موسوعة الفرق

الفصلُ الثَّالثُ: الفَرقُ بَينَ الافتِراقِ والاختِلافِ


مِن الفُروقِ بَينَ الاختِلافِ والافتِراقِ:
1- الافتِراقُ أشَدُّ أنواعِ الاختِلافِ، بل هو مِن ثمارِ الخلافِ؛ إذ قد يصِلُ الخلافُ إلى حدِّ الافتِراقِ، وقد لا يصِلُ؛ فالافتِراقُ اختِلافٌ وزيادةٌ، لكن ليس كُلُّ اختِلافٍ افتِراقًا.
2- الافتِراقُ غالبًا يكونُ بَعدَ العِلمِ بالبيِّناتِ، كما قال اللهُ تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ [آل عمران: 19] ، وقال اللهُ سبحانَه: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ [آل عمران: 105] .
3- الافتِراقُ يُؤدِّي إلى الهلاكِ، كما قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تختلِفوا؛ فإنَّ مَن كان قَبلَكم اختلَفوا فهلَكوا )) [60] أخرجه البخاري (2410) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه. ، وأمَّا الاختِلافُ فلا يوصِلُ صاحِبَه إلى التَّهلُكةِ؛ لكونِه لم يقصِدِ الفُرقةَ، وإنَّما حصَل ذلك لسوءِ فَهمٍ أو تأويلٍ، أو جَهلٍ.
4- الاختِلافُ قد يكونُ عن اجتِهادٍ وعن حُسنِ نيَّةٍ، وقد يُؤجَرُ المُخطِئُ، في حينِ أنَّ الافتِراقَ لا يكونُ عن حُسنِ نيَّةٍ، وصاحِبُه لا يُؤجَرُ، بل هو مذمومٌ؛ لقولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا حكَم الحاكِمُ فاجتهَد ثُمَّ أصاب، فله أجرانِ، وإذا حكَم فاجتهَد ثُمَّ أخطَأ؛ فله أجرٌ ))  [61] أخرجه البخاري (7352)، ومسلم (1716) من حديثِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنه. .
قال الخطيبُ البَغداديُّ: (فإن قيل: كيف يجوزُ أن يكونَ للمُخطِئِ فيما أخطَأ فيه أجرٌ، وهو إلى أن يكونَ عليه في ذلك إثمٌ أقرَبُ؛ لتوانيه وتَفريطِه في الاجتِهادِ حتى أخطَأ؟! فالجوابُ: أنَّ هذا غَلطٌ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يجعَلْ للمُخطِئِ أجرًا على خَطئِه، وإنَّما جعَل له أجرًا على اجتِهادِه، وعفا عن خَطئِه؛ لأنَّه لم يقصِدْه، وأمَّا المُصيبُ فله أجرٌ على اجتِهادِه، وأجرٌ على إصابتِه) [62] ((الفقيه والمتفقه)) (1/ 475). .
5- مِن الاختِلافِ ما لا يصِلُ إلى حدِّ الافتِراقِ ولا التَّنازُعِ في الدِّينِ
قال الشَّاطِبيُّ: (وجَدْنا أصحابَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن بَعدِه قد اختلَفوا في أحكامِ الدِّينِ، ولم يتفرَّقوا ولا صاروا شِيَعًا؛ لأنَّهم لم يُفارِقوا الدِّينَ، وإنَّما اختلَفوا فيما أُذِن لهم مِن اجتِهادٍ في الرَّأيِ، والاستِنباطِ مِن الكتابِ والسُّنَّةِ فيما لم يجِدوا فيه نصًّا)  [63] ((الاعتصام)) (3/ 168). .
أمَّا الافتِراقُ فيُؤدِّي إلى التَّنازُعِ والقِتالِ والتَّكفيرِ، ومِن ثَمَّ دُخولِ النَّارِ، كما قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ بني إسرائيلَ افترَقَت على ثِنتينِ وسبعينَ فِرقةً، وأنتم تفترِقونَ على مِثلِها، كُلُّها في النَّارِ إلَّا فِرقةً))  [64] أخرجه من طرُقٍ: ابن ماجه (3993)، وأحمد (12208) واللَّفظُ له من حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (3993)، وصَحَّحه بشواهِدِه شُعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (12208)، وصحَّح إسنادَه العراقي في ((الباعث على الخلاص)) (16)، وجوَّده وقوَّاه على شرط الصحيح: ابنُ كثير في ((نهاية البداية والنهاية)) (1/27). .
قال الشَّاطِبيُّ: (قولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إلَّا واحِدةً)) قد أعطى بنصِّه أنَّ الحقَّ واحِدٌ لا يختلِفُ؛ إذ لو كان للحقِّ فِرَقٌ أيضًا لم يقُلْ: ((إلَّا واحِدةً))، ولأنَّ الاختِلافَ مَنفيٌّ عن الشَّريعةِ بإطلاقٍ؛ لأنَّها الحاكِمةُ بَينَ المُختلِفينَ؛ لقولِه تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ الآية، فرَدَّ التَّنازُعَ إلى الشَّريعةِ، فلو كانت الشَّريعةُ تقتضي الخلافَ لم يكنْ في الرَّدِّ إليها فائِدةٌ، وقولُه: فِي شَيْءٍ نكِرةٌ في سِياقِ الشَّرطِ؛ فهي صيغةٌ مِن صِيَغِ العُمومِ، فتنتظِمُ كُلَّ تنازُعٍ على العُمومِ، فالرَّدُّ فيها لا يكونُ إلَّا إلى أمرٍ واحِدٍ، فلا يسَعُ أن يكونَ أهلُ الحقِّ فِرَقًا)  [65] ((الاعتصام)) (3/ 193). .
6- أنَّ كُلَّ افتِراقٍ اختِلافٌ، وليس كُلُّ اختِلافٍ افتِراقًا؛ فكثيرٌ مِن المسائِلِ التي يتنازَعُ فيها المُسلِمونَ هي مِن المسائِلِ الخلافيَّةِ الاجتِهاديَّةِ، ولا يجوزُ الحُكمُ على المُخالِفِ فيها بالكُفرِ ولا المُفارَقةِ ولا الخُروجِ مِن السُّنَّةِ.
7- الافتِراقُ مذمومٌ كُلُّه، والاختِلافُ ليس كُلُّه مذمومًا، فيوجَدُ خلافُ أفهامٍ: وهو جائِزٌ وواقِعٌ بَينَ أهلِ العِلمِ، وخلافُ تنوُّعٍ: وهو مشروعٌ، وخلافُ تضادٍّ: وهو المُحرَّمُ.
8- الافتِراقُ يكونُ في الأصولِ الاعتِقاديَّةِ والقَطعيَّاتِ التي لا يسَعُ الخلافُ فيها، والتي ثبتَت بنصٍّ قاطِعٍ، أو بإجماعٍ، أمَّا الاختِلافُ فيكونُ فيما دونَ الأصولِ ممَّا يجوزُ فيه تعدُّدُ الآراءِ.
9- أهلُ الافتِراقِ غالبًا يعتمِدونَ على المُتشابِهِ مِن الأدلَّةِ، كما قال تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران: 7] ، أمَّا اختِلافُ الفُقَهاءِ فعادةً يكونُ لسببٍ مِن هذه الأسبابِ:
أ- الاختِلافُ في فَهمِ الآيةِ أو الحديثِ.
ب- الاختِلافُ في ثُبوتِ الحديثِ وعَدمِ ثُبوتِه.
ج- الاختِلافُ في نَسخِ الآيةِ أو الحديثِ.
د- الاختِلافُ في طُرقِ الجَمعِ والتَّرجيحِ بَينَ النُّصوصِ المُتعارِضةِ في ظاهِرِها.
هـ- عَدمُ الاطِّلاعِ على دليلِ المسألةِ، سواءٌ كان الدَّليلُ نصًّا أو ظاهِرًا أو استِنباطًا.
و- الاختِلافُ في بعضِ مصادِرِ الاستِنباطِ، كالاختِلافِ في حُجِّيَّةِ قولِ الصَّحابيِّ وشَرعِ مَن قَبلَنا، وحُجِّيَّةِ القراءةِ الشَّاذَّةِ، والقياسِ، والاستِصحابِ، والمصالِحِ المُرسَلةِ، والعُرفِ، وسدِّ الذَّرائِعِ، وكالاختِلافِ في إجماعِ أهلِ المدينةِ، وكالاختِلافِ في حُجِّيَّةِ الحديثِ المُرسَلِ، وكالاختِلافِ في العَملِ بالحديثِ الضَّعيفِ إذا لم يوجَدْ في البابِ غَيرُه.
ز- الاختِلافُ في بعضِ القواعِدِ الأصوليَّةِ، كالاختِلافِ في العامِّ المخصوصِ: هل هو حُجَّةٌ أو ليس بحُجَّةٍ، وهل المُطلَقُ يُحمَلُ على المُقيَّدِ أو لا؟ وهل المفهومُ حُجَّةٌ أو ليس بحُجَّةٍ؟ وهل الأمرُ يدُلُّ على الوُجوبِ والفَوريَّةِ أو لا؟ وهل النَّهيُ يدُلُّ على التَّحريمِ أو الكراهةِ؟ وهل النَّهيُ يقتضي الفَسادَ أو لا؟ [66] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (2/ 777 - 782)، ((الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف)) للدهلوي (ص: 34 - 45). .

انظر أيضا: