ ما أَنزَلَ اللهُ إليه مِن آياتِ الصِّفاتِ، ولا جِبريلُ يَعرِفُ مَعانيَ الآياتِ، ولا السَّابِقونَ الأَوَّلونَ عَرَفوا ذلك! وكذلك قَولُهم في أحاديثِ الصِّفاتِ: إنَّ مَعْناها لا يَعلَمُه إلَّا اللهُ معَ أنَّ الرَّسولَ تَكلَّمَ بها ابتِداءً! فعلى قَولِهم تَكلَّمَ بكَلامٍ لا يَعرِفُ مَعناه!) [196] ((مجموع الفتاوى)) (5/ 34) باختصار وتصَرُّف يسير.      .
والمَقصودُ هنا بَيانُ خَطَأِ نِسبةِ مَذهَبِ التَّفويضِ إلى السَّلَفِ الصَّالِحِ، وأنَّ القَولَ بأنَّ مَذهَبَ السَّلَفِ هو التَّفويضُ كانَ سَبَبًا في تَفْضيلِ بعضِ العُلَماءِ لمَذهَبِ الأشاعِرةِ أو على الأقَلِّ رِضاهم عنهم في خَوْضِهم في صِفاتِ اللهِ بالتَّأويلِ؛ لأنَّ في التَّأويلِ لنُصوصِ الصِّفاتِ زِيادةَ عِلمٍ وفَضْلٍ على المُفَوِّضةِ السَّاكِتينَ عنها، المُعْتَرِفينَ بجَهْلِهم بمَعانيها، الَّذين حالُهم كحالِ الأُمِّيِّينَ الَّذين لا يَعلَمونَ الكِتابَ إلَّا أمانيَّ، ومَعاذَ اللهِ أن يكونَ هذا حالَ السَّلَفِ، وبِهذا يَتَبيَّنُ بُطْلانُ قَولِ مَن قال: مَذهَبُ السَّلَفِ أَسلَمُ، ومَذهَبُ الخَلَفِ أَحكَمُ وأَعلَمُ [197] قال ابنُ تَيْميَّةَ: (قد يَنصُرُ المُتَكلِّمونَ أقْوالَ السَّلَفِ تارةً، وأقْوالَ المُتَكلِّمينَ تارةً، كما يَفعَلُه غَيْرُ واحِدٍ، مِثلُ أبي المَعالي الجُوَيْنيِّ، وأبي حامِدٍ الغَزاليِّ، والرَّازِيِّ، وغَيْرِهم ... ، وتارةً يَجعَلونَ إخْوانَهم المُتَأخِّرينَ أَحذَقَ وأَعلَمَ مِن السَّلَفِ ويقولونَ: طَريقةُ السَّلَفِ أَسلَمُ، وطَريقةُ هؤلاء أَعلَمُ وأَحكَمُ، فيَصِفونَ إخْوانَهم بالفَضيلةِ في العِلمِ والبَيانِ، والتَّحْقيقِ والعِرْفانِ، والسَّلَفَ بالنَّقْصِ في ذلك، والتَّقْصيرِ فيه، أو الخَطَأِ والجَهْلِ! وغايتُهم عنْدَهم: أن يُقيموا أعْذارَهم في التَّقْصيرِ والتَّفْريطِ! ولا رَيْبَ أنَّ هذا شُعْبةٌ مِن الرَّفْضِ؛ فإنَّه وإن لم يكنْ تَكْفيرًا للسَّلَفِ ولا تَفْسيقًا لهم كانَ تَجْهيلًا لهم وتَخْطِئةً وتَضْليلًا) ((مجموع الفتاوى)) (4/157) باختصار.    ! بل مَذهَبُ السَّلَفِ أحكَمُ وأعلَمُ وأسلَمُ.

انظر أيضا: