موسوعة الفرق

المَبحَثُ الأوَّلُ: نشأةُ الماتُريديَّةِ


ظهر في أوَّلِ القَرنِ الثَّالِثِ الهجريِّ عبدُ اللهِ بنُ سعيدٍ القطَّانُ البصريُّ (ت 243هـ)، ويقالُ له: ابنُ كُلَّابٍ، قيل: لأنَّه كان يجرُّ الخصومَ إلى نفسِه بفضلِ بيانِه، كأنَّه كُلَّابٌ، ويقالُ لأصحابِه: الكُلَّابيَّةُ، وكان له فضلٌ وعِلمٌ ودينٌ، وصنَّف مصنَّفاتٍ كثيرةً في الرَّدِّ على الجَهْميَّةِ والمُعتزِلةِ، وربَّما وافق المُعتزِلةَ أحيانًا، وكان يميلُ إلى مَذهَبِ أهلِ السُّنَّةِ، لكِنْ فيه نوعٌ من البدعةِ؛ فهو الذي ابتدع القولَ بأنَ كلامَ اللهِ قائمٌ بذاتِ الله بلا مشيئةٍ، وكان ممَّن أخذ عنه الحارثُ بنُ أسدٍ المحاسبيُّ (ت 243هـ)، وداودُ بنُ عليٍّ الأصْبَهانيُّ الظَّاهريُّ (ت 270هـ)، ثمَّ جاء بعدَهم أبو الحسَنِ الأشْعَريُّ (ت 324ه)، وأبو منصورٍ الماتُريديُّ (ت 333هـ) [27] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (12/ 366)، ((تاريخ الإسلام)) للذهبي (5/ 981)، ((طبقات الشافعية الكبرى)) للسبكي (2/ 299). .
وقد كان أبو الحسَنِ الأشْعَريُّ وأبو منصورٍ الماتُريديُّ يعيشانِ في عصرٍ واحدٍ، ولكن كان أبو الحسَنِ الأشْعَريُّ في بغدادَ، وكان أبو منصورٍ الماتُريديُّ في سَمَرْقَنْدَ، وقد ألَّف كلٌّ منهما كتُبًا كثيرةً في العقائِدِ، وفي الرَّدِّ على المُعتزِلة وغيرِهم من أهلِ البِدَعِ والأهواءِ، وهما متَّفقانِ في كثيرٍ من المسائِلِ، مع أنَّه لم يَثبُتْ أنَّهما التَقَيا، أو تراسَلا، ومن أسبابِ اتِّفاقِهما أنَّ أصلَ مَذهَبِهما هو مَذهَبُ ابنِ كُلَّابٍ. واللهُ أعلمُ [28] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 433)، ((نقض عقائد الأشاعرة والماتريدية)) لخالد الغامدي (ص: 21 - 51). .
وقد انتشر المَذهَبُ الأشْعَريُّ بَينَ الشَّافعيَّةِ والمالكيَّةِ، وانتشر المَذهَبُ الماتُريديُّ بَينَ الحنفيَّةِ، وانتسب كثيرٌ من أهلِ العِلمِ والفَضلِ والدِّينِ إلى المَذهَبينِ، وكانوا يرونَ أنَّ الانتسابَ إلى أبي الحسَنِ الأشْعَريِّ أو إلى أبي منصورٍ الماتُريديِّ انتسابٌ إلى السُّنَّةِ؛ لِما رأوا في كتُبِهما وكتُبِ أتباعِهما من الرُّدودِ على المُعتزِلةِ، والدِّفاعِ عن عقائدِ أهلِ السُّنَّةِ، ودعوى التَّوسُّطِ بَينَ الفِرَقِ المختَلفةِ، وكان بَينَ الأشاعرةِ والماتُريديَّةِ في بدايةِ الأمرِ وَحشةٌ وتنافُرٌ وتنازُعٌ؛ بسبَبِ بعضِ مسائِلِ الخلافِ، ثمَّ انتهى الأمرُ عِندَ المتأخِّرين منهم إلى تقريرِ أنَّ أهلَ السُّنَّةِ هم المنتَسِبون إلى أبي الحسَنِ الأشْعَريِّ أو أبي منصورٍ الماتُريديِّ، وقرَّروا أنَّ الخلافَ الذي بينهما سائغٌ، وأنكروا على من غلا من الفريقينِ بتبديعِ الآخَرِ [29] يُنظر: ((أصول الدين)) للبَزْدَوي (ص: 244 - 264)، ((السيف المشهور في شرح عقيدة أبي منصور)) لتاج الدين السبكي (ص:3)، ((مفتاح السعادة)) لطاشكبري زاده (2/ 133)، ((إشارات المرام)) للبياضي (ص: 36 - 40)، ((إتحاف السادة المتقين)) لمرتضى الزبيدي (2/ 6)، ((تبسيط العقائد الإسلامية)) لحسن أيوب (ص: 299). .
قال التَّفْتازانيُّ: (المشهورُ من أهلِ السُّنَّةِ في ديارِ خُراسانَ والعِراقِ والشَّامِ وأكثَرِ الأقطارِ هم الأشاعِرةُ، أصحابُ أبي الحسَنِ عليِّ بنِ إسماعيلَ الأشْعَريِّ، وفي ديارِ ما وراءَ النَّهرِ الماتُريديَّةُ، أصحابُ أبي منصورٍ الماتُريديِّ، وماتُريدُ: من قرى سَمَرْقَنْدَ، وقد دخل الآن فيها بَينَ الطَّائفتينِ اختِلافٌ في بعضِ الأصولِ؛ كمسألةِ التَّكوينِ، ومسألةِ الاستثناءِ في الإيمانِ، ومسألةِ إيمانِ المقَلِّدِ، وغيرِ ذلك، والمحقِّقون من الفريقينِ لا ينسُبون أحدَهما إلى البدعةِ والضَّلالةِ، خلافًا للمُبطِلين المتعَصِّبين) [30] ((شرح المقاصد في علم الكلام)) (2/ 271) باختصار. .

انظر أيضا: