موسوعة الفرق

المبحَثُ الثَّاني: الرَّدُّ على مذهَبِ الأشاعِرةِ في الخوارِقِ والمُعجِزاتِ


1- قال ابنُ حَزمٍ: (ذهَب قَومٌ إلى أنَّ السِّحرَ قَلبٌ للأعيانِ، وإحالةٌ للطَّبائعِ، وأنَّهم يُرونَ أعيُنَ النَّاسِ ما لا يُرى، وأجازوا للصَّالحينَ على سبيلِ كرامةِ اللهِ عزَّ وجلَّ لهم اختراعَ الأجسامِ، وقَلبَ الأعيانِ، وجميعَ إحالةِ الطَّبائعِ، وكُلَّ مُعجِزٍ للأنبياءِ عليهم السَّلامُ، ورأيتُ لمحمَّدِ بنِ الطَّيِّبِ الباقِلَّانيِّ أنَّ السَّاحِرَ يمشي على الماءِ على الحقيقةِ، وفي الهواءِ، ويقلِبُ الإنسانَ حمارًا على الحقيقةِ، وأنَّ كُلَّ هذا موجودٌ مِن الصَّالحينَ على سبيلِ الكرامةِ، وأنَّه لا فَرقَ بَينَ آياتِ الأنبياءِ وبَينَ ما يظهَرُ من الإنسانِ الفاضِلِ ومن السَّاحِرِ أصلًا إلَّا بالتحدِّي، فإنَّ النَّبيَّ يتحدَّى النَّاسَ أن يأتوا بمِثلِ ما جاء هو به، فلا يَقدِرُ أحَدٌ على ذلك فقط، وإنَّ كُلَّ ما لم يتحَدَّ به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم النَّاسَ فليست آيةً له، وقطْعٌ بأنَّ اللهَ تعالى لا يقدِرُ على إظهارِ آيةٍ على لسانِ مُتنبِّئٍ كاذبٍ، وذهَب أهلُ الحقِّ إلى أنَّه لا يَقلِبُ أحدٌ عَينًا ولا يُحيلُ طبيعةً إلَّا اللهُ عزَّ وجلَّ لأنبيائِه فقط، سواءٌ تحَدَّوا بذلك أو لم يتحَدَّوا، وكُلُّ ذلك آياتٌ لهم عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ تحدَّوا بذلك أم لا، والتحَدِّي لا معنى له، وأنَّه لا يمكِنُ وُجودُ شيءٍ من ذلك لصالحٍ ولا لساحرٍ ولا لأحدٍ غيرِ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ) [966] ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (5/ 2). .
وقال ابنُ حزمٍ أيضًا: (ما ذكَره الباقِلَّانيُّ من اشتراطِ التحَدِّي في المُعجِزةِ باطِلٌ من وُجوهٍ: أحدُها: أنَّ اشتراطَ التحدِّي في كونِ آيةِ النَّبيِّ آيةً دعوى كاذِبةٌ سخيفةٌ، لا دليلَ على صحَّتِها لا مِن قُرآنٍ ولا مِن سُنَّةٍ صحيحةٍ ولا سقيمةٍ، ولا من إجماعٍ، ولا مِن قَولِ صاحِبٍ، ولا مِن حُجَّةِ عَقلٍ، ولا قال بهذا أحدٌ قَطُّ قَبلَ هذه الفِرقةِ الضَّعيفةِ، وما كان هكذا فهو في غايةِ السُّقوطِ والهُجنةِ؛ قال اللهُ عزَّ وجلَّ: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة: 111] ، فوجَب ضرورةً أنَّ مَن لا بُرهانَ له على صِحَّةِ قَولِه فهو كاذِبٌ فيها غيرُ صادِقٍ. وثانيها: أنَّه لو كان ما قالوا لسقَطَت أكثَرُ آياتِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كنَبَعانِ الماءِ من بَينِ أصابعِه، وإطعامِه المِئينَ والعَشَراتِ من صاعِ شَعيرٍ وعَناقٍ، ومرَّةً أُخرى مِن كِسَرٍ ملفوفةٍ في خِمارٍ، وكتَفْلِه في العَينِ فجاشت بماءٍ غزيرٍ إلى اليومِ، وحَنينِ الجِذعِ، وتكليمِ الذِّراعِ، وشكوى البعيرِ والذِّئبِ، والإخبارِ بالغُيوبِ، وتَمرِ جابرٍ، وسائِرِ مُعجِزاتِه العِظامِ؛ لأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لم يتحَدَّ بذلك كُلِّه أحدًا، ولا عَمِلَه إلَّا بحضرةِ أهلِ اليقينِ من أصحابِه رَضِيَ اللهُ عنهم... وقَولُه: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ [الإسراء: 59] ، فسمَّى اللهُ تعالى تلك المُعجِزاتِ المطلوبةَ من الأنبياءِ عليهم السَّلامُ آياتٍ، ولم يَشترِطْ عزَّ وجلَّ في ذلك تحدِّيًا من غيرِه، فصَحَّ أنَّ اشتراطَ التحدِّي باطِلٌ محضٌ، وصَحَّ أنَّها إذا ظهَرت فهي آيةٌ، كان هنالك تحَدٍّ أو لم يكُنْ، وقد صحَّ إجماعُ الأمَّةِ المتيقَّنُ على الآياتِ التي لا يأتي بها ساحِرٌ ولا غيرُ نبيٍّ، فصَحَّ أنَّ المُعجِزاتِ إذًا هي آياتٌ لا تكونُ لساحرٍ، ولا لأحَدٍ ليس نبيًّا) [967] ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (5/ 5) بتصرُّفٍ. .
2- قال ابنُ تيميَّةَ: (حقيقةُ الأمرِ أنَّ ما يدُلُّ على النبُوَّةِ هو آيةٌ على النبُوَّةِ، وبرهانٌ عليها، فلا بُدَّ أن يكونَ مختَصًّا بها، لا يكونُ مُشتركًا بَينَ الأنبياءِ وغيرِهم؛ فإنَّ الدَّليلَ هو مُستلزِمٌ لمدلولِه، لا يجِبُ أن يكونَ أعَمَّ وجودًا منه، بل إمَّا أن يكونَ مُساويًا له في العُمومِ والخُصوصِ، أو يكونَ أخَصَّ منه، وحينَئذٍ فآيةُ النَّبيِّ لا تكونُ لغيرِ الأنبياءِ، لكِنْ إذا كانت مُعتادةً لكُلِّ نبيٍّ، أو لكثيرٍ من الأنبياءِ، لم يقدَحْ هذا فيها، فلا يَضُرُّها أن تكونَ مُعتادةً للأنبياءِ، وكَونُ الآيةِ خارقةً للعادةِ أو غيرَ خارقةٍ هو وَصفٌ لم يصِفْه القُرآنُ والحديثُ ولا السَّلَفُ، وقد بيَّنَّا في غيرِ هذا الموضِعِ أنَّ هذا وَصفٌ لا ينضَبِطُ، وهو عديمُ التَّأثيرِ؛ فإنَّ نَفسَ النبُوَّةِ مُعتادةٌ للأنبياءِ، خارقةٌ للعادةِ بالنِّسبةِ إلى غيرِهم) [968] ((النبوات)) (1/ 163). .
وقال ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (عامَّةُ مُعجِزاتِ الرَّسولِ لم يكُنْ يَتحدَّى بها، ويقولُ: ائتُوا بمِثلِها. والقُرآنُ إنَّما تحدَّاهم لمَّا قالوا: إنَّه افتراه، ولم يتحدَّهم به ابتداءً، وسائِرُ المُعجِزاتِ لم يتحَدَّ بها، وليس فيما نُقِل تحدٍّ إلَّا بالقُرآنِ، لكِنْ قد عُلِم أنَّهم لا يأتونَ بمِثلِ آياتِ الأنبياءِ، فهذا لازِمٌ لها، لكِنْ ليس من شَرطِ ذلك أن يقارِنَ خَبَرَه) [969] ((النبوات)) (2/ 794). .
وقال أيضًا: (قالت طائفةُ الأشاعِرةِ: خَرقُ العادةِ جائزٌ مُطلَقًا، وكُلُّ ما خُرِق لنبيٍّ من العاداتِ يجوزُ أن يُخرَقَ لغيرِه من الصَّالحينَ، بل ومِن السَّحَرةِ والكُهَّانِ، لكِنَّ الفَرقَ أنَّ هذه تقترِنُ بها دعوى النبُوَّةِ، وهو التحَدِّي. وقد يقولونَ: إنَّه لا يمكِنُ أحدًا أن يعارِضَها، بخِلافِ تلك، وهذا قَولُ من اتَّبَع جَهْمًا على أصلِه في أفعالِ الرَّبِّ من الجَهميَّةِ وغيرِهم؛ حيث جوَّزوا أن يفعَلَ كُلَّ ممكِنٍ، فلَزِمَهم جوازُ خَرقِ العاداتِ مُطلقًا على يدِ كُلِّ أحَدٍ، واحتاجوا مع ذلك إلى الفَرقِ بَينَ النَّبيِّ وغيرِه، فلم يأتوا بفَرقٍ مَعقولٍ، بل قالوا: هذا يقتَرِنُ به التحدِّي، فمن ادَّعى النبُوَّةَ وهو كاذِبٌ لم يجُزْ أن يَخرِقَ اللهُ له العادةَ أو يخرِقَها له، ولا تكونُ دليلًا على صِدقِه لِما يقترِنُ بها ممَّا يناقِضُ ذلك؛ فإنَّ هذينِ قولانِ لهم، فقيل لهم: لمَ أوجَبتُم هذا في هذا الموضِعِ دونَ غَيرِه، وأنتم لا تُوجِبونَ على اللهِ شيئًا؟! فقالوا: لأنَّ المُعجِزةَ عَلَمُ الصِّدقِ؛ فيمتَنِعُ أن يكونَ لغيرِ صادِقٍ. فقُلْنا: المجموعُ هو الممتَنِعُ، وهو خارِقُ العادةِ، ودعوى النبُوَّةِ، أو هذانِ مع السَّلامةِ عن المعارِضِ. فقيلَ لهم: ولمَ قُلتُم: إنَّه عَلَمُ الصِّدقِ على قَولِكم؟ فقالوا: إمَّا لأنَّه يُفضي مَنْعُ ذلك إلى عَجزِه، وإمَّا لأنَّه عَلَمٌ دلالتُه على الصِّدقِ بالضَّرورةِ. فقيل لهم: إنَّما يلزَمُ العَجزُ أنْ لو كان التَّصديقُ على قولِكم مُمكِنًا، وكَونُ دَلالتِها معلومةً بالضَّرورةِ هو مُسَلَّمٌ، لكِنَّه يُناقِضُ أصولَكم، ويوجِبُ أن يكونَ أحَدُ الشَّيئينِ معلومًا بالضَّرورةِ دونَ نظيرِه. وهذا مُمتنِعٌ؛ فإنَّكم تقولونَ: يجوزُ أن يُخلَقَ على يَدِ مُدَّعي النُّبوَّةِ والسَّاحِرِ والصَّالِحِ، لكِنْ إن ادَّعى النُّبوَّةَ دَلَّت على صِدقِه، وإنْ لم يَدَّعِ النُّبوَّةَ لم يدُلَّ على شيءٍ، مع أنَّه لا فَرقَ عِندَ اللهِ بَينَ أن يخلُقَها على يدِ مُدَّعي النُّبوَّةِ وغَيرِ مُدَّعي النُّبوَّةِ، بل كِلاهما جائزٌ فيه. فإذا كان هذا مِثلَ هذا لمَ كان أحدُهما دليلًا دونَ الآخَرِ؟ ولمَ اقتَرَن العِلمُ بأحدِ المُتماثِلَينِ دونَ الآخَرِ؟ ومِن أينَ عِلمتُم أنَّ الرَّبَّ لا يخرِقُها مع دعوى النُّبوَّةِ إلَّا على يدِ صادِقٍ، وأنتم تُجَوِّزون على أصلِكم كلَّ فِعلٍ مقدورٍ، وخَلْقُها على يدِ الكذَّابِ مقدورٌ؟!
ثمَّ هؤلاء جوَّزوا كراماتِ الصَّالحينَ، ولم يذكُروا بَينَ جِنسِها وجِنسِ كراماتِ الأنبياءِ فَرقًا، بل صرَّح أئمَّتُهم أنَّ كُلَّ ما خُرِقَ لنبيٍّ يجوزُ أن يُخرَقَ للأولياءِ، حتَّى مِعراجَ محمَّدٍ، وفَرْقَ البَحرِ لموسى، وناقةَ صالحٍ، وغيرَ ذلك! ولم يذكُروا بَينَ المُعجِزةِ والسِّحرِ فَرقًا معقولًا، بل قد يُجَوِّزونَ أن يأتيَ السَّاحِرُ بمِثلِ ذلك، لكِنْ بينهما فَرقٌ دعوى النُّبوَّةِ، وبَينَ الصَّالحِ والسَّاحِرِ، والبَرِّ والفاجرِ) [970] ((النبوات)) (1/ 133 - 137) باختصارٍ وتصرُّفٍ. .
وقال ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (لمَّا أراد الأشاعِرةُ إثباتَ مُعجِزاتِ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ، وأنَّ اللهَ سُبحانَه لا يُظهِرُها على يدِ كاذِبٍ، مع تجويزِهم عليه فِعلَ كُلِّ شيءٍ، فتَقوا فتقًا فقالوا: لو جاز ذلك لَزِم ألَّا يَقدِرَ على تصديقِ من ادَّعى النُّبوَّةَ، وما لَزِم منه نَفيُ القُدرةِ كان ممتَنِعًا، فهذا هو المشهورُ عن الأشعَريِّ، وعليه اعتمَد القاضي أبو بكرٍ، وابنُ فُورَك، والقاضي أبو يَعلَى، وغيرُهم، وهو مبنيٌّ على مُقدِّماتٍ:
أحَدُها: أنَّ النُّبوَّةَ لا تَثبُتُ إلَّا بما ذكَروه من المُعجِزاتِ، وأنَّ الرَّبَّ لا يَقدِرُ على إعلامِ الخَلقِ بأنَّ هذا نبيٌّ إلَّا بهذا الطَّريقِ، وأنَّه لا يجوزُ أن يعلَموا ذلك ضرورةً، وأنَّ إعلامَ الخَلقِ بأنَّ هذا نبيٌّ بهذا الطَّريقِ مُمكِنٌ.
فلو قيل لهم: لا نُسلِّمُ أنَّ هذا مُمكِنٌ على قولِكم، فإنَّكم إذا جوَّزتُم عليه فِعلَ كُلِّ شَيءٍ، وإرادةَ كُلِّ شيءٍ، لم يكُنْ فَرقٌ بَينَ أن يُظهِرَها على يدِ صادِقٍ أو كاذِبٍ، ولم يكُنْ إرسالُ رَسولٍ يُصدِّقُه بالمُعجِزاتِ مُمكِنًا على أصلِكم، ولم يكُنْ لكم حُجَّةٌ على جوازِ إرسالِ الرَّسولِ وتصديقِه بالمُعجِزاتِ؛ إذ كان لا طريقَ عِندَهم إلَّا خَلقُ المُعجِزِ، وهذا إنَّما يكونُ دليلًا إذا عُلِم أنَّه إنَّما خَلَقَه لتصديقِ الرَّسولِ، وأنتم عِندَكم لا يفعَلُ شيئًا لشيءٍ، ويجوزُ عليه فِعلُ كُلِّ شيءٍ، وسَلَك طائفةٌ منهم طريقًا آخَرَ، وهي طريقةُ أبي المعالي وأتباعِه، وهو أنَّ العِلمَ بتصديقِه لمن أُظهِرَ على يديه المُعجِزُ عِلمٌ ضَروريٌّ ... وقالوا أيضًا ما ذكره الأشعريُّ: المُعجِزُ: عَلَمُ الصِّدقِ ودليلُه، فيستحيلُ وُجودُه بدونِ الصِّدقِ، فيمتَنِعُ وُجودُه على يَدِ الكاذِبِ، وهذا كلامٌ صحيحٌ، لكِنْ كونُه عَلَمَ الصِّدقِ مُناقِضٌ لأصولِهم؛ فإنَّه إنَّما يكونُ عَلَمَ الصَّادِقِ إذا كان الرَّبُّ مُنزَّهًا عن أن يفعَلَه على يَدِ الكاذِبِ، أو عُلِم بالاضطرارِ أنَّه إنَّما فعَلَه لتصديقِ الصَّادِقِ، أو أنَّه لا يفعَلُه على يَدِ الكاذِبِ، وإذا عُلِم بالاضطرارِ تَنزُّهُه عن بعضِ الأفعالِ بَطَل أصلُهم) [971] ((النبوات)) (1/ 480 - 484) باختصارٍ وتصرُّفٍ. .
وقال أيضًا: (آياتُ الأنبياءِ لا تكونُ إلَّا خارِقةً للعادةِ، ولا تكونُ ممَّا يَقدِرُ أحَدٌ على معارضتِها، فاختصاصُها بالنَّبيِّ وسلامتُها عن المعارضةِ شَرطٌ فيها، بل وفي كلِّ دليلٍ؛ فإنَّه لا يكونُ دليلًا حتَّى يكونَ مختَصًّا بالمدلولِ عليه، ولا يكونُ مختَصًّا إلَّا إذا سَلِم عن المعارضةِ، فلم يوجَدْ مع عدَمِ المدلولِ عليه مِثلُه، وإلَّا إذا وُجِد هو أو مِثلُه بدونِ المدلولِ لم يكُنْ مختَصًّا؛ فلا يكونُ دليلًا. لكِنْ كما أنَّه لا يكفي مجرَّدُ كونِه خارِقًا لعادةِ أولئك القَومِ دونَ غَيرِهم، فلا يكفي أيضًا عَدَمُ مُعارضةِ أولئك القَومِ، بل لا بُدَّ أن يكونَ ممَّا لم يعتَدْه غيرُ الأنبياءِ؛ فيكونُ خارقًا لعادةِ غيرِ الأنبياءِ، فمتى عُرِف أنَّه يُوجَدُ لغيرِ الأنبياءِ بَطَلت دلالتهُ، ومتى عارَض غيرُ النَّبيِّ النَّبيَّ بمِثلِ ما أتى به بطَل الاختصاصُ... آياتُ الأنبياءِ خارجةٌ عن مقدورِ من أُرسِل الأنبياءُ إليه، وهم الجِنُّ والإنسُ، فلا تقدِرُ الإنسُ والجِنُّ أن يأتوا بمِثلِ مُعجِزِ الأنبياءِ، كما قال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء: 88] ، وأمَّا الملائكةُ فلا تَضُرُّ قُدرتُهم على مِثلِ ذلك؛ فإنَّ الملائكةَ إنَّما تُنزَّلُ على الأنبياءِ لا تُنزَّلُ على السَّحَرةِ والكُهَّانِ، كما أنَّ الشَّياطينَ لا تتنزَّلُ على الأنبياءِ) [972] ((النبوات)) (1/ 500 - 502). .
وقال ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (قد ادَّعى جماعةٌ من الكذَّابينَ النُّبوَّةَ، وأتَوا بخوارِقَ من جِنسِ خوارقِ الكُهَّانِ والسَّحَرةِ، ولم يعارِضْهم أحدٌ في ذلك المكانِ والزَّمانِ، وكانوا كاذِبينَ؛ فبَطَل قَولُهم: إنَّ الكذَّابَ إذا أتى بمِثلِ خوارِقِ السَّحَرةِ والكُهَّانِ، فلا بُدَّ أن يمنعَه اللهُ ذلك الخارِقَ، أو يُقَيِّضَ له من يعارِضُه، وهذا كالأسوَدِ العَنسيِّ الذي ادَّعى النُّبوَّةَ باليمَنِ في حياةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، واستولى على اليَمَنِ، وكان معه شيطانانِ: سَحيقٌ، ومحيقٌ، وكان يخبِرُ بأشياءَ غائبةٍ من جِنسِ أخبارِ الكُهَّانِ، وما عارضه أحَدٌ، وعُرِف كَذِبُه بوُجوهٍ متعَدِّدةٍ، وظهَر كَذِبُه وفُجورُه، وكذلك مُسَيلِمةُ الكذَّابُ، وكذلك الحارِثُ الدِّمَشقيُّ، ومكحولٌ الحَلبيُّ، وبابا الرَّوميُّ -لعنةُ اللهِ عليهم- وغيرُ هؤلاء، كانت معهم شياطينُ، كما هي مع السَّحَرةِ والكُهَّانِ) [973] ((النبوات)) (1/ 496) باختصارٍ يسيرٍ. .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (ضَرَبوا لذلك مَثَلًا بالمَلَكِ الذي أظهر ما يناقِضُ عادتَه لتصديقِ رَسولِه.
لكِنْ يقالُ لهم: الملَكُ يفعَلُ فِعلًا لمقصودٍ، فأمكن أن يُقالَ: إنَّه قام ليُصدِّقَ رَسولَه، وأنتم عِندَكم أنَّ اللهَ لا يفعَلُ شيئًا لشيءٍ، فلم يَبْقَ المَثَلُ مُطابِقًا؛ ولهذا صاروا مُضطَرِبينَ في هذا الموضِعِ، تارةً يقولونَ: المُعجِزاتُ دليلٌ على الصِّدقِ لئلَّا يُفضيَ إلى تعجيزِ الرَّبِّ؛ فإنَّه لا دليلَ على الصِّدقِ إلَّا خَلقُ المُعجِزِ، فلو لم يكُنْ دليلًا لَزِم أن يكونَ الرَّبُّ غيرَ قادِرٍ على تصديقِ الرَّسولِ الصَّادِقِ، وهذه طريقةُ الأشعريِّ في أكثَرِ كُتُبِه، وأحَدُ قَولَيه، وسلكَها القاضي أبو بكرٍ، وأبو إسحاقَ الإسفرائينيُّ، وأبو بكرِ بنُ فُورَك، والقاضي أبو يَعلى، وغيرُهم.
والثَّاني قالوا: نحن نعلَمُ بالاضطرارِ أنَّه فَعَل هذا لأجلِ التصديقِ كالمَثَلِ المضروبِ، وهذا هو القَولُ الآخَرُ، وهي طريقةُ أبي الحسَنِ الأشعريِّ في أماليه، وهي طريقةُ أبي المعالي، وأتباعِه كالرَّازيِّ، وغيرِه، وتنازعوا: هل يمكِنُ خَلقُ ذلك على يَدِ كذَّابٍ؟ فقيل: لا يمكِنُ؛ لأنَّه لو أمكَن لجاز وقوعُه، وقيل: بل هو مقدورٌ، لكِنْ نعلَمُ أنَّه لا يفعَلُه، كما نعلَمُ أنَّه لا يفعَلُ كثيرًا من الخوارِقِ المقدوراتِ، كقَلبِ الجَبَلِ ياقوتًا، والبَحرِ زيتًا.
قالوا: فنحن نعلَمُ بالضَّرورةِ أنَّه لا يفعَلُها، فلا يلزَمُ من كونِها مقدورةً مُمكِنةً ألَّا يعلَمَ انتفاءَ وقوعِها، بل قد يعلَمُ عَدَمَ وُقوعِها بالاضطرارِ، وإن كنَّا نقولُ: إنَّها ممكِنةٌ مقدورةٌ، وظهورُ المُعجِزاتِ على يدِ الكذَّابِ في دعوى النُّبوَّةِ من هذا البابِ عِندَنا.
وقالوا: المُعجِزُ عَلَمٌ على صِدقِ الأنبياءِ، فيمتَنِعُ أن يكونَ الدَّليلُ غيرَ مُستلزِمٍ للمَدلولِ عليه، وهذا القَولُ حَقٌّ، لكِنْ مُنازِعوهم يقولونَ: هو يَستلزِمُ نقيضَ ما نفَوه من كَونِ اللهِ يخلُقُ شيئًا لشيءٍ، ويخلُقُ شيئًا بشيءٍ، وما قالوا من كونِه يجوزُ عليه فِعلَ كُلِّ شيءٍ، وكان ما ذكَروه من الحَقِّ دليلًا على أنَّ الخَلقَ يعلَمونَ ما يَعلَمونَه من حِكمةِ الرَّبِّ ومُرادِه بما يخلُقُه لأمرٍ آخَرَ، وأنَّه سُبحانَه مُنزَّهٌ عن أن يفعَلَ أشياءَ لا يجوزُ منه فِعلُ كُلِّ شيءٍ، وهم يقولونَ هنا: قد يكونُ الشَّيءُ مُمكِنًا جائزًا مع العِلمِ بأنَّه غَيرُ واقعٍ؛ كانقلابِ الجَبَلِ ياقوتًا، والبَحرِ زِئبَقًا، وموتِ أهلِ البَلَدِ كُلِّهم في لحظةٍ، ومَصيرِ الأطفالِ عُلَماءَ حُكَماءَ في لحظةٍ واحدةٍ.
وعلى هذا الجوابِ يعتَمِدونَ كثيرًا، كما يذكُرُه القاضي أبو بكرٍ، والقاضي أبو يَعلى، وأبو المعالي، والرَّازيُّ، وغيرُهم، ثمَّ إنَّهم يقولونَ في العقلِ: إنَّه عُلومٌ ضروريَّةٌ كالعِلمِ بوُجوبِ الواجباتِ، وامتناعِ المُمتَنِعاتِ، وجوازِ الجائزاتِ؛ فالمُمتَنِعاتُ كانقلابِ دِجلةَ دَمًا، وأمثالِ ذلك في الأمورِ العاديَّةِ، فيَجعَلونَ العاداتِ واجِبةً تارةً، وممتَنِعةً أُخرى، مع أنَّه لا سبَبَ يُوجِبُ لا هذا ولا هذا! ويقولونَ: نعلَمُ أنَّ هذا جائزٌ ممكِنٌ لا يتوقَّفُ على سبَبٍ، ولا له مانِعٌ كالآخَرِ، ثمَّ نعلَمُ أنَّ هذا واقعٌ وهذا غيرُ واقعٍ لمجرَّدِ العادةِ، مع أنَّ خَرْقَ العادةِ ليس له عِندَهم ضابطٌ، بل كلُّ ما يجري من العاداتِ مُعجِزاتٌ للأنبياءِ، فيَجوزُ أن يكونَ عِندَهم للوَليِّ وللسَّاحِرِ، والفَرقُ بينهما عِندَهم التحدِّي أو عدَمُ المُعارضةِ، وكذلك المُتفلسِفةُ الملاحِدةُ الذين يقولونَ: أسبابُ الآياتِ القُوى الفَلَكيَّةُ، والقُوى النَّفسانيَّةُ والطَّبيعيَّةُ، وهذه كُلُّها مُشتَركةٌ عِندَهم بَينَ الأنبياءِ والسَّحَرةِ، لكِنَّ النَّبيَّ يقصِدُ الخيرَ والعَدلَ، والسَّاحِرَ يقصِدُ الشَّرَّ والظُّلمَ، وكذلك أولئك الذين وافقوا جَهْمًا على أصلِه في القَدَرِ، لا فَرْقَ عِندَهم بَينَ كراماتِ الأولياءِ وخوارقِ السَّحَرةِ، لكِنَّ الوَليَّ مُطيعٌ للهِ، والسَّاحِرَ غَيرُ مُطيعٍ للهِ، هذا عُمدةُ هؤلاء النُّفاةِ للحِكمةِ والأسبابِ في أفعالِ اللهِ تعالى.
وجُمهورُ النَّاسِ يخالِفونَهم، ويقولونَ: هذا القَولُ فاسِدٌ، بل نَفسُ تصوُّرِه كافٍ في العِلمِ بفسادِه، فإنَّه إذا تماثل هذا وهذا من كلِّ وَجهٍ، فمِن أين يُعلَمُ وُجودُ هذا أو وُجوبُه، وعدَمُ هذا أو امتناعُه؟! وإذا قيل: مُستَنَدي العادةُ، قيل له: منازِعوك يقولونَ: هذا باطِلٌ من وجهَينِ:
أحَدُهما: أنَّك أنت تجوِّزُ انتقاضَ العادةِ، وليس لانتقاضِها عِندَك سبَبٌ تختَصُّ به، ولا حِكمةٌ انتَقَضت لأجلِها، بل لا فَرْقَ عِندَك بَينَ انتقاضِها للأنبياءِ والأولياءِ والسَّحَرةِ، وغيرِ ذلك، ولهذا قُلتُم: ليس بَينَ مُعجِزاتِ الأنبياءِ وبَينَ كراماتِ الأولياءِ والسَّحَرةِ فَرقٌ إلَّا مجرَّدُ اقترانِ دعوى النُّبوَّةِ والتحَدِّي بالمعارَضةِ مع عدَمِ المعارَضةِ، مع أنَّ التحدِّيَ بالمعارَضةِ قد يقَعُ من المُشرِكِ بل ومن السَّاحِرِ، فلم يُثبِتوا فَرقًا يعودُ إلى جِنسِ الخوارِقِ المفعولةِ، ولا إلى قَصدِ الفاعِلِ والخالِقِ، ولا قُدرتِه ولا حِكمتِه.
والثَّاني: أنَّ العادةَ لا بُدَّ لها من أسبابٍ وموانِعَ يُعلَمُ بها اطِّرادُها تارةً، وانتقاضُها أُخرى، وبهذا يظهَرُ الجوابُ عمَّا قالوه من أنَّ انقلابَ الجَبَلِ ذَهَبًا، والبَحرِ زِئبَقًا، والأناسيِّ قُرودًا، ونحو ذلك مُمكنٌ معلومُ الجوازِ مع العِلمِ بأنَّه لم يقَعْ، فإنَّهم يقالُ لهم: جمهورُ النَّاسِ لا يعلَمونَ لكم أنَّ هذا ممكِنٌ إلَّا مع لوازمِه، وانتِفاءِ أضدادِه، وحينَئذٍ يقالُ: لمَ قُلتُم: إنَّ هذا لا يستلزِمُ أسبابًا تكونُ قَبلَه وموانِعَ ترتفِعُ كسائِرِ ما يُحدِثُه اللهُ من الأمورِ الخارقةِ للعادةِ؟ فإنَّه لا يُحدِثُ شيئًا إلَّا بإحداثِ أسبابٍ ودَفعِ موانِعَ، مِثالُ ذلك: غَرَقُ قَومِ نُوحٍ لم يكُنْ ماءً وُجِد بلا سَبَبٍ، بل أنزَلَ اللهُ ماءَ السَّماءِ، وأنبَعَ ماءَ الأرضِ ... وكُلُّ ما وُجِد في العالَمِ من خوارِقِ العاداتِ -آياتِ الأنبياءِ وغيرِها- لم يأتِ منها شيءٌ إلَّا بأسبابٍ تقدَّمَتْه، كآياتِ موسى مِن مِثلِ مصيرِ العَصا حيَّةً، كانت بَعدَ أن ألقاها، إمَّا عِندَ أمرِ اللهِ بذلك لمَّا ناداه من الشَّجَرةِ، ورأى النَّارَ الخارِقةَ للعادةِ، وإمَّا عِندَ مُطالبةِ فِرعَونَ له بالآيةِ، وإمَّا عِندَ معارضةِ السَّحَرةِ لتبتَلِعَ حِبالَهم، وعِصِيَّهم، وكذلك سائِرُ آياتِه، حتَّى إغراقُ فِرعَونَ كان بَعدَ مسيرِ الجيشِ، وضَربِه البَحرَ بالعصا، وكذلك تفَجُّرُ الماءِ من الحَجَرِ كان بَعدَ أن ضَرَب الحَجَرَ بعصاه، واستِسقاءِ قَومِه إيَّاه، وهم في بَرِّيَّةٍ لا ماءَ عِندَهم.
وكذلك آياتُ نبيِّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، مِثلُ تكثيرِ الماءِ، كان بوَضعِ يَدِه فيه حتَّى نَبَع الماءُ من بَينِ الأصابعِ، أي تفجَّرَ الماءُ من بَينِ الأصابعِ، لم يخرُجْ مِن نَفسِ الأصابعِ، وكذلك البِئرُ كان ماؤُها يَكثُرُ إمَّا بإلقائِه سَهمًا مِن كنانتِه فيها، وإمَّا بصَبِّه الماءَ الذي بَصَق فيه فيها، وكذلك المسيحُ كان يأخُذُ من الطِّينِ كهيئةِ الطَّيرِ فيَنفُخُ فيه، فيكونُ طيرًا بإذنِ اللهِ، إلى أمثالِ ذلك. فأمَّا جَبَلٌ ينقَلِبُ ياقوتًا بلا أسبابٍ تقدَّمت ذلك، فهذا لا كان ولا يكونُ، وكذلك نَهرٌ يطردُ يُصبِحُ لبَنًا بلا أسبابٍ تقتضي ذلك يخلُقُها اللهُ، فهذا لا كان ولا يكونُ) [974] ((الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح)) (6/ 397 - 404). .
وقال ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (الذين قالوا: مِن شَرْطِ الآياتِ أن تُقارِنَ دعوى النُّبوَّةِ، غَلِطوا غلَطًا عظيمًا، وسَبَبُ غَلَطِهم: أنَّهم لم يَعرِفوا ما يخُصُّ بالآياتِ، ولم يضبِطوا خارِقَ العادةِ بضابطٍ يميِّزُ بينها وبَينَ غيرِها، بل جعَلوا ما للسَّحَرةِ والكُهَّانِ هو أيضًا من آياتِ الأنبياءِ، إذا اقتَرَن بدعوى النُّبوَّةِ ولم يُعارِضْه معارِضٌ، وجعَلوا عدَمَ المُعارِضِ هو الفارِقَ بَينَ النَّبيِّ وغيرِه، وجعَلوا دعواه النُّبوَّةَ جُزءًا من الآيةِ، فقالوا: هذا الخارِقُ إن وُجِد مع دعوى النُّبوَّةِ كان مُعجِزةً، وإن وُجِد بدونِ دعوى النُّبوَّةِ لم يكُنْ مُعجِزةً، فاحتاجوا لذلك أن يجعَلوه مقارِنًا للدَّعوى. قالوا: والدَّليلُ على ذلك: أنَّ مِثلَ آياتِ الأنبياءِ يأتي في آخرِ الزَّمانِ إذا جاءت أشراطُ السَّاعةِ، ومع ذلك ليس هو من آياتِهم. وكذلك قالوا في كراماتِ الأولياءِ، وليس الأمرُ كذلك، بل أشراطُ السَّاعةِ هي من آياتِ الأنبياءِ من وُجوهٍ؛ منها: أنَّهم أخبروا بها قَبلَ وُقوعِها، فإذا جاءت كما أخبَروا كان ذلك من آياتِهم. ومنها: أنَّهم أخبَروا بالسَّاعةِ، فهذه الأشراطُ مُصَدِّقةٌ لخبرِهم بالسَّاعةِ، وكُلُّ مَن آمَن بالسَّاعةِ آمَن بالأنبياءِ، وكُلُّ من كذَّب الأنبياءَ كذَّب السَّاعةَ... فلا يُوجَدُ خَرقُ عادةٍ لجميعِ النَّاسِ إلَّا وهو من آياتِ الأنبياءِ.
وكذلك الذي يقتُلُه الدَّجَّالُ ثمَّ يُحييه فيقومُ، فيقولُ: أنت الأعوَرُ الكذَّابُ الذي أخبَرَنا به رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، واللهِ ما ازدَدْتُ فيك إلَّا بصيرةً، فيريدُ الدَّجَّالُ أن يقتُلَه، فلا يَقدِرُ على ذلك، فهذا الرَّجُلُ بَعدَ أن قُتِل وقام، يقولُ للدَّجَّالِ: أنت الأعوَرُ الكذَّابُ الذي أخبَرنا به رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، واللهِ ما ازدَدْتُ فيك بهذا القَتلِ إلَّا بصيرةً، ثمَّ يريدُ الدَّجَّالُ أن يقتُلَه فلا يقدِرُ عليه، فعَجْزُه عن قَتلِه ثانيًا مع تكذيبِ الرَّجُلِ له بَعدَ أن قتَلَه، وشَهادتِه للرَّسولِ محمَّدٍ بالرِّسالةِ- هو من خوارقِ العاداتِ التي لا توجَدُ إلَّا لمن شَهِد للأنبياءِ بالرِّسالةِ، وهذا الرَّجُلُ هو من خيارِ أهلِ الأرضِ المُسلِمينَ [975] حديث الدَّجال أخرجه: البخاري (1882)، ومسلم (2938) من حديثِ أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه؛ ولفظُ مسلمٍ: ((يخرجُ الدَّجَّالُ فيتوجَّهُ قِبَلَه رجلٌ من المؤمنين ... فينطلقون به إلى الدَّجَّالِ، فإذا رآه المؤمِنُ قال: يا أيُّها الناسُ، هذا الدَّجَّالُ الذي ذكَر رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. قال: فيأمُرُ الدَّجَّالُ به فيُشبَحُ. فيقول: خذوه وشُجُّوه. فيوسَعُ ظَهرُه وبطنُه ضربًا. قال: فيقوُل: أوَما تؤمِنُ بي؟ قال فيقولُ: أنت المسيحُ الكذَّابُ. قال: فيؤمَرُ به فيؤشَرُ بالمئشارِ من مَفرِقِه حتى يُفرَقَ بين رجلَيه. قال: ثم يمشي الدَّجَّالُ بين القطعتَينِ، ثمَّ يقولُ له: قُمْ. فيستوي قائمًا. قال: ثمَّ يقولُ له: أتؤمِنُ بي؟ فيقولُ: ما ازدَدْتُ فيك إلَّا بصيرةً. قال: ثمَّ يقولُ: يا أيُّها النَّاسُ، إنَّه لا يفعَلُ بعدي بأحدٍ من النَّاسِ قال: فيأخذُه الدَّجَّالُ ليذبحَه، فيُجعَلُ ما بين رقبتِه إلى تَرقُوتِه نُحاسًا، فلا يستطيعُ إليه سبيلًا...)). .
فهذا الخارِقُ الذي جرى فيه هو من خصائِصِ من شَهِد لمحمَّدٍ بالنُّبوَّةِ؛ فهو من أعلامِ النُّبوَّةِ ودلائِلِها. وكونُه قُتِل أو لا أبلَغُ في الدَّلالةِ؛ فإنَّ ذلك لم يُزِغْه ولم يُؤثِّرْ فيه، وعُلِم أنَّه لا يُسلَّطُ عليه مرَّةً ثانيةً، فكان هذا اليقينُ والإيمانُ مع عَجزِه عنه هو من خوارِقِ الآياتِ. ومعلومٌ أنَّ قَتْلَه مُمكِنٌ في العادةِ، فعَجزُه عن قَتلِه ثانيًا هو الخارِقُ للعادةِ.
ودلَّ ذلك على أنَّ إحياءَ اللهِ له لم يكُنْ مُعجِزةً للدَّجَّالِ، ولا ليُبيِّنَ بها صِدقَه، لكِنْ أحياه ليُكذِّبَ الدَّجَّالَ، وليُبَيِّنَ أنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ، وأنَّ الدَّجَّالَ كذَّابٌ، وأنَّه هو الأعورُ الكذَّابُ الذي أنذَر به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ... وما يأتي به الدَّجَّالُ إنَّما يحارُ فيه ويراه مُعارِضًا لآياتِ الأنبياءِ مَن لم يُحكِّمِ الفُرقانَ؛ فقَومٌ يُكذِّبونَ أن يأتيَ بعجيبٍ، ويقولونَ: ما معه إلَّا التَّمويهُ، كما قالوا في السِّحرِ والكِهانةِ مِثلَ كَثيرٍ من المُعتَزِلةِ، والظاهريَّة؛ كابنِ حَزمٍ، وقومٌ يقولونَ: لمَّا ادَّعى الإلهيَّةَ كانت الدَّعوى معلومةَ البُطلانِ، فلم يَظهَرِ الخارِقُ، كما يقولُ ذلك القاضي أبو بكرٍ وطائفةٌ، ويَدَّعونَ أنَّ النَّصارى اعتقَدت في المسيحِ الإلهيَّةِ لكونِه أتى بالخوارِقِ، مع إقرارِه بالعُبوديَّةِ، فكيف بمن يدَّعي الإلهيَّةَ؟ ولكِنَّ هذا الخارِقَ الذي يُظهِرُه اللهُ في هذا الرَّجُلِ الصَّالحِ الذي طلَب منه الدَّجَّالُ أن يُؤمِنَ به، فلم يفعَلْ، بل كذَّبه، وقال: أنت الأعوَرُ الدَّجَّالُ الذي أخبَرنا به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقتَلَه ثمَّ أحياه اللهُ، فقال له: أنت الأعوَرُ الدَّجَّالُ، فكَذَّبه قَبلَ أن يُقتَلَ، وبعد ما أحياه اللهُ، وأراد الدَّجَّالُ قَتْلَه ثانيةً، فلم يُمكَّنْ، فعَجْزُه عن قَتلِه ثانيًا من أعظَمِ الخوارِقِ مع تكذيبِه، وأمَّا إحياؤُه مع تكذيبِه له أوَّلًا، وعَجزُه ثانيًا عن قَتلِه، فليس بخارِقٍ، فهذا إحياءٌ مُعَيَّنٌ، معه دلائِلُ معدودةٌ، تبيَّنَ أنَّه من الآياتِ الدَّالَّةِ على صِدقِ الرَّسولِ لا على صِدقِ الدَّجَّالِ، وتبيَّن بذلك أنَّ الآياتِ جميعَها تدلُّ على صِدقِ الأنبياءِ؛ فإنَّ آياتِ اللهِ مرَّةً أو مرَّتينِ أو ثلاثًا لا يُشتَرُط في ذلك تَكرارٌ، بل شَرطُها ألَّا يكونَ لها نظيرٌ في العالَمِ لغيرِ الأنبياءِ، ومن يشهَدْ بالنُّبوَّةِ ولم يوجَدْ لغيرِهم، كان هذا دليلًا على أنَّها مختصَّةٌ بالأنبياءِ) [976] ((النبوات)) (2/ 853 - 859). .
3- قال ابنُ أبي العِزِّ: (الطَّريقةُ المشهورةُ عِندَ أهلِ الكلامِ والنَّظَرِ تقريرُ نبوَّةِ الأنبياءِ بالمُعجِزاتِ، لكِنْ كثيرٌ منهم لا يَعرِفُ نُبوَّةَ الأنبياءِ إلَّا بالمُعجِزاتِ، وقرَّروا ذلك بطُرُقٍ مُضطَرِبةٍ، والتَزم كثيرٌ منهم إنكارَ خَرقِ العاداتِ لغيرِ الأنبياءِ، حتَّى أنكَروا كراماتِ الأولياءِ والسِّحرَ، ونحوَ ذلك. ولا رَيبَ أنَّ المُعجِزاتِ دليلٌ صَحيحٌ، لكِنَّ الدَّليلَ غيرُ محصورٍ في المُعجِزاتِ؛ فإنَّ النُّبوَّةَ إنَّما يدَّعيها أصدَقُ الصَّادِقينَ أو أكذَبُ الكاذِبينَ، ولا يلتَبِسُ هذا بهذا إلَّا على أجهَلِ الجاهِلينَ، بل قرائِنُ أحوالِهما تُعرِبُ عنهما، وتُعرِّفُ بهما، والتَّمييزُ بَينَ الصَّادِقِ والكاذِبِ له طُرُقٌ كثيرةٌ فيما دونَ دعوى النُّبوَّةِ، فكيف بدعوى النُّبوَّةِ؟) [977] ((شرح الطحاوية)) (1/ 140). .

انظر أيضا: