موسوعة الفرق

الفَصْلُ الرَّابِعُ: تَفاوُتُ تَأثُّرِ أعْلامِ الأشاعِرةِ بالجَهْميَّةِ


تَقدَّمَ أنَّ أبا الحَسَنِ الأشْعَريِّ رَحِمَه اللهُ كانَ مُعْتَزلِيًّا ثُمَّ تابَ ورَجَعَ عن عَقيدةِ المُعْتَزِلةِ، ورَدَّ عليهم، واتَّبَعَ طَريقةَ ابنِ كُلَّابٍ الَّذي كانَ مِن أهْلِ السُّنَّةِ مِن حيثُ الجُمْلةُ، وإن كانَ مُتَأثِّرًا بأهْلِ الكَلامِ في بعضِ المَسائِلِ، وقدِ انْتَسَبَ أبو الحَسَنِ إلى السَّلَفِ، وصَرَّحَ باقْتِدائِه بأَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ في كِتابِه (الإبانة عن أُصولِ الدِّيانة)، إلَّا أنَّه كانَ خَبيرًا بمَذاهِبِ المُعْتَزِلةِ والجَهْميَّةِ أَكثَرَ مِن خِبْرتِه بمَذهَبِ أئِمَّةِ السَّلَفِ، فبَقِيَ عنْدَه بَقايا مِن مَذهَبِ المُعْتَزِلةِ والجَهْميَّةِ، وهو أَقرَبُ إلى مَذهَبِ السَّلَفِ مِمَّن جاءَ بَعْدَه مِن أتْباعِه؛ فقدْ تَطوَّرَ مَذهَبُ الأشاعِرةِ بواسِطةِ أعْلامِه إلى ما يُخالِفُ مَذهَبَ أبي الحَسَنِ الأشْعَريِّ نفْسِه، معَ انْتِسابِهم إليه، فاقْتَرَبَ كَثيرٌ مِن أعْلامِ الأشاعِرةِ بَعْدَ أبي الحَسَنِ على دَرَجاتٍ مُتفاوِتةٍ مِن مَذهَبِ الجَهْميَّةِ والمُعْتَزِلةِ والفَلاسِفةِ [210] يُنظر: ((موقف ابن تَيْمِيَّةَ من الأشاعِرة)) للمحمود (3/ 1385). .
قالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ: (ابنُ كُلَّابٍ قَوْلُه مَشوبٌ بقَوْلِ الجَهْميَّةِ، وهو مُرَكَّبٌ مِن قَوْلِ أهْلِ السُّنَّةِ وقَوْلِ الجَهْميَّةِ، وكذلك مَذهَبُ الأشْعَريِّ في الصِّفاتِ، وأمَّا في القَدَرِ والإيمانِ فقَوْلُه قَوْلُ جَهْمٍ، وأمَّا ما حَكاه عن أهْلِ السُّنَّةِ والحَديثِ وقالَ: وبِكلِّ ما ذَكَرْنا مِن قَوْلِهم نَقولُ، وإليه نَذهَبُ، فهو أَقرَبُ ما ذَكَرَه، وبعضُه ذَكَرَه عنهم على وَجْهِه، وبعضُه تَصرَّفَ فيه وخَلَطَه بِما هو مِن أقْوالِ جَهْمٍ في الصِّفاتِ والقَدَرِ؛ إذ كانَ هو نفْسُه يَعْتقِدُ صِحَّةَ تلك الأُصولِ، وهو يُحِبُّ الانْتِصارَ لأهْلِ السُّنَّةِ والحَديثِ ومُوافَقتَهم، فأرادَ أن يَجمَعَ بَيْنَ ما رآه مِن رأيِ أولئك، وبَيْنَ ما نَقَلَه عن هؤلاء. ولِهذا يَقولُ فيه طائِفةٌ: إنَّه خَرَجَ مِن التَّصْريحِ إلى التَّمْويهِ، كما يَقولُه طائِفةٌ: إنَّهم الجَهْميَّةُ الإناثُ، وأولئك الجَهْميَّةُ الذُّكورُ...، والطَّائِفتانِ أهْلُ السُّنَّةِ والجَهْميَّةُ يَقولونَ: إنَّه تَناقَضَ، لكنَّ السُّنِّيَّ يَحمَدُ مُوافَقتَه لأهْلِ الحَديثِ، ويَذُمُّ مُوافَقتَه للجَهْميَّةِ، والجَهْمِيُّ يَذُمُّ مُوافَقتَه لأهْلِ الحَديثِ، ويَحمَدُ مُوافَقتَه للجَهْميَّةِ؛ ولِهذا كانَ مُتَأخِّرو أصْحابِه كأبي المَعالي ونَحْوِه أَظهَرَ تَجَهُّمًا وتَعْطيلًا مِن مُتَقَدِّميهم، وهي مَواضِعُ دَقيقةٌ يَغفِرُ اللهُ لمَن أَخطَأَ فيها بَعْدَ اجْتِهادِه، لكنَّ الصَّوابَ ما أَخبَرَ به الرَّسولُ، فلا يكونُ الحَقُّ في خِلافِ ذلك قَطُّ. واللهُ أَعلَمُ) [211] ((مجموع الفَتاوى)) (16/ 308). .
وقالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ أيضًا: (الأشْعَريُّ ما كانَ يَنْتَسِبُ إلَّا إلى مَذهَبِ أهْلِ الحَديثِ وإمامِهم أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ، وقدْ ذَكَرَ أبو بَكْرٍ عَبْدُ العَزيزِ ما يَقْتَضي أنَّه عِنْدَه مِن مُتَكلِّمي أهْلِ الحَديثِ، لم يَجعَلْه مُبايِنًا لهم، وكانوا قَديمًا مُتَقارِبينَ إلَّا أنَّ فيهم مَن يُنكِرُ عليه ما قد يُنكِرونَه على مَن خَرَجَ مِنهم إلى شيءٍ مِن الكَلامِ؛ لِما في ذلك مِن البِدْعةِ، معَ أنَّه في أصْلِ مَقالتِه ليس على السُّنَّةِ المَحْضةِ، بل هو مُقصِّرٌ عنها تَقْصيرًا مَعْروفًا...، والأشْعَرِيَّةُ الأَغلَبُ عليهم أنَّهم مُرْجِئةٌ في بابِ الأسْماءِ والأحْكامِ، جَبْريَّةٌ في بابِ القَدَرِ، وأمَّا في الصِّفاتِ فليسوا جَهْميَّةً مَحْضةً، بل فيهم نَوْعٌ مِن التَّجَهُّمِ) [212] ((مجموع الفَتاوى)) (6/ 53، 55) باختِصارٍ يَسيرٍ. .
وقالَ أيضًا: (الأشْعَريُّ وأمْثالُه بَرْزَخٌ بَيْنَ السَّلَفِ والجَهْميَّةِ، أخَذوا مِن هؤلاء كَلامًا صَحيحًا، ومِن هؤلاء أُصولًا عَقْلِيَّةً ظَنُّوها صَحيحةً وهي فاسِدةٌ؛ فمِن النَّاسِ مَن مالَ إليه مِن الجِهةِ السَّلَفيَّةِ، ومِن النَّاسِ مَن مالَ إليه مِن الجِهةِ البِدْعيَّةِ الجَهْميَّةِ كأبي المَعالي وأتْباعِه، ومِنهم مَن سَلَكَ مَسلَكَهم كأئِمَّةِ أصْحابِهم) [213] ((مجموع الفَتاوى)) (16/ 471). .
وقالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ أيضًا عن أبي الحَسَنِ الأشْعَريِّ ومُتَقَدِّمي أصْحابِه: (مِن النَّاسِ مَن له خِبْرةٌ بالعَقْليَّاتِ المَأخوذةِ عن الجَهْميَّةِ وغَيْرِهم، وقدْ شارَكَهم في بعضِ أُصولِها، ورأى ما في قَوْلِهم مِن مُخالَفةِ الأمورِ المَشْهورةِ عنْدَ أهْلِ السُّنَّةِ، كمَسْألةِ القُرْآنِ والرُّؤْيةِ، فأرادَ هؤلاء أن يَجمَعوا بَيْنَ نَصْرِ ما اشْتَهَرَ عنْدَ أهْلِ السُّنَّةِ والحَديثِ، وبَيْنَ مُوافَقةِ الجَهْمِيَّةِ في تلك الأُصولِ العَقْلِيَّةِ الَّتي ظَنَّها صَحيحةً، ولم يكُنْ لهم مِن الخِبْرةِ المُفَصَّلةِ بالقُرْآنِ ومَعانيه والحَديثِ وأقْوالِ الصَّحابةِ ما لِأئِمَّةِ السُّنَّةِ والحَديثِ، فذَهَبَ مَذهَبًا مُرَكَّبًا مِن هذا وهذا، وكِلا الطَّائِفتَينِ يَنسُبُه إلى التَّناقُضِ، وهذه طَريقةُ الأشْعَريِّ وأئِمَّةِ أتْباعِه، كالقاضي أبي بَكْرٍ، وأبي إسْحاقَ الأسْفَرايِينيِّ، وأمْثالِهما؛ ولِهذا تَجِدُ أَفضَلَ هؤلاء كالأشْعَريِّ يَذكُرُ مَذهَبَ أهْلِ السُّنَّةِ والحَديثِ على وَجْهِ الإجْمالِ، ويَحْكيه بحَسَبِ ما يَظُنُّه لازِمًا، ويَقولُ: إنَّه يَقولُ بكلِّ ما قالوه، وإذا ذَكَرَ مَقالاتِ أهْلِ الكَلامِ مِن المُعْتَزِلةِ وغَيْرِهم حَكاها حِكايةَ خَبيرٍ بِها، عالِمٍ بتَفْصيلِها، وهؤلاء كَلامُهم نافِعٌ في مَعْرِفةِ تَناقُضِ المُعْتَزِلةِ وغَيْرِهم، ومَعْرِفةِ فَسادِ أقْوالِهم، وأمَّا في مَعْرِفةِ ما جاءَ به الرَّسولُ، وما كانَ عليه الصَّحابةُ والتَّابِعونَ، فمَعْرفتُهم بِذلك قاصِرةٌ) [214] ((درء تعارض العَقْل والنقل)) (7/ 35) باختِصارٍ يَسيرٍ. .
وقالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ: (كَثيرٌ مِن مُتَأخِّري أصْحابِ الأشْعَريِّ خَرَجوا عن قَوْلِه إلى قَوْلِ المُعْتَزِلةِ أو الجَهْميَّةِ أو الفَلاسِفةِ) [215] ((شرح العَقيدة الأصفهانية)) (ص: 127). .
وقدْ ذَكَرَ ابنُ تَيْمِيَّةَ قَوْلَ العِزِّ بنِ عَبْدِ السَّلامِ: (العُلَماءُ أنْصارُ فُروعِ الدِّينِ، والأشْعَريَّةُ أنْصارُ أُصولِ الدِّينِ)، ثُمَّ قالَ مُعلِّقًا: (ما نَصَروه مِن أُصولِ الدِّينِ هو ما ذَكَرْناه مِن مُوافِقةِ القُرْآنِ والسُّنَّةِ والحَديثِ، والرَّدِّ على مَن خالَفَ القُرْآنَ والسُّنَّةَ والحَديثَ؛ ولِهذا كانَ الشَّيْخُ أبو إسْحاقَ يَقولُ: إنَّما نَفَقَتِ الأشْعَريَّةُ عنْدَ النَّاسِ بانْتِسابِهم إلى الحَنابِلةِ، وهذا ظاهِرٌ عليه وعلى أئِمَّةِ أصْحابِه في كُتُبِهم ومُصَنَّفاتِهم قَبْلَ وُقوعِ الفِتْنةِ القُشَيْريَّةِ ببَغْدادَ؛ ولِهذا قالَ أبو القاسِمِ بنُ عَساكِرَ في مَناقِبِه: ما زالَتِ الحَنابِلةُ والأشاعِرةُ في قَديمِ الدَّهْرِ مُتَّفِقينَ غَيْرَ مُفْتَرِقينَ حتَّى حَدَثَتْ فِتْنةُ ابنِ القُشَيْريِّ، ثُمَّ بَعْدَ حُدوثِ الفِتْنةِ وقَبْلَها لا تَجِدُ مَن يَمدَحُ الأشْعَريَّ بمِدْحةٍ إلَّا إذا وافَقَ السُّنَّةَ والحَديثَ، ولا يَذُمُّه مَن يَذُمُّه إلَّا بمُخالَفةِ السُّنَّةِ والحَديثِ، وهذا إجْماعٌ مِن جَميعِ هذه الطَّوائِفِ على تَعْظيمِ السُّنَّةِ والحَديثِ، واتِّفاقُ شَهاداتِهم على أنَّ الحَقَّ في ذلك؛ ولِهذا تَجِدُ أَعظَمَهم مُوافَقةً لأئِمَّةِ السُّنَّةِ والحَديثِ أَعظَمَ عنْدَ جَميعِهم ممَّن هو دونَه، فالأشْعَريُّ نفْسُه لمَّا كانَ أَقرَبَ إلى قَوْلِ الإمامِ أَحْمَدَ ومَن قَبْلَه مِن أئِمَّةِ السُّنَّةِ كانَ عنْدَهم أَعظَمَ مِن أتْباعِه، والقاضي أبو بَكْرِ بنُ الباقِلَّانيِّ لمَّا كانَ أَقرَبَهم إلى ذلك كانَ أَعظَمَ عنْدَهم مِن غَيْرِه، وأمَّا مِثلُ الأسْتاذِ أبي المَعالي وأبي حامِدٍ ونَحْوِهما ممَّن خالَفوا أُصولَه في مَواضِعَ فلا تَجِدُهم يُعظَّمونَ إلَّا بِما وافَقوا فيه السُّنَّةَ والحَديثَ، وأَكثَرُ ذلك تَقَلَّدوه مِن مَذهَبِ الشَّافِعيِّ في الفِقْهِ المُوافِقِ للسُّنَّةِ والحَديثِ، وممَّا ذَكَروه في الأُصولِ ممَّا يُوافِقُ السُّنَّةَ والحَديثَ، وما رَدُّوه ممَّا يُخالِفُ السُّنَّةَ والحَديثَ، وبِهذا القَدْرِ يَنْتَحِلونَ السُّنَّةَ ويُنحِلونَها، وإلَّا لم يَصِحَّ ذلك) [216] ((مجموع الفَتاوى)) (4/ 16 - 18) بتَصَرُّفٍ. .
وقدْ تَقَدَّمَتْ بعضُ النُّقولِ مِن الكُتُبِ المُعْتمَدةِ عنْدَ الأشاعِرةِ المُتَأخِّرينَ، وفيها بَيانُ خَوْضِ الأشاعِرةِ في عِلمِ الكَلامِ المَذْمومِ، ومِن أَشهَرِ الأمْثلةِ الَّتي تُبَيِّنُ قُرْبَ مُتَأخِّري الأشاعِرةِ مِن الجَهْميَّةِ نَفْيُهم الصِّفاتِ الإلَهيَّةَ الخَبَريَّةَ كالاسْتِواءِ؛ فقدْ خالَفوا مَذهَبَ شَيْخِهم أبي الحَسَنِ الأشْعَريِّ رَحِمَه اللهُ، الَّذي أَثبَتَ صِفةَ الاسْتِواءِ وغَيْرَها مِن الصِّفاتِ الخَبَريَّةِ في كِتابِه (الإبانة) و(رِسالة إلى أهْلِ الثَّغْرِ)، ومعَ ذلك خالَفَه المُنْتَسِبونَ إليه، فأوَّلوا هذه الصِّفاتِ بما لا يَثبُتُ عن شَيْخِهم أبي الحَسَنِ، ولا عن أحَدٍ مِن السَّلَفِ الصَّالِحِ.
قالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ في رَدِّه على الرَّازِيِّ الَّذي نَصَرَ قَوْلَ الجَهْميَّةِ بنَفْيِ صِفةِ الاسْتِواءِ للهِ على عَرْشِه: (إذا كانَ قَوْلُ ابنِ كُلَّابٍ والأشْعَريِّ وأئِمَّةِ أصْحابِه، وهو الَّذي ذَكَروا أنَّه اتَّفَقَ عليه سَلَفُ الأُمَّةِ وأهْلُ السُّنَّةِ؛ أنَّ اللهَ فَوْقَ العَرْشِ، وأنَّ له وَجْهًا ويَدَينِ، وتَقْريرُ ما وَرَدَ مِن النُّصوصِ الدَّالَّةِ على أنَّه فَوْقَ العَرْشِ، وأنَّ تَأويلَ اسْتَوى بمَعْنى اسْتَوْلى هو تَأويلُ المُبْطِلينَ- عُلِمَ أنَّ هذا الرَّازِيَّ ونَحْوَه هُمُ المُخالِفونَ لأئِمَّتِهم في ذلك، وأنَّ الَّذي نَصَرَه ليس هو قَوْلَ ابنِ كُلَّابٍ والأشْعَريِّ وأئِمَّةِ أصْحابِه، وإنَّما هو صَريحُ قَوْلِ الجَهْميَّةِ والمُعْتَزِلةِ ونَحْوِهم، وإن كانَ قد قالَه بعضُ مُتَأخِّري الأشْعَريَّةِ كأبي المَعالي ونَحْوِه) [217] ((بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكَلامِيَّة)) (3/ 382) باختِصارٍ يسيرٍ. .
والنَّاظِرُ في كُتُبِ الأشاعِرةِ بعِلمٍ وإنْصافٍ يَجِدُ تَأثُّرَ الأشاعِرةِ بالجَهْميَّةِ واضِحًا، ويَجِدُ مُخالَفةَ مُتَأخِّري الأشاعِرةِ لقَوْلِ أئِمَّتِهم المُتَقَدِّمينَ كأبي الحَسَنِ الأشْعَريِّ، وتَأمَّلْ هذا النَّقْلَ عن أبي المَعالي الجُوَيْنيِّ في تَأويلِه صِفةَ الاسْتِواءِ للهِ سُبْحانَه؛ إذْ قالَ: (لم يَمْتَنِعْ مِنَّا حَمْلُ الاسْتِواءِ على القَهْرِ والغَلَبةِ، وذلك شائِعٌ في اللُّغةِ؛ إذِ العَرَبُ تَقولُ: اسْتَوى فُلانٌ على المَمالِكِ: إذا احْتَوى على مَقاليدِ المُلْكِ، واسْتَعْلى على الرِّقابِ، وفائِدةُ تَخْصيصِ العَرْشِ بالذِّكْرِ أنَّه أَعظَمُ المَخْلوقاتِ في ظَنِّ البَريَّةِ، فنَصَّ تَعالى عليه تَنْبيهًا بذِكْرِه على ما دونَه) [218] ((الإرشاد إلى قواطع الادلة في أصول الاعتقاد)) (ص: 60). .
وقالَ أبو المَعالي: (ذَهَبَ بعضُ أئِمَّتِنا إلى أنَّ اليَدَينِ والعَيْنَينِ والوَجْهَ صِفاتٌ ثابِتةٌ للرَّبِّ تَعالى، والسَّبيلُ إلى إثْباتِها السَّمْعُ دونَ قَضيَّةِ العَقْلِ، والَّذي يَصِحُّ عنْدَنا حَمْلُ اليَدَينِ على القُدْرةِ، وحَمْلُ العَيْنَينِ على البَصَرِ، وحَمْلُ الوَجْهِ على الوُجودِ) [219] ((الإرشاد إلى قواطع الادلة في أصول الاعتقاد)) (ص: 175). .
فهذا الَّذي صَحَّحَه الجُوَيْنيُّ مُوافِقٌ لقَوْلِ الجَهْميَّةِ، وهو الَّذي اعْتَمَدَه الأشاعِرةُ المُتَأخِّرونَ، معَ مُخالَفتِه الصَّريحةِ لأئِمَّتِهم المُتَقَدِّمينَ الَّذين يُعَظِّمونَهم؛ فتَأمَّلْ هذه النُّقولَ عن أبي الحَسَنِ الأشْعَريِّ والباقِلَّانيِّ في إثْباتِ الصِّفاتِ وعَدَمِ تَأويلِها:
قالَ أبو الحَسَنِ الأشْعَريُّ: (أَخبَرَ تَعالى أنَّ له وَجْهًا وعَيْنًا ولا تُكَيَّفُ ولا تُحَدُّ... ونَفى الجَهْميَّةُ أن يكونَ للهِ تَعالى وَجْهٌ كما قالَ، وأَبطَلوا أن يكونَ له سَمْعٌ وبَصَرٌ وعَيْنٌ... فمَن سَألَنا فقالَ: أتَقولونَ: إنَّ للهِ سُبْحانَه وَجْهًا؟ قيلَ له: نَقولُ ذلك، خِلافًا لِما قالَه المُبْتَدِعونَ...، قد سُئِلْنا أتَقولونَ: إنَّ للهِ يَدَينِ؟ قيلَ: نَقولُ ذلك بلا كَيْفٍ، فثَبَتَتِ اليَدُ بِلا كَيْفٍ...، وليس يَجوزُ في لِسانِ العَربِ ولا في عادةِ أهْلِ الخِطابِ أن يَقولَ القائِلُ: عَمِلْتُ كَذا بيَدي، ويَعْني به النِّعْمةَ، وإذا كانَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ إنَّما خاطَبَ العَربَ بلُغتِها، وما يَجْري مَفْهومًا في كَلامِها ومَعْقولًا في خِطابِها، وكانَ لا يَجوزُ في خِطابِ أهْلِ اللِّسانِ أن يَقولَ القائِلُ: فَعَلْتُ بيَدي، ويَعْني النِّعْمةَ-بَطَلَ أن يكونَ مَعْنى قَوْلِه تَعالى: بِيَدَيَّ النِّعْمةَ) [220] ((الإبانة عن أصول الدِّيانة)) (ص: 121 - 127). .
وقالَ الباقِلَّانيُّ: (بابٌ: في أنَّ للهِ وَجْهًا ويَدَينِ. فإن قالَ قائِلٌ: فما الحُجَّةُ في أنَّ للهِ عَزَّ وجَلَّ وَجْهًا ويَدَينِ؟ قيلَ له: قَوْلُه تَعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن: 27]، وقَوْلُه: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75] ، فأَثبَتَ لنَفْسِه وَجْهًا ويَدَينِ، فإن قالوا: فما أَنكَرْتُم أن يكونَ المَعْنى في قَوْلِه: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أنَّه خَلَقَه بقُدْرتِه أو بنِعْمتِه؛ لأنَّ اليَدَ في اللُّغةِ قد تكونُ بمَعْنى النِّعْمةِ، وبمَعْنى القُدْرةِ، كما يقالُ: لي عنْدَ فُلانٍ يَدٌ بَيْضاءُ يُرادُ به نِعْمةٌ؟ يُقالُ لهم: هذا باطِلٌ؛ لأنَّ قَوْلَه: بِيَدَيَّ يَقْتَضي إثْباتَ يَدَينِ هما صِفةٌ له، فلو كانَ المُرادُ بِهما القُدْرةَ لَوَجَبَ أن يكونَ له قُدْرتانِ، وأنتم فلا تَزعُمونَ أنَّ لِلباري سُبْحانَه قُدْرةً واحِدةً، فكيف يَجوزُ أن تُثْبِتوا له قُدْرَتينِ؟ وقد أَجمَعَ المُسلِمونَ مِن مُثْبِتي الصِّفاتِ والنَّافينَ لها على أنَّه لا يَجوزُ أن يكونَ له تَعالى قُدْرتانِ، فبَطَلَ ما قُلْتُم، وكذلك لا يَجوزُ أن يكونَ اللهُ تَعالى خَلَقَ آدَمَ بنِعْمتَينِ؛ لأنَّ نِعَمَ اللهِ تَعالى على آدَمَ وعلى غَيْرِه لا تُحْصى) [221] ((تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل)) (ص: 295 - 299) باختِصارٍ. .
وقدْ صَرَّحَ كَثيرٌ مِن مُتَأخِّري الأشاعِرةِ أنَّ مَذهَبَ السَّلَفِ أَسلَمُ، ومَذهَبَ الخَلَفِ أَحكَمُ وأَعلَمُ، وقدْ شَنَّعَ عليهم في هذا القَوْلِ كَثيرٌ مِن العُلَماءِ؛ قالَ المُلَّا عَلِي القاري: (كلَّما ابْتَدَعَ شَخْصٌ بِدْعةً اتَّسَعوا في جَوابِها، واضْطَرَبوا في بَيانِ خَطَئِها وصَوابِها؛ فالعِلمُ نُقْطةٌ كَثَّرَها الجاهِلونَ، ولِذلك صارَ كَلامُ الخَلَفِ كَثيرًا قَليلَ البَرَكةِ، بخِلافِ كَلامِ السَّلَفِ؛ فإنَّه قَليلٌ كَثيرُ البَرَكةِ والمَنْفَعةِ، فالفَضْلُ لِلمُتَقَدِّمينَ لا ما يَقولُه جَهَلةُ المُتَكَلِّمينَ: إنَّ طَريقةَ المُتَقَدِّمينَ أَسلَمُ، وطَريقتَنا أَحكَمُ وأَعلَمُ) [222] ((الرد على القائِلين بوحدة الوجود)) (ص: 28). .
وقدْ وَصَلَ الحالُ بالأشاعِرةِ المُتَأخِّرينَ إلى مُوافَقةِ الجَهْميَّةِ في إنْكارِهم أنَّ اللهَ في السَّماءِ مُسْتَوٍ على عَرْشِه، كما أَخبَرَ في كِتابِه، وخالَفوا أبا الحَسَنِ الَّذي يَنْتَسِبونَ إليه، وقالوا قَوْلَهم العَجيبَ الغَريبَ الَّذي لا يَعرِفُه أحَدٌ مِن الصَّحابةِ والتَّابِعينَ وأتْباعِهم: إنَّ اللهَ ليس بداخِلِ العالَمِ ولا خارِجِه، ولا فَوْقَ ولا تحتَ [223] يُنظر: ((الاقتصاد في الاعتقاد)) للغزالي (ص: 37)، ((أساس التقديس في علم الكَلام)) للفخر الرازي (ص: 19)، ((المواقف)) للإيجي مع شرح الجرجاني (3/ 31). !

انظر أيضا: