موسوعة الفرق

الفَصلُ الأوَّلُ: إثباتُ الأشاعرةِ للقَدَرِ


القَدَرُ هو تقديرُ اللهِ تعالى للأشياءِ في القِدَمِ، وعِلمُه سُبحانَه أنَّها ستقعُ في أوقاتٍ معلومةٍ وعلى صفاتٍ مخصوصةٍ، وكتابتُه لذلك، ومشيئتُه له، ووقوعُها على حسَبِ ما قدَّرها وخلَقَه لها، فهو عِلمُ اللهِ بالأشياءِ، وكتابتُه، ومشيئتُه، وخَلقُه لها، وهذه مراتِبُ القَدَرِ الأربَعُ التي يُثبتُها أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ [870] يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (1/ 154)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 29)، ((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 118)، ((لوامع الأنوار البهية)) للسفاريني (1/ 359)، ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) لابن عثيمين (2/ 403 - 408)، ((مصطلحات في كتب العقائد)) للحمد (ص: 174). ، والأشاعرةُ يُثبتونَ القَدَرَ من حيثُ الجملةُ كأهل السُّنَّةِ [871] يُنظر: ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 75)، ((الاستغاثة في الرد على البكري)) لابن تيمية (ص: 127، 128)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (12/ 135). ، لكِنْ لهم مخالفاتٌ في مسائلَ تتعلَّقُ بالقَدَرِ سيأتي بيانُها في فُصولِ هذا البابِ.
أقوالُ الأشاعرةِ في إثباتِ القَدَرِ:
1- قال أبو الحسَنِ الأشعريُّ مُبيِّنًا إجماعَ السَّلفِ: (أجمعوا على أنَّه تعالى قد قدَّر جميعَ أفعالِ الخلقِ وآجالَهم وأرزاقَهم قَبلَ خَلقِه لهم، وأثبتَ في اللَّوحِ المحفوظِ جميعَ ما هو كائنٌ منهم إلى يومِ يُبعثونَ، وقد دلَّ على ذلك بقولِه: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ [القمر: 52-53]، وأخبر أنَّه عزَّ وجلَّ يُقرِّعُ الجاحدينَ لذلك في جهنَّمَ بقولِه: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر: 48-49]) [872] ((رسالة إلى أهل الثغر بباب الأبواب)) (ص: 140). .
وقال أيضًا: (أجمعوا على أنَّ جميعَ ما عليه سائرُ الخلقِ من تصرُّفِهم قد قدَّره اللهُ عزَّ وجلَّ قَبلَ خَلقِه لهم، وأحصاه في اللَّوحِ المحفوظِ لهم، وأحاط عِلمُه به وبهم، وأخبر بما يكونُ منهم، وأنَّ أحدًا لا يقدِرُ على تغييرِ شيءٍ من ذلك، ولا الخروجِ عمَّا قدَّره اللهُ تعالى وسبَقَ عِلمُه به، وبما يتصرَّفونَ في عِلمِه، وينتهونَ إلى مقاديرِه؛ فمنهم شقيٌّ وسعيدٌ) [873] ((رسالة إلى أهل الثغر بباب الأبواب)) (ص: 151). .
2- قال الغَزاليُّ: (الحاصِلُ أنَّ القَدَريَّةَ أثبتوا الاختيارَ الكُلِّيَّ للعبدِ في جميعِ أفعالِ العبادِ، وأنكروا قضاءَ اللهِ تعالى وقدَرَه بالكُلِّيَّةِ في الأفعالِ الاختياريَّةِ، والجَبريَّةَ نَفَوُا الاختيارَ بالكُلِّيَّةِ في أفعالِ العبادِ، واعتمدوا على القضاءِ والقَدَرِ؛ فينبغي للباحثِ معهم أن يضربَهم، ويمزِّقَ ثيابَهم وعمائِمَهم، ويخدِشَ وجوهَهم، وينتِفَ أشعارَهم وشواربَهم ولِحاهم، ويعتَذِرَ بما اعتذر هؤلاء السُّفَهاءُ في سائرِ أفعالِهم القبيحةِ الصَّادرةِ منهم! والمُعتَزِلةُ أضافوا الشَّرَّ فقط إلى أنفُسِهم، وأثبتوا لأنفُسِهم الاختيارَ الكُلِّيَّ تحرُّزًا عن نسبةِ القُبحِ والظُّلمِ إلى اللهِ، ولكِن نسَبوا إلى اللهِ العَجزَ في ضِمنِ ذلك ولم يدروا! فتعالى اللهُ عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا.
وأمَّا أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ فتوسَّطوا بينهم، فلم ينفوا الاختيارَ عن أنفسِهم بالكُلِّيَّةِ، ولم ينفوا القضاءَ والقَدَرَ عن اللهِ تعالى بالكُلِّيَّةِ، بل قالوا: أفعالُ العبادِ مِن اللهِ مِن وَجهٍ، ومِن العبدِ مِن وجهٍ، وللعبدِ اختيارٌ في إيجادِ أفعالِه. واعلَمْ أنَّ قضاءَ اللهِ تعالى على أربعةِ أوجُهٍ: قضاءُ الطَّاعاتِ، وقضاءُ المعاصي، وقضاءُ النِّعَمِ، وقضاءُ الشَّدائدِ، والمذهبُ المستقيمُ في ذلك إذا قضى للعبدِ الطَّاعةَ فعليه أن يستقبِلَه بالجُهدِ والإخلاصِ حتَّى يُكرمَه اللهُ بالتَّوفيقِ والهدايةِ؛ لقَولِه تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت: 69] ، يعني: الذين جاهدوا في طاعتِنا وفي دينِنا لنُوَفِّقَنَّهم لذلك، وإذا قضى المعصيةَ فعليه أن يستقبلَه بالاستغفارِ والتَّوبةِ والنَّدامةِ مِن صميمِ الفؤادِ؛ لقَولِه تعالى: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة: 222] ، وإذا قضى النِّعمةَ فعليه أن يستقبِلَه بالشُّكرِ والسَّخاءِ حتَّى يُكرمَه بالزِّيادةِ؛ لقَولِه تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم: 7] ، وإذا قضى الشِّدَّةَ فعليه أن يستقبِلَه بالصَّبرِ والرِّضا حتى يُعطيَه الكرامةَ في الدَّارِ الآخرةِ؛ لقَولِه تعالى: وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 146] ، وقال: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر: 10] ) [874] ((الأربعين في أصول الدين)) (ص: 8). .
وقال الغَزاليُّ أيضًا: (اعلَمْ أنَّ مَن نَسبَ المشيئةَ والكَسبَ إلى نفسِه فهو قَدَريٌّ، ومن نفاهما عن نفسِه فهو جَبريٌّ، ومَن نَسَب المشيئةَ إلى اللهِ تعالى والكَسبَ إلى العبدِ فهو سُنِّيٌّ صوفيٌّ رشيدٌ، فقُدرةُ العبدِ وحركتُه خَلقٌ للرَّبِّ تعالى، وهما وَصفٌ للعبدِ وكَسبٌ له، والقَدَرُ اسمٌ لما صدر مُقدَّرًا عن فِعلِ القادِرِ، والقضاءُ هو الخَلقُ، والفَرقُ بين القضاءِ والقَدَرِ هو أنَّ القَدَرَ أعمُّ، والقضاءَ أخصُّ، فتدبيرُ الأوَّليَّاتِ قَدَرٌ، وسَوقُ تلك الأقدارِ بمقاديرِها وهيئاتِها إلى مُقتَضياتِها هو القضاءُ؛ فالقَدَرُ إذًا تقديرُ الأمرِ بَدءًا، والقضاءُ فَصلُه، وقَطعُ ذلك الأمرِ، كما يُقالُ: قضى القاضي) [875] ((مجموعة رسائل الإمام الغزالي)) (ص: 109). .
3- قال الإيجي: (أفعالُ العبادِ الاختياريَّةُ واقعةٌ بقُدرةِ اللهِ سُبحانَه وتعالى وَحدَها، وليس لقدرتِهم تأثيرٌ فيها، بل اللهُ سُبحانَه أجرى عادتَه بأن يُوجِدَ في العبدِ قُدرةً واختيارًا، فإذا لم يكُنْ هناك مانعٌ أوجَدَ فيه فِعلَه المقدورَ مقارِنًا لهما، فيكونُ فِعلُ العبدِ مخلوقًا لله إبداعًا وإحداثًا، ومكسوبًا للعبدِ، والمرادُ بكَسبِه إيَّاه مقارنُته لقدرتِه وإرادتِه من غيرِ أن يكونَ هناك منه تأثيرٌ أو مدخَلٌ في وجودِه سوى كونِه محَلًّا له، وهذا مذهَبُ الشَّيخِ أبي الحسَنِ الأشعَريِّ) [876] ((المواقف مع شرح الجرجاني)) (3/ 214). .
4- قال الصَّاوي: (قولُه: (وواجبٌ إيمانُنا بالقَدَرِ) أي: ممَّا يجِبُ علينا الإيمانُ به: الإيمانُ بالقضاءِ والقَدَرِ؛ ...، واختلفوا في تعريفِ القَدَرِ، فقالت الأشاعِرةُ: هو إيجادُ اللهِ الأشياءَ على طِبقِ ما سبق به عِلمُه وإرادتُه، فعليه هو صِفةُ فِعلٍ، وهي حادِثةٌ، وقالت الماتُريديَّةُ: هو تحديدُه تعالى أزَلًا كلَّ مخلوقٍ بحَدِّه الذي يُوجَدُ به من حُسنٍ وقُبحٍ وغيرِ ذلك، فهو تعلُّقُ العِلمِ والإرادةِ، وعليه فهو قديمٌ، وقد يُقالُ: الخِلافُ لفظيٌّ، فمَن نظر لمظهَرِ الإيجادِ قال: هو حادِثٌ، ومَن نظر لمُتعَلَّقِ العِلمِ والإرادةِ التَّنجيزيِّ الأزَليِّ قال: هو قديمٌ، فنقولُ في تعريفِه الجامِعِ لهما: هو إيجادُ اللهِ للأشياءِ على طِبقِ العِلمِ والإرادةِ.
قَولُه: (وبالقضا) هو لغةً: الحُكمُ، واصطلاحًا: عرَّفه الماتُريديَّةُ: بأنَّه الفعلُ مع زيادةِ إحكامٍ، فعليه هو حادثٌ، وعرَّفه الأشاعِرةُ: بأنَّه إرادةُ اللهِ المتعَلِّقةُ بالأشياءِ أزلًا، وعليه فهو قديمٌ، وقال بعضُهم: القضاءُ والقَدَرُ شيءٌ واحدٌ، وهو: إيجادُ اللهِ الأشياءَ على طِبقِ تعلُّقِ العِلمِ والقُدرةِ، وفي الحقيقةِ الأشاعِرةُ والماتُريديَّةُ تعاكسا، فما قالت الأشاعِرةُ: إنَّه قضاءٌ، قالت الماتُريديَّةُ: إنَّه قَدَرٌ، وبالعكسِ) [877] ((شرح العلامة الصاوي على جوهرة التوحيد)) (ص: 254) بتصرُّفٍ يسيرٍ. .
5- قال محمَّدٌ الفَضاليُّ: (اختُلِفَ في معنى القضاءِ والقَدَرِ، فقيل: القضاءُ إرادةُ اللهِ تعالى وتعلُّقُها الأزليُّ، والقَدَرُ إيجادُ اللهِ تعالى الأشياءَ على وَفقِ الإرادةِ؛ فإرادةُ اللهِ تعالى المُتعلِّقةُ أزَلًا بأنَّك تصيرُ عالمًا أو سلطانًا: قضاءٌ، وإيجادُ العِلمِ فيك بَعدَ وجودِك أو السَّلطنةِ على وَفقِ الإرادةِ: قَدَرٌ، وقيل: القضاءُ: عِلمُ اللهِ الأزَليُّ، وتعَلُّقُه بالمعلومِ، والقَدَرُ: إيجادُ اللهِ الأشياءَ على وَفقِ العِلمِ، فعِلمُ اللهِ المُتعلِّقُ أزلًا بأنَّ الشَّخصَ يصيرُ عالمًا بَعدَ وجودِه: قضاءٌ، وإيجادُ العِلمِ فيه بَعدَ وُجودِه: قَدَرٌ، وعلى كُلِّ مِن القولينِ فالقضاءُ قديمٌ؛ لأنَّه صفةٌ من صفاتِه تعالى، أمَّا الإرادةُ أو العِلمُ والقَدَرُ حادِثٌ؛ لأنَّه الإيجادُ، والإيجادُ من تعلُّقاتِ القُدرةِ، وتعلُّقاتُ القُدرةِ حادثةٌ. قال الباجوريُّ: (واختُلِف في معنى القضاءِ والقَدَرِ، فقيل: إلخ): ذكَر قولينِ وبقيَ أقوالٌ أُخَرُ، منها ما قاله السُّنوسيُّ في شرحِ رسالةِ الحوضِ: إنَّ القضاءَ إبرازُ الكائناتِ على وَفقِ عِلمِه تعالى، والقَدَرَ تحديدُ كلِّ شيءٍ بحَدِّه الذي يُوجَدُ عليه من حُسنٍ وقُبحٍ، ونَفعٍ وضَرَرٍ.. إلى غيرِ ذلك أزَلًا، وعلى هذا القولِ فالقَضاءُ حادِثٌ، والقَدَرُ قديمٌ، عَكسُ ما قاله الشَّيخُ؛ لأنَّ الأوَّلَ هو تعلُّقُ القُدرةِ التَّنجيزيُّ الحادِثُ، والثَّاني تعلُّقُ الإرادةِ التَّنجيزيُّ القديمُ، ومنها: أنَّهما بمعنى إرادتِه تعالى، ومنها: أنَّهما بمعنى قدرتِه تعالى، ومنها: أنَّهما بمعنى كلٍّ منهما، ولعلَّ اقتصارَه على القولينِ المذكورينِ لشُهرتِهما) [878] ((تحقيق المقام على كفاية العوام فيما يجب عليهم من علم الكلام)) (ص: 159). .

انظر أيضا: