موسوعة الفرق

المبحَثُ الثَّاني: الرَّدُّ على مذهَبِ الأشاعِرةِ في مسألةِ العادةِ والأسبابِ


1- قال ابنُ حزمٍ: (قال الأشاعِرةُ: من قال: إنَّ النَّارَ تُحرِقُ أو تَلفَحُ، أو أنَّ الأرضَ تهتَزُّ أو تُنبِتُ شيئًا، أو أنَّ الخَمرَ يُسكِرُ، أو أنَّ الخُبزَ يُشبِعُ، أو أنَّ الماءَ يَروي- فقد ألحدَ وافتَرى! وقال الباقِلَّانيُّ: نحن نُنكِرُ فِعلَ النَّارِ للتَّسخينِ والإحراقِ، ونُنكِرُ فِعلَ الثَّلجِ للتَّبريدِ، وفِعلَ الطَّعامِ والشَّرابِ للشِّبَعِ والرِّيِّ، والخَمرِ للإسكارِ، كُلُّ هذا عِندَنا باطِلٌ مُحالٌ نُنكِرُه أشَدَّ الإنكارِ... وهذا تكذيبٌ منهم للهِ عزَّ وجلَّ إذ يقولُ: تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ [المؤمنون: 104] ، ولقَولِه تعالى: وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاءً مُبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ [ق: 9] ، وقَولِه تعالى: أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ [السجدة: 27] ، وقَولِه تعالى فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج: 5] ، وقد صكَكْتُ بهذا وَجهَ بَعضِ مقَدَّمِيهم في المُناظَرةِ فدَهِش وبَلُدَ، وهو أيضًا تكذيبٌ لقَولِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ إذ يقولُ: ((كُلُّ مُسكِرٍ حرامٌ، وكُلُّ شرابٍ أسكَرَ حرامٌ )) [947] أخرجه البخاريُّ (4343)، ومسلمٌ (1733) من حديثِ أبي موسى الأشعريِّ رضي اللهُ عنه، بلفظ: ((كُلُّ مسكرٍ حرامٌ)). وأخرجه البخاريُّ (5585)، ومسلمٌ (2001) من حديثِ عائشةَ رضي اللهُ عنها، بلفظِ: ((كُلُّ شرابٍ أسكَرَ فهو حرامٌ)). وأخرجه مسلمٌ (2003) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضي اللهُ عنهما، بلفظِ: ((كُلُّ مُسكرٍ خمرٌ، وكُلُّ مُسكرٍ حرامٌ)) ، مع مخالفتِهم لكُلِّ لُغةٍ، ولكُلِّ ذي حِسٍّ من مُسلِمٍ وكافرٍ، ومُكابرةِ العِيانِ، وإبطالِ المُشاهَدةِ) [948] ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (4/ 164) باختصارٍ وتصرُّفٍ. .
وقال ابنُ حزمٍ أيضًا: (ذهَبَت الأشعريَّةُ إلى إنكارِ الطَّبائِعِ جُملةً، وقالوا: ليس في النَّارِ حَرٌّ، ولا في الثَّلجِ بَردٌ، ولا في العالَمِ طبيعةٌ أصلًا، وقالوا: إنَّما حَدَث حَرُّ النَّارِ جملةً، وبَردُ الثَّلجِ عِندَ المُلامَسةِ، قالوا: ولا في الخَمرِ طبيعةُ إسكارٍ، ولا في المَنيِّ قُوَّةٌ يَحدُثُ بها حيوانٌ، ولكِنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يخلُقُ منه ما شاء، وقد كان ممكِنًا أن يُحدِثَ من مَنيِّ الرِّجالِ جَمَلًا، ومن مَنيِّ الحِمارِ إنسانًا،...: ما نعلَمُ لهم حُجَّةً شغَّبوا بها في هذا الهَوَسِ أصلًا، وقد ناظَرْتُ بعضَهم في ذلك فقُلتُ له: إنَّ اللُّغةَ التي نزل بها القُرآنُ تُبطِلُ قَولَكم؛ لأنَّ من لُغةِ العَرَبِ القديمةِ ذِكرَ الطَّبيعةِ والخَليقةِ والسَّليقةِ والغَريزةِ والسَّجيَّةِ، ولا يَشُكُّ ذو عِلمٍ في أنَّ هذه الألفاظَ استُعمِلَت في الجاهليَّةِ، وسَمِعها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فلم يُنكِرْها قطُّ، ولا أنكرها أحدٌ من الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم، ولا أحدٌ ممَّن بَعدَهم، حتَّى حدَث من لا يُعتَدُّ به... وهذا المذهَبُ الفاسِدُ حداهم على أن سَمَّوا ما تأتي به الأنبياءُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ من الآياتِ المُعجِزاتِ خَرْقَ العادةِ؛ لأنَّهم جعَلوا امتناعَ شَقِّ القَمَرِ وشَقِّ البحرِ، وامتناعَ إحياءِ الموتى وإخراجِ ناقةٍ من صخرةٍ، وسائِرَ مُعجِزاتِهم إنَّما هي عاداتٌ فقط!... مَعاذَ اللهِ من هذا! ولو كان ذلك عادتَه لما كان فيها إعجازٌ أصلًا؛ لأنَّ العادةَ في لغةِ العَربِ والدَّأبَ والدَّيدَنَ ألفاظٌ مُترادفةٌ على معنًى واحدٍ، وهي في أكثَرِ استعمالِ الإنسانِ له ممَّا لا يُؤمَنُ تَركُه إيَّاه، ولا يُنكَرُ زوالُه عنه، بل هو مُمكِنٌ وُجودُ غَيرِه ومِثلِه بخِلافِ الطَّبيعةِ التي الخروجُ عنها ممتَنِعٌ، ... وكُلُّ هذه الطَّبائعِ والعاداتِ مخلوقةٌ خلَقها اللهُ عزَّ وجلَّ، فرَتَّبَ الطَّبيعةَ على أنَّها لا تستحيلُ أبدًا، ولا يمكِنُ تبَدُّلُها عِندَ كلِّ ذي عَقلٍ، كطبيعةِ الإنسانِ بأن يكونَ مُمكِنًا له التصَرُّفُ في العُلومِ والصِّناعاتِ إن لم يعتَرِضْه آفةٌ، وطبيعةِ الحميرِ والبِغالِ بأنَّه غيرُ مُمكِنٍ منها ذلك، وكطبيعةِ البَرِّ ألَّا يُنبِتَ شعيرًا ولا جَوزًا، وهكذا كُلُّ ما في العالَمِ، والقومُ مُقِرُّون بالصِّفاتِ، وهي الطَّبيعةُ نَفسُها؛ لأنَّ من الصِّفاتِ المحمولةِ في الموصوفِ ما هو ذاتيٌّ به لا يُتوهَّمُ زوالُه إلَّا بفسادِ حامِلِه، وسُقوطِ الاسمِ عنه، كصِفاتِ الخَمرِ التي إن زالت عنها صارت خَلًّا، وبطَل اسمُ الخَمرِ عنها، وكصِفاتِ الخُبزِ واللَّحمِ التي إذا زالت عنها صارت زِبْلًا، وسقَط اسمُ الخُبزِ واللَّحمِ عنهما، وهكذا كُلُّ شيءٍ له صِفةٌ ذاتيَّةٌ، فهذه هي الطَّبيعةُ) [949] ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (5/ 11). .
2- قال ابنُ تيميَّةَ: (اللهُ سُبحانَه خلَق الأسبابَ والمُسَبَّباتِ، وجعَل هذا سببًا لهذا، فإذا قال القائِلُ: إن كان هذا مُقدَّرًا حصَل بدونِ السَّبَبِ وإلَّا لم يحصُلْ. جوابُه: أنَّه مُقدَّرٌ بالسَّبَبِ وليس مُقدَّرًا بدونِ السَّبَبِ) [950] ((مجموع الفتاوى)) (8/ 139). .
وقال أيضًا: (الذي عليه السَّلَفُ وأتباعُهم وأئمَّةُ أهلِ السُّنَّةِ وجمهورُ أهلِ الإسلامِ المُثبِتون للقَدَرِ المُخالِفون للمُعتَزِلةِ: إثباتُ الأسبابِ، وأنَّ قُدرةَ العَبدِ مع فِعلِه لها تأثيرٌ كتأثيرِ سائِرِ الأسبابِ في مُسَبَّباتِها، واللهُ تعالى خلَق الأسبابَ والمُسَبَّباتِ، والأسبابُ ليست مُستقِلَّةً بالمُسَبَّباتِ، بل لا بُدَّ لها من أسبابٍ أُخَرَ تُعاوِنُها، ولها مع ذلك أضدادٌ تمانِعُها، والمسبَّبُ لا يكونُ حتَّى يخلُقَ اللهُ جميعَ أسبابِه، ويدفَعَ عنه أضدادَه المعارِضةَ له، وهو سُبحانَه يخلُقُ جميعَ ذلك بمشيئتِه وقُدرتِه) [951] ((مجموع الفتاوى)) (8/ 487). .
وقال ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (القَولُ الوَسَطُ أنَّ هذه الأمورَ التي يقالُ لها: المتوَلِّداتُ حاصِلةٌ بسَبَبِ فِعلِ العَبدِ، وبالأسبابِ الأُخرى التي يخلُقُها اللهُ؛ فالشِّبَعُ يحصُلُ بأكلِ العبدِ وابتلاعِه، وبما جعَلَه اللهُ في الإنسانِ وفي الغِذاءِ من القُوى المُعينةِ على حُصولِ الشِّبَعِ، وكذلك الزُّهوقُ حاصِلٌ بفعلِ العبدِ وبما جعَله في المحَلِّ من قَبولِ الانقِطاعِ، وهو سُبحانَه خالقٌ للأثرِ المتولِّدِ عن هذينِ السَّبَبينِ اللَّذينِ أحدُهما فِعلُ العبدِ، وهو خالِقٌ للسَّبَبينِ جميعًا) [952] ((درء تعارض العقل والنقل)) (9/ 31). .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (التَّأثيرُ إذا فُسِّرَ بوجودِ شَرطِ الحادِثِ أو سَبَبٍ يتوقَّفُ حُدوثُ الحادِثِ به على سَبَبٍ آخَرَ، وانتفاءِ موانِعَ، وكُلُّ ذلك بخَلقِ اللهِ تعالى؛ فهذا حقٌّ، وتأثيرُ قدرةِ العبدِ في مَقدورِها ثابتٌ بهذا الاعتبارِ، وإن فُسِّر التأثيرُ بأنَّ المُؤثِّرَ مُستقِلٌّ بالأثَرِ من غيرِ مُشارِكٍ مُعاوِنٍ، ولا مُعاوِقٍ مانعٍ؛ فليس شيءٌ من المخلوقاتِ مُؤثِّرًا، بل اللهُ وَحدَه خالِقُ كُلِّ شيءٍ، لا شريكَ له، ولا نِدَّ له، فما شاء اللهُ كان، وما لم يشَأْ لم يكُنْ) [953] ((مجموع الفتاوى)) (8/ 134). .
وقال ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (من قال: إنَّ قُدرةَ العَبدِ وغَيرَها من الأسبابِ التي خلَق اللهُ تعالى بها المخلوقاتِ ليست أسبابًا، أو أنَّ وُجودَها كعَدَمِها، وليس هناك إلَّا مجرَّدُ اقترانٍ عاديٍّ كاقترانِ الدَّليلِ بالمدلولِ؛ فقد جحَد ما في خَلقِ اللهِ وشَرعِه من الأسبابِ والحِكَمِ والعِلَلِ، ولم يجعَلْ في العَينِ قوَّةً تمتازُ بها عن الخَدِّ تُبصِرُ بها، ولا في القَلبِ قُوَّةً يمتازُ بها عن الرِّجْلِ يَعقِلُ بها، ولا في النَّارِ قُوَّةً تمتازُ بها عن التُّرابِ تُحرِقُ بها! وهؤلاء يُنكِرون ما في الأجسامِ المطبوعةِ من الطَّبائِعِ والغرائِزِ، قال بعضُ الفُضَلاءِ: تكَلَّم قومٌ من النَّاسِ في إبطالِ الأسبابِ والقُوى والطَّبائعِ فأضحَكوا العُقلاءَ على عُقولِهم، ثمَّ إنَّ هؤلاء يقولونَ: لا ينبغي للإنسانِ أن يقولَ: إنَّه شَبِع بالخُبزِ، ورَوِيَ بالماءِ، بل يقولُ: شَبِعتُ عِندَه، ورَوِيتُ عِندَه؛ فإنَّ اللهَ يخلُقُ الشِّبَعَ والرِّيَّ ونحوَ ذلك من الحوادِثِ عِندَ هذه المُقتَرِناتِ بها عادةً، لا بها، وهذا خِلافُ الكِتابِ والسُّنَّةِ، فإنَّ اللهَ تعالى يقولُ: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ [الأعراف: 57] ، وقال تعالى وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ [البقرة: 164] ) [954] ((مجموع الفتاوى)) (8/ 136). .
3- قال ابنُ القيِّمِ: (لو تتبَّعْنا ما يفيدُ إثباتَ الأسبابِ من القُرآنِ والسُّنَّةِ لزادَ على عَشَرةِ آلافِ مَوضِعٍ، ولم نَقُلْ ذلك مُبالغةً بل حقيقةً، ويكفي شهادةُ الحِسِّ والعَقلِ والفِطَرِ؛ ولهذا قال من قال من أهلِ العلمِ: تكَلَّم قومٌ في إنكارِ الأسبابِ فأضحكوا ذوي العُقولِ على عقولِهم، وظنُّوا أنَّهم بذلك يَنصُرونَ التَّوحيدَ، فشابهوا المُعطِّلةَ الذين أنكَروا صفاتِ الرَّبِّ ونُعوتَ كمالِه، وعُلُوَّه على خَلقِه، واستواءَه على عرِشه، وتكَلُّمَه بكُتُبِه، وتكليمَه لملائكتِه وعِبادِه، وظنُّوا أنَّهم بذلك ينصُرونَ التَّوحيدَ، فما أفادهم إلَّا تكذيبَ اللهِ ورُسُلِه، وتنزيهَه عن كلِّ كمالٍ، ووَصْفَه بصفاتِ المعدومِ والمُستحيلِ، ونظير من نزَّه اللهَ في أفعالِه وأن يقومَ به فِعلٌ البتَّةَ، وظَنَّ أنَّه ينصُرُ بذلك حُدوثَ العالَمِ، وكونَه مخلوقًا بَعدَ أن لم يكُنْ، وقد أنكر أصلَ الفِعلِ والخَلقِ جُملةً، ثمَّ من أعظَمِ الجِنايةِ على الشَّرائعِ والنبُوَّاتِ والتوحيدِ إيهامُ النَّاسِ أنَّ التَّوحيدَ لا يَتِمُّ إلَّا بإنكارِ الأسبابِ، فإذا رأى العُقلاءُ أنَّه لا يمكِنُ إثباتُ توحيدِ الرَّبِّ سُبحانَه إلَّا بإبطالِ الأسبابِ ساءت ظُنونُهم بالتوحيدِ، وبمن جاء به، وأنت لا تجِدُ كِتابًا من الكُتُبِ أعظَمَ إثباتًا للأسبابِ من القُرآنِ، ويا للهِ للعَجَبِ إذا كان اللهُ خالِقَ السَّبَبِ والمُسبَّبِ، وهو الذي جعَل هذا سببًا لهذا، والأسبابُ والمُسبَّباتُ طَوعُ مَشيئتِه وقُدرتِه، مُنقادةٌ لحُكمِه، إن شاء أن يُبطِلَ سَببيَّةَ الشَّيءِ أبطَلها كما أبطَل إحراقَ النَّارِ على خليلِه إبراهيمَ، وإغراقَ الماءِ على كليمِه وقومِه، وإن شاء أقام لتلك الأسبابِ موانعَ تمنَعُ تأثيرَها مع بقاءِ قُواها، وإن شاء خلَّى بينها وبَينَ اقتضائِه لآثارِها؛ فهو سُبحانَه يفعَلُ هذا وهذا وهذا، فأيُّ قَدحٍ يُوجِبُ ذلك في التَّوحيدِ؟! وأيُّ شِركٍ يترتَّبُ على ذلك بوَجهٍ من الوُجوهِ؟! ولكِنْ ضُعفاءُ العُقولِ إذا سمِعوا أنَّ النَّارَ لا تُحرِقُ، والماءَ لا يُغرِقُ، والخُبزَ لا يُشبِعُ، والسَّيفَ لا يَقطَعُ، ولا تأثيرَ لشيءٍ من ذلك البتَّةَ، ولا هو سَبَبٌ لهذا الأثَرِ، وليس فيه قُوَّةٌ، وإنَّما الخالِقُ المُختارُ يشاءُ حُصولَ كلِّ أثَرٍ من هذه الآثارِ عِندَ مُلاقاةِ كذا لكذا؛ قالت: هذا هو التَّوحيدُ، وإفرادُ الرَّبِّ بالخَلقِ والتأثيرِ، ولم يَدرِ هذا القائِلُ أنَّ هذا إساءةُ ظنٍّ بالتوحيدِ، وتسليطٌ لأعداءِ الرُّسُلِ على ما جاؤوا به) [955] ((شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل)) (ص: 189). .
وقال ابنُ القيِّمِ أيضًا: (ليس إسقاطُ الأسبابِ من التَّوحيدِ، بل القيامُ بها واعتبارُها وإنزالُها في مَنازلِها التي أنزَلها اللهُ فيها هو محضُ التوحيدِ والعُبوديَّةِ، والقَولُ بإسقاطِ الأسبابِ هو توحيدُ القَدَريَّةِ الجَبريَّةِ؛ أتباعِ جَهمِ بنِ صَفوانَ في الجَبرِ، فإنَّه كان غاليًا فيه، وعِندَهم أنَّ اللهَ لم يخلُقْ شيئًا بسَبَبٍ، ولا جعَل في الأسبابِ قوًى وطبائعَ تُؤثِّرُ، فليس في النَّارِ قُوَّةُ الإحراقِ، ولا في السُّمِّ قُوَّةُ الإهلاكِ، ولا في الماءِ والخُبزِ قُوَّةُ الرِّيِّ والتغَذِّي به، ولا في العَينِ قُوَّةُ الإبصارِ، ولا في الأذُنِ والأنفِ قُوَّةُ السَّمعِ والشَّمِّ، بل اللهُ سُبحانَه يحدِثُ هذه الآثارَ عِندَ مُلاقاةِ هذه الأجسامِ لا بها، فليس الشِّبَعُ بالأكلِ، ولا الرِّيُّ بالشُّربِ، ولا العِلمُ بالاستدلالِ، ولا الانكِسارُ بالكَسرِ، ولا الإزهاقُ بالذَّبحِ، ولا الطَّاعاتُ والتَّوحيدُ سببًا لدُخولِ الجنَّةِ والنَّجاةِ من النَّارِ، ولا الشِّركُ والكُفرُ والمعاصي سَببًا لدُخولِ النَّارِ، بل يُدخِلُ هؤلاء الجنَّةَ بمَحضِ مَشيئتِه من غيرِ سَببٍ ولا حِكمةٍ أصلًا، ويُدخِلُ هؤلاء النَّارَ بمَحضِ مشيئتِه من غيرِ سَبَبٍ ولا حِكمةٍ!) [956] ((مدارج السالكين)) (3/ 459). .
وقال ابنُ القيِّمِ: (النَّاسُ في الأسبابِ والقُوى والطَّبائعِ ثلاثةُ أقسامٍ:
منهم: من بالَغ في نفيِها وإنكارِها، فأضحَك العُقلاءَ على عَقلِه، وزعم أنَّه بذلك ينصُرُ الشَّرعَ، فجنى على العَقلِ والشَّرعِ، وسلَّط خَصمَه عليه.
ومنهم: من ربَط العالَمَ العُلويَّ والسُّفليَّ بها بدونِ ارتباطِها بمشيئةِ فاعلٍ مُختارٍ، ومُدبِّرٍ لها يُصرِّفُها كيف أراد، فيَسلُبُ قُوَّةَ هذا، ويُقيمُ لقُوَّةِ هذا قُوَّةً تُعارِضُه، ويَكُفُّ قُوَّةَ هذا عن التأثيرِ مع بقائِها، ويتصَرَّفُ فيها كما يشاءُ ويختارُ، وهذان طرفانِ جائرانِ عن الصَّوابِ.
ومنهم: من أثبَتها خَلقًا وأمرًا، قَدَرًا وشَرعًا، وأنزَلها بالمحَلِّ الذي أنزَلها اللهُ به من كونِها تحتَ تدبيرِه ومشيئتِه، وهي طَوعُ المشيئةِ والإرادةِ، ومحَلُّ جَرَيانِ حُكمِها عليها، فيُقوِّي سُبحانَه بعضَها ببعضٍ، ويُبطِلُ إن شاء بعضَها ببعضٍ، ويَسلُبُ بَعضَها قُوَّتَه وسَببيَّتَه، ويُعرِّيها منها، ويمنَعُه من مُوجِبِها مع بقائِها عليه؛ ليُعلِمَ خَلقَه أنَّه الفَعَّالُ لِما يريدُ، وأنَّه لا مُستقِلَّ بالفِعلِ والتأثيرِ غيرُ مشيئتِه، وأنَّ التعَلُّقَ بالسَّببِ دونَه كالتعَلُّقِ ببيتِ العنكبوتِ، مع كونِه سَببًا. وهذا بابٌ عظيمٌ نافعٌ في التوحيدِ وإثباتِ الحِكَمِ، يُوجِبُ للعَبدِ -إذا تبصَّر فيه- الصُّعودَ من الأسبابِ إلى مُسَبِّبِها، والتعَلُّقَ به دونَها، وأنَّها لا تضُرُّ ولا تنفَعُ إلَّا بإذنِه، وأنَّه إذا شاء جعَل نافِعَها ضارًّا، وضارَّها نافعًا، ودواءَها داءً، وداءَها دواءً؛ فالالتفاتُ إليها بالكُلِّيَّةِ شِركٌ مُنافٍ للتَّوحيدِ، وإنكارُ أن تكونَ أسبابًا بالكُلِّيَّةِ قَدحٌ في الشَّرعِ والحِكمةِ، والإعراضُ عنها -مع العِلمِ بكونِها أسبابًا- نُقصانٌ في العَقلِ، وتنزيلُها منازِلَها، ومُدافَعةُ بعضِها ببعضٍ، وتسليطُ بعضِها على بعضٍ، وشُهودُ الجَمعِ في تفَرُّقِها، والقيامُ بها- هو محْضُ العُبوديَّةِ والمعرفةِ، وإثباتُ التوحيدِ والشَّرعِ والقَدَرِ والحِكمةِ. واللهُ أعلَمُ) [957] ((مدارج السالكين)) (1/ 257). .

انظر أيضا: