موسوعة الفرق

المَبحَثُ الثَّالِثُ: قِياسُ الشُّمولِ


قالَ ابنُ تَيْميَّةَ: (هؤلاء يَزعُمونَ أنَّ ذلك القِياسَ إنَّما يُفيدُ الظَّنَّ، وقِياسَهم هو الَّذي يُفيدُ اليَقينَ، وقولُهم هذا مِن أَفسَدِ الأقْوالِ؛ فإنَّ قِياسَ التَّمْثيل وقِياسَ الشُّمولِ سَواءٌ، وإنَّما يَخْتلِفُ اليَقينُ والظَّنُّ بحَسَبِ المَوادِّ، فالمادَّةُ المُعيَّنةُ إن كانت يَقينيَّةً في أحَدِهما كانت يَقينيَّةً في الآخَرِ، وإن كانت ظَنِّيَّةً في أحَدِهما كانت ظَنِّيَّةً في الآخَرِ؛ وذلك أنَّ قِياسَ الشُّمولِ مُؤلَّفٌ مِن الحُدودِ الثَّلاثةِ؛ الأَصغَرِ، والأَوسَطِ، والأَكبَرِ، والحَدُّ الأَوسَطُ فيه هو الَّذي يُسمَّى في قِياسِ التَّمْثيل عِلَّةً، ومَناطًا، وجامِعًا، ومُشْترَكًا، ووَصْفًا، ومُقْتَضيًا، ونَحْوَ ذلك مِن العِباراتِ.
فإذا قالَ في مَسْألةِ النَّبيذِ: كلُّ نَبيذٍ مُسكِرٌ، وكلُّ مُسكِرٍ حَرامٌ، فلا بُدَّ له مِن إثْباتِ المُقدِّمةِ الكُبرى، وحينَئذٍ يَتِمُّ البُرْهانُ، وحينَئذٍ فيُمكِنُه أن يقولَ: النَّبيذُ مُسكِرٌ، فيكونَ حَرامًا قِياسًا على خَمْرِ العِنَبِ، بجامِعِ ما يَشْترِكانِ فيه مِن الإسْكارِ؛ فإنَّ الإسْكارَ هو مَناطُ التَّحْريمِ في الأصْلِ، وهو مَوْجودٌ في الفَرعِ، يُقرِّرُ أنَّ السُّكْرَ مَناطُ التَّحْريمِ بطَريقِ الأَوْلى، بلِ التَّقْريرُ في قِياسِ التَّمْثيل أَسهَلُ عليه لِشَهادةِ الأصْلِ له بالتَّحْريمِ، فكَوْنُ الحُكْمِ قد عُلِمَ ثُبوتُه في بعضِ الجُزْئيَّاتِ لا يَكْفي في قِياسِ التَّمْثيل إثْباتُه في أحَدِ الجُزْأَينِ لثُبوتِه في الجُزءِ الآخَرِ لاشْتِراكِهما في أمْرٍ لم يَقُمْ دَليلٌ على اسْتِلْزامِه للحُكْمِ، كما يَظُنُّه هؤلاء الغالِطونَ، بلْ لا بُدَّ مِن أن يُعلَمَ أنَّ المُشْترَكَ بَيْنَهما مُسْتلزِمٌ للحُكْمِ، والمُشْترَكُ بَيْنَهما هو الحَدُّ الأَوسَطُ، وهو الَّذي يُسمِّيه الفُقَهاءُ وأهْلُ أُصولِ الفِقْهِ: المُطالَبةَ بتَأثيرِ الوَصْفِ في الحُكْمِ، وهذا السُّؤالُ أَعظَمُ سُؤالٍ يَرِدُ على القِياسِ، وجَوابُه هو الَّذي يُحْتاجُ إليه غالِبًا في تَقْريرِ صِحَّةِ القِياسِ.
فإنَّ المُعْترِضَ قد يَمنَعُ الوَصْفَ في الأصْلِ، وقد يَمنَعُ الحُكْمَ في الأصْلِ، وقد يَمنَعُ الوَصْفَ في الفَرْعِ، وقد يَمنَعُ كَوْنَ الوَصْفِ عِلَّةً في الحُكْمِ، ويقولُ: لا أُسلِّمُ أنَّ ما ذَكَرْتَه مِن الوَصْفِ المُشْترَكِ هو العِلَّةُ أو دَليلُ العِلَّةِ، فلا بُدَّ مِن دَليلٍ يَدُلُّ على ذلك؛ إمَّا مِن نَصٍّ، أو إجْماعٍ، أو سَبْرٍ وتَقْسيمٍ، أو المُناسَبةِ، أو الدَّوَرانِ عنْدَ مَن يَسْتدِلُّ بِذلك؛ فما دَلَّ على أنَّ الوَصْفَ المُشْترَكَ مُسْتلزِمَ الحُكْمِ إمَّا عِلَّةٌ وإمَّا دَليلُ العِلَّةِ هو الَّذي يَدُلُّ على أنَّ الحَدَّ الأَوسَطَ مُسْتلزِمٌ الأَكبَرَ، وهو الدَّالُّ على صِحَّةِ المُقدِّمةِ الكُبرى، فإن أَثبَتَ العِلَّةَ كانَ بُرْهانَ عِلَّةٍ، وإن أَثبَتَ دَليلَها كانَ بُرْهانَ دَلالةٍ، وإن لم يُفِدِ العِلمَ بل أفادَ الظَّنَّ فكذلك المُقدِّمةُ الكُبرى في ذلك القِياسِ لا تكونُ إلَّا ظَنِّيَّةً، وهذا أمْرٌ بَيِّنٌ.
ولِهذا صارَ كَثيرٌ مِن الفُقَهاءِ يَسْتَعمِلونَ في الفِقْهِ القِياسَ الشُّموليَّ كما يُستَعمَلُ في العَقْليَّاتِ القِياسُ التَّمْثيليُّ، وحَقيقةُ أحَدِهما هو حَقيقةُ الآخَرِ، ومَن قالَ مِن مُتَأخِّري أهْلِ الكَلامِ والرَّأيِ؛ كأبي المَعالي، وأبي حامِدٍ، والرَّازِيِّ، وأبي مُحمَّدٍ المَقْدِسيِّ وغَيْرِهم: إنَّ العَقْليَّاتِ ليس فيها قِياسٌ، وإنَّما القِياسُ في الشَّرْعيَّاتِ، ولكنَّ الاعْتِمادَ في العَقْليَّاتِ على الدَّليلِ الدَّالِّ على ذلك مُطلَقًا، فقَوْلُهم مُخالِفٌ لقَوْلِ جُمْهورِ نُظَّارِ المُسلِمينَ بلْ وسائِرِ العُقَلاءِ؛ فإنَّ القِياسَ يُسْتدَلُّ به في العَقْليَّاتِ كما يُسْتدَلُّ به في الشَّرْعيَّاتِ، فإنَّه إذا ثَبَتَ أنَّ الوَصْفَ المُشْترَكَ مُسْتلزِمٌ الحُكْمَ كانَ هذا دَليلًا في جَميعِ العُلومِ، وكذلك إذا ثَبَتَ أنَّه ليس بَيْنَ الفَرْعِ والأصْلِ فَرْقٌ مُؤثِّرٌ كانَ هذا دَليلًا في جَميعِ العُلومِ، وحيثُ لا يُسْتدَلُّ بالقِياسِ التَّمْثيليِّ لا يُسْتدَلُّ بالقِياسِ الشُّموليِّ. وأبو المَعالي ومَن قَبْلَه مِن نُظَّارِ المُتَكلِّمينَ لا يَسلُكونَ طَريقةَ المَنْطِقيِّينَ ولا يَرْضَونَها، بل يَسْتدِلُّونَ بالأَدِلَّةِ المُسْتلزِمةِ عنْدَهم لمَدْلولاتِها مِن غَيْرِ اعْتِبارِ ذلك، غَيْرَ أنَّ المَنْطِقيِّينَ وجُمْهورَ النُّظَّارِ يَقيسونَ الغائِبَ على الشَّاهِدِ إذا كانَ المُشْترَكُ مُسْتلزِمًا للحُكْمِ كما يُمَثِّلونَ به مِن الجَمْعِ بالحَدِّ والعِلَّةِ والشَّرْطِ والدَّليلِ. ومُنازِعُهم يقولُ: لم يَثبُتِ الحُكْمُ في الغائِبِ لأجْلِ ثُبوتِه في الشَّاهِدِ، بلْ نَفْسُ القَضيَّةِ الكُلِّيَّةِ كافِيةٌ في المَقْصودِ مِن غَيْرِ احْتِياجٍ إلى التَّمْثيلِ. فيُقالُ لهم: وهكذا في الشَّرْعيَّاتِ؛ فإنَّه متى قامَ الدَّليلُ على أنَّ الحُكْمَ مُعلَّقٌ بالوَصْفِ الجامِعِ لم يُحتَجْ إلى الأصْلِ، بل نَفْسُ الدَّليلِ الدَّالِّ على أنَّ الحُكْمَ مُعلَّقٌ بالوَصْفِ كافٍ، لكن لمَّا كانَ هذا كُلِّيًّا، والكُلِّيُّ لا يوجَدُ إلَّا مُعيَّنًا، كانَ تَعْيينُ الأصْلِ ممَّا يُعلَمُ به تَحقُّقُ هذا الكُلِّيِّ، وهذا أمْرٌ نافِعٌ في الشَّرْعيَّاتِ والعَقْليَّاتِ، فعَلِمْتَ أنَّ القِياسَ حيثُ قامَ الدَّليلُ على أنَّ الجامِعَ مَناطُ الحُكْمِ، أو على إلْغاءِ الفارِقِ بَيْنَ الأصْلِ والفَرْعِ فهو قِياسٌ صَحيحٌ ودَليلٌ صَحيحٌ في أيِّ شيءٍ كانَ. وقد تَنازَعَ النَّاسُ في مُسمَّى القِياسِ؛ فقالت طائِفةٌ مِن أهْلِ الأُصولِ: هو حَقيقةٌ في قِياسِ التَّمْثيلِ، مَجازٌ في قِياسِ الشُّمولِ؛ كأبي حامِدٍ الغَزاليِّ، وأبي مُحمَّدٍ المَقْدِسيِّ، وغَيْرِهما، وقالت طائِفةٌ: بل هو بالعَكْسِ حَقيقةٌ في الشُّمولِ، مَجازٌ في التَّمْثيلِ، كابنِ حَزْمٍ وغَيْرِه، وقالَ جُمْهورُ العُلَماءِ: بلْ هو حَقيقةٌ فيهما، والقِياسُ العَقْليُّ يَتَناوَلُهما جَميعًا، وهذا قَوْلُ أَكثَرِ مَن تَكلَّمَ في أُصولِ الدِّينِ وأُصولِ الفِقْهِ وأنْواعِ العُلومِ العَقْليَّةِ، وهو الصَّوابُ، وهو قَوْلُ الجُمْهورِ مِن أتْباعِ الأئِمَّةِ الأرْبَعةِ وغَيْرِهم؛ كالشَّيْخِ أبي حامِدٍ، والقاضي أبي الطَّيِّبِ، وأمْثالِهما، وكالقاضي أبي يَعْلى، والقاضي يَعْقوبَ، والحَلوانيِّ، وأبي الخَطَّابِ، وابنِ عَقيلٍ، وابنِ الزَّاغونيِّ، وغَيْرِهم، فإنَّ حَقيقةَ أحَدِهما هو حَقيقةُ الآخَرِ، وإنَّما تَخْتلِفُ صورةُ الاسْتِدْلالِ. والقِياسُ في اللُّغةِ تَقْديرُ الشَّيءِ بغَيْرِه، وهذا يَتَناوَلُ تَقْديرَ الشَّيءِ المُعيَّنِ بنَظيرِه المُعيَّنِ، وتَقْديرُه بالأمْرِ الكُلِّيِّ المُتَناوِلِ له ولأمْثالِه، فإنَّ الكُلِّيَّ هو مِثالٌ في الذِّهْنِ لجُزْئيَّاتِه، ولِهذا كانَ مُطابِقًا مُوافِقًا له، وقِياسُ الشُّمولِ هو انْتِقالُ الذِّهْنِ مِن المُعيَّنِ إلى المَعْنى العامِّ المُشْترَكِ الكُلِّيِّ المُتَناوِلِ له ولغَيْرِه، والحُكْمُ عليه بما يَلزَمُ المُشْترَكَ الكُلِّيَّ بأن يَنْتقِلَ مِن ذلك الكُلِّيِّ اللَّازِمِ إلى المَلْزومِ الأوَّلِ، وهو المُعيَّنُ، فهو انْتِقالٌ مِن خاصٍّ إلى عامٍّ، ثُمَّ انْتِقالٌ مِن ذلك العامِّ إلى الخاصِّ، مِن جُزْئيٍّ إلى كُلِّيٍّ، ثُمَّ مِن ذلك الكُلِّيِّ إلى الجُزْئيِّ الأوَّلِ، فيُحكَمُ عليه بذلك الكُلِّيِّ) [649] ((الرد على المنطقيين)) (ص: 116 - 119) بتصَرُّفٍ يَسيرٍ. .
وقدِ اسْتَخدَمَ الأشاعِرةُ هذا القِياسَ في الإثْباتِ، وفي النَّفْيِ.
مِثالُ ذلك في الإثْباتِ: ما قالَه الباجوريُّ: (الدَّليلُ على وُجوبِ الإرادةِ له تَعالى أن تقولَ: اللهُ صانِعٌ للعالَمِ بالاخْتِيارِ، وكلُّ مَن كانَ كذلك تَجِبُ له الإرادةُ؛ فاللهُ تَجِبُ له الإرادةُ) [650] ((تحفة المريد على جوهرة التوحيد)) (ص: 124). .
مِثالُ ذلك في النَّفْيِ: ما قالَه الجُرْجانيُّ: (قَوْلُه تَعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] يَدُلُّ على الجُلوسِ، وقد عارَضَه الدَّليلُ العَقْليُّ الدَّالُّ على اسْتِحالةِ الجُلوسِ في حَقِّه تَعالى؛ فيُؤَوَّلُ الاسْتِواءُ بالاسْتِيلاءِ، أو يُجعَلُ الجُلوسُ على العَرْشِ كِنايةً عن المُلْكِ!) [651] ((المواقف للإيجي مع شرح الجُرْجاني)) (1/ 207). .
ولا شَكَّ أنَّ اسْتِخدامَ هذا القِياسِ في إثْباتِ الصِّفاتِ ونَفْيِها خَطَأٌ؛ فإنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ كما قالَ عن نفَسْه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] ، فلا يَجوزُ إدْخالُه وغَيْرِه في قَضيَّةٍ كُلِّيَّةٍ تَسْتوي فيها أفْرادُها، وكلُّ الشُّبُهاتِ الَّتي أَورَدَها الأشاعِرةُ وغَيْرُهم مِن عُلَماءِ الكَلامِ على أهْلِ السُّنَّةِ في إثْباتِهم للصِّفاتِ الخَبَريَّةِ؛ الذَّاتيَّةِ والفِعْليَّةِ، مَبْنيَّةٌ على هذا الأصْلِ، وبه يُعلَمُ أنَّ كلَّ مُعطِّلٍ مُمَثِّلٌ؛ فإنَّه ما عَطَّلَ المُعطِّلُ إلَّا لاعْتِقادِه أنَّ ما نَفاه لو أَثبَتَه لَلِزَم مِنه التَّشْبيهُ والتَّمْثيلُ، فيكونُ قد انْقَدَحَ في نفْسِه هذا التَّشْبيهُ أوَّلًا، ثُمَّ عَطَّلَ ثانِيًا.
قالَ ابنُ تَيْميَّةَ: (اللهُ سُبْحانَه وتَعالى لا تُضرَبُ له الأمْثالُ الَّتي فيها مُماثَلةٌ لخَلْقِه؛ فإنَّ اللهَ لا مِثلَ له، بلْ له المَثَلُ الأَعْلى، فلا يَجوزُ أن يَشْترِكَ هو والمَخْلوقُ في قِياسِ تَمْثيلٍ، ولا في قِياسِ شُمولٍ تَسْتوي أفْرادُه، ولكن يُسْتعمَلُ في حَقِّه المَثَلُ الأَعْلى، وهو أنَّ كلَّ ما اتَّصَفَ به المَخْلوقُ مِن كَمالٍ فالخالِقُ أَوْلى به، وكلَّ ما تَنَزَّهَ عنه المَخْلوقُ مِن نَقْصٍ فالخالِقُ أَوْلى بالتَّنْزيهِ عنه، فإذا كانَ المَخْلوقُ مُنَزَّهًا عن مُماثَلةِ المَخْلوقِ معَ المُوافَقةِ في الاسْمِ، فالخالِقُ أَوْلى أن يُنَزَّهَ عن مُماثَلةِ المَخْلوقِ، وإن حَصَلَتْ مُوافَقةٌ في الاسْمِ) [652] يُنظر: ((التدمرية)) (ص: 50). .

انظر أيضا: