موسوعة الفرق

المبحَثُ الأوَّلُ: أبرَزُ عُلَماءِ الأشاعرَةِ


1- أبو الحَسَنِ الباهِلِيُّ البَصْريُّ (تُوفِّيَ بَيْنَ سَنَةِ 361 و 370هـ)
قالَ الذَّهَبيُّ: (العَلَّامةُ، شَيْخُ المُتَكلِّمينَ، أبو الحَسَنِ الباهِلِيُّ البَصْريُّ، تَلْميذُ أبي الحَسَنِ الأشْعَريِّ، بَرَعَ في العَقْليَّاتِ، وكانَ يَقِظًا، فَطِنًا، لَسِنًا، صالِحًا، عابِدًا. قالَ ابنُ الباقِلَّانيِّ: كُنْتُ أنا وأبو إسْحاقَ الأسْفَرايِينيُّ وأبو بَكْرِ بنُ فورَكٍ معًا في دَرْسِ أبي الحَسَنِ الباهِلِيِّ، كانَ يُدَرِّسُ لنا في كلِّ جُمُعةٍ مَرَّةً، وكانَ يُرْخي السِّتْرَ بَيْنَنا وبَيْنَه، وكانَ مِن شِدَّةِ اشْتِغالِه باللهِ مِثلَ مَجْنونٍ أو والِهٍ، ولم يكُنْ يَعرِفُ مَبلَغَ دَرْسِنا حتَّى نُذَكِّرَه، وكُنَّا نَسأَلُه عن سَبَبِ الحِجابِ، فأجابَ بأنَّنا نَرى السُّوقةَ، وهُمْ أهْلُ الغَفْلةِ، فتَرَوْني بالعَيْنِ الَّتي تَرَوْنَهم، حتَّى إنَّه كانَ يَحْتَجِبُ مِن جاريتِه، وقالَ الأسْتاذُ الأسْفَرايِينيُّ: أنا في جانِبِ شَيْخِنا أبي الحَسَنِ الباهِلِيِّ كقَطْرةٍ في بَحْرٍ، وقد سَمِعْتُه يَقولُ: أنا في جَنْبِ الشَّيْخِ الأشْعَريِّ كقَطْرةٍ في جَنْبِ بَحْرٍ) [34] ((سير أعلام النبلاء)) (16/ 304). ويُنظر: ((تاريخ الإسلام)) للذهبي (8/ 344). .
وذَكَرَ السُّبْكِيُّ أنَّه أحَدُ طُلَّابِ الشَّيْخِ أبي الحَسَنِ الأشْعَريِّ المُخْتَصِّينَ به، وقالَ: (أبو الحَسَنِ الباهِلِيُّ العَبْدُ الصَّالِحُ، شَيْخُ الأسْتاذِ أبي إسْحاقَ والأسْتاذِ أبي بَكْرِ بنِ فورَكٍ، وشَيْخُ القاضي أبي بَكْرٍ) [35] ((طبقات الشافعية الكبرى)) (3/ 368). .
وقدْ ذَكَرَ ابنُ فورَكٍ أنَّ الباهِلِيَّ كانَ شيعيًّا إمامِيًّا، ثُمَّ رَجَعَ عن التَّشَيُّعِ بمُناظَرةٍ جَرَتْ له معَ أبي الحَسَنِ الأشْعَريِّ، قالَ ابنُ فورَكٍ فيما نَقَلَه عنه ابنُ عَساكِرَ: (مِمَّن تَخرَّجَ بأبي الحَسَنِ الأشْعَريِّ مِمَّن اخْتَلَفَ إليه واسْتَفادَ مِنه: المَعْروفُ بأبي الحَسَنِ الباهِلِيِّ، وكانَ إمامِيًّا في الأوَّلِ، رَئيسيًّا مُقدَّمًا، فانْتَقَلَ عن مَذهَبِهم بمُناظَرةٍ جَرَتْ له معَ الشَّيْخِ أبي الحَسَنِ الأشْعَريِّ رَضِيَ الله عنه، ألْزَمَه فيها الحُجَّةَ، حتَّى بانَ له الخَطَأُ فيما كانَ عليه مِن مَذاهِبِ الإمامِيَّةِ فتَرَكَها، واخْتَلَفَ إليه ونَشَرَ عِلمَه بالبَصْرةِ، واسْتَفادَ مِنه الخَلْقُ الكَثيرونَ، ثُمَّ تَخرَّجَ به أيضًا المَعْروفُ بأبي الحَسَنِ الرُّمَّانيِّ، وكانَ مُقدَّمًا في أصْحابِه، وكذلك تَخرَّجَ به أبو عَبْدِ اللهِ حَمُّويَه السِّيرافيُّ، وطالَتْ صُحْبتُه له، وعادَ إلى سيرافَ، وانْتَفَعَ به مَن هناك، ورَأيْتُ مِن أصْحابِه بشيرازَ مَن لَقِيَه ودَرَسَ عليه) [36] ((تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأشْعَري)) (ص: 127). .
2- مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ يَعْقوبَ بنِ مُجاهِدٍ الطَّائيُّ (تُوفِّيَ بَيْنَ 361 و 370هـ)
قالَ الخَطيبُ البَغْداديُّ: (مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ يَعْقوبَ بنِ مُجاهِدٍ، أبو عَبْد اللهِ الطَّائيُّ، المُتَكلِّمُ، صاحِبُ أبي الحَسَنِ الأشْعَريِّ، وهو مِن أهْلِ البَصْرةِ، قَدِمَ بَغْدادَ، وعليه دَرَسَ القاضي أبو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بنُ الطَّيِّبِ الكَلامَ، وله كُتُبٌ حِسانٌ في الأُصولِ، وذَكَرَ لنا غَيْرُ واحِدٍ مِن شُيوخِنا عنه أنَّه كانَ ثَخينَ السِّتْرِ، حَسَنَ التَّدَيُّنِ، جَميلَ الطَّريقةِ، وكانَ أبو بَكْرٍ البَرْقانيُّ يُثْني عليه ثَناءً حَسَنًا، وقدْ أَدرَكَه في بَغْدادَ فيما أَحسَبُ، واللهُ أَعلَمُ) [37] ((تاريخ بغداد)) (2/ 200). ويُنظر: ((تاريخ الإسلام)) للذهبي (8/ 339). .
وقالَ عِياضٌ: (كانَ ابنُ مُجاهِدٍ هذا مالِكيَّ المَذهَبِ، إمامًا فيه مُقدَّمًا، غَلَبَ عليه عِلمُ الكَلامِ والأُصولِ) [38] ((ترتيب المدارك وتقريب المسالك)) (6/ 196). .
وذَكَرَ السُّبْكِيُّ أنَّه أحَدُ طُلَّابِ الشَّيْخِ أبي الحَسَنِ الأشْعَريِّ المُخْتَصِّينَ به، وقالَ: (هو أبو عَبْدِ اللهِ، مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ يَعْقوبَ بنِ مُجاهِدٍ الطَّائيُّ، شَيْخُ القاضي أبي بَكْرٍ الباقِلَّانيِّ، وكانَ مالِكيَّ المَذهَبِ) [39] ((طبقات الشافعية الكبرى)) (3/ 368). .
3- أبو سَهْلٍ، مُحَمَّدُ بنُ سُلَيْمانَ الصُّعْلوكيُّ النَّيْسابوريُّ (ت 369 هـ)
قالَ ابنُ فورَكٍ: (مِمَّن صَحِبَ الشَّيْخَ أبا الحَسَنِ ببَغْدادَ واسْتَفادَ مِنه مِن أهْلِ خُراسانَ: الفَقيهُ أبو سَهْلٍ الصُّعْلوكيُّ النَّيْسابوريُّ) [40] ((تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأشْعَري)) (ص: 128). .
وقالَ ابنُ عَساكِرَ: (كان أبو سَهْلٍ، مُحَمَّدُ بنُ سُلَيْمانَ رَحِمَه اللهُ، ذا مَحَلٍّ خَطيرٍ، وذِكْرُه فيما بَيْنَ أهْلِ العِلمِ بخُراسانَ كَبيرٌ، لم يَزَلْ هو ووَلَدُه ووَلَدُ وَلَدِه يُظهِرونَ مَذهَبَ الأشْعَريَّةِ، ويُجاهِدونَ أهْلَ البِدَعِ بنَيْسابورَ مِن المُعْتَزِلةِ والرَّافِضةِ والكَرَّاميَّةِ) [41] ((تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأشْعَري)) (ص: 54). .
وقالَ السُّبْكيُّ: (الإمامُ الأسْتاذُ الكَبيرُ، أبو سَهْلٍ الصُّعْلوكيُّ، شَيْخُ عَصْرِه، وقُدْوةُ أهْلِ زَمانِه، وإمامُ وَقْتِه في الفِقْهِ والنَّحْوِ، والتَّفْسيرِ واللُّغةِ، والشِّعْرِ والعَروضِ، والكَلامِ والتَّصَوُّفِ، وغَيْرِ ذلك مِن أصْنافِ العُلومِ، أَجمَعَ أهْلُ عَصْرِه على أنَّه بَحْرُ العِلمِ الَّذي لا يَنزِفُ وإن كَثُرَتِ الدِّلا، وجَبَلُ المَعارِفِ الَّتي لا تَمُرُّ بِها الخُصومُ إلَّا كما يَمُرُّ الهَوا) [42] ((طبقات الشافعية الكبرى)) (3/ 167). .
وكانَ لأبي سَهْلٍ أثَرٌ عَظيمٌ في نَشْرِ العِلمِ في خُراسانَ، قالَ عنه الذَّهَبيُّ: (أَفْتى ودَرَّسَ بنَيْسابورَ نَيِّفًا وثَلاثينَ سَنَةً، وقالَ الفَقيهُ أبو بَكْرٍ الصَّيْرفيُّ: لم يَرَ أهْلُ خُراسانَ مِثلَ أبي سَهْلٍ. وقالَ الصاحِبُ إسْماعيلُ بنُ عَبَّادٍ: ما رَأيْنا مِثلَ أبي سَهْلٍ، ولا رأى مِثلَ نفْسِه. وقالَ أبو عَبْدِ اللهِ الحاكِمُ: أبو سَهْلٍ مُفْتي البَلْدةِ وفَقيهُها، وأَجدَلُ مَن رَأيْنا مِن الشَّافِعيَّةِ بخُراسانَ، وهو معَ ذلك أَديبٌ، شاعِرٌ، نَحْويٌّ، كاتِبٌ، عَروضيٌّ، صَحِبَ الفُقَراءَ، وهو مِن أصْحابِ الوُجوهِ في مَذهَبِ الشَّافِعيِّ. ومَناقِبُ هذا الإمامِ جَمَّةٌ) [43] ((سير أعلام النبلاء)) ((16/ 236، 2239) باختِصارٍ وتَصَرُّفٍ. .
4- أبو الحَسَنِ علِيُّ بنُ مُحَمَّدِ بنِ مَهْديٍّ الطَّبَرِيُّ (تُوفِّيَ بَيْنَ سَنَةِ 371 و 380هـ)
قالَ ابنُ عَساكِرَ: (صَحِبَ أبا الحَسَنِ رَحِمَه اللهُ بالبَصْرةِ مُدَّةً، وأخَذَ عنه، وتَخرَّجَ به، واقْتَبَسَ مِنه، وصَنَّفَ تَصانيفَ عِدَّةً تَدُلُّ على عِلمٍ واسِعٍ، وفَضْلٍ بارِعٍ، وهو الَّذي ألَّفَ الكِتابَ المَشْهورَ في تَأويلِ الأحاديثِ المُشْكِلاتِ الوارِدةِ في الصِّفاتِ) [44] ((تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأشْعَري)) (ص: 195). .
قالَ الذَّهَبيُّ: (رَحَلَ في طَلَبِ العِلمِ، وصَحِبَ أبا الحَسَنِ الأشْعَريَّ بالبَصْرةِ مُدَّةً، وتَخرَّجَ به، وصَنَّفَ التَّصانيفَ، وتَبَحَّرَ في عِلمِ الكَلامِ، وهو مُؤَلِّفُ كِتابِ مُشكِلِ الأحاديثِ الوارِدةِ في الصِّفاتِ) [45] ((تاريخ الإسلام)) (8/ 492). .
وقالَ السُّبْكيُّ: (تَلْميذُ الشَّيْخِ أبي الحَسَنِ الأشْعَريِّ، صَحِبَه بالبَصْرةِ، وأخَذَ عنه، وكانَ مِن المُبَرِّزينَ في عِلمِ الكَلامِ، والقَوَّامينَ بتَحْقيقِه، وله كِتابُ تَأويلِ الأحاديثِ المُشْكِلاتِ الوارِداتِ في الصِّفاتِ، وكانَ مُفْتَنًّا في أصْنافِ العُلومِ، قالَ أبو عَبْدِ اللهِ الحُسَيْنُ بنُ أَحْمَدَ بنِ الحَسَنِ الأسَديُّ، كانَ شَيْخُنا وأسْتاذُنا أبو الحَسَنِ علِيُّ بنُ مَهْديٍّ الطَّبَرِيُّ الفَقيهُ مُصَنِّفًا للكُتُبِ في أنْواعِ العُلومِ، مُفْتِيًا، حافِظًا للفِقْهِ والكَلامِ والتَّفاسيرِ والمَعاني وأيَّامِ العَربِ، فَصيحًا مُبارِزًا في النَّظَرِ، ما شُوهِدَ في أيَّامِه مِثلُه) [46] ((طبقات الشافعية الكبرى)) (3/ 466). .
وكِتابُه (تَأويلُ الأحاديثِ المُشْكِلاتِ الوارِداتِ في الصِّفاتِ) ما زالَ مَخْطوطًا، وقدْ نَقَلَ مِنه عَبْدُ الرَّحْمنِ المَحْمودُ نُقولاتٍ تَدُلُّ على أنَّه يُفَوِّضُ الصِّفاتِ الخَبَريَّةَ كاليَدَينِ، ويَقولُ: إنَّ اللهَ يرى بلا عَيْنٍ، ويُؤَوِّلُ النُّصوصَ الَّتي فيها إثْباتُ صِفةِ العَيْنِ للهِ سُبْحانَه، ويُثبِتُ صِفةَ الاسْتِواءِ والعُلُوِّ للهِ تَعالى، وقالَ في ذلك: (اعْلَمْ -عَصَمَنا اللهُ وإيَّاك مِن الزَّيْغِ برَحْمتِه- أنَّ اللهَ سُبْحانَه في السَّماءِ فوقَ كلِّ شيءٍ، مُسْتَوٍ على عَرْشِه بمَعْنى أنَّه عالٍ عليه، والقَديمُ جَلَّ جَلالُه عالٍ على عَرْشِه، لا قاعِدٌ ولا قائِمٌ، ولا مُماسٌّ له، ولا مُبايِنٌ، والعَرْشُ ما تَعقِلُه العَربُ، وهو السَّريرُ، يُريدُ بِذلك أيضًا على أنَّه في السَّماءِ عالٍ على عَرْشِه)، ثُمَّ ذَكَرَ بعضَ الآياتِ القُرْآنيَّةِ الدَّالَّةِ على اسْتِواءِ اللهِ على عَرْشِه، ثُمَّ رَدَّ على المُعْتَزِلةِ في تَأويلِهم الاسْتِواءَ بالاسْتيلاءِ، ثُمَّ رَدَّ على الَّذين يَقولونَ: إنَّ اللهَ في كلِّ مَكانٍ، وتَأوَّلَ أبو الحَسَنِ الطَّبَرِيُّ الأحاديثَ الوارِدةَ في الضَّحِكِ والعَجَبِ والفَرَحِ، وتَأوَّلَ كذلك صِفةَ النُّزولِ والمَجيءِ والإتْيانِ، وأَثبَتَ رُؤْيةَ المُؤمِنينَ للهِ سُبْحانَه في الآخِرةِ، ورَدَّ على المُعْتَزِلةِ المُنْكِرينَ لها [47] يُنظر: ((موقف ابن تَيْمِيَّةَ من الأشاعِرة)) لعبد الرحمن المحمود (2/ 517 - 525). .
5- القاضي أبو بَكْرٍ، مُحَمَّدُ بنُ الطَّيِّبِ المَعْروفُ بابنِ الباقِلَّانيِّ (ت 403 هـ)
قالَ الخَطيبُ البَغْداديُّ: (مُحَمَّدُ بنُ الطَّيِّبِ بنِ مُحَمَّدٍ، أبو بَكْرٍ القاضي المَعْروفُ بابنِ الباقِلَّانيِّ، المُتَكلِّمُ على مَذهَبِ الأشْعَريِّ مِن أهْلِ البَصْرةِ، سَكَنَ بَغْدادَ، وسَمِعَ بِها الحَديثَ، وكانَ ثِقةً، فأمَّا عِلمُ الكَلامِ فكانَ أَعرَفَ النَّاسِ به، وأَحسَنَهم خاطِرًا، وأَجوَدَهم لِسانًا، وأَوضَحَهم بَيانًا، وأَصَحَّهم عِبارةً، وله التَّصانيفُ الكَثيرةُ المُنْتشِرةُ في الرَّدِّ على المُخالِفينَ مِن الرَّافِضةِ، والمُعْتَزِلةِ، والجَهْميَّةِ، والخَوارِجِ، وغَيْرِهم. سَمِعْتُ أبا الفَرَجِ مُحَمَّدَ بنَ عِمْرانَ الخَلَّالَ يَقولُ: كانَ وِرْدُ القاضي أبي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بنِ الطَّيِّبِ في كلِّ لَيْلةٍ عِشْرينَ تَرْويحةً، ما تَرَكَها في حَضَرٍ ولا سَفَرٍ. قالَ: وكانَ كلَّ لَيْلةٍ إذا صلَّى العِشاءَ وقَضى وِرْدَه وَضَعَ الدَّواةَ بَيْنَ يَدَيه، وكَتَبَ خَمْسًا وثَلاثينَ وَرْقةً تَصْنيفًا مِن حِفْظِه، فإذا صلَّى الفَجْرَ دَفَعَ إلى بعضِ أصْحابِه ما صَنَّفَه في لَيْلتِه، وأمَرَه بقِراءتِه عليه، وأَمْلى عليه الزِّياداتِ فيه. قالَ أبو الفَرَجِ: وسَمِعْتُ أبا بَكْرٍ الخَوارِزْميَّ يَقولُ: كلُّ مُصنِّفٍ ببَغْدادَ إنَّما يَنقُلُ مِن كُتُبِ النَّاسِ إلى تَصانيفِه سِوى القاضي أبي بَكْرٍ؛ فإنَّ صَدْرَه يَحْوي عِلمَه وعِلمَ النَّاسِ! حَدَّثَنا عليُّ بنُ مُحَمَّدِ بنِ الحَسَنِ الحَرْبيُّ المالِكيُّ قالَ: كانَ القاضي أبو بَكْرٍ الأشْعَريُّ يَهُمُّ بأن يَخْتصِرَ ما يُصَنِّفُه، فلا يَقدِرُ على ذلك؛ لسَعةِ عِلمِه، وكَثْرةِ حِفْظِه، قالَ: وما صَنَّفَ أحَدٌ خِلافًا إلَّا احْتاجَ أن يُطالِعَ كُتُبَ المُخالِفينَ غَيْرُ القاضي أبي بَكْرٍ؛ فإنَّ جَميعَ ما كانَ يَذكُرُ خِلافَ النَّاسِ فيه صَنَّفَه مِن حِفْظِه) [48] ((تاريخ بغداد)) (3/ 364). .
وقالَ ابنُ بَرْهانَ النَّحْويُّ: (مَن سَمِعَ مُناظَرةَ القاضي أبي بَكْرٍ لم يَسْتَلِذَّ بَعْدَها بسَماعِ كَلامِ أحَدٍ مِن المُتَكلِّمينَ والفُقَهاءِ والخُطَباءِ والمُتَرَسِّلينَ، ولا الأغاني أيضًا! مِن طِيبِ كَلامِه وفَصاحتِه، وحُسْنِ نِظامِه وإشارتِه. له التَّصانيفُ الكَثيرةُ، والرَّدُّ على المُخالِفينَ مِن المُعْتَزِلةِ والرَّافِضةِ والخَوارِجِ والمُرْجِئةِ والمُشَبِّهةِ والحَشَويَّةِ) [49] ((تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأشْعَري)) (ص: 219). .
وقالَ عنه الذَّهَبيُّ: (صاحِبُ التَّصانيفِ في عِلمِ الكَلامِ، سَكَنَ بَغْدادَ، وكانَ في فَنِّه أَوحَدَ زَمانِه، وكانَ ثِقةً عارِفًا بعِلمِ الكَلامِ، صَنَّفَ في الرَّدِّ على الرَّافِضةِ والمُعْتَزِلةِ والخَوارِجِ والجَهْميَّةِ، وذَكَرَه القاضي عِياضٌ في طَبَقاتِ الفُقَهاءِ المالِكيَّةِ، فقالَ: هو المُلَقَّبُ بسَيْفِ السُّنَّةِ، ولِسانِ الأُمَّةِ، المُتَكلِّمُ على لِسانِ أهْلِ الحَديثِ وطَريقِ أبي الحَسَنِ الأشْعَريِّ، وإليه انْتَهَتْ رِياسةُ المالِكيِّينَ في وَقْتِه، وكانَ له بجامِعِ المَنْصورِ حَلْقةٌ عَظيمةٌ. قُلْتُ: وقدْ أخَذَ ابنُ الباقِلَّانيِّ عِلمَ النَّظَرِ عن أبي عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدِ بنِ أَحْمَدَ بنِ مُجاهِدٍ الطَّائيِّ صاحِبِ الأشْعَريِّ) [50] ((تاريخ الإسلام)) (9/ 63). .
وقالَ ابنُ خَلْدونَ: (كَثُرَ أتْباعُ الشَّيْخِ أبي الحَسَنِ الأشْعَريِّ، واقْتَفى طَريقتَه مِن بَعْدِه تَلاميذُه، كابنِ مُجاهِدٍ وغَيْرِه، وأخَذَ عنهم القاضي أبو بَكْرٍ الباقِلَّانيُّ، فتَصدَّرَ للإمامةِ في طَريقتِهم، وهَذَّبَها، ووَضَعَ المُقدِّماتِ العَقْلِيَّةَ الَّتي تَتَوقَّفُ عليها الأدِلَّةُ والأنْظارُ...، وجَعَلَ هذه القَواعِدَ تَبَعًا للعَقائِدِ الإيمانيَّةِ في وُجوبِ اعْتِقادِها؛ لتَوَقُّفِ تلك الأدِلَّةِ عليها، وأنَّ بُطْلانَ الدَّليلِ يُؤذِنُ ببُطْلانِ المَدْلولِ) [51] ((تاريخ ابن خلدون)) (1/ 589). .
ويَتَبيَّنُ مِن كُتُبِ الباقِلَّانيِّ أنَّه يُثبِتُ صِفاتٍ للهِ تَعالى، ولا يُفرِّقُ بَيْنَ الصِّفاتِ العَقْلِيَّةِ والصِّفاتِ الخَبَريَّةِ، وهو كأبي الحَسَنِ الأشْعَريِّ لا يَقْتصِرُ على إثْباتِ الصِّفاتِ السَّبْعِ كما هو مَشْهورٌ عنْدَ الأشاعِرةِ المُتَأخِّرينَ، وتابَعَ الأشْعَريَّ في تَأويلِ صِفةِ الغَضَبِ والرِّضا بأنَّ المَقْصودَ بهما: إرادةُ الثَّوابِ والعِقابِ، وخالَفَ الأشْعَريَّ فأَثبَتَ صِفةَ البَقاءِ للهِ سُبْحانَه، وذَهَبَ الباقِلَّانيُّ إلى أنَّ كَلامَ اللهِ مَعْنًى قائِمٌ بنفْسِه، وليس بحَرْفٍ ولا صَوْتٍ، ويَنْفي الباقِلَّانيُّ تَعْليلَ أفْعالِ اللهِ كما هو قَوْلُ الأشاعِرةِ، ويَرى إنْكارَ السَّبَبيَّةِ، فالإحْراقُ عنْدَه لا يكونُ بالنَّارِ، وإنَّما يَقَعُ عنْدَها لا بِها، وهذا مَبدَأُ السَّبَبيَّةِ الَّذي اشْتَهَرَ إنْكارُه عنْدَ الأشاعِرةِ، ويُعتَبَرُ الباقِلَّانيُّ المُؤَسِّسَ الثَّانيَ للمَذهَبِ الأشْعَريِّ، وقدْ أخَذَ الباقِلَّانيُّ عِلمَ الكَلامِ عن أصْحابِ الأشْعَريِّ، ومعَ كَوْنِ تَلامِذةِ الأشْعَريِّ ذَوي تَأثيرٍ واسِعٍ فإنَّه لم يَبلُغْ أحَدٌ مِنهم ما وَصَلَ إليه الباقِلَّانيُّ مِن تَجْريدِه نفْسَه لنُصْرةِ مَذهَبِ أبي الحَسَنِ الأشْعَريِّ.
وقدْ تَمَثَّلَ ذلك بعِدَّةِ طُرُقٍ؛ أَهَمُّها:
1ـ أنَّ الباقِلَّانيَّ رَبَطَ اسْمَه بالأشْعَريِّ، فصارَ عَلمًا عليه يُذكَرُ في نَسَبِه فيُقالُ: أبو بَكْرِ بنُ الطَّيِّبِ الباقِلَّانيُّ الأشْعَريُّ، وهذا مَوْجودٌ في الكُتُبِ الَّتي تَرْجَمَتْ له، وفي صُوَرِ عَناوِينِ مَخْطوطاتِ كُتُبِه.
2ـ معَ انْتِسابِ الباقِلَّانيِّ إلى الأشْعَريِّ كانَتْ عَلاقتُه طَيِّبةً معَ الحَنابِلةِ، تَبَعًا لأبي الحَسَنِ الأشْعَريِّ الَّذي صَرَّحَ في كِتابِه "الإبانةِ" برُجوعِه إلى قَوْلِ الإمامِ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ، وقدْ كانَ الباقِلَّانيُّ يَكتُبُ أحْيانًا في أجْوبتِه: مُحَمَّدُ بنُ الطَّيِّبِ الحَنْبَليُّ، كما كانَ يَكتُبُ: الأشْعَريُّ؛ لأنَّ الأشْعَريَّ وأصْحابَه كانوا مُنْتَسِبينَ إلى الإمامِ أَحْمَدَ وأمْثالِه مِن أئِمَّةِ السُّنَّةِ، وقدِ اسْتَفادَ الباقِلَّانيُّ مِن ذلك سُمْعةً طَيِّبةً عنْدَ الحَنابِلةِ معَ أنَّه أشْعَريٌّ، كما أنَّ بعضَ الحَنابِلةِ مالوا إلى بعضِ أقْوالِ الأشاعِرةِ بسَبَبِ عَلاقتِهم بالباقِلَّانيِّ صاحِبِ البَلاغةِ والفَصاحةِ والحُجَجِ المَنْطِقيَّةِ الَّتي كانَ لها تَأثيرٌ كَبيرٌ فيهم.
3ـ ناظَرَ الباقِلَّانيُّ المُبْتَدِعةَ مِن المُعْتَزِلةِ وغَيْرِهم مُناظَرةً عَلَنيَّةً أمامَ السَّلاطينِ، وألَّفَ لعَضُدِ الدَّوْلةِ كِتابَ (التَّمْهيدِ)، وقدْ أَرسَلَ عَضُدُ الدَّوْلةِ الباقِلَّانيَّ إلى مَلِكِ الرُّومِ، وجَرَتْ له هناك مُناظَراتٌ مَشْهورةٌ معَ النَّصارى.
4ـ كانَ للباقِلَّانيِّ دَوْرٌ واضِحٌ في تَطْويرِ المَذهَبِ الأشْعَريِّ [52] يُنظر: ((تاريخ ابن خلدون)) (1/ 589)، ((موقف ابن تَيْمِيَّةَ من الأشاعِرة)) لعبد الرحمن المحمود (2/ 526 - 553)، ((المدارس الأشعرية)) للشهري (ص: 78 - 81). .
وقدْ طَوَّرَ الباقِلَّانيُّ المَذهَبَ الأشْعَريَّ مِن خِلالِ:
1ـ وَضْعِ المُقَدِّماتِ العَقْلِيَّةِ لمَباحِثِ العَقيدةِ وعِلمِ الكَلامِ، مِثلُ مَباحِثِ الجَوْهَرِ والعَرَضِ، وأقْسامِ العُلومِ، والاسْتِدْلالِ، والكَلامِ على المَوْجوداتِ وأنْواعِها.
2ـ المَيْلِ في المُناقَشاتِ إلى العَقْلِ، وضَعْفِ الاعْتِمادِ على النَّقْلِ.
3ـ المَيْلِ إلى بعضِ أقْوالِ المُعْتَزِلةِ، خاصَّةً في بعضِ الصِّفاتِ، فقَرَّبَ المَذهَبَ الأشْعَريَّ مِن أهْلِ الكَلامِ، وقَعَّدَ بعضَ القَواعِدِ الكَلامِيَّةِ الَّتي كانَتْ سَبَبًا في تَطوُّرِ المَذهَبِ الأشْعَريِّ إلى ما يُقارِبُ مَذاهِبَ الفَلاسِفةِ والجَهْميَّةِ في بعضِ المَسائِلِ العَقَديَّةِ [53] يُنظر: ((موقف ابن تَيْمِيَّةَ من الأشاعِرة)) لعبد الرحمن المحمود (2/ 554). .
6- الأسْتاذُ مُحَمَّدُ بنُ الحَسَنِ بنِ فورَكٍ الأصْبَهانيُّ (ت 406 هـ)
قالَ الذَّهَبيُّ: (أبو بَكْرٍ الأصْبَهانيُّ الفَقيهُ المُتَكلِّمُ، سَمِعَ مُسنَدَ الطَّيالِسيِّ مِن عَبْدِ اللهِ بنِ جَعْفَرٍ الأصْبَهانيِّ، واسْتُدْعيَ إلى نَيْسابورَ لحاجتِهم إلى عِلمِه، فاسْتَوْطَنَها، وتَخرَّجَ به طائِفةٌ في الأُصولِ والكَلامِ، وله تَصانيفُ جَمَّةٌ، وكانَ رَجُلًا صالِحًا، رَوى عنه أبو بَكْرٍ البَيْهَقيُّ، وأبو القاسِمِ القُشَيْريُّ، وقالَ ابنُ خَلِّكانَ: الأسْتاذُ أبو بَكْرٍ، المُتَكلِّمُ الأُصوليُّ الأديبُ النَّحْويُّ الواعِظُ، الأصْبَهانيُّ، دَرَسَ بالعِراقِ مُدَّةً، ثُمَّ تَوَجَّهَ إلى الرَّيِّ، فسَعَتْ به المُبْتَدِعةُ فرَاسَلَه أهْلُ نَيْسابورَ، فوَرَدَ عليهم، وبَنَوا له بِها مَدْرسةً ودارًا، وظَهَرَتْ بَرَكتُه على المُتَفقِّهةِ، وبَلَغَتْ مُصَنَّفاتُه قَريبًا مِن مِئةِ مُصَنَّفٍ، وكانَ شَديدَ الرَّدِّ على الكَرَّاميَّةِ، ثُمَّ عادَ إلى نَيْسابورَ، فسُمَّ في الطَّريقِ، فماتَ بقُرْبِ بُسْتَ، قُلْتُ: أخَذَ طَريقةَ الأشْعَريِّ عن أبي الحَسَنِ الباهِلِيِّ وغَيْرِه، وكانَ معَ دينِه صاحِبَ بِدْعةٍ رَحِمَه اللهُ) [54] ((تاريخ الإسلام)) (9/ 109، 110) باختِصارٍ وتَصَرُّفٍ. .
وقالَ أبو عَبْدِ اللهِ الحاكِمُ النَّيْسابوريُّ فيما نَقَلَه عنه ابنُ عَساكِرَ: (مُحَمَّدُ بنُ الحَسَنِ بنِ فورَكٍ، الأديبُ المُتَكلِّمُ الأُصوليُّ الواعِظُ النَّحْويُّ، أبو بَكْرٍ الأصْبَهانيُّ، أقامَ أوَّلًا بالعِراقِ إلى أن دَرَسَ بها على مَذهَبِ الأشْعَريِّ، ثُمَّ لمَّا وَرَدَ الرَّيَّ سَعَتْ به المُبْتَدِعةُ، وتَقَدَّمْنا إلى الأَميرِ ناصِرِ الدَّوْلةِ والْتَمَسْنا مِنه المُراسَلةَ في تَوْجيهِه إلى نَيْسابورَ ففَعَلَ، ووَرَدَ نَيْسابورَ فبَنى له الدَّارَ والمَدْرسةَ، وأَحْيا اللهُ تَعالى به في بَلَدِنا أنْواعًا مِن العُلومِ لمَّا اسْتَوْطَنَها، وظَهَرَتْ بَرَكتُه على جَماعةٍ مِن المُتَفقِّهةِ، وتَخَرَّجوا به، سَمِعَ عَبْدَ اللهِ بنَ جَعْفَرٍ الأصْبَهانيَّ، وكَثُرَ سَماعُه بالبَصْرةِ وبَغْدادَ، وحَدَّثَ بنَيْسابورَ) [55] ((تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأشْعَريِّ)) (ص: 232) باختِصارٍ يسيرٍ. .
وقالَ السُّبْكيُّ: (الأسْتاذُ أبو بَكْرٍ الأنْصارِيُّ الأصْبَهانيُّ، الإمامُ الجَليلُ، والحَبْرُ الَّذي لا يُجارى فِقْهًا وأُصولًا وكَلامًا ووَعْظًا ونَحْوًا، معَ مَهابةٍ وجَلالةٍ ووَرَعٍ بالِغٍ، رَفَضَ الدُّنْيا وَراءَ ظَهْرِه، وعامَلَ اللهَ في سِرِّه وجَهْرِه، وصَمَّمَ على دينِه... أقامَ أوَّلًا بالعِراقِ إلى أن دَرَسَ بِها مَذهَبَ الأشْعَريِّ على أبي الحَسَنِ الباهِلِيِّ)، وقدْ أَبطَلَ السُّبْكيُّ ما ذَكَرَه ابنُ حَزْمٍ مِن أنَّ ابنَ فورَكٍ كانَ يَقولُ: إنَّ النَّبيَّ مُحَمَّدًا كانَ في حَياتِه نَبيًّا، وأنَّه بَعْدَ مَوْتِه ليس نَبيًّا، وأنَّ السُّلْطانَ مَحْمودَ بنَ سُبُكْتِكينَ أمَرَ بقَتْلِه بالسُّمِّ لِذلك، وبَيَّنَ أنَّ ابنَ فورَكٍ لا يَقولُ ذلك، وبَيَّنَ خَطَأَ ابنِ حَزْمٍ في دَعْواه أنَّ هذا قَوْلُ الأشاعِرةِ [56] يُنظر: ((طبقات الشافعية الكبرى)) (4/ 127 - 133). .
وذَكَرَ ابنُ رَجَبٍ في تَرْجمةِ علِيِّ بنِ الحُسَيْنِ العُكْبَرِيِّ أنَّه رَوى حِكايةً سَمِعَها مِن الحافِظِ أبي مَسْعودٍ، أَحْمَدَ بنِ مُحَمَّدٍ البَجَليِّ قالَ: (دَخَلَ ابنُ فورَكٍ على السُّلْطانِ مَحْمودٍ، فتَنَاظَرا، قالَ ابنُ فورَكٍ لمَحْمودٍ: لا يَجوزُ أن تَصِفَ اللهَ بالفَوْقيَّةِ؛ لأنَّه يَلزَمُك أن تَصِفَه بالتَّحْتِيَّةِ؛ لأنَّه مَن جازَ أن يكونَ له فَوْقٌ جازَ أن يكونَ له تَحْتٌ، فقالَ مَحْمودٌ: ليس أنا وَصَفْتُه بالفَوْقيَّةِ فتُلزِمَني أن أَصِفَه بالتَّحْتيَّةِ، وإنَّما هو وَصَفَ نفْسَه بِذلك! قالَ: فبُهِتَ) [57] ((ذيل طبقات الحنابلة)) (1/ 21). .
وذَكَرَ ابنُ عَساكِرَ أنَّ ابنَ فورَكٍ مِن أَعلَمِ النَّاسِ بأمْرِ أبي الحَسَنِ الأشْعَريِّ وأسْماءِ كُتُبِه [58] يُنظر: ((تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأشْعَري)) (ص: 135، 147). .
وابنُ فورَكٍ مِن المُعاصِرينَ للباقِلَّانيِّ، وكِلاهما تَتَلْمَذَ على يَدِ أبي الحَسَنِ الباهِلِيِّ صاحِبِ أبي الحَسَنِ الأشْعَريِّ، وكِلاهما له أثَرٌ كَبيرٌ في تَطْويرِ المَذهَبِ الأشْعَريِّ.
وقدْ تَمَيَّزَ ابنُ فورَكٍ عن الباقِلَّانيِّ بما يَلي:
1ـ الاسْتِدْلالُ بالسُّنَّةِ في دَقائِقِ مَسائِلِ الأسْماءِ والصِّفاتِ، معَ أنَّه يَرى أنَّ أخْبارَ الآحادِ لا تُفيدُ اليَقينَ والعِلمَ، لكنَّه يَرى جَوازَ ذِكْرِها لإفادتِها غَلَبةَ الظَّنِّ؛ فهي مِن بابِ الجائِزِ المُمْكِنِ [59] يُنظر: ((مشكل الحَديث وبيانه)) لابن فورك (ص: 44). .
والمَطَّلِعُ على كِتابِ ابنِ فورَكٍ في مُشكِلِ الحَديثِ يَلحَظُ أمْرَينِ عَجيبَينِ:
أحَدُهما: البَحْثُ عن أَوْجُهِ التَّأويلِ لكلِّ حَديثٍ مِن أحاديثِ الصِّفاتِ، والتَّكَلُّفُ في ذلك، وهو يَعْتقِدُ أنَّ هذه مُهِمَّةُ طائِفةٍ مِن أهْلِ الحَديثِ، فقدْ قَسَّمَهم إلى فِرْقتَينِ: فِرْقةٌ هُمْ أهْلُ الرِّوايةِ، وفِرْقةٌ يَغلِبُ عليهم تَحْقيقُ طُرُقِ النَّظَرِ والمَقاييسِ، والإبانةُ عن تَرْتيبِ الفُروعِ على الأُصولِ، وقد جَعَلَ ابنُ فورَكٍ مُهِمَّتَه في كِتابِه هَدَفَ الفِرْقةِ الثَّانيةِ، فذَكَرَ فيه تَأويلَ ما يَراه مِن مُشْكِلِ الحَديثِ مِمَّا يوهِمُ التَّشْبيهَ [60] يُنظر: ((مشكل الحَديث وبيانه)) لابن فورك (ص: 37). .
والأمْرُ الآخَرُ: خَلْطُه فيما يورِدُه بَيْنَ الأحاديثِ الصَّحيحةِ والضَّعيفةِ والمَوْضوعةِ [61] يُنظر مثلا: ((مشكل الحَديث وبيانه)) لابن فورك (ص: 17 - 19، 120). .
2ـ تَأويلُ صِفةِ الاسْتِواءِ والعُلُوِّ، خِلافًا للباقِلَّانيِّ الَّذي تَقدَّمَ في تَرْجمتِه أنَّه يُثبِتُهما كأبي الحَسَنِ الأشْعَريِّ [62] يُنظر: ((مشكل الحَديث وبيانه)) لابن فورك (ص: 158 - 160، 389). وقد نقل ابن تَيْمِيَّةَ عن ابنِ فَورَكٍ فيما صنَّفه في أصولِ الدِّينِ قَوْلًا آخَرَ يوافِقُ أبا الحَسَنِ الأشْعَريَّ وابنَ الباقِلَّانيِّ في إثْباتِ صِفةِ العُلُوِّ، ثُمَّ قال ابنُ تَيْمِيَّةَ: (فيُشبِهُ -واللهُ أعلَمُ- أن يكونَ اجتهادُه مختَلِفًا في هذه المَسائِل كما اخْتَلَف اجتهادُ غَيرِه؛ فأبو المَعالي كان يقولُ بالتَّأويلِ ثُمَّ حرَّمه، وحكى إجماعَ السَّلَفِ على تحريمِه، وابنُ عَقيلٍ له أقوالٌ مُختَلِفةٌ، وكذلك لأبي حامِدٍ والرَّازيِّ وغَيرِهم، وممَّا يُبَيِّنُ اخْتِلافَ كَلامِ ابنِ فَورَكٍ أنَّه في مُصَنَّفٍ آخَرَ قال: فإن قال قائِلٌ: أين هو؟ قيل: ليس بذي كيفيَّةٍ فنُخبِرَ عنها) ((مجموع الفَتاوى)) (16/ 89). .
وقدْ طَوَّرَ ابنُ فورَكٍ المَذهَبَ الأشْعَريَّ مِن خِلالِ:
1ـ العِنايةِ بالحَديثِ والاهْتِمامِ به، معَ البَقاءِ على مَنهَجِ وطَريقةِ أهْلِ الكَلامِ وتَأويلاتِهم، وبِذلك خَفَّ الحاجِزُ الَّذي كانَ يَفصِلُ بَيْنَ أهْلِ السُّنَّةِ مِن أهْلِ الحَديثِ الَّذين يُثبِتونَ ما دَلَّتْ عليه النُّصوصُ، وأهْلِ الكَلامِ الَّذين كانوا بَعيدينَ عن الاهْتِمامِ بعِلمِ الحَديثِ رِوايةً ودِرايةً [63] قال ابنُ فَورَكٍ في أوَّلِ كِتابِه مُشكِلِ الحَديثِ: (... إملاءُ كِتابٍ نَذكُرُ فيه ما اشتَهَر من الأحاديثِ المَرْويَّةِ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ممَّا يُوهِمُ ظاهِرُه التَّشبيهَ) ((مشكل الحَديث وبيانه)) (ص: 37)، وقد ذَكَر ابنُ عَساكِرَ أنَّ لابنِ فَوْرَكٍ كِتابًا باسمِ (طبقات المتكلمين). يُنظر: ((تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأشْعَري)) (ص: 125). .
2ـ الغُلُوِّ والتَّكَلُّفِ في تَأويلِ آياتِ وأحاديثِ الصِّفاتِ، وصارَ تَأويلُها هو الأصْلَ، وإثْباتُها قَليلٌ [64] يُنظر: ((تفسير ابن فورك)) (2/ 334، 336) و (3/ 198). .
3ـ تَأويلِ صِفةِ الاسْتِواءِ والعُلُوِّ، وهذا تَطوُّرٌ خَطيرٌ وكَبيرٌ في المَذهَبِ الأشْعَريِّ، وإن كانَ قد نُقِلَ عنه المَنْعُ مِن تَأويلِها [65] يُنظر: ((مشكل الحَديث وبيانه)) لابن فورك (ص: 158 - 160، 389)، ((مجموع الفَتاوى)) لابن تَيْمِيَّةَ (16/ 89)، ((موقف ابن تَيْمِيَّةَ من الأشاعِرة)) للمحمود (2/ 555 - 569). .
7- الأسْتاذُ أبو إسْحاقَ الأسْفَرايِينيُّ، إبْراهيمُ بنُ مُحَمَّدٍ، (ت 418 هـ)
قالَ الصَّريفينيُّ: (إبْراهيمُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إبْراهيمَ بنِ مَهْرانَ، الأسْتاذُ الإمامُ أبو إسْحاقَ الأسْفَرايِينيُّ، أحَدُ مَن بَلَغَ حَدَّ الاجْتِهادِ؛ لتَبَحُّرِه في العُلومِ، واسْتِجْماعِه شَرائِطَ الإمامةِ مِن العَربيَّةِ والفِقْهِ والكَلامِ والأُصولِ، ومَعْرِفةِ الكِتابِ والسُّنَّةِ، رَحَلَ إلى العِراقِ في طَلَبِ العِلمِ، وحَصَّلَ ما لم يُحَصِّلْه غَيْرُه، وأخَذَ في التَّدْريسِ والتَّصْنيفِ والإفادةِ، وكانَ ذا فُنونٍ، بالِغًا في كلِّ فَنٍّ دَرَجةَ الإمامةِ، وكانَ طِرازَ ناحِيةِ الشَّرْقِ فَضْلًا عن نَيْسابورَ وناحِيتِه الَّتي كانَ مِنها، ثُمَّ كانَ مِن المُجْتَهِدينَ في العِبادةِ، والمُبالِغينَ في الوَرَعِ والتَّخَرُّجِ...، وكانَ ثِقةً ثَبْتًا في الحَديثِ) [66] ((المنتخب من كِتاب السياق لتاريخ نيسابور)) (ص: 127). .
وقالَ ابنُ عَساكِرَ: (حَكى لي مَن أَثِقُ به أنَّ الصاحِبَ بنَ عَبَّادٍ كانَ إذا انْتَهى إلى ذِكْرِ الباقِلَّانيِّ وابنِ فورَكٍ والأسْفَرايِينيِّ -وكانوا مُتَعاصِرينَ مِن أصْحابِ الأشْعَريِّ- قالَ لأصْحابِه: ابنُ الباقِلَّانيِّ بَحْرٌ مُغرِق، وابنُ فورَكٍ صِلٌّ مُطرِق، والأسْفَرايِينيُّ نارٌ تُحرِق، وكأنَّ روحَ القُدُسِ نَفَثَ في رُوعِه حيثُ أَخبَرَ عن حالِ هؤلاء الثَّلاثةِ بما هو حَقيقةُ الحالِ فيهم، وفَوائِدُ هذا الإمامِ وفَضائِلُه وأحاديثُه وتَصانيفُه أَكثَرُ وأَشهَرُ مِن أن تُسْتَوْعَبَ في مُجلَّداتٍ فَضْلًا عن أطْباقٍ وأوْراقٍ) [67] ((تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأشْعَري)) (ص: 244). .
ورَوى ابنُ عَساكِرَ بإسْنادِه عن العرَيْمانيِّ قالَ: (سَمِعْتُ الأسْتاذَ أبا إسْحاقَ إبْراهيمَ بنَ مُحَمَّدٍ الأسْفَرايِينيَّ الفَقيهَ الأُصوليَّ يَقولُ: كُنْتُ في جَنْبِ الشَّيْخِ أبي الحَسَنِ الباهِلِيِّ كقَطْرةٍ في البَحْرِ، وسَمِعْتُ الشَّيْخَ أبا الحَسَنِ الباهِلِيَّ قالَ: كُنْتُ أنا في جَنْبِ الشَّيْخِ الأشْعَريِّ كقَطْرةٍ في جَنْبِ البَحْرِ) [68] ((تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأشْعَري)) (ص: 125). .
وقالَ عنه السُّبْكيُّ: (أحَدُ أئِمَّةِ الدِّينِ كَلامًا وأُصولًا وفُروعًا، جَمَعَ أشْتاتَ العُلومِ، واتَّفَقَتِ الأئِمَّةُ على تَبْجيلِه وتَعْظيمِه، وجَمْعِه شَرائِطَ الإمامةِ، وكانَ يُلقَّبُ رُكْنَ الدِّينِ...، مُناظَرةٌ بَيْنَ الأسْتاذِ أبي إسْحاقَ الأسْفَرايِينيِّ والقاضي عَبْدِ الجَبَّارِ المُعْتَزِليِّ: قالَ عَبْدُ الجَبَّارِ في ابْتِداءِ جُلوسِه للمُناظَرةِ: سُبْحانَ مَن تَنَزَّهَ عن الفَحْشاءِ! فقالَ الأسْتاذُ مُجيبًا: سُبْحانَ مَن لا يَقَعُ في مُلْكِه إلَّا ما يَشاءُ! فقالَ عَبْدُ الجَبَّارِ: أَفَيَشاءُ رَبُّنا أن يُعْصى؟! فقالَ الأسْتاذُ: أَيُعْصى رَبُّنا قَهْرًا؟! فقالَ عَبْدُ الجَبَّارِ: أَفَرَأيْتَ إن مَنَعَني الهُدى، وقَضى علَيَّ بالرَّدى، أَحسَنَ إليَّ أم أساءَ؟! فقالَ الأسْتاذُ: إن كانَ مَنَعَك ما هو لك فقدْ أساءَ، وإن مَنَعَك ما هو له فيَخْتَصُّ برَحْمتِه مَن يَشاءُ، فانْقَطَعَ عَبْدُ الجَبَّارِ!) [69] ((طبقات الشافعية الكبرى)) (4/ 256 - 262). .
وقالَ ابنُ كَثيرٍ في تَرْجمتِه: (المُتَكلِّمُ الأُصوليُّ الفَقيهُ الشَّافِعيُّ، شَيْخُ أهْلِ خُراسانَ، يُقالُ: إنَّه بَلَغَ رُتْبةَ الاجْتِهادِ، وله المُصَنَّفاتُ الكَبيرةُ الكَثيرةُ، مِنها «جامِعُ الحُلي» في أُصولِ الدِّينِ، وخَرَّجَ له الحاكِمُ أبو عَبْدِ اللهِ النَّيْسابوريُّ عَشَرةَ أجْزاءٍ، وذَكَرَه في تاريخِه لجَلالتِه -وقدْ ماتَ الحاكِمُ قَبْلَه- فقالَ: أبو إسْحاقَ الأسْفَرايِينيُّ، الفَقيهُ الأُصوليُّ، المُتَكلِّمُ، المُتَقدِّمُ في هذه العُلومِ، انْصَرَفَ مِن العِراقِ، وقدْ أقَرَّ له العُلَماءُ بالتَّقَدُّمِ، قالَ: وبُنيَ له بنَيْسابورَ مَدْرسةٌ لم يكُنْ مِثلُها، فدَرَّسَ فيها، وقالَ الشَّيْخُ أبو إسْحاقَ في الطَّبَقاتِ: دَرَسَ عليه شَيْخُنا أبو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ، وعنه أخَذَ عِلمَ الكَلامِ والأُصولِ عامَّةُ شُيوخِ نَيْسابورَ) [70] ((طبقات الشافعيين)) (ص: 367) باختِصارٍ. .
8- أبو مَنْصورٍ البَغْداديُّ، عَبْدُ القاهِرِ بنُ طاهِرِ بنِ مُحَمَّدٍ التَّميميُّ، (ت 429 هـ)
قالَ الذَّهَبيُّ: (العَلَّامةُ، البارِعُ، المُتَفنِّنُ، الأسْتاذُ، أبو مَنْصورٍ البَغْداديُّ، نَزيلُ خُراسانَ، وصاحِبُ التَّصانيفِ البَديعةِ، وأحَدُ أعْلامِ الشَّافِعيَّةِ، حَدَّثَ عنه: أبو بَكْرٍ البَيْهَقيُّ، وأبو القاسِمِ القُشَيْريُّ، وخَلْقٌ، وكانَ أَكبَرَ تَلامِذةِ أبي إسْحاقَ الأسْفَرايِينيِّ، وكانَ يُدرِّسُ في سَبْعةَ عَشَرَ فَنًّا، ويُضرَبُ به المَثلُ) [71] ((سير أعلام النبلاء)) (17/ 572) باختِصارٍ. .
وقالَ الكُتُبيُّ: (وُلِدَ ببَغْدادَ ونَشَأَ بِها، وسافَرَ معَ أبيه إلى خُراسانَ، وسَكَنا بنَيْسابورَ إلى أن ماتا، تَفَقَّهَ أبو مَنْصورٍ على أبي إسْحاقَ إبْراهيمَ بنِ مُحَمَّدٍ الأسْفَرايِينيِّ، وقَرَأَ عليه أُصولَ الدِّينِ، وكانَ ماهِرًا في فُنونٍ عَديدةٍ، خُصوصًا في عِلمِ الحِسابِ، وله فيه تَواليفُ نافِعةٌ، وكانَ عارِفًا بالفَرائِضِ والنَّحْوِ والشِّعْرِ، وكانَ ذا مالٍ وثَرْوةٍ، ولم يَكْتسِبْ بعِلمِه مالًا، وأَرْبى على أقْرانِه في الفُنونِ، وجَلَسَ بَعْدَ أسْتاذِه أبي إسْحاقَ للإمْلاءِ، واخْتَلَفَ إليه الأئِمَّةُ فقَرؤوا عليه) [72] ((فوات الوفيات)) (2/ 371) باختِصارٍ. .
وقالَ السُّبْكيُّ: (عَبْدُ القاهِرِ بنُ طاهِرِ بنِ مُحَمَّدٍ التَّميميُّ، الإمامُ الكَبيرُ، الأسْتاذُ أبو مَنْصورٍ البَغْداديُّ، إمامٌ عَظيمُ القَدْرِ، جَليلُ المَحَلِّ، كَثيرُ العِلمِ، حَبْرٌ لا يُساجَلُ في الفِقْهِ وأُصولِه، والفَرائِضِ والحِسابِ، وعِلمِ الكَلامِ، اشْتَهَرَ اسمُه، وبَعُدَ صِيتُه، وحَمَلَ عنه العِلمَ أَكثَرُ أهْلِ خُراسانَ... قالَ شَيْخُ الإسْلامِ أبو عُثْمانَ الصَّابونيُّ: كانَ مِن أئِمَّةِ الأُصولِ، وصُدورِ الإسْلامِ بإجْماعِ أهْلِ الفَضْلِ والتَّحْصيلِ، بَديعَ التَّرْتيبِ، غَريبَ التَّأليفِ والتَّهْذيبِ، تَراه الجِلَّةُ صَدْرًا مُقدَّمًا، وتَدْعوه الأئِمَّةُ إمامًا مُفَخَّمًا...، ومِن تَصانيفِه كِتابُ (التَّفْسير)، وكِتابُ (فَضائِح المُعْتَزِلةِ)، وكِتابُ (الفَرْق بَيْنِ الفِرَقِ)، وكِتابُ (التَّحْصيل في أُصولِ الفِقْهِ)، وكِتابُ (فَضائِح الكَرَّاميَّةِ)، وكِتابُ (تَأويل مُتَشابِهِ الأخْبارِ)، وكِتابُ (المِلَلِ والنِّحَلِ)، مُخْتَصرٌ ليس في هذا النَّوْعِ مِثلُه، وكِتابُ (نَفْي خَلْقِ القُرْآنِ)، وكِتابُ (الصِّفات)، وكِتابُ «الإيمانِ وأُصولِه») [73] ((طبقات الشافعية الكبرى)) (5/ 136 - 140) باختِصارٍ وتَصَرُّفٍ. .
وقالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ المَحْمودُ: (البَغْداديُّ أحَدُ أعْلامِ الأشاعِرةِ في نِهايةِ القَرْنِ الرَّابِعِ وبِدايةِ القَرْنِ الخامِسِ، وهو يُمَثِّلُ تَقْريبًا مَرْحلةَ كلٍّ مِن الباقِلَّانيِّ وابنِ فورَكٍ، وقدْ أَدرَكَ البَغْداديُّ ابنَ مُجاهِدٍ تَلْميذَ أبي الحَسَنِ الأشْعَريِّ، والبَغْداديُّ في كُتُبِه يَنقُلُ أقْوالَ الكُلَّابيَّةِ والأشْعَريَّةِ، ويَذكُرُ الخِلافَ بَيْنَهم إن وُجِدَ، وله تَرْجيحاتٌ خاصَّةٌ، تُعتَبَرُ مُنْعطَفًا في تَطوُّرِ المَذهَبِ الأشْعَريِّ، والبَغْداديُّ لا يُخالِفُ مَن سَبَقَه مِن الأشاعِرةِ في غالِبِ مَسائِلِ العَقيدةِ وعِلمِ الكَلامِ، وهو يَنْفي صِفاتِ اللهِ الاخْتِياريَّةَ، فيُؤَوِّلُ ما وَرَدَ مِن صِفاتِ المَحَبَّةِ، والرَّحْمةِ، والغَضَبِ، والفَرَحِ، والضَّحِكِ، ويَقولُ بكَلامِ اللهِ الأزَلِيِّ) [74] ((موقف ابن تَيْمِيَّةَ من الأشاعِرة)) (2/ 572 - 574) باختِصارٍ وتَصَرُّفٍ. .
وقدْ طَوَّرَ أبو مَنْصورٍ البَغْداديُّ المَذهَبَ الأشْعَريَّ مِن خِلالِ:
1ـ مُخالَفتِه بعضَ أقْوالِ أبي الحَسَنِ الأشْعَريِّ.
2ـ تَبَنِّي بعضِ أدِلَّةِ المُعْتَزِلةِ، مِثلُ دَليلِ حُدوثِ الأجْسامِ.
3ـ تَأويلِ البَغْداديِّ صِفةَ الاسْتِواءِ للهِ، معَ أنَّه رَدَّ على المُعْتَزِلةِ الَّذين أَوَّلوا الاسْتِواءَ بالاسْتيلاءِ، وعَرَضَ أقْوالَ أصْحابِه الأشاعِرةِ، ثُمَّ صَحَّحَ تَأويلَ العَرْشِ بمَعْنى المُلْكِ، كأنَّه أرادَ أنَّ المُلْكَ ما اسْتَوى لأحَدٍ غَيْرِه، وذَكَرَ أنَّ مَعْنى آيةِ الاسْتِواءِ: على المُلْكِ اسْتَوى، أي: اسْتَوى المُلْكُ للإلهِ، ونَفى صِفةَ العُلُوِّ للهِ سُبْحانَه.
4ـ تَأويلِ البَغْداديِّ صِفاتِ الوَجْهِ والعَيْنِ واليَدَينِ ونَحْوِها مِن الصِّفاتِ الخَبَريَّةِ الَّتي أثْبَتَها أبو الحَسَنِ الأشْعَريُّ وابنُ الباقِلَّانيِّ.
5ـ عَرَضَ البَغْداديُّ في كِتابَيه (الفَرْق بَيْنَ الفِرَقِ) و(المِلَل والنِّحَل) مَذهَبَ الأشاعِرةِ على أنَّه مَذهَبُ أهْلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ، وقدْ عَرَضَ البَغْداديُّ أقْوالَ الفِرَقِ بمَنهَجٍ واضِحٍ ومُرَتَّبٍ، واعْتَمَدَ على حَديثِ الافْتِراقِ الوارِدِ، وساقَ بعضَ رِواياتِه بأسانيدِه، ثُمَّ ذَكَرَ أنَّه مَرْوِيٌّ عن جَمْعٍ مِن الصَّحابةِ، ثُمَّ حَصَرَ أعْدادَ الفِرَقِ لتُوافِقَ ما في الحَديثِ، فذَكَرَ اثْنتَينِ وسَبْعينَ فِرْقةً، ثُمَّ الفِرْقةَ الثَّالِثةَ والسَّبْعينَ، وهي الفِرْقةُ النَّاجِيةُ الوارِدةُ في الحَديثِ، وجَعَلَها فِرْقةَ أهْلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ، وذَكَرَ أنَّ أصْنافَ أهْلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ على مَذهَبِ أبي الحَسَنِ الأشْعَريِّ، فذَكَرَ مِنهم المُتَكلِّمينَ الَّذين تَبَرَّؤوا مِن التَّشْبيهِ والتَّعْطيلِ، وذَكَرَ مِنهم أئِمَّةَ الفِقْهِ مِن فَريقَيْ أهْلِ الرَّأيِ وأهْلِ الحَديثِ، وأَدخَلَ فيهم أصْحابَ المَذاهِبِ الأرْبَعةِ وأهْلَ الظَّاهِرِ وغَيْرَهم، وذَكَرَ مِنهم أهْلَ الأدَبِ والنَّحْوِ والتَّصْريفِ واللُّغةِ، فذَكَرَ أعْلامَهم، وذَكَرَ مِنهم عُلَماءَ القِراءاتِ والتَّفْسيرِ، وذَكَرَ مِنهم الزُّهَّادَ والصُّوفيَّةَ، والمُرابِطينَ في الثُّغورِ، وعامَّةَ البُلْدانِ الَّتي غَلَبَ فيها شِعارُ أهْلِ السُّنَّةِ، وبنِسْبةِ هذه الأصْنافِ كلِّها إلى مَذهَبِ الأشاعِرةِ يكونُ البَغْداديُّ قدِ ادَّعى أنَّ انْتِشارَ المَذهَبِ الأشْعَريِّ عنْدَ هؤلاء دَليلٌ على أنَّه الحَقُّ، بلْ إنَّ البَغْداديَّ عَدَّ أعْلامَ الصَّحابةِ والسَّلَفِ مِن المُتَكلِّمينَ، فذَكَرَ أنَّ مِنهم علِيَّ بنَ أبي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنه لأنَّه ناظَرَ الخَوارِجَ، وعَبْدَ اللهِ بنَ عُمَرَ رَضِيَ الله عنهما لتَبَرُّئِه مِن القَدَريَّةِ، وعُمَرَ بنَ عَبْدِ العَزيزِ، وزَيدَ بنَ علِيِّ بنِ الحُسَيْنِ، والحَسَنَ البَصْريَّ، والزُّهْريَّ، والشَّعْبيَّ، وجَعْفَرًا الصَّادِقَ، وعَدَّ مِن المُتَكلِّمينَ أبا حَنيفةَ، والشَّافِعيَّ، وأبا يوسُفَ القاضيَ! ثُمَّ ذَكَرَ أعْلامَ الكُلَّابيَّةِ والأشْعَريَّةِ الَّذين سَبَقوه أو عاصَروه، وبِهذا المَنهَجِ الَّذي لم يكُنْ مَعْهودًا في مُؤَلَّفاتِ ذلك العَصْرِ، معَ حُسْنِ العَرْضِ والتَّرْتيبِ والتَّبْويبِ، اسْتَطاعَ البَغْداديُّ أن يَنشُرَ بَيْنَ النَّاسِ أنَّ المَذهَبَ الأشْعَريَّ هو المَذهَبُ الصَّحيحِ، وأنَّه المَذهَبُ الَّذي يَتَبَنَّاه أعْلامُ المُسلِمينَ مِن الصَّحابةِ والتَّابِعينَ وأئِمَّةِ الدَّينِ مِن الفُقَهاءِ والقُرَّاءِ والمُفَسِّرينَ وغَيْرِهم، وقَرَّرَ أنَّ الأشاعِرةَ ليسوا فِرْقةً مِن فِرَقِ المُسلِمينَ، وإنَّما عَقيدتُهم هي عَقيدةُ جُمْهورِ أهْلِ السُّنَّةِ مِن المُسلِمينَ [75] يُنظر: ((موقف ابن تَيْمِيَّةَ من الأشاعِرة)) للمحمود (2/ 574 - 580) باختِصارٍ وتَصَرُّفٍ. ويُنظر: ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي (ص: 4 - 20، 200، 304 - 354). .
وبِهذا يَتَبيَّنُ أنَّ انْتِشارَ المَذهَبِ الأشْعَريِّ كانَ بواسِطةِ أعْلامِه الَّذين كانوا مِن أئِمَّةِ العِلمِ، ومِن أهْلِ الفَصاحةِ والبَيانِ، ولهم الرُّدودُ العَظيمةُ على كَثيرٍ مِن أهْلِ البِدَعِ، كالمُعْتَزِلةِ والرَّافِضةِ، واجْتَهدوا في دَعْوةِ النَّاسِ إلى المَذهَبِ الأشْعَريِّ على أنَّه مَذهَبُ أهْلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ، ووَقَعَ لبعضِهم في مُؤَلَّفاتِهم زَلَّاتٍ وأوْهامًا ظَنُّوها مِن الدِّينِ، فعَظُمَتِ الفِتْنةُ بهم، كما يُقالُ: زَلَّةُ العالِمِ زَلَّةُ عالَمٍ!
عن يَزيدَ بنِ عَميرةَ قالَ: قالَ مُعاذُ بنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عنه: (إنَّ مِن وَرائِكم فِتَنًا يَكثُرُ فيها المالُ، ويُفتَحُ فيها القُرْآنُ حتَّى يَأخُذَه المُؤمِنُ والمُنافِقُ، والرَّجُلُ والمَرْأةُ، والصَّغيرُ والكَبيرُ، والعَبْدُ والحُرُّ، فيوشِكُ قائِلٌ أن يَقولَ: ما لِلنَّاسِ لا يَتَّبِعوني وقدْ قَرَأْتُ القُرْآنَ؟! ما هُمْ بمُتَّبِعيَّ حتَّى أَبتَدِعَ لهم غَيْرَه؛ فإيَّاكم وما ابْتُدِعَ، فإنَّ ما ابْتُدِعَ ضَلالةٌ، وأُحَذِّرُكم زَيْغةَ الحَكيمِ، فإنَّ الشَّيْطانَ قد يَقولُ كَلِمةَ الضَّلالةِ على لِسانِ الحَكيمِ، وقدْ يَقولُ المُنافِقُ كَلِمةَ الحَقِّ. قالَ: قُلْتُ لِمُعاذٍ: ما يُدْريني رَحِمَك اللهُ أنَّ الحَكيمَ قد يَقولُ كَلِمةَ الضَّلالةِ، وأنَّ المُنافِقَ قد يَقولُ كَلِمةَ الحَقِّ؟! قالَ: بَلى، اجْتَنِبْ مِن كَلامِ الحَكيمِ المُشْتَهِراتِ الَّتي يُقالُ لها: ما هذه؟! ولا يَثْنينَّك ذلك عنه؛ فإنَّه لَعلَّه أن يُراجِعَ، وتَلَقَّ الحَقَّ إذا سَمِعْتَه؛ فإنَّ على الحَقِّ نورًا) [76] رواه أبو داود (4611) وصحَّحه الألبانيُّ. .
9- أَحْمَدُ بنُ الحُسَيْنِ البَيْهَقيُّ، (ت 458 هـ)
قالَ الذَّهَبيُّ: (الإمامُ أبو بَكْرٍ البَيْهَقيُّ، مُصَنِّفُ (السُّنَن الكَبير)، و(السُّنَن الصَّغير)، و(السُّنَن والآثار)، و(دَلائِل النُّبُوَّةِ)، و(شُعَب الإيمانِ)، و(الأسْماء والصِّفات)، وغَيْرِ ذلك. كانَ واحِدَ زَمانِه، وفَرْدَ أقْرانِه، وحافِظَ أوانِه، ومِن كِبارِ أصْحابِ أبي عَبْدِ اللهِ الحاكِمِ. أخَذَ مَذهَبَ الشَّافِعيِّ عن أبي الفَتْحِ ناصِرِ بنِ مُحَمَّدٍ العُمَريِّ المَرْوَزيِّ، وغَيْرِه، وبَرَعَ في المَذهَبِ، وشُيوخُه أَكثَرُ مِن مِئةِ شَيْخٍ [77] مِن أشهَرِ مَشايخِه: أبو عَبْدِ اللهِ الحاكِمُ، وابنُ فَورَكٍ، وعبدُ القاهِرِ البَغداديُّ، وأبو عبدِ الرَّحمنِ السُّلَميُّ، وأبو ذَرٍّ الهَرَويُّ. يُنظر: ((السلسبيل النقي في تراجم شيوخ البيهقي)) للمنصوري (ص: 419، 379، 550، 564). ، بورِكَ له في مَرْوِيَّاتِه، وحَسُنَ تَصرُّفُه فيها لحِذْقِه وخِبْرتِه بالأبْوابِ والرِّجالِ، وبَعُدَ صيتُه، وقيلَ: إنَّ تَصانيفَه ألْفُ جُزْءٍ، سَمِعَها الحافِظانِ ابنُ عَساكِرَ وابنُ السَّمْعانيِّ مِن أصْحابِه. وأقامَ مُدَّةً ببَيْهَقَ يُصنِّفُ كُتُبَه، ثُمَّ إنَّه طُلِبَ إلى نَيْسابورَ لنَشْرِ العِلمِ بها فأجابَ، وذلك في سَنَةِ إحْدى وأرْبَعينَ وأرْبَعِمِئةٍ، فاجْتَمَعَ الأئِمَّةُ وحَضَروا مَجلِسَه لقِراءةِ تَصانيفِه، جَمَعَ نُصوصَ الشَّافِعيِّ، واحْتَجَّ لها بالكِتابِ والسُّنَّةِ. قالَ عَبْدُ الغافِرِ: كانَ على سيرةِ العُلَماءِ، قانِعًا مِن الدُّنْيا باليَسيرِ، مُتَجَمِّلًا في زُهْدِه ووَرَعِه، وقالَ إمامُ الحَرَمينِ: ما مِن شافِعيٍّ إلا ولِلشَّافِعيِّ عليه مِنَّةٌ إلَّا البَيْهَقيَّ، فإنَّ له على الشافِعيِّ مِنَّةً؛ لتَصانيفِه في نُصْرةِ مَذهَبِه) [78] ((تاريخ الإسلام)) (10/ 95) باختِصارٍ وتَصَرُّفٍ. .
وقالَ السُّبْكيُّ: (كانَ الإمامُ البَيْهَقيُّ أحَدَ أئِمَّةِ المُسلِمينَ، وهُداةِ المُؤمِنينَ، والدُّعاةِ إلى حَبْلِ اللهِ المَتينِ، فَقيهٌ جَليلٌ، حافِظٌ كَبيرٌ، أُصوليٌّ نِحْريرٌ، زاهِدٌ وَرِعٌ، قانِتٌ للهِ، قائِمٌ بنُصْرةِ المَذهَبِ أُصولًا وفُروعًا، جَبَلًا مِن جِبالِ العِلمِ...، وقَرَأَ عِلمَ الكَلامِ على مَذهَبِ الأشْعَريِّ، ثُمَّ اشْتَغَلَ بالتَّصْنيفِ بَعْدَ أن صارَ أَوحَدَ زَمانِه، وفارِسَ مَيدانِه، وأَحذَقَ المُحَدِّثينَ، وأَحَدَّهم ذِهْنًا، وأَسرَعَهم فَهْمًا، وأَجوَدَهم قَريحةً، وبَلَغَتْ تَصانيفُه ألْفَ جُزءٍ، ولم يَتهيَّأْ لأحَدٍ مِثلُها) [79] ((طبقات الشافعية الكبرى)) (4/ 8 - 11) باختِصارٍ. .
والبَيْهَقيُّ يُوافِقُ مَذهَبَ الأشاعِرةِ في كَثيرٍ مِن مَسائِلِ الاعْتِقادِ؛ فإنَّه ذَهَبَ إلى تَأويلِ بعضِ الصِّفاتِ، وتَفْويضِ مَعاني بعضِها الآخَرِ، وزَعَمَ أنَّ التَّفوْيضَ مَذهَبُ السَّلَفِ الصَّالِحِ، ووافَقَ الأشاعِرةَ بأنَّ كَلامَ اللهِ ليس بصَوْتٍ ولا حَرْفٍ، وهو يُثبِتُ صِفةَ الوَجْهِ واليَدَينِ والعَيْنِ للهِ سُبْحانَه بلا تَأويلٍ، كما هو قَوْلُ مُتَقدِّمي الأشاعِرةِ [80] يُنظر: ((الأسماء والصِّفات)) (2/ 29)، ((الاعتقاد)) (ص: 71، 88) كلاهما للبيهقي، ((البيهقي وموقفه من الإلهيات)) للغامدي (ص: 322 - 373، 409 - 412). .
قالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ: (الحافِظُ أبو بَكْرٍ البَيْهَقيُّ وأمْثالُه أَقرَبُ إلى السُّنَّةِ مِن كَثيرٍ مِن أصْحابِ الأشْعَريِّ المُتَأخِّرينَ الَّذين خَرَجوا عن كَثيرٍ مِن قَوْلِه إلى قَوْلِ المُعْتَزِلةِ أو الجَهْميَّةِ أو الفَلاسِفةِ) [81] ((شرح العَقيدة الأصفهانية)) (ص: 127). .
ولِلبَيْهَقيِّ كِتابُ (الأسْماء والصِّفات)، وافَقَ في كَثيرٍ مِن مَسائِلِه مَنهَجَ السَّلَفِ الصَّالِحِ ومَن اتَّبَعَهم مِن أهْلِ السُّنَّةِ، ووافَقَ في بعضِ مَسائِلِه الأشاعِرةَ؛ قالَ البَيْهَقيُّ مُبَيِّنًا سَبَبَ تَأليفِه هذا الكِتابَ: (كَتَبَ إليَّ الأسْتاذُ أبو مَنْصورٍ مُحَمَّدُ بنُ الحُسَيْنِ بنِ أبي أَيُّوبَ الأُصوليُّ رَحِمَه اللهُ، الَّذي كانَ يَحُثُّني على تَصنيفِ هذا الكِتابِ لِما في الأحاديثِ المُخرَّجةِ فيه مِن العَوْنِ على ما كانَ فيه مِن نُصْرةِ السُّنَّةِ وقَمْعِ البِدْعةِ) [82] ((الأسماء والصِّفات)) (2/ 60). .
وأبو مَنْصورٍ هذا الَّذي كانَ يَحُثُّ البَيْهَقيَّ على تَأليفِ كِتابِ (الأسْماء والصِّفات) أشْعَريٌّ مَشْهورٌ، وهو تِلْميذُ أبي بَكْرِ بنِ فورَكٍ وخَتَنُه [83] يُنظر: ((السلسبيل النقي في تراجم شيوخ البيهقي)) للمنصوري (ص: 556). .
ومِن تَأويلاتِ الصِّفاتِ الَّتي ذَكَرَها البَيْهَقيُّ قَوْلُه: (الرِّضا عنْدَ أبي الحَسَنِ الأشْعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنه يَرجِعُ إلى الإرادةِ، وهو إرادةُ إكْرامِ المُؤمِنينَ، وكذلك الرَّحْمةُ تَرجِعُ إلى الإرادةِ، وهي إرادةُ الإنْعامِ والإكْرامِ) [84] ((الأسماء والصِّفات)) (1/ 478). .
وبَعْدَ أن ذَكَرَ البَيْهَقيُّ بعضَ الأدِلَّةِ مِن القُرْآنِ والسُّنَّةِ على صِفةِ الاسْتِواءِ قالَ: (المُتَقدِّمونَ مِن أصْحابِنا رَضِيَ اللهُ عنهم كانوا لا يُفَسِّرونَه ولا يَتَكلَّمونَ فيه كنَحْوِ مَذهَبِهم في أمْثالِ ذلك...، أَخبَرَنا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ الحافِظُ قالَ: هذه نُسْخةُ الكِتابِ الَّذي أَمْلاه الشَّيْخُ أبو بَكْرٍ أَحْمَدُ بنُ إسْحاقَ بنِ أَيُّوبَ في مَذهَبِ أهْلِ السُّنَّةِ فيما جَرى بَيْنَ مُحَمَّدِ بنِ إسْحاقَ بنِ خُزَيْمةَ وبَيْنَ أصْحابِه، فذَكَرَها وذَكَرَ فيها: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] بلا كَيْفٍ، والآثارُ عن السَّلَفِ في مِثلِ هذا كَثيرةٌ، وعلى هذه الطَّريقِ يَدُلُّ مَذهَبُ الشَّافِعيِّ رَضِيَ الله عنه، وإليها ذَهَبَ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ، والحُسَيْنُ بنُ الفَضْلِ البَجَليُّ، ومِن المُتَأخِّرينَ أبو سُلَيْمانَ الخَطَّابيُّ، وذَهَبَ أبو الحَسَنِ علِيُّ بنُ إسْماعيلَ الأشْعَريُّ إلى أنَّ اللهَ تَعالى جَلَّ ثَناؤُه فَعَلَ في العَرْشِ فِعْلًا سَمَّاه اسْتِواءً، كما فَعَلَ في غَيْرِه فِعْلًا سَمَّاه رِزْقًا أو نِعْمةً أو غَيْرَهما مِن أفْعالِه، ثُمَّ لم يُكَيِّفِ الاسْتِواءَ إلَّا أنَّه جَعَلَه مِن صِفاتِ الفِعْلِ؛ لقَوْلِه: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] ، وثُمَّ للتَّراخي، والتَّراخي إنَّما يكونُ في الأفْعالِ، وأفْعالُ اللهِ تَعالى توجَدُ بلا مُباشَرةٍ مِنه إيَّاها ولا حَرَكةٍ، وذَهَبَ أبو الحَسَنِ علِيُّ بنُ مُحَمَّدِ بنِ مَهْديٍّ الطَّبَرِيُّ في آخَرينَ مِن أهْلِ النَّظَرِ إلى أنَّ اللهَ تَعالى في السَّماءِ فوقَ كلِّ شيءٍ مُسْتَوٍ على عَرْشِه؛ بمَعْنى أنَّه عالٍ عليه، ومَعْنى الاسْتِواءِ: الاعْتِلاءُ، كما يَقولُ: اسْتَوَيْتُ على ظَهْرِ الدَّابَّةِ، واسْتَوَيْتُ على السَّطْحِ بمَعْنى عَلَوْتُه، واسْتَوَتِ الشَّمْسُ على رأسي، واسْتَوى الطَّيْرُ على قِمَّةِ رأسي؛ بمَعْنى عَلا في الجَوِّ، فوُجِدَ فوق رأسي، والقَديمُ سُبْحانَه عالٍ على عَرْشِه لا قاعِدٌ ولا قائِمٌ ولا مُمَّاسٌ ولا مُبايِنٌ عن العَرْشِ، يُريدُ به: مُبايَنةَ الذَّاتِ الَّتي هي بمَعْنى الاعْتِزالِ أو التَّباعُدِ؛ لأنَّ المُماسَّةَ والمُبايَنةَ الَّتي هي ضِدُّها، والقِيامَ والقُعودَ مِن أوْصافِ الأجْسامِ، واللهُ عَزَّ وجَلَّ أحَدٌ صَمَدٌ لم يَلِدْ ولم يولَدْ ولم يكُنْ له كُفُوًا أحَدٌ، فلا يَجوزُ عليه ما يَجوزُ على الأجْسامِ تَبارَكَ وتَعالى. وحَكى الأسْتاذُ أبو بَكْرِ بنُ فورَكٍ هذه الطَّريقةَ عن بعضِ أصْحابِنا أنَّه قالَ: اسْتَوى بمَعْنى: عَلا، ثُمَّ قالَ: ولا يُريدُ بذلك عُلُوًّا بالمَسافةِ والتَّحَيُّزِ والكَوْنِ في مَكانٍ مُتَمَكِّنًا فيه، ولكنْ يُريدُ مَعْنى قَوْلِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك: 16] أي: مَن فَوْقَها على مَعْنى نَفْيِ الحَدِّ عنه، وأنَّه ليس مِمَّا يَحْويه طَبَقٌ أو يُحيطُ به قُطْرٌ، ووَصْفُ اللهِ سُبْحانَه وتَعالى بِذلك بطَريقةِ الخَبَرِ، فلا نَتَعَدَّى ما وَرَدَ به الخَبَرُ. قُلْتُ: وهو على هذه الطَّريقةِ مِن صِفاتِ الذَّاتِ، وكَلِمةُ ثُمَّ تَعَلَّقَتْ بالمُسْتَوى عليه، لا بالاسْتِواءِ، وهو كقَوْلِه: ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ [يونس: 46] يَعْني: ثُمَّ يكونُ عَمَلُهم فيَشهَدُه، وقدْ أشارَ أبو الحَسَنِ علِيُّ بنُ إسْماعيلَ إلى هذه الطَّريقةِ حِكايةً فقالَ: وقالَ بعضُ أصْحابِنا: إنَّه صِفةُ ذاتٍ، ولا يُقالُ: لم يَزَلْ مُسْتَوِيًا على عَرْشِه، كما أنَّ العِلمَ بأنَّ الأشْياءَ قد حَدَثَتْ مِن صِفاتِ الذَّاتِ، ولا يُقالُ: لم يَزَلْ عالِمًا بأنْ قد حَدَثَتْ، ولما حَدَثَتْ بَعْدُ، قالَ: وجَوابي هو الأوَّلُ، وهو أنَّ اللهَ مُسْتَوٍ على عَرْشِه، وأنَّه فوقَ الأشْياءِ بائِنٌ مِنها، بمَعْنى أنَّها لا تَحُلُّه ولا يَحُلُّها، ولا يَمَسُّها ولا يُشبِهُها، وليستِ البَيْنونةُ بالعُزْلةِ، تَعالى اللهُ رَبُّنا عن الحُلولِ والمُماسَّةِ عُلُوًّا كَبيرًا. قالَ: وقدْ قالَ بعضُ أصْحابِنا: إنَّ الاسْتِواءَ صِفةُ اللهِ تَعالى تَنْفي الاعْوِجاجَ عنه، وفيما كَتَبَ إليَّ الأسْتاذُ أبو مَنْصورِ بنُ أبي أَيُّوبَ أنَّ كَثيرًا مِن مُتَأخِّري أصْحابِنا ذَهَبوا إلى أنَّ الاسْتِواءَ هو القَهْرُ والغَلَبةُ، ومَعْناه: أنَّ الرَّحْمنَ غَلَبَ العَرْشَ وقَهَرَه، وفائِدتُه الإخْبارُ عن قَهْرِه مَمْلوكاتِه، وأنَّها لم تَقهَرْه، وإنَّما خُصَّ العَرْشُ بالذِّكْرِ لأنَّه أَعظَمُ المَمْلوكاتِ، فنَبَّهَ بالأَعْلى على الأَدْنى. قالَ: والاسْتِواءُ بمَعْنى القَهْرِ والغَلَبةِ شائِعٌ في اللُّغةِ...، قالَ: وليس ذلك في الآيةِ بمَعْنى الاسْتيلاءِ؛ لأنَّ الاسْتيلاءَ غَلَبةٌ معَ تَوَقُّعِ ضَعْفٍ، قالَ: وممَّا يُؤَيِّدُ ما قُلْناه قَوْلُه عَزَّ وجَلَّ: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ [فصلت: 11] ، والاسْتِواءُ إلى السَّماءِ هو القَصْدُ إلى خَلْقِ السَّماءِ، فلمَّا جازَ أن يكونَ القَصْدُ إلى السَّماءِ اسْتِواءً جازَ أن تكونَ القُدْرةُ على العَرْشِ اسْتِواءً...، ويُذكَرُ عن أبي العالِيةِ في هذه الآيةِ أنَّه قالَ: اسْتَوى يَعْني: ارْتَفَعَ. ومُرادُه بِذلك -واللهُ أَعلَمُ- ارْتِفاعُ أمْرِه، وهو بُخارُ الماءِ الَّذي مِنه وَقَعَ خَلْقُ السَّماءِ) [85] ((الأسماء والصِّفات)) (2/ 304، 308 - 311). .
قالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ المَحْمودُ: (إذا كانَ الباقِلَّانيُّ وابنُ فورَكٍ والبَغْداديُّ يُمَثِّلونَ مَرْحلةً زَمَنيَّةً مُعيَّنةً بالنِّسْبةِ للمَذهَبِ الأشْعَريِّ -وقدْ سَبَقَ عَرْضُ دَوْرِ كلِّ واحِدٍ مِنهم في تَطوُّرِه- فإنَّ البَيْهَقيَّ المُتَوفَّى سَنَةَ 458هـ، والقُشَيْريَّ المُتَوفَّى سَنَةَ 465هـ، والجُوَيْنيَّ المُتَوفَّى سَنَةَ 478هـ، يُمَثِّلونَ مَرْحلةً تالِيةً، وقدْ أخَذَ التَّطوُّرُ في هذه المَرْحلةِ أبْعادًا أخرى:
فالبَيْهَقيُّ: مُجَدِّدُ المَذهَبِ الشَّافِعيِّ في الفِقْهِ، وأحَدُ أعْلامِ المُحدِّثينَ، كانَ له دَوْرٌ في رَبْطِ المَذهَبِ الأشْعَريِّ بالفِقْهِ الشَّافِعيِّ، ثُمَّ في دَعْمِ الأشاعِرةِ مِن خِلالِ حِرْصِه على الحَديثِ ورِوايتِه، ولِبَيانِ أنَّ ذلك لا يُخالِفُ مَنهَجَ الأشاعِرةِ الكَلاميَّ، والقُشَيْريُّ أَدخَلَ التَّصَوُّفَ في مَنهَجِ وعَقائِدِ الأشاعِرةِ، والجُوَيْنيُّ خَطا خُطُواتٍ بالمَذهَبِ نَحْوَ الاعْتِزالِ) [86] ((موقف ابن تَيْمِيَّةَ من الأشاعِرة)) (2/ 580). .
10- أبو القاسِمِ، عَبْدُ الكَريمِ بنُ هَوازِنَ القُشَيْريُّ النَّيْسابوريُّ (ت 465هـ)
قالَ الذَّهَبيُّ: (شَيْخُ خُراسانَ، وأسْتاذُ الجَماعةِ، ومُقدَّمُ الطَّائِفةِ، قَرَأَ الأدَبَ والعَربيَّةَ، وحَضَرَ مَجلِسَ الأسْتاذِ أبي علِيٍّ الدَّقَّاقِ، وكانَ واعِظَ وَقْتِه، فقَبِلَه الدَّقَّاقُ وأَقبَلَ عليه، وأشارَ عليه بتَعلُّمِ العِلمِ، فتَفَقَّهَ، ثُمَّ اخْتَلَفَ إلى الأسْتاذِ أبي بَكْرِ بنِ فورَكٍ الأُصوليِّ، فأخَذَ عنه الكَلامَ والنَّظَرَ، حتَّى بَلَغَ فيه الغايةَ، ثُمَّ اخْتَلَفَ إلى أبي إسْحاقَ الأسْفَرايِينيِّ، ونَظَرَ في تَواليفِ ابنِ الباقِلَّانيِّ، ثُمَّ زَوَّجَه أبو علِيٍّ الدَّقَّاقُ بابنتِه، فلمَّا تُوفِّيَ أبو علِيٍّ عاشَرَ أبا عَبْدِ الرَّحْمنِ السُّلَميَّ الصُّوفيَّ وصَحِبَه، وانْتَهَتْ إليه رِياسةُ التَّصوُّفِ في زَمانِه؛ لِما آتاه اللهُ مِن الأحْوالِ والمُجاهَداتِ، وتَرْبيةِ المُريدينَ وتَذكيرِهم، فكانَ عَديمَ النَّظيرِ في ذلك، طَيِّبَ النَّفْسِ، لَطيفَ الإشارةِ، غَوَّاصًا على المَعاني، وكانَ إمامًا قُدْوةً، مُفَسِّرًا، مُحَدِّثًا، فَقيهًا، مُتَكلِّمًا، نَحْويًّا، كاتِبًا، شاعِرًا، قالَ أبو سَعْدٍ السَّمْعانيُّ: لم يَرَ أبو القاسِمِ مِثلَ نَفْسِه في كَمالِه وبَراعتِه. قالَ الخَطيبُ البَغْداديُّ: كَتَبْنا عنه، وكانَ ثِقةً، وكانَ يَقُصُّ، وكانَ حَسَنَ المَوْعِظةِ، مَليحَ الإشارةِ، وكانَ يَعرِفُ الأُصولَ على مَذهَبِ الأشْعَريِّ، والفُروعَ على مَذهَبِ الشَّافِعيِّ.
قالَ القاضي شَمْسُ الدَّينِ بنُ خَلِّكانَ: صَنَّفَ أبو القاسِمِ القُشَيْريُّ التَّفْسيرَ الكَبيرَ، وهو مِن أَجوَدِ التَّفاسيرِ، وصَنَّفَ الرِّسالةَ في رجالِ الطَّريقةِ، وحَجَّ معَ البَيْهَقيِّ وأبي مُحَمَّدٍ الجُوَيْنيِّ، وكانَ له في الفُروسيَّةِ واسْتِعْمالِ السِّلاحِ يَدٌ بَيْضاءُ) [87] ((تاريخ الإسلام)) (10/ 217، 218) باختِصارٍ وتَصَرُّفٍ. .
وقالَ السُّبْكيُّ: (الأسْتاذُ أبو القاسِمِ القُشَيْريُّ النَّيْسابوريُّ المُلَقَّبُ زَيْنَ الإسْلامِ، الإمامُ مُطلَقًا، وصاحِبُ الرِّسالةِ الَّتي سارَتْ مَغرِبًا ومَشرِقًا، أحَدُ أئِمَّةِ المُسلِمينَ عِلمًا وعَمَلًا، وأرْكانِ المِلَّةِ فِعْلًا ومِقوَلًا، إمامُ الأئِمَّةِ، ومُجْلِي ظُلُماتِ الضَّلالِ المُدْلَهِمَّةِ، أحَدُ مَن يُقْتَدى به في السُّنَّةِ، ويَتَوضَّحُ بكَلامِه طُرُقُ النَّارِ وطُرُقُ الجَنَّةِ، شَيْخُ المَشايِخِ، وأسْتاذُ الجَماعةِ، ومُقدَّمُ الطَّائِفةِ، الجامِعُ بَيْنَ أشْتاتِ العُلومِ...، أخَذَ الفِقْهَ عن أبي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بنِ بَكْرٍ الطُّوسيِّ، وعِلمَ الكَلامِ عن الأسْتاذِ أبي بَكْرِ بنِ فورَكٍ، واخْتَلَفَ أيضًا يَسيرًا إلى الأسْتاذِ أبي إسْحاقَ، وأخَذَ التَّصَوُّفَ عن أسْتاذِه أبي علِيٍّ الدَّقَّاقِ، وكانَ فَقيهًا بارِعًا أُصولِيًّا مُحَقِّقًا مُتَكلِّمًا، سُنِّيًّا مُحدِّثًا حافِظًا مُفَسِّرًا مُتَفَنِّنًا، نَحْويًّا لُغَويًّا أَديبًا كاتِبًا شاعِرًا، مَليحَ الخَطِّ جِدًّا، شُجاعًا بَطَلًا، له في الفُروسيَّةِ واسْتِعْمالِ السِّلاحِ الآثارُ الجَميلةُ) [88] ((طبقات الشافعية الكبرى)) (5/ 153 - 156) باختِصارٍ. .
وهذه بعضُ النُّقولاتِ مِن كُتُبِ القُشَيْريِّ تُبَيِّنُ تَأويلَه الصِّفاتِ:
1- قالَ القُشَيْريُّ في تَفْسيرِ سورةِ المُلْكِ: (بِيَدِهِ الْمُلْكُ: بقُدْرتِه إظْهارُ ما يُريدُ) [89] ((لطائف الإشارات)) (3/ 610). .
2- قالَ القُشَيْريُّ في تَفْسيرِ قَوْلِه تَعالى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ [الملك: 16] (مَنْ فِي السَّمَاءِ أرادَ بِهم المَلائِكةَ الَّذين يَسكُنونَ السَّماءَ، فهُمْ مُوَكَّلونَ بالعَذابِ، وخَوَّفَهم بالمَلائِكةِ أن يُنزِلوا عليهم العُقوبةَ مِن السَّماءِ، أو يَخسِفوا بِهم الأرْضَ، وكذلك خَوَّفَهم أن يُرسِلوا عليهم حِجارةً كما أَرْسَلوا على قَوْمِ لوطٍ) [90] ((لطائف الإشارات)) (3/ 614). .
3- قالَ القُشَيْريُّ في أوَّلِ رِسالتِه المَشْهورةِ: (تَعالى عن أن يُقالَ: كيف هو؟ أو أين هو؟) [91] ((الرسالة القُشَيْرية)) (1/ 14). .
4- قالَ القُشَيْريُّ: (سَمِعْتُ الإمامَ أبا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بنَ الحَسَنِ بنِ فورَكٍ رَحِمَه اللهُ تَعالى يَقولُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ المَحْبوبِ خادِمَ أبي عُثْمانَ المَغْرِبيِّ يَقولُ: قالَ لي أبو عُثْمانَ المَغْرِبيُّ يَوْمًا: يا مُحَمَّدُ، لو قالَ لك أحَدٌ: أين مَعْبودُك أيْشٍ تَقولُ؟ قالَ: قُلْتُ: أَقولُ: حيثُ لم يَزَلْ، قالَ: فإن قالَ: أين كانَ في الأزَلِ، أيْشٍ تَقولُ؟ قالَ: قُلْتُ: أَقولُ: حيثُ هو الآنَ، يَعْني أنَّه كما كانَ، ولا مَكانَ، فهو الآنَ كما كانَ، قالَ: فارْتَضى مِنِّي ذلك، ونَزَعَ قَميصَه وأَعْطانيه) [92] ((الرسالة القُشَيْرية)) (1/ 24). .
5- قالَ القُشَيْريُّ: (له يَدانِ، هُما صِفتانِ، يَخلُقُ بِهما ما يَشاءُ سُبْحانَه على التَّخْصيصِ، وله الوَجْهُ الجَميلُ، وصِفاتُ ذاتِه مُخْتَصَّةٌ بذاتِه، لا يَقالُ: هي وهو، ولا هي أغْيارٌ له، بلْ هي صِفاتٌ له أَزَليَّةٌ، ونُعوتٌ سَرْمَديَّةٌ، وأنَّه أَحَديُّ الذَّاتِ، ليس يُشبِهُه شَيءٌ مِن المَصْنوعاتِ، ولا يُشبِهُه شيءٌ مِن المَخْلوقاتِ، ليس بجِسْمٍ، ولا جَوْهَرٍ، ولا عَرَضٍ، ولا صِفاتُه أعْراضٌ، ولا يَتَصوَّرُ في الأوْهامِ، ولا يَتَقدَّرُ في العُقولِ، ولا له جِهةٌ ولا مَكانٌ، ولا يَجْري عليه وَقْتٌ وزَمانٌ، ولا يَجوزُ في وَصْفِه زِيادةٌ ولا نُقْصانٌ، ولا يَخُصُّه هَيْئةٌ وقَدٌّ، ولا يَقطَعُه نِهايةٌ وحَدٌّ، ولا يَحُلُّه حادِثٌ، ولا يَحمِلُه على الفِعلِ باعِثٌ، ولا يَجوزُ عليه لَوْنٌ ولا كَوْنٌ، ولا يَنصُرُه مَدَدٌ ولا عَوْنٌ، ولا يَخرُجُ عن قُدْرتِه مَقْدورٌ، ولا يَنفَكُّ عن حُكْمِه مَفْطورٌ، ولا يَعزُبُ عن عِلمِه مَعْلومٌ، ولا هو على فِعلِه كيف يَصنَعُ وما يَصنَعُ مَلومٌ، لا يُقالُ له: أينَ، ولا حيثُ، ولا كيفَ) [93] ((الرسالة القُشَيْرية)) (1/ 32). .
وبمِثلِ هذه الفَصاحةِ العَجيبةِ انْتَشَرَ المَذهَبُ الأشْعَريُّ، وصَدَقَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذ يَقولُ: ((إنَّ مِن البَيانِ لَسِحْرًا )) [94] رواه البخاريُّ (5767) من حَديثِ عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما. ، ففي كَلامِ القُشَيْريِّ ونُقولاتِه البَليغةِ والمُزَخْرَفةِ حَقٌّ وباطِلٌ، وفي بعضِ كَلامِه ألْفاظٌ مُجْمَلةٌ لم يَتَكلَّمْ فيها السَّلَفُ الصَّالِحُ بالنَّفْيِ ولا الإثْباتِ، كالجِسْمِ والجَوْهَرِ والعَرَضِ، وقدْ أخَذَ أهْلُ الكَلامِ مِثلَ هذه الألْفاظِ مِن كُتُبِ الفَلاسِفةِ. وعُلَماءُ الكَلامِ الفُضَلاءُ كالقُشَيْريِّ رَحِمَه اللهُ، يُريدونَ نَصْرَ الإسْلامِ بما كَتَبوا مِن مُصَنَّفاتٍ، ويُريدونَ تَنْزيهَ اللهِ سُبْحانَه عن النَّقائِصِ بِهذه العِباراتِ، فوَقَعوا في تَأويلِ كَثيرٍ مِن الصِّفاتِ، وقدْ أثَّرَ القُشَيْريُّ تَأثيرًا عَظيمًا في الصُّوفيَّةِ الَّذين اتَّخَذوا رِسالتَه عُمْدةً في التَّصَوُّفِ، فصارَ غالِبُ الصُّوفيَّةِ بَعْدَ القُشَيْريِّ أشاعِرةً أو مُتَأثِّرينَ بمَذهَبِ الأشاعِرةِ.
قالَ القُشَيْريُّ: (اعْلَموا رَحِمَكم اللهُ تَعالى أنَّ المُسلِمينَ بَعْدَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَتَسَمَّ أفاضِلُهم في عَصْرِهم بتَسْميةِ عِلمٍ سِوى صُحْبةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ إذ لا فَضيلةَ فَوْقَها، فقيلَ لهم: الصَّحابةُ، ولمَّا أَدرَكَهم أهْلُ العَصْرِ الثَّاني سُمِّيَ مَن صَحِبَ الصَّحابةَ التَّابِعينَ، ورَأَوا ذلك أَشرَفَ سِمةٍ، ثُمَّ قيلَ لِمَن بَعْدَهم: أتْباعُ التَّابِعينَ، ثُمَّ اخْتَلَفَ النَّاسُ، وتَبايَنَتْ المَراتِبُ، فقيلَ لخَواصِّ النَّاسِ مِمَّن لهم شِدَّةُ عِنايةٍ بأمْرِ الدِّينِ: الزُّهَّادُ والعُبَّادُ، ثُمَّ ظَهَرَتِ البِدَعُ، وحَصَلَ التَّداعي بَيْنَ الفِرَقِ، فكلُّ فَريقٍ ادَّعَوا أنَّ فيهم زُهْدًا، فانْفَرَدَ خَواصُّ أهْلِ السُّنَّةِ المُراعونَ أنْفاسَهم معَ اللهِ تَعالى، الحافِظونَ قُلوبَهم عن طَوارِقِ الغَفْلةِ باسمِ التَّصوُّفِ، واشْتَهَرَ هذا الاسمُ لِهؤلاء الأكابِرِ قَبْلَ المِئَتَينِ مِن الهِجْرةِ) [95] ((الرسالة القُشَيْرية)) (1/ 34). .
دَوْرُ القُشَيْريِّ في نُصْرةِ المَذهَبِ الأشْعَريِّ وتَطْويرِه:
اشْتَهَرَ القُشَيْريُّ بالتَّصوُّفِ أَكثَرَ مِن شُهْرتِه بالمَذهَبِ الأشْعَريِّ، ودَوْرُه في نُصْرةِ المَذهَبِ الأشْعَريِّ وتَطْويرِه يَتَمثَّلُ في جانِبَينِ:
الجانِبُ الأوَّلُ: دِفاعُه عن الأشاعِرةِ وَقْتَ المِحْنةِ الَّتي مَرُّوا بِها، حينَ انْتَشَرَ لَعْنُهم على المَنابِرِ في خُراسانَ؛ فقدْ كَتَبَ رِسالتَه "الشِّكاية" الَّتي دافَعَ فيها عن الأشْعَريِّ وعن الأشاعِرةِ، ورَدَّ على التُّهَمِ المُوَجَّهةِ إليهم، وأجابَ عن المَسائِلِ الَّتي نُقِمَتْ على الأشْعَريِّ ولُعِنَ مِن أجْلِها.
وأَهَمُّ تلك المَسائِلِ:
1- اتِّهامُ أبي الحَسَنِ الأشْعَريِّ معَ أتْباعِه أنَّهم يَقولونَ: إنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليس بنَبيٍّ في قَبْرِه، ولا رَسولٍ بَعْدَ مَوْتِه.
2- أنَّ الأشْعَريَّ يَقولُ: إنَّ اللهَ لا يُجازي المُطيعينَ على إيمانِهم وطاعتِهم، ولا يُعذِّبُ الكُفَّارَ والعُصاةَ على كُفْرِهم ومَعاصيهم.
3- مَسْألةُ كَلامِ اللهِ، وأنَّ موسى لم يَسمَعْ كَلامَ اللهِ، فكَلامُ اللهِ ليس صَوْتًا ولا حَرْفًا.
4- أنَّ الأشْعَريَّ يُكفِّرُ العَوامَّ الَّذين لا يَملِكونَ النَّظَرَ والاسْتِدلالَ، وقدْ بَيَّنَ القُشَيْريُّ أنَّ هذا كَذِبٌ على الأشْعَريِّ، وأنَّه يَرى صِحَّةَ إيمانِ المُقلِّدِ.
5- أنَّ الاشْتِغالَ بعِلمِ الكَلامِ بِدْعةٌ، وقدْ دافَعَ القُشَيْريُّ عن عِلمِ الكَلامِ.
الجانِبُ الثَّاني: إدْخالُ التَّصوُّفِ في المَذهَبِ الأشْعَريِّ، ورَبْطُه به، وذلك حينَ ألَّفَ القُشَيْريُّ رِسالتَه المَشْهورةَ في التَّصوُّفِ وأحْوالِه، وتَراجِمِ رِجالِه المَشْهورينَ، فذَكَرَ في هذه الرِّسالةِ أنَّ عَقيدةَ أعْلامِ التَّصوُّفِ هي عَقيدةُ الأشاعِرةِ، فكانت رِسالتُه سَبَبًا عَظيمًا في دُخولِ الأشاعِرةِ في التَّصوُّفِ، ودُخولِ الصُّوفيَّةِ في المَذهَبِ الأشْعَريِّ [96] يُنظر: ((الرسالة القُشَيْرية)) (1/ 34 - 149)، ((تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأشْعَري)) لابن عَساكِر (ص: 109 - 113)، ((لوامع الأنوار البهية)) للسفاريني (1/ 269)، ((موقف ابن تَيْمِيَّةَ من الأشاعِرة)) للمحمود (2/ 591 - 599). .  
11- إمامُ الحَرَمَينِ أبو المَعالي، عَبْدُ المَلِكِ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ يوسُفَ الجُوَيْنيُّ النَّيْسابوريُّ (ت 478هـ)
قالَ الذَّهَبيُّ: (إمامُ الحَرَمَينِ أبو المَعالي ابنُ الإمامِ أبي مُحَمَّدٍ الجُوَيْنيُّ، رَئيسُ الشَّافِعيَّةِ بنَيْسابورَ، قالَ أبو سَعْدٍ السَّمْعانيُّ: كانَ إمامَ الأئِمَّةِ على الإطْلاقِ، المُجمَعَ على إمامتِه شَرْقًا وغَرْبًا، لم تَرَ العُيونُ مِثلَه، تَفَقَّهَ على والِدِه، فأتى على جَميعِ مُصَنَّفاتِه، وتُوفِّيَ أبوه وله عِشْرونَ سَنَةً، فأُقعِدَ مَكانَه للتَّدْريسِ، فكانَ يُدَرِّسُ ويُخرِّجُ إلى مَدْرسةِ البَيْهَقيِّ، وأَحكَمَ الأُصولَ على أبي القاسِمِ الأسْفَرايِينيِّ الإسْكافِ، واضْطُرَّ إلى السَّفَرِ عن نَيْسابورَ، فذَهَبَ إلى المُعَسْكَرِ، ثُمَّ إلى بَغْدادَ، وصَحِبَ أبا نَصْرٍ الكُنْدُريَّ الوَزيرَ مُدَّةً يَطوفُ معَه، ويَلْتَقي في حَضْرتِه بالأكابِرِ مِن العُلَماءِ، ويُناظِرُهم ويَحْتَكُّ بِهم، حتَّى تَهذَّبَ في النَّظَرِ، وشاعَ ذِكْرُه، ثُمَّ خَرَجَ إلى الحِجازِ، وجاوَرَ بمَكَّةَ أرْبَعَ سِنينَ، يُدرِّسُ ويُفْتي، ويَجمَعُ طُرُقَ المَذهَبِ، إلى أن رَجَعَ إلى بَلَدِه نَيْسابورَ، فأُقعِدَ للتَّدْريسِ بنِظاميَّةِ نَيْسابورَ، واسْتَقامَتْ أمورُ الطَّلَبةِ، وبَقِيَ على ذلك قَريبًا مِن ثَلاثينَ سَنَةً، غَيْرَ مُزاحَمٍ ولا مُدافَعٍ، مُسلَّمٌ له المِحْرابُ والمِنبَرُ، والخَطابةُ والتَّدْريسُ، ومَجلِسُ الوَعْظِ يَوْمَ الجُمُعةِ، وظَهَرَتْ تَصانيفُه، وحَضَرَ دَرْسَه الأكابِرُ والجَمْعُ العَظيمُ مِن الطَّلَبةِ، وكانَ يَقعُدُ بَيْنَ يَدَيه كلَّ يَوْمٍ نَحْوٌ مِن ثَلاثِمِئةِ رَجُلٍ، وتَفَقَّهَ به جَماعةٌ مِن الأئِمَّةِ، وسَمِعَ الحَديثَ مِن أبيه وغَيْرِه. قالَ السَّمْعانيُّ: قَرَأْتُ بخَطِّ أبي جَعْفَرٍ الهَمَذانيِّ: سَمِعْتُ أبا المَعالي يَقولُ: قَرَأْتُ خَمْسينَ ألْفًا في خَمْسينَ ألْفًا، ثُمَّ خَلَّيْتُ أهْلَ الإسْلامِ بإسْلامِهم فيها، وعُلومِهم الظَّاهِرةِ، ورَكِبْتُ البَحْرَ الخِضَمَّ العَظيمَ، وغُصْتُ في الَّذي نَهى أهْلُ الإسْلامِ عنه، كلُّ ذلك في طَلَبِ الحَقِّ، وكُنْتُ أَهرُبُ في سالِفِ الدَّهْرِ مِن التَّقْليدِ، والآنَ رَجَعْتُ مِن الكلِّ إلى كَلِمةِ الحَقِّ، عليكم بدينِ العَجائِزِ، فإن لم يُدرِكْني الحَقُّ بلَطيفِ بِرِّه، فأَموتَ على دينِ العجائِزِ، ويَختِمَ عاقِبةَ أمْري عنْدَ الرَّحيلِ على كَلِمةِ الإخْلاصِ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، فالوَيْلُ لابنِ الجُوَيْنيِّ؛ يُريدُ نفْسَه. وقالَ غانِمٌ الموشيليُّ: سَمِعْتُ الإمامَ أبا المَعالي الجُوَيْنيَّ يَقولُ: لو اسْتَقْبَلْتُ مِن أمْري ما اسْتَدْبَرْتُ ما اشْتَغَلْتُ بالكَلامِ. وقالَ أبو المَعالي الجُوَيْنيُّ في كِتابِ الرِّسالةِ النِّظاميَّةِ: اخْتَلَفَتْ مَسالِكُ العُلَماءِ في الظَّواهِرِ الَّتي وَرَدَتْ في الكِتابِ والسُّنَّةِ، وامْتَنَعَ على أهْلِ الحَقِّ اعْتِقادُ فَحْواها، فرأى بعضُهم تَأويلَها، والْتَزَمَ ذلك في آيِ الكِتابِ وما يَصِحُّ مِن السُّنَنِ، وذَهَبَ أئِمَّةُ السَّلَفِ إلى الانْكِفافِ عن التَّأويلِ، وإجْراءِ الظَّواهِرِ على مَوارِدِها، وتَفْويضِ مَعانيها إلى الرَّبِّ تَعالى [97] السَّلَفُ الصَّالِحُ كانوا يُفَوِّضون كيفيَّةَ الصِّفاتِ لا معانيَ الصِّفاتِ، فأبو المَعالي الجُوَيْنيُّ -رحمه اللهُ- رجَعَ عن تأويلِ الصِّفاتِ، ونَسَب إلى السَّلَفِ القَوْلَ بتفويضِ معانيها، فرُجوعُه كان إلى مَذهَبِ التفويضِ، وليس إلى مَذهَبِ السَّلَفِ الصَّالِحِ الَّذين يؤمِنون بمعاني الصِّفاتِ على ظاهِرِها الَّذي يليقُ بجَلالِ اللهِ وعَظَمَتِه، ويفَوِّضونَ كيفيَّةَ الصِّفاتِ لا معانِيَها، مع اعتقادِ أنَّ اللهَ ليس كمِثْلِه شَيءٌ؛ فالاستواءُ مَثَلًا عند السَّلَفِ معلومٌ، وهو العُلُوُّ والارتفاعُ كما يليقُ بعَظَمةِ اللهِ سُبحانَه، لكِنَّ الكيفيَّةَ مجهولةٌ، وقد اشتَهَر عند الأشاعِرةِ المُتَأخِّرينَ أنَّ في صفاتِ اللهِ سُبحانَه قَوْلَينِ مشهورينِ للأشاعِرةِ، هما: التَّأويلُ، والتَّفويضُ؛ قال السُّبكيُّ الأشْعَريُّ في ترجمةِ أبي المَعالي الجُوَيْنيِّ: (للأشاعِرةِ قَوْلانِ مَشهورانِ في إثْباتِ الصِّفاتِ هل تُمَرُّ على ظاهِرِها مع اعتِقادِ التَّنْزيهِ، أو تُؤَوَّلُ؟ والقَوْلُ بالإمرارِ مع اعتِقادِ التَّنْزيهِ هو المَعزُوُّ إلى السَّلَفِ، وهو اختيارُ الإمامِ في الرِّسالةِ النِّظامِيَّةِ، وفي مواضِعَ مِن كَلامِه، فرُجوعُه معناه الرُّجوعُ عن التَّأويلِ إلى التَّفْويضِ، ولا إنكارَ في هذا ولا في مُقابِلِه؛ فإنَّها مسألةٌ اجتِهاديَّةٌ، أعني مسألةَ التَّأويلِ أو التَّفْويضِ مع اعتِقادِ التَّنْزيهِ) ((طبقات الشافعية الكبرى)) (5/ 191). ، والَّذي نَرْتَضيه رَأيَا، ونَدينُ اللهَ به عَقْدًا اتِّباعُ سَلَفِ الأُمَّةِ؛ فالأَوْلى الاتِّباعُ، وتَرْكُ الابْتِداعِ، والدَّليلُ السَّمْعيُّ القاطِعُ في ذلك أنَّ إجْماعَ الأُمَّةِ حُجَّةٌ مُتَّبَعةٌ، وهو مُستَنَدُ مُعظَمِ الشَّريعةِ، وقدْ دَرَجَ صَحْبُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على تَرْكِ التَّعَرُّضِ لمَعانيها، ودَرَكِ ما فيها، وهُمْ صَفوةُ الإسْلامِ المُسْتقِلُّونَ بأعْباءِ الشَّريعةِ، وكانوا لا يَألونَ جُهْدًا في ضَبْطِ قَواعِدِ المِلَّةِ، والتَّواصي بحِفْظِها، وتَعْليمِ النَّاسِ ما يَحْتاجونَ إليه مِنها، فلو كانَ تَأويلُ هذه الظَّواهِرِ مُسَوَّغًا أو مَحْتومًا لأَوشَكَ أن يكونَ اهْتِمامُهم بِها فَوْقَ اهْتِمامِهم بفُروعِ الشَّريعةِ، فإذا تَصَرَّمَ عَصْرُهم وعَصْرُ التَّابِعينَ على الإضْرابِ عن التَّأويلِ، كانَ ذلك قاطِعًا بأنَّه الوَجْهُ المُتَّبَعُ، فحَقٌّ على ذي الدِّينِ أن يَعْتقِدَ تَنَزُّهَ الباري عن صِفاتِ المُحدَثينَ، ولا يَخوضَ في تَأويلِ المُشْكِلاتِ، ويَكِلَ مَعْناها إلى الرَّبِّ [98] تقَدَّم أنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ كانوا يُفَوِّضون كيفيَّةَ الصِّفاتِ لا معانيَ الصِّفاتِ. ، فلْيُجْرِ آيةَ الاسْتِواءِ والمَجيءِ، وقَوْلَه: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75] ، ووَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ، وتَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر: 14]، وما صَحَّ مِن أخْبارِ الرَّسولِ كخَبَرِ النُّزولِ وغَيْرِه- على ما ذَكَرْنا. وقالَ مُحَمَّدُ بنُ طاهِرٍ الحافِظُ: سَمِعْتُ أبا الحَسَنِ القَيْرَوانيَّ الأديبَ بنَيْسابورَ، وكانَ يَسمَعُ معَنا الحَديثَ، وكانَ يَخْتلِفُ إلى دَرْسِ الأسْتاذِ أبي المَعالي الجُوَيْنيِّ، يَقرَأُ عليه الكَلامَ يَقولُ: سَمِعْتُ الأسْتاذَ أبا المَعالي اليَوْمَ يَقولُ: يا أصْحابَنا، لا تَشْتغِلوا بالكَلامِ، فلو عَرَفْتُ أنَّ الكَلامَ يَبلُغُ بي إلى ما بَلَغَ ما اشْتَغلْتُ به. وحَكى أبو عَبْدِ اللهِ الحَسَنُ بنُ العبَّاسِ الرُّسْتُميُّ فَقيهُ أصْبَهانَ قالَ: حَكى لنا أبو الفَتْحِ الطَّبَرِيُّ الفَقيهُ قالَ: دَخَلْتُ على أبي المَعالي في مَرَضِه، فقالَ: اشْهَدوا علَيَّ أنِّي قد رَجَعْتُ عن كلِّ مَقالةٍ تُخالِفُ السَّلَفَ، وأنِّي أَموتُ على ما تَموتُ عليه عَجائِزُ نَيْسابورَ. وذَكَرَ مُحَمَّدُ بنُ طاهِرٍ أنَّ المُحدِّثَ أبا جَعْفَرٍ الهَمَذانيَّ حَضَرَ مَجلِسَ وَعْظِ أبي المَعالي، فقالَ: كانَ اللهُ ولا عَرْشَ، وهو الآنَ على ما كانَ عليه، فقالَ أبو جَعْفَرٍ: أَخبِرْنا يا أسْتاذُ عن هذه الضَّرورةِ الَّتي نَجِدُها، ما قالَ عارِفٌ قَطُّ: يا اللهُ إلَّا وَجَدَ مِن قَلْبِه ضَرورةً تَطلُبُ العُلُوَّ، لا نَلْتفِتُ يَمْنةً ولا يَسْرةً، فكيف نَدفَعُ هذه الضَّرورةَ عن أنْفُسِنا؟! فقالَ: يا حَبيبي، ما ثَمَّ إلَّا الحَيْرةُ، ولَطَمَ على رأسِه ونَزَلَ، وبَقِيَ وَقْتٌ عَجيبٌ، وقالَ فيما بَعْدُ: حَيَّرَني الهَمَذانيُّ! ولِأبي المَعالي مِن التَّصانيفِ: كِتابُ (نِهاية المَطلَبِ في المَذهَبِ)، وهو كِتابٌ جَليلٌ في ثَمانيةِ مُجلَّداتٍ، وكِتابُ (الإرْشاد في الأُصولِ)، وكِتابُ (الرِّسالة النِّظاميَّة في الأحْكامِ الإسْلاميَّة)، وكِتابُ (الشَّامِل في أُصولِ الدِّينِ)، وكِتابُ (البُرْهان في أُصولِ الفِقْهِ)، وكِتابُ (غِياث الأُمَمِ في الإمامةِ). وكانَ إذا أخَذَ في عِلمِ الصُّوفيَّةِ وشَرْحِ الأحْوالِ أَبْكى الحاضِرينَ. وقالَ الباخَرْزيُّ في تَرْجمةِ الإمامِ أبي المَعالي: الفِقْهُ فِقْهُ الشَّافِعيِّ، والآدابُ أدَبُ الأَصْمَعِيِّ، وفي بَصَرِه بالوَعْظِ الحَسَنُ البَصْريُّ) [99] ((تاريخ الإسلام)) (10/ 424 - 428) باختِصارٍ وتَصَرُّفٍ. .
وقالَ السُّبْكيُّ: (هو الإمامُ، شَيْخُ الإسْلامِ، البَحْرُ الحَبْرُ المُدَقِّقُ المُحَقِّقُ النَّظَّارُ، الأُصوليُّ المُتَكلِّمُ البَليغُ الفَصيحُ الأديبُ، العَلَمُ الفَرْدُ، زِينةُ المُحَقِّقينَ، إمامُ الأئِمَّةِ على الإطْلاقِ عَجَمًا وعَرَبًا، وصاحِبُ الشُّهْرةِ الَّتي سارَتِ السُّراةُ والحُداةُ بِها شَرْقًا وغَرْبًا، مَن ظَنَّ أنَّ في المَذاهِبِ الأرْبَعةِ مَن يُداني فَصاحتَه فليس على بَصيرةٍ مِن أمْرِه، ومَن حَسِبَ أنَّ في المُصَنِّفينَ مَن يُحاكي بَلاغتَه فليس يَدْري ما يَقولُ، جَدَّ واجْتَهَدَ في المَذهَبِ والخِلافِ والأَصلَينِ وغَيْرِها، وشاعَ اسْمُه واشْتَهَرَ في صِباه، وضُرِبَتْ باسْمِه الأمْثالُ حتَّى صارَ إلى ما صارَ إليه، وأَوقَفَ عُلَماءَ المَشرِقِ والمَغرِبِ مُعْتَرِفينَ بالعَجْزِ بَيْنَ يَدَيه، وسَلَكَ طَريقَ البَحْثِ والنَّظَرِ والتَّحْقيقِ بحيثُ أَرْبى على كَثيرٍ مِن المُتَقَدِّمينَ، وأَنْسى تَصَرُّفاتِ الأَوَّلينَ، وسَعى في دينِ اللهِ سَعْيًا يَبْقى أثَرُه إلى يَوْمِ الدِّينِ، ولا يَشُكُّ ذو خِبْرةٍ أنَّه كانَ أَعلَمَ أهْلِ الأرْضِ بالكَلامِ والأُصولِ والفِقْهِ، وأَكثَرَهم تَحْقيقًا، بلِ الكلُّ مِن بَحْرِه يَغْتَرِفونَ، وأنَّ الوُجودَ ما أَخرَجَ بَعْدَه له نَظيرًا. قالَ عَبْدُ الغافِرِ الفارِسيُّ: اتَّصَلَ به ما يَليقُ بمَنْصِبِه مِن القَبولِ عنْدَ السُّلْطانِ والوَزيرِ والأرْكانِ، ووُفورِ الحِشْمةِ عنْدَهم بحيثُ لا يُذكَرُ غَيْرُه. فكانَ المُخاطَبُ والمُشارُ إليه والمَقْبولُ مَن قَبِلَه، والمَهْجورُ مَن هَجَرَه، والمُصدَّرُ في المَجالِسِ مَن يَنْتَمي إلى خِدْمتِه، والمَنْظورُ إليه مَن يَغْتَرِفُ في الأُصولِ والفُروعِ مِن طَريقتِه، واتَّفَقَ مِنه تَصانيفُ برَسْمِ الحَضْرةِ النِّظاميَّةِ، مِثلُ النِّظاميِّ والغِياثيِّ، وإنْفاذُها إلى الحَضْرةِ، ووُقوعُها مَوقِعَ القَبولِ، ومُقابلتُها بما يَليقُ بِها مِن الشُّكْرِ والرِّضا، إلى أن قُلِّدَ زَعامةَ الأصْحابِ، ورِياسةَ الطَّائِفةِ، وفُوِّضَ إليه أُمورُ الأَوْقافِ، وصارَتْ حِشْمتُه وَزَرَ العُلَماءِ والأئِمَّةِ والقُضاةِ، وقَوْلُه في الفَتْوى مَرجِعَ العُظَماءِ والأكابِرِ والوُلاةِ، وصارَ أَكثَرُ عِنايتِه مَصْروفًا إلى تَصْنيفِ المَذهَبِ الكَبيرِ المُسمَّى بـ (نِهاية المَطلَبِ في دِرايةِ المَذهَبِ)، حتَّى حَرَّرَه وأَمْلاه، وأتى فيه مِن البَحْثِ والتَّقْريرِ والسَّبْكِ والتَّنْقيرِ والتَّدْقيقِ والتَّحْقيقِ بما شَفى الغَليلَ، وأَوضَحَ السَّبيلَ، ونَبَّهَ على قَدْرِه ومَحَلِّه في عِلمِ الشَّريعةِ، ودَرَّسَ ذلك للخَواصِّ مِن التَّلامِذةِ، وفَرَغَ مِنه ومِن إتْمامِه، فما صُنِّفَ في الإسْلامِ قَبْلَه مِثلُه، ولا اتَّفَقَ لأحَدٍ ما اتَّفَقَ له، ومَن قاسَ طَريقتَه بطَريقةِ المُتَقدِّمينَ في الأُصولِ والفُروعِ وأَنصَفَ، أَقَرَّ بعُلُوِّ مَنْصِبِه، ووُفورِ تَعَبِه ونَصَبِه في الدِّينِ، وكَثْرةِ سَهَرِه في اسْتِنْباطِ الغَوامِضِ، وتَحْقيقِ المَسائِلِ، وتَرْتيبَ الدَّلائِلِ...، قالَ أبو المَعالي: أنا لا أنامُ ولا آكُلُ عادةً، وإنَّما أنامُ إذا غَلَبَني النَّوْمُ لَيْلًا كانَ أو نَهارًا، وآكُلُ إذا اشْتَهَيْتُ الطَّعامَ أيَّ وَقْتٍ كانَ، وكانَ لَذَّتُه ولَهْوُه ونُزْهتُه في مُذاكَرةِ العِلمِ وطَلَبِ الفائِدةِ مِن أيِّ نَوْعٍ كانَ) [100] ((طبقات الشافعية الكبرى)) (5/ 165 - 179). .
ومِن أَشهَرِ تَلاميذِ الجُوَيْنيِّ:
أبو حامِدٍ الغَزاليُّ، وأبو نَصْرٍ عَبْدُ الرَّحيمِ بنُ عَبْدِ الكَريمِ القُشَيْريُّ، وعلِيُّ بنُ مُحَمَّدٍ الطَّبَرِيُّ المَعْروفُ بالكِيَا الهَرَّاسيِّ، وغَيْرُهم.
أثَرُ أبي المَعالي الجُوَيْنيِّ في تَطْويرِ المَذهَبِ الأشْعَريِّ:
يُعتَبَرُ أبو المَعالي الجُوَيْنيُّ مِن أَعظَمِ أعْلامِ الأشاعِرةِ.
ومِمَّا تَمَيَّزَ به أبو المَعالي الجُوَيْنيُّ فيما يَتَعلَّقُ بمَذهَبِ الأشاعِرةِ ما يَلي:
1- تَجْديدُ المَذهَبِ الأشْعَريِّ؛ فالجُوَيْنيُّ وإن تَبَنَّى أقْوالَ شُيوخِه السَّابِقينَ ونَقَلَها فإنَّه رَدَّ أو ناقَشَ ما يَرى أنَّه يَسْتحِقُّ الرَّدَّ والمُناقَشةَ، حتَّى لو كانَت تلك الأقْوالُ لأبي الحَسَنِ الأشْعَريِّ، والباقِلَّانيِّ، وأبي إسْحاقَ الأسْفَرايِينيِّ، وابنِ فورَكٍ.
2- تَأويلُ الصِّفاتِ الخَبَريَّةِ، كالوَجْهِ والعَيْنِ واليَدَينِ، مُخالِفًا أئِمَّةَ المَذهَبِ الأشْعَريِّ الَّذين يُثبِتُونَها بلا تَأويلٍ؛ كأبي الحَسَنِ الأشْعَريِّ، والباقِلَّانيِّ، والبَيْهَقيِّ، ووافَقَ الجُوَيْنيُّ المُعْتَزِلةَ في تَأويلِ صِفةِ الاسْتِواءِ للهِ سُبْحانَه بالاسْتيلاءِ، ولم يَسبِقْه إلى هذا أحَدٌ مِن أئِمَّةِ الأشاعِرةِ الَّذين كانوا يَرُدُّونَ على المُعْتَزِلةِ تَأويلَهم صِفةَ الاسْتِواءِ بالاسْتيلاءِ، بل إنَّ الجُوَيْنيَّ ألْزَمَ الأشاعِرةَ بتَأويلِ صِفةِ الوَجْهِ واليَدَينِ والعَيْنِ كتَأويلِ صِفةِ النُّزولِ وغَيْرِها.
3- القُرْبُ مِن مَذهَبِ المُعْتَزِلةِ أَكثَرَ مِمَّن سَبَقَه مِن الأشاعِرةِ، ومِن الشَّواهِدِ على ذلك أنَّ الجُوَيْنيَّ لمَّا شَرَحَ مَذهَبَ الأشاعِرةِ في مَسْألةِ كَلامِ اللهِ قَرَّرَ أنَّ المَذهَبَ الأشْعَريَّ لا يُعارِضُ مَذهَبَ المُعْتَزِلةِ؛ لأنَّهما يَتَّفِقانِ على أنَّ كَلامَ اللهِ بغَيْرِ صَوْتٍ ولا حَرْفٍ، وإنَّما الخِلافُ معَ المُعْتَزِلةِ في كَوْنِهم لا يُثبِتونَ الكَلامَ النَّفْسيَّ الَّذي يُثبِتُه الأشاعِرةُ.
4- صِلتُه بالفَلْسَفةِ: اطَّلَعَ الجُوَيْنيُّ على كَثيرٍ مِن كُتُبِ الفَلاسِفةِ، وتَأثَّرَ بها في تَأصيلِ المَذهَبِ الأشْعَريِّ في بُحوثِه الكَلامِيَّةِ.
5- إدْخالُ عِلمِ المَنطِقِ وعِلمِ الكَلامِ في عِلمِ أُصولِ الفِقْهِ، وقدْ تَأثَّرَ بمَنهَجِه هذا مَن جاءَ بَعْدَه مِن الأشاعِرةِ وغَيْرِهم؛ كالغَزاليِّ، والرَّازِيِّ، والآمِدِيِّ [101] يُنظر: ((موقف ابن تَيْمِيَّةَ من الأشاعِرة)) للمحمود (2/ 600 - 621). .
قال ابنُ تيميَّةَ عن أبي المعالي الجُوَينيِّ: (غيَّر مذهَبَ الأشعريِّ في كثيرٍ من القواعِدِ، ومال إلى قَولِ المُعتَزِلةِ؛ فإنَّه كان كثيرَ المُطالعةِ لكُتُبِ أبي هاشمِ بنِ الجُبَّائيِّ، وكان قليلَ المعرفةِ بمعاني الكتابِ والسُّنَّةِ، وكلامِ السَّلَفِ والأئمَّةِ، مع براعتِه وذكائِه في فنِّه) [102] ((بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية)) (5/ 507). ويُنظر: ((بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية)) (3/ 540). .
وقال أيضًا: (عامَّةُ أُصولِ أهلِ البِدَعِ والأهواءِ الخارجينَ عن الكِتابِ والسُّنَّةِ مبنيَّةٌ على نوعٍ من القياسِ الذي وضَعوه، يعارِضونَ به ما جاءت به الرُّسُلُ، ونوعٍ من الإجماعِ الذي يدَّعونَه، فيُرَكِّبون من ذلك القياسِ العَقليِّ ومن هذا الإجماعِ السَّمعيِّ الذي يزعُمونَه أصلَ دينهِم؛ ولهذا تجِدُ أبا المعالي -وهو أحذَقُ المتأخِّرينَ- إنَّما يَعتَمِدُ فيما يدَّعيه من القواطِعِ على نحوِ ذلك) [103] ((التسعينية)) (2/ 631) بتصرُّف. ويُنظر: ((المدارس الأشعرية)) للشهري (ص: 374 - 379). .
12- أبو حامِدٍ مُحَمَّدُ بنُ مُحَمَّدٍ الغَزاليُّ (ت 505 هـ)
قال أبو عَمرِو بنُ الصَّلاحِ الشَّافعيُّ في ترجمتِه للغزاليِّ: (أتى بخَلطِه المَنطِقَ بأصولِ الفِقهِ بِدعةً عَظُم شُؤمُها على المتفَقِّهةِ، حتى كَثُر بعد ذلك فيهم المُتفلسِفةُ، واللهُ المستعانُ! ولأبي عبدِ اللهِ المازريِّ الفقيهِ المتكَلِّمِ الأصوليِّ -وكان إمامًا محقِّقًا بارعًا في مذهبَي مالِكٍ والأشعريِّ، وله تصانيفُ في فُنونٍ- رسالةٌ يذكُرُ فيها حالَ الغزاليِّ وحالَ كتابِه "الإحياء"، أصدَرها في حياةِ الغَزاليِّ، فذكَرَ فيها ما اختصارُه: أنَّ الغزاليَّ كان قد خاض في علومٍ وصنَّف فيها، واشتَهَر بالإمامةِ في إقليمِه، وبرع حتى تضاءَل له المنازِعون، استبحَر في الفِقهِ، وفي أصولِ الفِقهِ، وهو بالفِقهِ أعرَفُ، وأمَّا أصولُ الدِّينِ فليس بالمُستبحِرِ فيها، شغَله عن ذلك قراءتُه علومَ الفلسفةِ، وكسَبَتْه قراءةُ الفلسفةِ جُرأةً على المعاني، وتسهيلًا للهجومِ على الحقائِقِ؛ لأنَّ الفلاسفةَ تمرُّ مع خواطِرِها، وليس لها شرعٌ يردَعُها، ولا تخافُ من مخالفةِ أئمَّةٍ تتبَعُها، فلذلك خامرَه ضَربٌ من الإدلالِ على المعاني، فاسترسَلَ فيها استرسالَ من لا يُبالي بغيرِه! قال: وقد عرَّفني بعضُ أصحابِه أنَّه كان له عكوفٌ على قراءةِ رسائِلِ إخوانِ الصَّفا، وهذه الرَّسائلُ إحدى وخمسون رسالةً، كُلُّ رسالةٍ مُستقِلَّةٌ بنفسِها، وقد ظُنَّ في مؤلِّفِها ظُنونٌ، وفي الجُملةِ هو رجلٌ فيلسوفٌ قد خاض في عُلومِ الشَّرعِ، فمَزَج ما بين العِلمَينِ، وحسَّن الفلسفةَ في قُلوبِ أهلِ الشَّرعِ بآياتٍ وأحاديثَ يَذكُرُها عندها، ثمَّ إنَّه كان في هذا الزَّمانِ المتأخِّرِ فيلسوفٌ يُعرَفُ بابنِ سينا، ملأ الدُّنيا تواليفَ في عُلومِ الفلسفةِ، وكان ينتمي إلى الشَّرعِ، ويتحلَّى بحِليةِ المُسلِمينَ، وأدَّاه قُوَّتُه في عِلمِ الفلسفةِ إلى أن تلطَّف جُهدَه في ردِّ أصولِ العقائِدِ إلى عِلمِ الفلاسِفةِ، وتمَّ له من ذلك ما لم يتِمَّ لغيرِه من الفلاسفةِ، ووجَدْتُ هذا الغزاليَّ يُعوِّلُ عليه في أكثَرِ ما يشيرُ إليه في علومِ الفلسفةِ، حتَّى إنَّه في بعضِ الأحايينِ ينقِلُ نصَّ كلامِه من غيرِ تغييرٍ، وأحيانًا يُغيِّرُه بنَقلِه إلى الشَّرعيَّاتِ أكثَرَ من نقلِ ابنِ سينا؛ لكونِه أعلمَ بأسرارِ الشَّرعِ منه؛ فعلى ابنِ سينا ومؤلِّفِ رسائِلِ إخوانِ الصَّفا عوَّل الغزاليُّ في عِلمِ الفَلسفةِ) [104] ((طبقات الفقهاء الشافعية)) (1/ 254 - 257). .
وقالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ: (كانَ أبو حامِدٍ يَنقُلُ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وعن الصَّحابةِ والتَّابِعينَ مِن الأكاذيبِ ما لا يُحْصيه إلَّا اللهُ! ولم يكُنْ مِمَّن يَتَعمَّدُ الكَذِبَ؛ فإنَّه كانَ أَجَلَّ قَدْرًا مِن ذلك، وكانَ مِن أَعظَمِ النَّاسِ ذَكاءً، وطَلَبًا للعِلمِ، وبَحْثًا عن الأمورِ، وكانَ مِن أَعظَمِ النَّاسِ قَصْدًا للحَقِّ، وله مِن الكَلامِ الحَسَنِ المَقْبولِ أشْياءُ عَظيمةٌ بَليغةٌ، ومِن حُسْنِ التَّقْسيمِ والتَّرْتيبِ ما هو به مِن أَحسَنِ المُصَنِّفينَ، لكنْ لِكَوْنِه لم يَصِلْ إلى ما جاءَ به الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن الطُّرُقِ الصَّحيحةِ كانَ يَنقُلُ ذلك بحَسَبِ ما بَلَغَه) [105] ((بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكَلامِيَّة)) (6/ 126) باختِصارٍ. .
وقال أيضًا: (الغزاليُّ في كلامِه مادَّةٌ فلسفيَّةٌ كبيرةٌ بسَبَبِ كلامِ ابنِ سينا في «الشِّفا» وغيرِه، ورسائِلِ إخوانِ الصَّفا، وكلامِ أبي حيَّانَ التَّوحيديِّ، وأمَّا المادَّةُ المُعتَزِليَّةُ في كلامِه فقليلةٌ أو معدومةٌ، وكلامُه في «الإحياء» غالِبُه جَيِّدٌ، لكِنْ فيه موادُّ فاسدةٌ: مادَّةٌ فلسفيَّةٌ، ومادَّةٌ كلاميَّةٌ، ومادَّةٌ من تُرَّهاتِ الصُّوفيَّةِ، ومادَّةٌ من الأحاديثِ الموضوعةِ) [106] ((مجموع الفتاوى)) (6/ 54) باختصار. .
وقال ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (هؤلاء الذين لا يَعرِفونَ الأحاديثَ الصَّحيحةَ من الضَّعيفةِ، ولا يَعرِفونَ دلالةَ الألفاظِ حتَّى يميِّزوا ما هو تأويلٌ مخالِفٌ للظَّاهِرِ وما ليس تأويلًا مخالِفًا للظَّاهِرِ، فلقِلَّةِ معرفتِهم بأعلامِ الهُدى -وهي ألفاظُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- ووَجهِ دَلالتِها، يقَعونَ في الحَيرةِ والاضطرابِ، حتَّى لا يُميِّزوا بينَ ما يُقبَلُ من كلامِ الفلاسفةِ والمتكلِّمينَ وما يُرَدُّ، بل تارةً يوافِقونَهم، وتارةً يُخالِفونَهم، وتارةً يُكفِّرونَهم، فهم دائمًا متناقِضونَ، في قَولٍ مختَلِفٍ، يؤفَكُ عنه مَن أُفِك، وأبو حامِدٍ من خيارِهم وأعلَمِهم وأديَنِهم، وهو مع هذا يُكَفِّرُ الفلاسفةَ فضلًا عن أن يُضلِّلَهم تارةً، وتارةً يجعَلُ ما كفَّرهم به من العِلمِ المضنونِ به على غيرِ أهلِه، ويُضلِّلُ المتكَلِّمينَ تارةً، ويجعَلُ طريقَهم ليس فيها بيانٌ للحقِّ، وتارةً يجعلُها عُمدتَه وأصلَه الذي يُضلِّلُ مَن خالفه، وكذلك تارةً يقولُ في الصُّوفيَّةِ الأقوالَ المُتناقِضةَ؛ فتارةً يجعَلُهم خاصَّةَ الأمَّةِ، ويُفضِّلُهم على الفُقَهاءِ، وتارةً يمنَعُ إعطاءَهم الزَّكاةَ، ويوجِبُ عليهم الاكتسابَ، مع إباحتِه إعطاءَ الزَّكاةِ للمُتفَقِّهةِ، وإن كان في آخرِ عُمُرِه مال إلى طريقةِ أهلِ الحديثِ، وكان كثيرَ المُطالَعةِ لصحيحِ البخاريِّ، وبذلك خُتِم عمَلُه، وعليه مات، وهو أفضَلُ أحوالِه، واللهُ تعالى يغفِرُ لنا ولسائِرِ إخوانِنا الذين سبَقونا بالإيمانِ، ولا يجعَلْ في قلوبِنا غِلًّا للذين آمنوا، ربَّنا إنَّك رؤوفٌ رحيمٌ، ومع هذا فأبو حامدٍ لم يُعرَفْ في كلامِه خروجٌ إلى الشِّركِ وعبادةِ الأوثانِ، بل غايةُ ما ينتهي إليه ضلالُ الصَّابئينَ من المُتفلسِفةِ ونحوِهم) [107] ((بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية)) (6/ 132 - 134). .
وقالَ الذَّهَبيُّ: (الشَّيْخُ، الإمامُ، البَحْرُ، حُجَّةُ الإسْلامِ، أُعْجوبةُ الزَّمانِ، زَيْنُ الدِّينِ، أبو حامِدٍ، مُحَمَّدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ أَحْمَدَ الطُّوسِيُّ، الشَّافِعيُّ، الغَزاليُّ، صاحِبُ التَّصانيفِ والذَّكاءِ المُفرِطِ. تَفَقَّهَ ببَلَدِه أوَّلًا، ثُمَّ تَحَوَّلَ إلى نَيْسابورَ في مُرافَقةِ جَماعةٍ مِن الطَّلَبةِ، فلازَمَ إمامَ الحَرَمَينِ، فبَرَعَ في الفِقْهِ في مُدَّةٍ قَريبةٍ، ومَهَرَ في الكَلامِ والجَدَلِ، حتَّى صارَ عَيْنَ المُناظِرينَ، وأعادَ للطَّلَبةِ، وشَرَعَ في التَّصْنيفِ، ثُمَّ سارَ أبو حامِدٍ إلى المُخَيَّمِ السُّلْطانيِّ، فأَقبَلَ عليه نِظامُ المُلْكِ الوَزيرُ، وسُرَّ بوُجودِه، وناظَرَ الكِبارَ بحَضْرتِه، فانْبَهَرَ له، وشاعَ أمْرُه، فوَلَّاه النِّظامُ تَدْريسَ نِظاميَّةِ بَغْدادَ، فقَدِمَها بَعْدَ الثَّمانينَ وأرْبَعِمِئةٍ، وسِنُّه نَحْوُ الثَّلاثينَ، وأخَذَ في تَأليفِ الأُصولِ والفِقْهِ والكَلامِ والحِكْمةِ، وأَدخَلَه سَيَلانُ ذِهْنِه في مَضايِقِ الكَلامِ، ومَزالِّ الأقْدامِ، وللهِ سِرٌّ في خَلْقِه، وعَظُمَ جاهُ الرَّجُلِ، وازْدادَتْ حِشْمتُه، بحيثُ إنَّه في دَسْتِ أَميرٍ، وفي رُتْبةِ رَئيسٍ كَبيرٍ، فأدَّاه نَظَرُه في العُلومِ ومُمارَستُه لأفانينِ الزُّهْدِيَّاتِ إلى رَفْضِ الرِّئاسةِ، والإنابةِ إلى دارِ الخُلودِ، والتَّألُّهِ، والإخْلاصِ، وإصْلاحِ النَّفْسِ، فحَجَّ مِن وَقْتِه، وزارَ بَيْتَ المَقدِسِ، وألَّفَ كِتابَ الإحْياءِ، وراضَ نفْسَه وجاهَدَها، وطَرَدَ شَيْطانَ الرُّعونةِ، ولَبِسَ زِيَّ الأتْقِياءِ، ثُمَّ بَعْدَ سَنَواتٍ سارَ إلى وَطَنِه لازِمًا لسَنَنِه، حافِظًا لوَقْتِه، مُكِبًّا على العِلمِ. قالَ عَبْدُ الغافِرِ الفارِسيُّ: وكانَتْ خاتِمةُ أمْرِه إقْبالَه على طَلَبِ الحَديثِ، ومُجالَسةِ أهْلِه، ومُطالَعةِ الصَّحيحَينِ، ولو عاشَ لسَبَقَ الكلَّ في ذلك الفَنِّ بيَسيرٍ مِن الأيَّامِ. قالَ أبو بَكْرِ بنُ العَرَبيِّ: شَيْخُنا أبو حامِدٍ بَلَعَ الفَلاسِفةَ، وأرادَ أن يَتَقيَّأَهم، فما اسْتَطاعَ. وقالَ القاضي عِياضٌ: الشَّيْخُ أبو حامِدٍ غَلا في طَريقةِ التَّصوُّفِ، وتَجرَّدَ لنَصْرِ مَذهَبِهم، وصارَ داعِيةً في ذلك، وألَّفَ فيه تَواليفَه المَشْهورةَ، أُخِذَ عليه فيها مَواضِعُ، وساءَتْ به ظُنونُ أُمَّةٍ، واللهُ أَعلَمُ بسِرِّه، ونَفَذَ أمْرُ السُّلْطانِ عنْدَنا بالمَغرِبِ وفَتْوى الفُقَهاءِ بإحْراقِها والبُعْدِ عنها، فامْتَثَلَ ذلك. قُلْتُ: ما زالَ العُلَماءُ يَخْتلِفونَ ويَتَكلَّمُ العالِمُ في العالِمِ باجْتِهادِه، وكلٌّ مِنهم مَعْذورٌ مَأجورٌ، ومَن عانَدَ أو خَرَقَ الإجْماعَ فهو مَأزورٌ، وإلى اللهِ تَرجِعُ الأمورُ. قد ألَّفَ الرَّجُلُ في ذَمِّ الفَلاسِفةِ كِتابَ التَّهافُتِ، وكَشَفَ عَوارَهم، ووافَقَهم في مَواضِعَ ظَنًّا مِنه أنَّ ذلك حَقٌّ، أو مُوافِقٌ للمِلَّةِ، ولم يكُنْ له عِلمٌ بالآثارِ، ولا خِبْرةٌ بالسُّنَنِ النَّبَويَّةِ القاضِيةِ على العَقْلِ، وحُبِّبَ إليه إدْمانُ النَّظَرِ في كِتابِ (رَسائِلِ إخْوانِ الصَّفا)، وهو داءٌ عُضالٌ، وجَرَبٌ مُرْدٍ، وسُمٌّ قَتَّالٌ، ولولا أنَّ أبا حامِدٍ مِن كِبارِ الأذْكياءِ وخِيارِ المُخْلِصينَ لتَلِفَ؛ فالحِذارَ الحِذارَ مِن هذه الكُتُبِ، واهْرُبوا بدينِكم مِن شُبَهِ الأوائِلِ، وإلَّا وَقَعْتُم في الحَيْرةِ، فمَن رامَ النَّجاةَ والفَوْزَ فلْيَلزَمِ العُبوديَّةَ، ولْيُدمِنِ الاسْتِغاثةَ باللهِ، ولْيَبتَهِلْ إلى مَوْلاه في الثَّباتِ على الإسْلامِ، وأن يُتَوفَّى على إيمانِ الصَّحابةِ وسادةِ التَّابِعينَ، واللهُ المُوَفِّقُ، فبِحُسْنِ قَصْدِ العالِمِ يُغفَرُ له ويَنْجو إن شاءَ اللهُ. وقالَ أَحْمَدُ بنُ صالِحٍ الجيليُّ في تاريخِه: أبو حامِدٍ لُقِّبَ بالغَزاليِّ، بَرَعَ في الفِقْهِ، وكانَ له ذَكاءٌ وفِطْنةٌ وتَصرُّفٌ وقُدْرةٌ على إنْشاءِ الكَلامِ، وتَأليفِ المَعاني، ودَخَلَ في عُلومِ الأوائِلِ، وغَلَبَ عليه اسْتِعْمالُ عِباراتِهم في كُتُبِه. قالَ ابنُ النَّجَّارِ: أبو حامِدٍ إمامُ الفُقَهاءِ على الإطْلاقِ، ورَبَّانيُّ الأُمَّةِ بالاتِّفاقِ، ومُجْتهِدُ زَمانِه، وعَيْنُ أوانِه، بَرَعَ في المَذهَبِ والأُصولِ والخِلافِ والجَدَلِ والمَنطِقِ، وقَرَأَ الحِكْمةَ والفَلْسفةَ، وفَهِمَ كَلامَهم، وتَصَدَّى للرَّدِّ عليهم، وكانَ شَديدَ الذَّكاءِ، قَوِيَّ الإدْراكِ، ذا فِطْنةٍ ثاقِبةٍ، وغَوْصٍ على المَعاني، قُلْتُ: أمَّا الإحْياءُ ففيه مِن الأحاديثِ الباطِلةِ جُمْلةٌ، وفيه خَيْرٌ كَثيرٌ، لولا ما فيه مِن آدابٍ ورُسومٍ وزُهْدٍ مِن طَرائِقِ الحُكَماءِ، ومُنْحَرِفي الصُّوفيَّةِ، نَسألُ اللهَ عِلمًا نافِعًا، تَدْري ما العِلمُ النَّافِعُ؟ هو ما نَزَلَ به القُرْآنُ، وفَسَّرَه الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَوْلًا وفِعْلًا، ولم يَأتِ نَهْيٌ عنه، قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((مَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليس مِنِّي )) [108] أخرجه البخاري (5063)، ومُسلِم (1401) مُطَوَّلًا من حديثِ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه. ، فعليك يا أخي بتَدَبُّرِ كِتابِ اللهِ، وبإدْمانِ النَّظَرِ في الصَّحيحَينِ وسُنَنِ النَّسائيِّ، ورِياضِ النَّواويِّ وأذْكارِه؛ تُفلِحْ وتَنجَحْ، وإيَّاك وآراءَ عُبَّادِ الفَلاسِفةِ، ووَظائِفَ أهْلِ الرِّياضاتِ، وجوعَ الرُّهْبانِ، وخِطابَ طَيْشِ رُؤوسِ أصْحابِ الخَلَواتِ، فكلُّ الخَيْرِ في مُتابَعةِ الحَنيفيَّةِ السَّمْحةِ، فواغَوْثاه باللهِ، اللَّهُمَّ اهْدِنا إلى صِراطِك المُسْتَقيمِ. قالَ أبو الفَرَجِ ابنُ الجَوْزيِّ: صَنَّفَ أبو حامِدٍ الإحْياءَ، ومَلَأَه بالأحاديثِ الباطِلةِ، ولم يَعلَمْ بُطْلانَها، وتَكلَّمَ على الكَشْفِ، وخَرَجَ عن قانونِ الفِقْهِ) [109] ((سير أعلام النبلاء)) (19/ 322 - 346) باختِصارٍ. .
وقالَ السُّبْكيُّ: (الإمامُ الجَليلُ أبو حامِدٍ الغَزاليُّ، حُجَّةُ الإسْلامِ، ومَحَجَّةُ الدِّينِ الَّتي يُتَوَصَّلُ بها إلى دارِ السَّلامِ، جامِعُ أشْتاتِ العُلومِ، والمُبَرِّزُ في المَنْقولِ مِنها والمَفْهومِ، تَرَكَ الدُّنْيا وَراءَ ظَهْرِه، وأَقبَلَ على اللهِ يُعامِلُه في سِرِّه وجَهْرِه، قَدِمَ نَيْسابورَ، ولازَمَ إمامَ الحَرَمَينِ، وجَدَّ واجْتَهَدَ حتَّى بَرَعَ في المَذهَبِ والخِلافِ والجَدَلِ والأصْلَينِ والمَنطِقِ، وقَرَأَ الحِكْمةَ والفَلْسَفةَ، وأَحكَمَ كلَّ ذلك، وفَهِمَ كَلامَ أرْبابِ هذه العُلومِ، وتَصَدَّى للرَّدِّ على مُبْطليهم، وإبْطالِ دَعاويهم، وصَنَّفَ في كلِّ فَنٍّ مِن هذه العُلومِ كُتُبًا أَحسَنَ تَأليفَها، وأَجادَ وَضْعَها وتَرْصيفَها...، قالَ الحافِظُ أبو القاسِمِ بنُ عَساكِرَ: كانَ إمامًا في عِلمِ الفِقْهِ مَذهَبًا وخِلافًا، وفي أُصولِ الدِّياناتِ، وسَمِعَ صَحيحَ البُخاريِّ مِن أبي سَهْلٍ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللهِ الحَفْصيِّ) [110] ((طبقات الشافعية الكبرى)) (6/ 191 - 214) باختِصارٍ، وقد طوَّلَ السُّبكيُّ ترجمةَ الغزاليِّ، ودافَعَ عنه بما يراه صوابًا، وكِتابُه "طبقاتُ الشَّافعيَّةِ "يعتني فيه السُّبْكيُّ كَثيرًا بتراجِمِ الأشاعِرةِ. .
أثَرُ أبي حامِدٍ الغَزاليِّ في تَطْويرِ المَذهَبِ الأشْعَريِّ [111] يُنظر: ((موقف ابن تَيْمِيَّةَ من الأشاعِرة)) للمحمود (2/ 626 - 644). :
أوَّلًا: يُعَدُّ الغَزاليُّ مِن أَشهَرِ أعْلامِ الأشاعِرةِ الَّذين دافَعوا عن المَذهَبِ الأشْعَريِّ ضِدَّ مُناوِئيه مِن مُخْتلِفِ الطَّوائِفِ، وقدْ سَمَّى أحَدَ كُتُبِه الأشْعَريَّةِ بـ (الاقْتِصاد في الاعْتِقاد)، والغَزاليُّ لم يَأتِ بجَديدٍ فيما يَتَعلَّقُ بمَذهَبِ الأشاعِرةِ، بل جاءَتْ كُتُبُه واسْتِدْلالاتُه مُلَخِّصةً كَلامَ مَن سَبَقَه مِن أعْلامِ الأشاعِرةِ معَ صياغةٍ جَديدةٍ، وأُسْلوبٍ سَهْلٍ، وهو مُكثِرٌ مِن التَّأليفِ، وكُتُبُه اشْتَهَرَتْ شَرْقًا وغَرْبًا، وكانَ لها أَعظَمُ الأثَرِ في نَشْرِ التَّصوُّفِ والعَقيدةِ الأشْعَريَّةِ.
والمُلاحَظُ في مَذهَبِ الغَزاليِّ تَرْكيزُه على أمورٍ:
1- القَوْلُ بصِحَّةِ إيمانِ المُقلِّدِ خِلافًا للمَشْهورِ مِن مَذهَبِ جُمْهورِ الأشاعِرةِ.
2- تَأكيدُ إنْكارِ السَّبَبيَّةِ، وهي مَسْألةٌ مَشْهورةٌ في المَذهَبِ الأشْعَريِّ، وكانَ لِهذا تَأثيرٌ كَبيرٌ في الفِكْرِ الصُّوفيِّ بَعْدَ الغَزاليِّ حينَ أَصْبَحَتْ الكَراماتُ والخَوارِقُ المَزْعومةُ للأَوْلياءِ مَقْبولةً مَهْما كانَ فيها مِن مُخالَفةٍ للشَّرْعِ والعَقْلِ.
3- القَوْلُ بقانونِ التَّأويلِ الكَلاميِّ حينَ يُتَوَهَّمُ التَّعارُضُ بَيْنَ العَقْلِ والنَّقْلِ، وقدْ تَأثَّرَ بِهذا القانونِ جَمْهَرةُ الأشاعِرةِ بَعْدَ الغَزاليِّ، وصارَ هذا القانونُ أحَدَ رَكائِزِ العَقيدةِ الأشْعَريَّةِ وأَخطَرَها وأَعظَمَها أثرًا، وقدْ أَفرَدَه ابنُ تَيْمِيَّةَ بمُؤَلَّفِه الكَبيرِ (دَرْءُ تَعارُضِ العَقْلِ والنَّقْلِ).
4- رَدُّه على الفَلاسِفةِ معَ تَأثُّرِه بِهم؛ فقدْ ألَّفَ كِتابَه (تَهافُت الفَلاسِفةِ) بَعْدَ أن تَوَسَّعَ في الفَلْسفةِ. وتَقدَّمَ في تَرْجمةِ الغَزاليِّ قَوْلُ تَلْميذِه أبي بَكْرِ بنِ العَرَبيِّ: شَيْخُنا أبو حامِدٍ بَلَعَ الفَلاسِفةَ، وأرادَ أن يَتَقَيَّأَهم، فما اسْتَطاعَ!
ثانِيًا: مَنهَجُ الشَّكِّ عنْدَ الغَزاليِّ تَمَثَّلَ في أَمْرَينِ:
أحَدُهما: شَكٌّ عَمَليٌّ، وهو ما سَطَّرَه بوُضوحٍ في كِتابِه (المُنْقِذ مِن الضَّلالِ)، فشَرَحَ ما جَرى له، وسَمَّاه داءً ومَرَضًا.
والثَّاني: شَكٌّ مَنْهَجيٌّ، قالَ الغَزاليُّ في آخِرِ كِتابِه (ميزانِ العَمَلِ): (اطْلُبِ الحَقَّ بطَريقِ النَّظَرِ لتكونَ صاحِبَ مَذهَبٍ، ولا تكنْ في صورةِ أَعْمى تُقلِّدُ قائِدًا يُرْشِدُك إلى الطَّريقِ وحَوالَيك ألْفٌ مِثلُ قائِدِك يُنادونَ عليك بأنَّه أَهلَكَك وأَضَلَّك عن سَواءِ السَّبيلِ، وستَعلَمُ في عاقِبةِ أمْرِك ظُلْمَ قائِدِك، فلا خَلاصَ إلَّا في الاسْتِقلالِ... ولو لم يكُنْ في مَجاري هذه الكَلِماتِ إلَّا ما يُشَكِّكُ في اعْتِقادِك المَوْروثِ لتُنْتَدَبَ للطَّلِبِ، فناهيك به نَفْعًا؛ إذ الشُّكوكَ هي المُوصِلةُ إلى الحَقِّ، فمَن لم يَشُكَّ لم يَنظُرْ، ومَن لم يَنظُرْ لم يُبصِرْ، ومَن لم يُبصِرْ بَقِيَ في العَمى والضَّلالِ، نَعوذُ باللهِ مِن ذلك) [112] ((ميزان العمل)) (ص: 409). ، وهذا الشَّكُّ هو الَّذي يُذكَرُ في أوَّلِ واجِبٍ على المُكلَّفِ، هل هو النَّظَرُ أو القَصْدُ إلى النَّظَرِ أو الشَّكُّ، وإذا كانَ الأوَّلُ والثَّاني قد أخَذَ به بعضُ الأشاعِرةِ فإنَّ الثَّالِثَ -وهو الشَّكُّ- إنَّما يُؤْثَرُ القَوْلُ به عن أبي هاشِمٍ الجُبَّائيِّ المُعْتَزِليِّ.
ثالِثًا: تَصوُّفُ الغَزاليِّ وفَلْسفتُه
بقَدْرِ اشْتِهارِ الغَزاليِّ بأشْعَريَّتِه اشْتَهَرَ بتَصَوُّفِه؛ فهو يُمَثِّلُ مَرْحلةً مِن مَراحِلِ امْتِزاجِ التَّصوُّفِ بالمَذهَبِ الأشْعَريِّ حتَّى كادَ أن يكونَ جُزْءًا مِنه.
والغَزاليُّ على تَوَسُّعِه في العُلومِ العَقْلِيَّةِ لم يكُنْ مُتَوَسِّعًا في السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ [113] وقد صَرَّح الغزاليُّ بذلك في آخِرِ كِتابِه (قانون التَّأويل) فقال: (بضاعَتي في عِلْمِ الحَديثِ مُزْجاةٌ) ((قانون التَّأويل)) (ص: 30). ، وما أَكثَرَ الأحاديثَ المَوْضوعةَ والباطِلةَ والضَّعيفةَ الَّتي يَذكُرُها في كُتُبِه! بلْ إنَّه في كِتابِه (المَواعِظ في الأحاديثِ القُدْسيَّةِ) ذَكَرَ 38 حَديثًا قُدْسيًّا لا يَصِحُّ مِنها حَديثٌ واحِدٌ!
قالَ تِلْميذُه أبو بَكْرِ بنُ العَرَبيِّ: (كانَ أبو حامِدٍ تاجًا في هامةِ اللَّيالي، وعِقْدًا في لَبَّةِ المَعالي، حتَّى أَوغَلَ في التَّصوُّف، وأَكثَرَ معَهم التَّصرُّف، فخَرَجَ على الحَقيقة، وحادَ في أَكثَرِ أحْوالِه عن الطَّريقة، وجاءَ بألْفاظٍ لا تُطاق، ومَعانٍ ليس لها معَ الشَّريعةِ انْتِظامٌ ولا اتِّساق، فكانَ عُلَماءُ بَغْدادَ يَقولونَ: لقد أصابَتِ الإسْلامَ فيه عَيْنٌ، فإذا ذَكَروه جَعَلوه في حَيِّزِ العَدَم، وقَرَعوا عليه السِّنَّ مِن نَدَم، وقاموا في التَّأسُّفِ عليه على قَدَم، فإذا لَقِيتَه رَأيْتَ رَجُلًا قد عَلا في نفْسِه، ابنَ وَقْتِه، لا يُبالي بغَدِه ولا أمْسِه، فواحَسْرتي عليه!) [114] ((العواصم من القواصم)) (ص: 78). .
وقالَ الذَّهَبيُّ: (لِلغَزاليِّ غَلَطٌ كَثيرٌ، وتَناقُضٌ في تَواليفِه العَقْلِيَّةِ، ودُخولٌ في الفَلْسَفةِ، وشُكوكٌ، ومَن تَأمَّلَ كُتُبَه العَقْلِيَّةَ رأى العَجائِبَ، وكانَ مَزْجِيَّ البِضاعةِ مِن الآثارِ، على سَعةِ عُلومِه، وجَلالةِ قَدْرِه، وعَظمتِه) [115] ((تاريخ الإسلام)) (11/ 71). .
ولا يُنكِرُ المُنصِفُ مَحاسِنَه وفَضائِلَه، وكلٌّ يُؤخَذُ مِن قَوْلِه ويُرَدُّ إلا نَبيَّنا مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وللهِ الأمْرُ مِن قَبْلُ ومِن بَعْدُ.
قالَ الذَّهَبيُّ: (غُلاةُ المُعْتَزِلةِ، وغُلاةُ الشِّيعةِ، وغُلاةُ الحَنابِلةِ، وغُلاةُ الأشاعِرةِ، وغُلاةُ المُرْجِئةِ، وغُلاةُ الجَهْميَّةِ، وغُلاةُ الكَرَّاميَّةِ قد ماجَتْ بِهم الدُّنْيا وكَثُروا، وفيهم أذْكياءُ وعُبَّادٌ وعُلَماءُ، نَسأَلُ اللهَ العَفْوَ والمَغْفِرةَ لأهْلِ التَّوْحيدِ، ونَبرَأُ إلى اللهِ مِن الهَوى والبِدَعِ، ونُحِبُّ السُّنَّةَ وأهْلَها، ونُحِبُّ العالِمَ على ما فيه مِن الاتِّباعِ والصِّفاتِ الحَميدةِ، ولا نُحِبُّ ما ابْتَدَعَ فيه بتَأويلٍ سائِغٍ، وإنَّما العِبْرةُ بكَثْرةِ المَحاسِنِ) [116] ((سير أعلام النبلاء)) (20/ 45). .
13- ابنُ تُومَرْتَ (ت 524 هـ)
قالَ الذَّهَبيُّ: (مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ تُومَرْتَ، المُلَقِّبُ نفْسَه بالمَهْدِيِّ المَغرِبيُّ، صاحِبُ دَعْوةِ السُّلْطانِ عَبْدِ المُؤمِنِ مَلِكِ المَغْرِبِ، كانَ يَدَّعي أنَّه حَسَنيٌّ عَلَويٌّ، وهو مِن جَبَلِ السُّوسِ في أَقْصى المَغْرِبِ، نَشَأَ هناك ثُمَّ رَحَلَ إلى المَشْرِقِ لطَلَبِ العِلمِ، ولَقِيَ أبا حامِدٍ الغَزاليَّ، وجاوَرَ بمَكَّةَ، وحَصَّلَ طَرَفًا جَيِّدًا مِن العِلمِ، وكانَ مُتَوَرِّعًا مُتَنَسِّكًا، مَهيبًا مُتَقَشِّفًا مُخْشَوشِنًا، أمَّارًا بالمَعْروفِ، كَثيرَ الإطْراقِ، مُتَعَبِّدًا، يَتَبَسَّمُ إلى مَن لَقِيَه، ولا يَصحَبُه مِن الدُّنْيا إلَّا عصًا ورِكْوةٌ، وكانَ شُجاعًا جَريئًا عاقِلًا، بَعيدَ الغَوْرِ، فَصيحًا في العَربيِّ والمَغرِبيِّ، قد طُبِعَ على النَّهْيِ عن المُنكَرِ، مُتَلَذِّذًا به، مُتَحَمِّلًا المَشَقَّةَ والأذِيَّةَ فيه، أُوذِيَ بمَكَّةَ لِذلك فخَرَجَ إلى مِصْرَ، وبالَغَ في الإنْكارِ فزادوا في أذاه وطَرْدِه، وكانَ إذا خافَ مِن البَطْشِ وإيقاعِ الفِعْلِ به خَلَطَ في كَلامِه ليَظُنُّوه مَجْنونًا، فخَرَجَ إلى الإسْكَنْدريَّةِ، فأقامَ بِها مُدَّةً، ورَكِبَ البَحْرَ إلى بِلادِه، فلمَّا رَكِبَ السَّفينةَ شَرَعَ يُنكِرُ، وألْزَمَهم بالصَّلاةِ والتِّلاوةِ، فلمَّا انْتَهى إلى المَهْدِيَّةِ نَزَلَ بها في مَسجِدٍ على الطَّريقِ، وكانَ يَجلِسُ في طاقتِه، فلا يَرى مُنكَرًا مِن آلةِ المَلاهي أو أواني الخُمورِ إلَّا نَزَلَ وكَسَرَها، فتَسامَعَ به النَّاسُ وجاؤوا إليه، وقَرؤوا عليه كُتُبًا في أُصولِ الدِّيانةِ، ثُمَّ نَزَحَ عن البَلَدِ إلى بِجايةَ، فأقامَ بها يُنكِرُ كدَأبِه، فأُخرِجَ مِنها إلى قَريةِ مَلَّالةَ، فوَجَدَ بها عَبْدَ المُؤمِنِ بنَ علِيٍّ القَيْسيَّ، ثُمَّ اسْتَقَرَّ في تِينمَلَّلَ، وجاءَ النَّاسُ يَتَبَرَّكونَ به، وكانَ كلُّ مَن أتاه اسْتَدْناه، وعَرَضَ عليه ما في نفْسِه مِن الخُروجِ، فإن أجابَه أضافَه إلى خَواصِّه، وإن خالَفَه أَعرَضَ عنه، وكانَ يَسْتَميلُ الشَّبابَ الأغْمارَ، وكَثُرَ أتْباعُه مِن أهْلِ الجِبالِ. قالَ اليَسَعُ بنُ حَزْمٍ: لا أَعلَمُ مَدينةً أَحصَنَ مِن تِينمَلَّلَ؛ لأنَّها بَيْنَ جَبَلَينِ، ولا يَسَعُ الطَّريقُ إليها إلَّا الفارِسَ، وقدْ يَنزِلُ عن فَرَسِه في أماكِنَ صَعْبةٍ، وفيها مَواضِعُ لا يُعبَرُ فيها إلَّا على خَشَبٍ، فإذا أُزيلَتْ خَشَبةٌ لم يَمُرَّ أحَدٌ، وهذه الطَّريقُ مَسافةُ يَوْمٍ، فأخَذَ أتْباعُه يُغيرونَ على النَّواحي سَبْيًا وقَتْلًا، وتَقَوَّوا وكَثُروا، ثُمَّ إنَّه غَدَرَ بأهْلِ تِينمَلَّلَ الَّذين آووه ونَصَروه، وأمَرَ أصْحابَه فقَتَّلوا فيهم مَقْتَلةً عَظيمةً، قاتَلَه اللهُ!
وكانَ في وَصِيَّتِه إلى قَوْمِه إذا ظَفِروا بمُرابِطٍ أو أحَدٍ مِن تِلِمْسانَ أن يُحَرِّقوه! نَقَلَ عَبْدُ الواحِدِ المَرَّاكُشيُّ في كِتابِ (المُعجِبِ) أنَّ ابنَ تُومَرْتَ رَحَلَ إلى بَغْدادَ، فأخَذَ الأُصولَ عن أبي بَكْرٍ الأُصوليِّ الشَّاشيِّ، وسَمِعَ مِن ابنِ الطُّيوريِّ...، وعَظُمَ شَأنُه بتِلِمْسانَ إلى أن انْفَصَلَ عنها، وقدِ اسْتَحْوَذَ على قُلوبِ كُبَرائِها، فأتى فاسَ، وأَظهَرَ الأمْرَ بالمَعْروفِ، وكانَ جُلُّ ما يَدْعو إليه عِلمَ الاعْتِقادِ على طَريقةِ الأشْعَريَّةِ، وكانَ أهْلُ المَغْرِبِ يُنافِرونَ هذه العُلومَ، ويُعادونَ مَن ظَهَرَتْ عليه، فجَمَعَ والي فاسَ الفُقَهاءَ له، فناظَرَهم، فظَهَرَ عليهم؛ لأنَّه وَجَدَ جَوًّا خالِيًا، وناسًا لا عِلمَ لهم بالكَلامِ، فأشاروا على المُتَوَلِّي بإخْراجِه، فسارَ إلى مَرَّاكُشَ، ثُمَّ نَزَلَ تِينمَلَّلَ، ومِن هذا المَوضِعِ قامَ أمْرُه، وبه قَبْرُه، فلمَّا نَزَلَه اجْتَمَعَ إليه وُجوهُ المَصامِدةِ، فشَرَعَ في بَثِّ العِلمِ والدُّعاءِ إلى الخَيْرِ، وكَتَمَ أمْرَه، وصَنَّفَ لهم عَقيدةً بلِسانِهم، وعَظُمَ في أَعيُنِهم، وأَحَبَّتْه قُلوبُهم، وأخَذَ يَذكُرُ المَهْدِيَّ ويُشَوِّقُ إليه، وجَمَعَ الأحاديثَ الَّتي جاءَتْ في فَضْلِه، فلمَّا قَرَّرَ عنْدَهم عَظَمةَ المَهْدِيِّ ونَسَبَه ونَعْتَه، ادَّعى ذلك لنَفْسِه، وقالَ: أنا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ، وسَرَدَ له نَسَبًا إلى علِيٍّ عليه السَّلامُ، وصَرَّحَ بدَعْوى العِصْمةِ لنفْسِه، وأنَّه المَهْدِيُّ المَعْصومُ، وبَسَطَ يَدَه للمُبايَعةِ فبايَعوه، ثُمَّ صَنَّفَ لهم تَصانيفَ في العِلمِ؛ مِنها كِتابٌ سَمَّاه: (أَعَزَّ ما يُطلَبُ)، وعَقائِدَ على مَذهَبِ الأشْعَريِّ في أَكثَرِ المَسائِلِ إلَّا في إثْباتِ الصِّفاتِ؛ فإنَّه وافَقَ المُعْتَزِلةَ في نَفْيِها، وفي مَسائِلَ قَليلةٍ غَيْرِها، وكانَ يُبطِنُ شَيئًا مِن التَّشَيُّعِ، وعَظُمَتْ فِتْنةُ القَوْمِ به، وبالَغوا في طاعتِه، إلى أن بَلَغوا حَدًّا لو أمَرَ أحَدَهم بقَتْلِ أبيه أو أخيه أو ابنِه لقَتَلَه! وسَهَّلَ ذلك عليهم ما في طِباعِهم مِن القَسْوةِ المَعْهودةِ في أهْلِ الجِبالِ، لا سِيَّما المَغارِبةِ البَرْبَرِ؛ فإنَّهم جُبِلوا على الإقْدامِ على الدِّماءِ. قالَ: وقَوِيَ أمْرُ ابن تُومَرْتَ في سَنَةِ خَمْسَ عَشْرةَ وخَمْسِمِئةٍ، فلمَّا كانَ في سَنَةِ سَبْعَ عَشْرةَ جَهَّزَ جَيْشًا مِن المَصامِدةِ، جُلُّهم مِن أهْلِ تِينمَلَّلَ والسُّوسِ، وقالَ لهم: اقْصِدوا هؤلاء المارِقينَ المُبَدِّلينَ الَّذين تَسَمَّوا بالمُرابِطينَ، فادْعُوهم إلى إماتةِ المُنكَرِ، وإزالةِ البِدَعِ، والإقْرارِ بالإمامِ المَهْدِيِّ المَعْصومِ، فإن أجابوكم فهُمْ إخوانُكم، وإلَّا فقاتِلوهم، وقدْ أباحَتْ لكم السُّنَّةُ قِتالَهم، وقَدِمَ عليهم عَبْدُ المُؤمِنِ، فسارَ بهم قاصِدًا مَرَّاكُشَ، فانْهَزَمَ المَصامِدةُ، وقُتِلَ مِنهم مَقْتلةٌ كَبيرةٌ، ونَجا عَبْدُ المُؤمِنِ، فلمَّا بَلَغَ الخَبَرُ ابنَ تُومَرْتَ أخَذَ يُهَوِّنُ عليهم، ويُقرِّرُ عنْدَهم أنَّ قَتْلاهم شُهَداءُ، فزادَهم حِرْصًا على الحَرْبِ. وقالَ الأَميرُ عَزيزٌ في أخْبارِ القَيْروانِ: إنَّ ابنَ تُومَرْتَ سَمَّى أتْباعَه بالمُوَحِّدينَ، والمُخالِفينَ أمْرَه: مُجَسِّمينَ، وقالَ اليَسَعُ بنُ حَزْمٍ: سمَّى ابنُ تُومَرْتَ أتْباعَ المُرابِطينَ مُجَسِّمينَ، وما كانَ أهْلُ المَغرِبِ يَدينونَ إلَّا بتَنْزيهِ اللهِ تَعالى عمَّا لا يَجِبُ له، وصِفتِه بما يَجِبُ له، وتَرْكِ الخَوْضِ فيما تَقصُرُ العُقولُ عن فَهْمِه، وكانَ عُلَماءُ المَغرِبِ يُعَلِّمونَ العامَّةَ أنَّ اللَّازِمَ لهم أنَّ اللهَ ليس كمِثلِه شيءٌ وهو السَّميعُ البَصيرُ، فكَفَّرَهم ابنُ تُومَرْتَ، وحَصَلَ له في نُفوسِ أتْباعِه مِن التَّصْديقِ والبَرَكةِ ما لا يَحوزُه الوَصْفُ! وقالَ عَبْدُ الواحِدِ المَرَّاكُشيُّ: ثُمَّ جَعَلوا يَشُنُّونَ الغاراتِ على قُرى مَرَّاكُشَ، ويَقطَعونَ عنها الجَلَبَ، ويَقتُلونَ ويَسْبونَ الحَريمَ، وكَثُرَ الدَّاخِلونَ في دَعْوتِهم، وابنُ تُومَرْتَ في ذلك كلِّه يُكثِرُ الزُّهْدَ والتَّقَلُّلَ والعِبادةَ. وقالَ ابنُ خَلِّكانَ: حَضَرِتِ ابنَ تُومَرْتَ الوَفاةُ، فأَوْصى أصْحابَه وشَجَّعَهم، وقالَ: العاقِبةُ لكم، وماتَ في سَنَةِ أرْبَعٍ وعِشْرينَ إثْرَ الوَقْعةِ الَّتي انْهَزَمَ فيها أصْحابُه، ودُفِنَ بالجَبَلِ، وقَبْرُه مَشْهورٌ مُعظَّمٌ، وماتَ كَهْلًا، ولم يَتَمَلَّكْ شَيئًا مِن البِلادِ، وإنَّما قَرَّرَ القَواعِدَ ومَهَّدَها، وبَغَتَه المَوْتُ، وكانت الفُتوحاتُ على يَدِ عَبْدِ المُؤمِنِ) [117] ((تاريخ الإسلام)) (11/ 408). .
وقالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ المَحْمودُ: (ابنُ تُومَرْتَ مُؤَسِّسُ دَوْلةِ المُوَحِّدينَ الَّتي قامَتْ على أنْقاضِ دَوْلةِ المُرابِطينَ السُّنِّيَّةِ، بَدَأَ ثَوْرتَه ضِدَّ دَوْلةِ المُرابِطينَ، ورَماهم بالتَّجْسيمِ، وألَّفَ عَقيدتَه المُسمَّاةَ (المُرشِدةَ)، ونَجَحَ في تَأسيسِ دَوْلةِ المُوَحِّدينَ، فاشْتَهَرَ على أنَّه أحَدُ أعْلامِ الأشاعِرةِ، وفَتَحَ البابَ لدُخولِ التَّأويلِ الكَلاميِّ في بِلادِ المَغرِبِ، وكانَ لسُلْطتِه الدَّوْرُ الأَكبَرُ في انْحِسارِ مَذهَبِ السَّلَفِ، وفُشُوِّ مَذاهِبِ المُتَكلِّمينَ، وألَّفَ ابنُ تُومَرْتَ كِتابَ (المُرشِدةِ)، وهي عَقيدةٌ مُخْتَصَرةٌ مُسْتَقاةٌ مِن مَذهَبِ الأشاعِرةِ، معَ تَأثُّرِه بالمُعْتَزِلةِ والشِّيعةِ، وكانَ يَفرِضُ هذه العَقيدةَ على عامَّةِ النَّاسِ) [118] ((موقف ابن تَيْمِيَّةَ من الأشاعِرة)) (2/ 645) باختِصارٍ وتَصَرُّفٍ كَثيرٍ. .
وقالَ مُحَمَّدٌ السُّلَيْمانيُّ في مُقدِّمتِه لكِتابِ (قانون التَّأويلِ): (العَقيدةُ الأشْعَريَّةُ لم تَتمَكَّنْ في المَغرِبِ الإسْلاميِّ إلَّا في القَرْنِ السَّادِسِ، وذلك بمَجيءِ المَهْدِيِّ بنِ تُومَرْتَ الَّذي طَعَنَ على أهْلِ المَغرِبِ في إمْرارِهم المُتَشابِهاتِ كما جاءَتْ، وحَمَلَهم على القَوْلِ بالتَّأويلِ، والأخْذِ بمَذاهِبِ الأشْعَريَّةِ، وألَّفَ في ذلك الرَّسائِلَ البَسيطةَ والعَميقةَ، ويَسَّرَ رَواجَها، حتَّى كانَ لها الظُّهورُ والغَلَبةُ) [119] مقدمة كِتاب ((قانون التَّأويل)) لابن العربي (ص: 42). .
14- القاضي أبو بَكْرِ ابنُ العَرَبيِّ المالِكيُّ، مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ الإشْبيليُّ (ت 543 هـ)
قالَ الذَّهَبيُّ: (الإمامُ أبو بَكْرِ ابنُ العَرَبيِّ، المَعافِريُّ، الأنْدَلُسيُّ، الإشْبيليُّ، الحافِظُ، أحَدُ الأعْلامِ، قالَ ابنُ بَشْكُوالَ: أَخبَرَني أنَّه دَخَلَ الشَّامَ ولَقِيَ بِها أبا بَكْرٍ، مُحَمَّدَ بنَ الوَليدِ الطُّرْطوشيَّ، وتَفَقَّهَ عنْدَه، ولَقِيَ بها جَماعةً مِن العُلَماءِ والمُحَدِّثينَ، وأنَّه دَخَلَ بَغْدادَ، ثُمَّ حَجَّ سَنَةَ تِسْعٍ وثَمانينَ، وسَمِعَ مِن الحُسَيْنِ بنِ علِيٍّ الطَّبَرِيِّ، وعادَ إلى بَغْدادَ، فصَحِبَ أبا بَكْرٍ الشَّاشيَّ، وأبا حامِدٍ الغَزاليَّ، وغَيْرَهما، وتَفَقَّهَ عنْدَهم، ثُمَّ صَدَرَ عن بَغْدادَ، ولَقِيَ بمِصْرَ والإسْكَنْدَريَّةِ جَماعةً، فاسْتَفادَ مِنهم وأفادَهم، وعادَ إلى بَلَدِه سَنَةَ ثَلاثٍ وتِسْعينَ بعِلمٍ كَثيرٍ لم يُدخِلْه أحَدٌ قَبْلَه مِمَّن كانت له رِحْلةٌ إلى المَشرِقِ، وكانَ مِن أهْلِ التَّفَنُّنِ في العُلومِ، والاسْتِبْحارِ فيها، والجَمْعِ لها، مُقَدَّمًا في المَعارِفِ كلِّها، مُتَكلِّمًا في أنْواعِها، نافِذًا في جَميعِها، حَريصًا على أدائِها ونَشْرِها، ثاقِبَ الذِّهْنِ في تَمْييزِ الصَّوابِ مِنها، يَجمَعُ إلى ذلك كلِّه آدابَ الأخْلاقِ معَ حُسْنِ المُعاشَرةِ، ولينِ الكَنَفِ، وكَثْرةِ الاحْتِمالِ، وكَرَمِ النَّفْسِ، وحُسْنِ العَهْدِ، وثَباتِ الوُدِّ، واسْتُقْضِيَ ببَلَدِه، فنَفَعَ اللهُ به أهْلَها لصَرامتِه وشِدَّتِه، ونُفوذِ أحْكامِه، وكانَت له في الظَّالِمينَ سَوْرةٌ مَرْهوبةٌ، ثُمَّ صُرِفَ عن القَضاءِ، وأَقبَلَ على نَشْرِ العِلمِ وبَثِّه، وقالَ ابنُ عَساكِرَ: سَمِعَ أبا الفَتْحِ نَصْرَ بنَ إبْراهيمَ المَقْدِسيَّ، وأبا الفَضْلِ بنَ الفُراتِ، وأبا البَرَكاتِ أَحْمَدَ بنَ طاوُسٍ، وجَماعةً، قُلْتُ: ومِن تَصانيفِه: كِتابُ (عارِضة الأحْوَذيِّ في شَرْحِ التِّرْمِذيِّ)، وكِتابُ (التَّفْسير) في خَمْسِ مُجَلَّداتٍ كِبارٍ، وغَيْرُ ذلك مِن الكُتُبِ في الحَديثِ، والفِقْهِ، والأُصولِ. وكانَ أحْدَ مَن بَلَغَ رُتْبةَ الاجْتِهادِ، وأحَدَ مَن انْفَرَدَ بالأنْدَلُسِ بعُلُوِّ الإسْنادِ، وذَكَرَ ابنُ النَّجَّارِ أنَّه قَرَأَ كُتُبَ الأدَبِ ببَغْدادَ على أبي زَكَرِيَّا التَّبْريزيِّ، وقَرَأَ الفِقْهَ والأَصْلَينِ على الغَزاليِّ، وأبي بَكْرٍ الشَّاشيِّ، وحَصَّلَ الكُتُبَ والأُصولَ، وحَدَّثَ ببَغْدادَ على سَبيلِ المُذاكَرةِ، وصَنَّفَ مُصَنَّفاتٍ كَثيرةً في الحَديثِ، والفِقْهِ، والأُصولِ، وعُلومِ القُرْآنِ، والأدَبِ، والنَّحْوِ، والتَّواريخِ، واتَّسَعَ حالُه، وكَثُرَ إفْضالُه، ومَدَحَه الشُّعَراءُ، وعَمِلَ على إشْبيليةَ سورًا مِن مالِه، ووَلِيَ قَضاءَها، وكانَ مِن الأئِمَّةِ المُقْتَدى بِهم) [120] ((تاريخ الإسلام)) (11/ 834 - 836). .
وقالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ المَحْمودُ: (أبو بَكْرِ بنُ العَرَبيِّ، تَتَلْمَذَ على الغَزاليِّ وتَأثَّرَ به، وإن كانَ قد نَقَدَه في بعضِ المَواضِعِ، بلْ ونَقَدَ بعضَ شُيوخِ الأشاعِرةِ؛ كالأشْعَريِّ، والباقِلَّانيِّ، والجُوَيْنيِّ، لكنَّه معَ ذلك بَقِيَ مُلْتزِمًا بمَذهَبِ الأشاعِرةِ في الصِّفاتِ وغَيْرِها، بلْ ودافَعَ عن مَنهَجِهم، وله «قانون التَّأويلِ» يَنصُرُ فيه المَذهَبَ الأشْعَريَّ.
وقدْ تَمَيَّزَ ابنُ العَرَبيَّ بأمورٍ:
1ـ جُهودُه الكَبيرةُ في الأمْرِ بالمَعْروفِ والنَّهْيِ عن المُنكَرِ، لا سِيَّما في حالِ تَوَلِّيه القَضاءَ.
2ـ كَثْرةُ تَحْقيقاتِه الأُصوليَّةِ، والحَديثيَّةِ، والفِقْهيَّةِ.
3ـ دَوْرُه العَظيمُ في الدِّفاعِ عن الصَّحابةِ وما جَرى بَيْنَهم، والرَّدِّ على مُخْتلِفِ الطَّوائِفِ المُنْحرِفةِ عن مَذهَبِ السَّلَفِ في هذا البابِ، كما في كِتابِه القَيِّمِ «العَواصِم مِن القَواصِم» في تَحْقيقِ مَواقِفِ الصَّحابةِ بَعْدَ وَفاةِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [121] ((موقف ابن تَيْمِيَّةَ من الأشاعِرة)) (2/ 647) باختِصارٍ وتَصَرُّفٍ كَثيرٍ. .
رَحِمَ اللهُ القاضيَ ابنَ العَرَبيِّ؛ فقدْ كانَ مُنافِحًا عن السُّنَّةِ رادًّا على أهْلِ البِدَعِ والأهْواءِ إلَّا أنَّه غَفَرَ اللهُ له أَخطَأَ خَطَأً شَنيعًا في دَعْوتِه إلى المَذهَبِ الأشْعَريِّ، ونَشْرِه في بِلادِ الأَنْدَلُسِ والمَغرِبِ العَرَبيِّ، ومِن كَلامِه في ذلك: (الَّذي أراه لكم على الإطْلاقِ أن تَقْتَصِروا على كُتُبِ عُلَمائِنا الأشْعَريَّةِ، وعلى العِباراتِ الإسْلاميَّةِ، والأدِلَّةِ القُرْآنيَّةِ) [122] ((العواصم من القواصم)) (ص: 80). .
15- أبو الفَتْحِ الشَّهْرَسْتانيُّ، مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الكَريمِ (ت 548 هـ)
قالَ الذَّهَبيُّ: (مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الكَريمِ، أبو الفَتْحِ الشَّهْرَسْتانيُّ، المُتَكلِّمُ، ويُلقَّبُ بالأَفضَلِ، كانَ إمامًا مُبَرِّزًا في عِلمِ الكَلامِ والنَّظَرِ، تَفَقَّهَ على أَحْمَدَ الخَوافيِّ، وبَرَعَ في الفِقْهِ، وقَرَأَ الكَلامَ والأُصولَ على أبي نَصْرِ ابنِ القُشَيْريِّ، وأخَذَ عنه طَريقةَ الأشْعَريِّ، وقَرَأَ الكَلامَ أيضًا على الأسْتاذِ أبي القاسِمِ الأنْصاريِّ، وصَنَّفَ كِتابَ (المِلَل والنِّحَل)، وكِتابَ (نِهاية الإقْدامِ)، وغَيْرَ ذلك، وكانَ كَثيرَ المَحْفوظِ، مَليحَ الوَعْظِ، دَخَلَ بَغْدادَ سَنَةَ عَشْرٍ وخَمْسِمِئةٍ، وأقامَ بها ثَلاثَ سِنينَ، ووَعَظَ بها، وظَهَرَ له قَبولٌ عنْدَ العَوامِّ، وقدْ سَمِعَ بنَيْسابورَ مِن أبي الحَسَنِ علِيِّ بنِ أَحْمَدَ المَدينيِّ وغَيْرِه) [123] ((تاريخ الإسلام)) (11/ 941) باختِصارٍ وتَصَرُّفٍ يَسيرٍ. .
وقدْ عَدَّ السُّبْكيُّ الشَّهْرَسْتانيَّ مِن أعْيانِ الأشاعِرةِ [124] يُنظر: ((طبقات الشافعية الكبرى)) (3/ 372). ، وتَرْجَمَ له في طَبَقاتِ الشَّافِعيَّةِ تَرْجمةً مُخْتَصَرةً، فقالَ: (صاحِبُ كِتابِ «المِلَل والنِّحَل»، وهو عنْدي خَيْرُ كِتابٍ صُنِّفَ في هذا البابِ. وفي تاريخِ شَيْخِنا الذَّهَبيِّ أنَّ ابنَ السَّمْعانيَّ ذَكَرَ أنَّه كانَ مُتَّهَمًا بالمَيْلِ إلى الإسْماعيليَّةِ والدَّعْوةِ إليهم والنُّصْرةِ لطامَّاتِهم، وأنَّه قالَ في التَّحْبيرِ: إنَّه مُتَّهَمٌ بالإلْحادِ والمَيْلِ إليهم، غالٍ في التَّشَيُّعِ، وما أَدْري مِن أين ذلك لابنِ السَّمْعانيِّ! فإنَّ تَصانيفَ أبي الفَتْحِ دالَّةٌ على خِلافِ ذلك، ويَقَعُ لي أنَّ هذا دُسَّ على ابنِ السَّمْعانيِّ في كِتابِه «التَّحْبيرِ»، وإلَّا فلِمَ لم يَذكُرْه في «الَّذيْلِ»؟! لكنْ قَريبٌ مِنه قَوْلُ صاحِبِ الكافي: لولا تَخَبُّطُه في الاعْتِقادِ، ومَيْلُه إلى أهْلِ الزَّيْغِ والإلْحادِ، لكانَ هو الإمامَ في الإسْلامِ، وأَطالَ في النَّيْلِ مِنه، وقالَ: كانَتْ بَيْنَنا مُحاوَراتٌ ومُفاوَضاتٌ، فكانَ يُبالِغُ في نُصْرةِ مَذاهِبِ الفَلاسِفةِ والذَّبِّ عنهم، هذا كَلامُ الخَوارِزميِّ) [125] ((طبقات الشافعية الكبرى)) (6/ 128 - 130). .
والنَّاظِرُ في كُتُبِ الشَّهْرَسْتانيِّ يَجِدُ أنَّ مَعْرفتَه بالدِّياناتِ والمِلَلِ والأهْواءِ وأقْوالِ الفَلاسِفةِ أَكثَرُ مِن مَعْرفتِه بمَذهَبِ السَّلَفِ الصَّالِحِ وأئِمَّةِ الحَديثِ!
قالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ: (غالِبُ كُتُبِ أهْلِ الكَلامِ والنَّاقِلينَ للمَقالاتِ يَنْقُلونَ في أُصولِ المِلَلِ والنِّحَلِ مِن المَقالاتِ ما يَطولُ وَصْفُه، ونَفْسُ ما بَعَثَ اللهُ به رَسولَه وما يَقولُه أصْحابُه والتَّابِعونَ لهم في ذلك الأصْلِ الَّذي حَكَوا فيه أقوالَ النَّاسِ لا يَنقُلونَه، لا تَعَمُّدًا مِنهم لتَرْكِه، بلْ لأنَّهم لم يَعرِفوه، بلْ ولا سَمِعوه؛ لِقِلَّةِ خِبْرتِهم بنُصوصِ الرَّسولِ وأصْحابِه والتَّابِعينَ...، والشَّهْرَسْتانيُّ قد نَقَلَ في غَيْرِ مَوضِعٍ أقْوالًا ضَعيفةً يَعرِفُها مَن يَعرِفُ مَقالاتِ النَّاسِ، معَ أنَّ كِتابَه أَجْمَعُ مِنْ أَكْثَرِ الكُتُبِ المُصَنَّفةِ في المَقالاتِ، وأَجوَدُ نَقْلًا، لكنَّ هذا البابَ وَقَعَ فيه ما وَقَعَ؛ ولِهذا لمَّا كانَ خَبيرًا بقَوْلِ الأشْعَريَّةِ وقَوْلِ ابنِ سينا ونَحْوِه مِن الفَلاسِفةِ كانَ أَجوَدَ ما نَقَلَه قَوْلُ هاتَينِ الطَّائِفتَينِ، وأمَّا الصَّحابةُ والتَّابِعونَ وأئِمَّةُ السُّنَّةِ والحَديثِ، فلا هو ولا أمْثالُه يَعرِفونَ أقْوالَهم، بل ولا سَمِعوها على وَجْهِها بنَقْلِ أهْلِ العِلمِ لها بالأسانيدِ المَعْروفةِ، وإنَّما سَمِعوا جُمَلًا تَشْتمِلُ على حَقٍّ وباطِلٍ... وبالجُمْلةِ فالشَّهْرَسْتانيُّ يُظهِرُ المَيْلَ إلى الشِّيعةِ، إمَّا بباطِنِه وإمَّا مُداهَنةً لهم؛ فإنَّ كِتابَ «المِلَلِ والنِّحَلِ» صَنَّفَه لرَئيسٍ مِن رُؤسائِهم، وكانت له وِلايةٌ ديوانيَّةٌ) [126] ((منهاج السنة النبوية)) (6/ 303 - 306). .
وقالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ المَحْمودُ: (الشَّهْرَسْتانيُّ اشْتَهَرَ بكِتابَيه «المِلَل والنِّحَل» و«نِهاية الإقْدامِ»، كما كانت له رُدودٌ على الفَلاسِفةِ في كِتابِه «مُصارَعة الفَلاسِفةِ».
وأَكثَرُ ما يُمَيِّزُ مَذهَبَه ومَنهَجَه:
1ـ العِنايةُ بنَقْلِ أقْوالِ أصْحابِ المَذاهِبِ المُخْتلِفةِ، ويَعرِضُ المَذهَبَ الأشْعَريَّ بأقْوالِ أئِمَّتِه.
2ـ الانْتِصارُ للأشاعِرةِ، والرَّدُّ على مُخالِفيهم، والتَّرْجيحُ أحْيانًا بَيْنَ المَذاهِبِ المُخْتلِفةِ.
3ـ معَ رُدودِه على الفَلاسِفةِ؛ فإنَّه تَأثَّرَ ببعضِ أقْوالِهم، كقَوْلِه بجَوازِ وُجودِ الجَواهِرِ العَقْلِيَّةِ، والنُّفوسِ الفَلَكيَّةِ المُجَرَّدةِ) [127] ((موقف ابن تَيْمِيَّةَ من الأشاعِرة)) (2/ 648 - 650) باختِصارٍ وتَصَرُّفٍ كَثيرٍ. .
16- الحافِظُ أبو القاسِمِ ابنُ عَساكِرَ الدِّمَشْقِيُّ (ت 571 هـ)
قالَ الذَّهَبيُّ: (علِيُّ بنُ الحَسَنِ بنِ هِبةِ اللهِ، الحافِظُ الكَبيرُ، أبو القاسِمِ ابنُ عَساكِرَ الدِّمَشْقِيُّ، الشَّافِعيُّ، صاحِبُ (تاريخ دِمْشَقَ)، أحَدُ أعْلامِ الحَديثِ، سَمِعَ بدِمَشْقَ، ورَحَلَ إلى بَغْدادَ لسَماعِ الحَديثِ فأقامَ بها خَمْسَ سِنينَ، وحَجَّ وسَمِعَ بمَكَّةَ، وسَمِعَ بالكوفةِ، ولازَمَ الدَّرْسَ والتَّفَقُّهَ بالمَدرَسةِ النِّظاميَّةِ، ورَحَلَ إلى أذْرَبيجانَ وخُراسانَ وأصْبَهانَ، ورَجَعَ إلى دِمَشقَ بعِلمٍ جَمٍّ، وسَماعاتٍ كَثيرةٍ. وعِدَّةُ شُيوخِه ألْفٌ وثَلاثُمِئةِ شَيْخٍ، وثَمانونَ امْرَأةً ونَيِّفٌ، وحَدَّثَ بخُراسانَ وأصْبَهانَ وبَغْدادَ، وصَنَّفَ التَّصانيفَ المُفيدةَ، ولم يكُنْ في زَمانِه أَحفَظُ ولا أَعرَفُ بالرِّجالِ مِنه، ومَن تَصَفَّحَ تاريخَه عَلِمَ قَدْرَ الرَّجُلِ، ذَكَرَه ابنُ السَّمْعانيِّ في تاريخِه فقالَ: كَثيرُ العِلمِ، غَزيرُ الفَضْلِ، حافِظٌ ثِقةٌ مُتقِنٌ، دَيِّنٌ خَيِّرٌ حَسَنُ السَّمْتِ، جَمَعَ بَيْنَ مَعْرِفةِ المُتونِ والأسانيدِ، صَحيحُ القِراءةِ مَتَثَبِّتٌ مُحْتاطٌ، رَحَلَ وتَعِبَ، وبالَغَ في الطَّلَبِ إلى أن جَمَعَ ما لم يَجمَعْ غَيْرُه، وأَرْبى على أقْرانِه. وقالَ ابنُه القاسِمُ: كانَ أبي رَحِمَه اللهُ مُواظِبًا على صَلاةِ الجَماعةِ وتِلاوةِ القُرْآنِ، يَختِمُ في كلِّ جُمُعةٍ، ويَختِمُ في رَمَضانَ كلَّ يَوْمٍ، ويَعْتَكِفُ في المَنارةِ الشَّرْقيَّةِ، وكانَ كَثيرَ النَّوافِلِ والأذْكارِ، وكانَ يُحاسِبُ نَفْسَه على لَحْظةٍ تَذهَبُ في غَيْرِ طاعةٍ. قُلْتُ: أنا جازِمٌ أنَّه ما رأى مِثلَ نَفْسِه! هو أَحفَظُ مِن جَميعِ الحُفَّاظِ الَّذين رآهم مِن شُيوخِه وأقْرانِه. وذَكَرَه ابنُ النَّجَّارِ في تاريخِه فقالَ: إمامُ المُحَدِّثينَ في وَقْتِه، ومَن انْتَهَتْ إليه الرِّياسةُ في الحِفْظِ والإتْقانِ والمَعْرِفةِ التَّامَّةِ والثِّقةِ، وبه خُتِمَ هذا الشَّأنُ. قُلْتُ: وهو معَ جَلالتِه وحِفْظِه يَرْوي الأحاديثَ الواهِيةَ والمَوْضوعةَ ولا يُبَيِّنُها، وكَذا كانَ عامَّةُ الحُفَّاظِ الَّذين بَعْدَ القُرونِ الثَّلاثةِ إلَّا مَن شاءَ رَبُّك...، وأيُّ فائِدةٍ بمَعْرِفةِ الرِّجالِ ومُصَنَّفاتِ التَّاريخِ والجَرْحِ والتَّعْديلِ إلَّا كَشْفُ الحَديثِ المَكْذوبِ وهَتْكُه؟ قالَ ابنُه أبو مُحَمَّدٍ: تُوفِّيَ أبي في حاديَ عَشَرَ رَجَبٍ، وحَضَرَ الصَّلاةَ عليه السُّلْطانُ صَلاحُ الدِّينِ، وصَلَّيْتُ عليه في الجامِعِ، والشَّيْخُ قُطْبُ الدِّينِ في المَيدانِ الَّذي يُقابِلُ المُصَلَّى، ورأى له جَماعةٌ مِن الصَّالِحينَ مَناماتٍ حَسَنةً، ورُثِيَ بقَصائِدَ، ودُفِنَ بمَقْبرةِ بابِ الصَّغيرِ) [128] ((تاريخ الإسلام)) (12/ 493 - 500). .
وقالَ السُّبْكيُّ الأشْعَريُّ: (كِتابُ (تَبْيين كَذِبِ المُفْتري فيما نُسِبَ إلى الإمامِ أبى الحَسَنِ الأشْعَريِّ) الَّذي صَنَّفَه الحافِظُ ابنِ عَساكِرَ هو مِن أَجَلِّ الكُتُبِ وأَعظَمِها فائِدةً وأحَسَنِها، فيُقالُ: كلُّ سُّنِّيٍّ لا يكونُ عنْدَه كِتابُ "التَّبْيينِ" لابنِ عَساكِرَ فليس مِن أمْرِ نَفْسِه على بَصيرةٍ، ويُقالُ: لا يكونُ الفَقيهُ شافِعيًّا على الحَقيقةِ حتَّى يُحَصِّلَ كِتابَ "التَّبْيينِ" لابنِ عَساكِرَ، وكانَ مَشْيَختُنا يَأمُرونَ الطَّلَبةَ بالنَّظَرِ فيه) [129] ((طبقات الشافعية الكبرى)) (3/ 351). ولابنِ المبرَدِ الصَّالحيِّ الحَنْبليِّ (ت 909 هـ) كِتاب: (جمع الجيوش والدساكر على ابن عَساكِر)، ردَّ فيه على ما أورده ابنُ عَساكِرَ في كِتابِه (تبيين كَذِب المفتري)، وفيه فوائِدُ حَسَنةٌ، لكِنَّه خشَّن فيه العِبارةَ، وأغلَظَ في الرَّدِّ على ابنِ عَساكِرَ، وسَرَد في آخِرِه العُلَماءَ المُجانِبينَ لعَقيدةِ الأشْعَريِّ، وذكر منهم بَعْضَ مَن عَدَّهم ابنُ عَساكِرَ مِنَ الأشاعِرةِ. واللهُ أعلَمُ بعِبادِه. .
قالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ المَحْمودُ: (ابنُ عَساكِرَ اشْتَهَرَ كمُدافِعٍ عن المَذهَبِ الأشْعَريِّ في كِتابِه المَشْهورِ شُهْرةً واسِعةً: (تَبْيين كَذِبِ المُفْتري فيما نُسِبَ إلى الإمامِ الأشْعَريِّ)، وقدْ كانَ لخَلْفِيَّتِه الحَديثيَّةِ والتَّاريخيَّةِ أثَرٌ في مَنهَجِ الكِتابِ، وقُدْرتِه على الدِّفاعِ عن أبي الحَسَنِ الأشْعَريِّ، كما أنَّ هذا الكِتابَ يَصِحُّ أن يُسَمَّى طَبَقاتِ الأشاعِرةِ؛ لأنَّه تَرْجَمَ لأعْلامِهم مُنْذُ الأشْعَريِّ وإلى عَصْرِه) [130] ((موقف ابن تَيْمِيَّةَ من الأشاعِرة)) (2/ 650) باختِصارٍ. .
17- فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ مُحَمَّدُ بنُ عُمَرَ (ت 606 هـ)
قالَ الذَّهَبيُّ: (العَلَّامةُ فَخْرُ الدِّينِ أبو عَبْدِ اللهِ القُرَشيُّ البَكْريُّ التَّيْمِيُّ الطَّبَرِسْتانيُّ الأصْلِ الرَّازِيُّ، ابنُ خَطيبِ الرَّيِّ، الشَّافِعيُّ المُفَسِّرُ المُتَكلِّمُ، صاحِبُ التَّصانيفِ، قالَ ابنُ أبي أُصَيْبِعةَ: انْتَشَرَتْ في الآفاقِ مُصَنَّفاتُ فَخْرِ الدِّينِ وتَلامِذتِه، وكانَ إذا رَكِبَ مَشى حَوْلَه نَحْوُ ثَلاثِمِئةِ تِلْميذٍ فُقَهاءَ، وغَيْرِهم، وكانَ خَوارِزْم شاه يَأتي إليه، وكانَ شَديدَ الحِرْصِ جِدًّا في العُلومِ الشَّرْعيَّةِ والحُكْميَّةِ، حادَّ الذِّهْنِ، كَثيرَ البَراعةِ، قَوِيَّ النَّظَرِ في صِناعةِ الطِّبِّ، عارِفًا بالأدَبِ، له شِعْرٌ بالفارِسيِّ والعَربيِّ، كانوا يَقْصِدونَه مِن البِلادِ على اخْتِلافِ مَطالِبِهم في العُلومِ وتَفَنُّنِهم، فكانَ كلٌّ مِنهم يَجِدُ عِنْدَه النِّهايةَ القُصْوى فيما يَرومُه مِنه، قَرَأَ الفَلْسَفةَ على المَجْدِ الجيليِّ، وكانَ المَجْدُ مِن كِبارِ الفُضَلاءِ، وله تَصانيفُ، وقالَ القاضي شَمْسُ الدِّينِ بنُ خَلِّكانَ فيه: فَريدُ عَصْرِه، ونَسيجُ وَحْدِه، وشُهْرتُه تُغْني عن اسْتِقْصاءِ فَضائِلِه. وتَصانيفُه في عِلمِ الكَلامِ والمَعْقولاتِ سائِرةٌ في الآفاقِ، وكلُّ تَصانيفِه مُمْتِعةٌ، ورُزِقَ فيها سَعادةً عَظيمةً، وانْتَشَرَتْ في الآفاقِ، وأَقبَلَ النَّاسُ على الاشْتِغالِ فيها، ورَفَضوا كُتُبَ المُتَقَدِّمينَ، وكانَ يَحضُرُ مَجلِسَه أرْبابُ المَقالاتِ والمَذاهِبِ ويَسألونَه، ورَجَعَ بسَبَبِه خَلْقٌ كَثيرٌ مِن الكَرَّاميَّةِ وغَيْرِهم إلى مَذهَبِ أهْلِ السُّنَّةِ، وكانَ يُلَقَّبُ بِهَراةَ شَيْخَ الإسْلامِ. ويُقالُ: إنَّه كانَ يَحفَظُ كِتابَ (الشَّامِل) في عِلمِ الكَلامِ لإمامِ الحَرَمَينِ، ولمَّا وَصَلَ إلى السُّلْطانِ شِهابِ الدِّينِ الغُوريِّ بالَغَ في إكْرامِه والإنْعامِ عليه، وحَصَلَتْ له مِنه أمْوالٌ عَظيمةٌ، واتَّصَلَ بالسُّلْطانِ خَوارِزْم شاه مُحَمَّدِ بنِ تُكَشَ، وحَظِيَ عنْدَه، ونالَ أَسْمى المَراتِبِ.
وكانَ يُكثِرُ البُكاءَ حالَ الوَعْظِ، وكانَ لمَّا أَثْرى لازَمَ الأسْفارَ والتِّجارةَ، وعامَلَ شِهابَ الدِّينِ الغُوريَّ في جُمْلةٍ مِن المالِ، ومَضى إليه لاسْتيفاءِ حَقِّه، فبالَغَ في إكْرامِه، ونالَ مِنه مالًا طائِلًا، ومَناقِبُه أَكثَرُ مِن أن تُعَدَّ، وفَضائِلُه لا تُحْصى ولا تُحَدُّ. وقالَ أبو المُظَفَّرِ سِبْطُ ابنِ الجَوْزِيِّ وأبو شامةَ: اعْتَنى الفَخْرُ الرَّازيُّ بكُتُبِ ابنِ سيناءَ وشَرَحَها، وكانَ يَعِظُ ويَنالُ مِن الكَرَّاميَّةِ، ويَنالونَ مِنه سَبًّا وتَكْفيرًا، وقيلَ: إنَّهم وَضَعوا عليه مَن سَقاه السُّمَّ فماتَ، وكانوا يَرْمونَه بالكَبائِرِ، ولا كَلامَ في فَضْلِه، وإنَّما الشَّناعاتُ قائِمةٌ عليه بأشْياءَ؛ مِنها: أنَّه كانَ يُقَرِّرُ مَسائِلَ الخُصومِ وشُبَهِهم بأَتَمِّ عِبارةٍ، فإذا جاءَ بالأجوبةِ قَنِعَ بالإشارةِ، ولَعلَّه قَصَدَ الإيجازَ، قالَ أبو شامةَ: وقدْ رَأيْتُ جَماعةً مِن أصْحابِه قَدِموا علينا دِمَشْقَ، وكلُّهم كانَ يُعَظِّمُه تَعْظيمًا كَبيرًا، ولا يَنْبَغي أن يُسمَعَ فيمَن ثَبَتَتْ فَضيلتُه كَلامٌ يُسْتَبْشَعُ، لَعلَّه مِن صاحِبِ غَرَضٍ؛ مِن حَسَدٍ، أو مُخالَفةٍ في مَذهَبٍ أو عَقيدةٍ. قُلْتُ: وتَفْسيرُه الكَبيرُ في اثْنَتَي عَشْرةَ مُجلَّدةً كِبارًا سَمَّاه (مَفاتيحَ الغَيْبِ)، وله كِتابُ (عُيون الحِكْمةِ) فَلْسَفة، وكِتابٌ في الرَّمْلِ، وكِتابٌ في الهَنْدَسةِ، وكِتابُ (الاخْتِبارات العَلائِيَّة) فيه تَنْجيمٌ، وكِتابُ (الاخْتِبارات السَّماوِيَّة) تَنْجيم، وكِتابُ (المِلَل والنِّحَل)، وكِتابُ (الطِّبِّ الكَبيرِ)، ومُصَنَّفاتٌ كَثيرةٌ ذَكَرَها المُوفَّقُ ابنُ أبي أُصَيْبِعةَ، وقالَ: كانَ خَطيبَ الرَّيِّ، وكانَ أَكثَرُ مُقامِه بها، وتَوَجَّهَ إلى خَوارِزْمَ ومَرِضَ بها، وامْتَدَّ مَرَضُه أشْهُرًا، وماتَ بهَراةَ بدارِ السَّلْطَنةِ، وكانَ عَلاءُ المُلْكِ وَزيرُ خَوارِزْمَ شاه قد تَزَوَّجَ بابنتِه، وكانَ لفَخْرِ الدِّينِ أمْوالٌ عَظيمةٌ، ومَماليكُ تُرْكٌ، وحَشَمٌ وتَجَمُّلٌ زائِدٌ، وعلى مَجلِسِه هَيبةٌ شَديدةٌ.
ومِن شِعْرِه:
نِـهـايـة إقْـدامِ العُـقولِ عِـقـالُ
وأَكثَـرُ سَعْيِ العالَمينَ ضَلالُ
وأرْواحُنا في وَحْشةٍ مِن جُسومِنا
وحاصِلُ دُنْيانا أذًى ووَبالُ
ولم نَسْتَفِدْ مِن بَحْثِنا طولَ عُمْرِنا
سِوى أن جَمَعْنا فيه قيلَ وقالوا
ومِن كَلامِ فَخْرِ الدِّينِ قالَ: رَأيْتُ الأَصلَحَ والأَصوَبَ طَريقةً القُرْآنَ، وهو تَرْكُ التَّعَمُّقِ والاسْتِدْلالاتِ بأقْسامِ أجْسامِ السَّمَواتِ والأرَضينَ على وُجودِ الرَّبِّ، ثُمَّ تَرْكُ التَّعَمُّقِ، ثُمَّ المُبالَغةُ في التَّعْظيمِ مِن غَيْرِ خَوْضٍ في التَّفاصيلِ؛ فأَقَرَأُ في التَّنْزيهِ قَوْلَه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] ، وأَقْرَأُ في الإثْباتِ: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] ، وعلى هذا القانونِ فقِسْ، وأَقولُ مِن صَميمِ القَلْبِ مِن داخِلِ الرُّوحِ: إنِّي مُقِرٌّ بأنَّ كلَّ ما هو الأَكمَلُ الأَفضَلُ الأَعظَمُ الأَجَلُّ فهو لك، وكلَّ ما فيه عَيْبٌ ونَقْصٌ، فأنت مُنَزَّهٌ عنه. وأَقولُ: إنَّ عَقْلي وفَهْمي قاصِرٌ عن الوُصولِ إلى كُنْهِ صِفةِ ذَرَّةٍ مِن مَخْلوقاتِك. قالَ الإمامُ أبو عَمْرِو بنُ الصَّلاحِ: حَدَّثَني القُطْبُ الطُّوغانيُّ مَرَّتَينِ أنَّه سَمِعَ الفَخْرَ الرَّازيَّ يَقولُ: لَيْتَني لم أَشْتَغِلْ بالكَلامِ، وبَكى! وقالَ في وَصِيَّتِه لمَّا احْتُضِرَ لتِلْميذِه إبْراهيمَ بنِ أبي بَكْرٍ الأصْبَهانيِّ: لقد اخْتَبَرْتُ الطُّرُقَ الكَلامِيَّةَ، والمَناهِجَ الفَلْسَفيَّةَ؛ فما رَأيْتُ فيها فائِدةً تُساوي الفائِدةَ الَّتي وَجَدْتُها في القُرْآنِ؛ لأنَّه يَسْعى في تَسْليمِ العَظَمةِ والجَلالةِ للهِ، ويَمنَعُ عن التَّعَمُّقِ في إيرادِ المُعارَضاتِ والمُناقَضاتِ، وما ذاك إلَّا لِلعِلمِ بأنَّ العُقولَ البَشَرِيَّةَ تَتَلاشى في تلك المَضايِقِ العَميقةِ، والمَناهِجِ الخَفِيَّةِ، وكلُّ ما وَرَدَ في القُرْآنِ والصِّحاحِ، المُتَعَيَّنُ للمَعْنى الواحِدِ، فهو كما هو، وأَقولُ: ديني مُتابَعةُ الرَّسولِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكِتابي القُرْآنُ العَظيمُ، وتَعْويلي في طَلَبِ الدِّينِ عليهما، وأمَّا الكُتُبُ الَّتي صَنَّفْتُها، واسْتَكْثَرْتُ فيها مِن إيرادِ السُّؤالاتِ، فلْيَذكُرْني مَن نَظَرَ فيها بصالِحِ دُعائِه، على سَبيلِ التَّفَضُّلِ والإنْعامِ، وإلَّا فلْيَحذِفِ القَوْلَ السَّيِّئَ؛ فإنِّي ما أَرَدْتُ إلَّا تَكْثيرَ البَحْثِ، وشَحْذَ الخاطِرِ. والاعْتِمادُ في الكلِّ على اللهِ) [131] ((تاريخ الإسلام)) (13/ 137 - 144) باختِصارٍ وتَصَرُّفٍ كَثيرٍ. .
وتَرْجَمَه السُّبْكيُّ في طَبَقاتِ الشَّافِعيَّةِ تَرْجمةً مُخْتَصَرةً قالَ فيها: (إمامُ المُتَكَلِّمينَ، ذو الباعِ الواسِعِ في تَعْليقِ العُلومِ، والاجْتِماعِ بالشَّاسِعِ مِن حَقائِقِ المَنْطوقِ والمَفْهومِ...، خاضَ مِن العُلومِ في بِحارٍ عَميقة، وراضَ النَّفْسَ في دَفْعِ أهْلِ البِدَعِ وسُلوكِ الطَّريقة، أمَّا الكَلامُ فكلُّ ساكِتٍ خَلْفَه، وكيف لا وهو الإمامُ رَدَّ على طَوائِفِ المُبْتَدِعةِ وهَدَّ قَواعِدَهم) [132] ((طبقات الشافعية الكبرى)) (8/ 81). .
وقالَ القِفْطيُّ: (كانَ في زَمَنِنا الأَقرَبِ، قَرَأَ عُلومَ الأوائِلِ وأجادَها، وحَقَّقَ عِلمَ الأُصولِ، ودَخَلَ خُراسانَ، ووَقَفَ على تَصانيفِ أبي علِيِّ بنِ سينا والفارابيِّ، وعَلِمَ مِن ذلك عِلْمًا كَثيرًا، ... واسْتَوْطَنَ مَدينةَ هَراةَ، وتَمَلَّكَ بِها مِلْكًا، وأَوْلَدَ أَوْلادًا، وأقامَ بِها حتَّى ماتَ، ودُفِنَ بظاهِرِ هَراةَ عِنْدَ جَبَلٍ قَريبٍ مِنها، وأُظهِرَ ذلك، والحَقيقةُ أنَّه دُفِنَ في دارِه، وكانَ يَخْشى أنَّ العَوامَّ يُمَثِّلونَ بجُثَّتِه) [133] ((إخبار العُلَماء بأخبار الحكماء)) (ص: 220). .
وقالَ ابنُ حَجَرٍ: (كانَ في أوَّلِ أمْرِه فَقيرًا، ثُمَّ اتَّفَقَ أنَّه صاهَرَ تاجِرًا مُتَمَوِّلًا له وَلَدانِ فزَوَّجَهما ابْنتَيه، وماتَ التَّاجِرُ فتَقَلَّبَ الفَخْرُ في ذلك المالِ، وصارَ مِن رُؤَساءِ ذلك الزَّمانِ، يَقومُ على رأسِه خَمْسونَ مَمْلوكًا بمَناطِقِ الذَّهَبِ وحُلَلِ الوَشْيِ، وكانَ قالَ للسُّلْطانِ يَوْمًا: نحن في ظِلِّ سَيْفِك، فقالَ له السُّلْطانُ: ونحن في شَمْسِ عِلمِك! وكانَتْ له أوْرادٌ مِن صَلاةٍ وصيامٍ لا يُخِلُّ بِها، وكانَ معَ تَبَحُّرِه في الأُصولِ يَقولُ: مَن الْتَزَمَ دينَ العَجائِز فهو الفائِز. وكانَ يُعابُ بإيرادِ الشُّبَهِ الشَّديدةِ ويُقَصِّرُ في حَلِّها، ورَأيْتُ في (الإكْسير في عِلمِ التَّفْسير) للنَّجْمِ الطُّوفيِّ ما مُلَخَّصُه: ما رَأيْتُ في التَّفاسيرِ أَجمَعَ لِغالِبِ عِلمِ التَّفْسيرِ مِن القُرْطُبيِّ ومِن تَفْسيرِ الإمامِ فَخْرِ الدِّينِ، إلَّا أنَّه كَثيرُ العُيوبِ، فحَدَّثَني شَرَفُ الدِّينِ النَّصيبيُّ عن شَيْخِه سِراجِ الدِّينِ الشِّرْمِساحيِّ المَغرِبيِّ أنَّه صَنَّفَ كِتابَ المآخِذِ في مُجَلَّدَينِ بَيَّنَ فيهما ما في تَفْسيرِ الفَخْرِ مِن الزَّيْفِ والبَهْرَجِ، وكانَ يَنقِمُ عليه كَثيرًا ويَقولُ: يورِدُ شُبَهَ المخالِفينَ على غايةِ ما يكونُ مِن التَّحْقيقِ، ثُمَّ يورِدُ مَذهَبَ أهْلِ السُّنَّةِ والحَقِّ على غايةٍ مِن الوَهاءِ!
قالَ الطُّوفيُّ: ولَعَمْري إنَّ هذا دَأبُه في كُتُبِه الكَلامِيَّةِ والحُكْميَّةِ حتَّى اتَّهَمَه بعضُ النَّاسِ، ولكنَّه خِلافُ ظاهرِ حالِه؛ لأنَّه لو كانَ اخْتارَ قَوْلًا أو مَذهَبًا ما كانَ عنْدَه مَن يَخافُ مِنه حتَّى يَتَسَتَّرَ عنه، ولَعلَّ سَبَبَه أنَّه كانَ يَسْتَفْرِغُ قُواه في تَقْريرِ دَليلِ الخَصْمِ، فإذا انْتَهى إلى تَقْريرِ دَليلِ نفْسِه لا يَبْقى عِنْدَه شيءٌ مِن القُوى، ولا شَكَّ أنَّ القُوى النَّفْسانيَّةَ تابِعةٌ للقُوى البَدَنيَّةِ، وقدْ صَرَّحَ في مُقدِّمةِ (نِهاية العُقولِ) أنَّه يُقَرِّرُ مَذهَبَ خَصْمِه تَقْريرًا لو أرادَ خَصْمُه أن يُقَرِّرَه لم يَقدِرْ على الزِّيادةِ على ذلك! وذَكَرَ السُّكونيُّ أنَّ الرَّازيَّ قالَ في كُتُبِه في الأُصولِ: إنَّ مَذهَبَ الجَبْرِ هو المَذهَبُ الصَّحيحُ، وقالَ بنَفْيِ صِفاتِ اللهِ، وزَعَمَ أنَّها مُجَرَّدَ نِسَبٍ وإضافاتٍ، كقَوْلِ الفَلاسِفةِ!) [134] ((لسان الميزان)) (6/ 319) باختِصارٍ وتَصَرُّفٍ يسير. ويُنظر: ((الإكسير في علم التفسير)) للطوفي (ص: 55). .
وقالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ المَحْمودُ: (حَياةُ الرَّازيِّ بَرَزَ فيها جانِبانِ:
الأوَّلُ: رِحْلاتُه المُتَكَرِّرةُ إلى كلٍّ مِن خَوارِزْمَ، وطوسَ، وبِلادِ ما وَراءَ النَّهَرِ، وهَراةَ الَّتي اسْتَقَرَّ وماتَ بِها، وقدْ جَرَتْ له في رِحْلاتِه مُناظَراتٌ عَديدةٌ معَ المُعْتَزِلةِ والكَرَّاميَّةِ وغَيْرِهم، وكَثيرًا ما تَشْتَدُّ الخُصومةُ بَيْنَه وبَيْنَ مُعارضيه فيُضْطَرُّ إلى مُغادَرةِ المَكانِ الَّذي هو فيه.
الثَّاني: اتِّصالُه بالمُلوكِ والسَّلاطينِ، وتَأليفُه أَغلَبَ كُتُبِه لهم، وقدِ اسْتَفادَ مِن صِلتِه بهم -خاصَّةً خَوارِزْم شاه ووَلَدَه مُحَمَّدًا- مالًا وجاهًا عَريضًا) [135] ((موقف ابن تَيْمِيَّةَ من الأشاعِرة)) (2/ 651). .
مَنهَجُ الرَّازيِّ وأثَرُه في تَطوُّرِ المَذهَبِ الأشْعَريِّ [136] يُنظر: ((موقف ابن تَيْمِيَّةَ من الأشاعِرة)) للمحمود (2/ 654 - 675). :
أوَّلًا: يُمَثِّلُ الرَّازِيُّ مَرْحلةً خَطيرةً في مَسيرةِ المَذهَبِ الأشْعَريِّ؛ فقدْ تَرَكَ مُؤَلَّفاتٍ عَديدةً دافَعَ فيها عن المَذهَبِ الأشْعَريِّ بكلِّ ما يَملِكُه مِن حُجَجٍ عَقْليَّةٍ، كما أنَّه أفاضَ في بعضِها في دِراسةِ الفَلْسَفةِ، فوافَقَ أصْحابَها حينًا وخالَفَهم حينًا آخَرَ، بلْ وَصَلَ الأمْرُ به إلى أن يُؤَلِّفَ في السِّحْرِ والشِّرْكِ ومُخاطَبةِ النُّجومِ! وقدِ اخْتَلَفَتْ آراءُ النَّاسِ فيه بَيْنَ مادِحٍ وقادِحٍ، ومُدافِعٍ عنه مُنافِحٍ، وناقِدٍ له جارِحٍ، وقدِ انْتَهى في آخِرِ عُمُرِه إلى أن الحَقَّ في الرُّجوعِ إلى مَذهَبِ أهْلِ الحَديثِ، وهو الاسْتِدْلالُ بالكِتابِ والسُّنَّةِ، ولكنْ بَقِيَتِ المُشْكِلةُ في مُؤَلَّفاتِه الكَلامِيَّةِ والفَلْسَفيَّةِ الَّتي انْتَشَرَتْ؛ لِذلك اخْتَلَفَتْ أقْوالُ النَّاسِ فيه وفي مُؤَلَّفاتِه:
فالسُّبْكيُّ كالَ له المَدْحَ كَيْلًا بلا حِسابٍ [137] يُنظر: ((طبقات الشافعية الكبرى)) للسبكي (8/ 81). ، وقالَ في كِتابِه (مُعيد النِّعَمِ) بَعْدَ أن بَيَّنَ ضَرَرَ الفَلْسَفةِ وأعْلامِها كابنِ سينا: (فلقد حَصَلَ ضَرَرٌ عَظيمٌ على المُسلِمينَ بمَزْجِ كَلامِ الحُكَماءِ بكَلامِ المُتَكلِّمينَ...، فإن قُلْتَ: فقدْ خاضَ حُجَّةُ الإسْلامِ الغَزاليُّ والإمامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ في عُلومِ الفَلْسَفةِ ودَوَّنوها، وخَلَطوها بكَلامِ المُتَكلِّمينَ فهَلَّا تُنكِرُ عليهما! قُلْتُ: إنَّ هَذَينِ إمامانِ جَليلانِ، ولم يَخُضْ واحِدٌ مِنهما في هذه العُلومِ حتَّى صارَ قُدْوةً في الدِّينِ، وضُرِبَتِ الأمْثالُ باسْمِهما في مَعْرِفةِ عِلمِ الكَلامِ على طَريقةِ أهْلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ مِن الصَّحابةِ والتَّابِعينَ فمَن بَعْدَهم، فإيَّاك أن تَسمَعَ شَيًئا غَيْرَ ذلك فتَضِلَّ ضَلالًا مُبينًا، فهذانِ إمامانِ عَظيمانِ، وكانَ حقًّا عليهما نَصْرُ المُؤمِنينَ، وإعْزازُ هذا الدِّينِ بدَفْعِ تُرَّهاتِ أولئك المُبْطِلينَ، فمَن وَصَلَ إلى مَقامِهما لا مَلامَ عليه بالنَّظَرِ في الكُتُبِ الفَلْسَفيَّةِ، بلْ هو مُثابٌ مَأجورٌ) [138] ((معيد النعم ومبيد النقم)) (ص: 65). .
أمَّا الَّذين انْتَقَدوا الرَّازيَّ فكَثيرونَ؛ مِنهم: ابنُ تيميَّةَ، فقال عنه: (هذا الرَّجُلُ كثيرُ السَّفسَطةِ والتَّشكيكِ؛ فهو من أعظَمِ المُتكَلِّمينَ سَفسَطةً وتشكيكًا، لا يُعرَفُ من جنسِ المُتكَلِّمينَ من هو أعظَمُ تقريرًا للشُّكوكِ والشُّبُهاتِ الباطلةِ، وأضعَفُ جوابًا عنها منه) [139] ((بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية)) (8/ 465). .
وقال أيضًا: (هو كثيرُ التَّناقُضِ؛ يقولُ القَولَ ثمَّ يرجِعُ عنه، ويقولُ في الآخَرِ ما يناقِضُه، كما يوجَدُ هذا في عامَّةِ كُتُبِه، تغمَّده اللهُ برحمتِه، وعفا عنه وسائِرِ المؤمنينَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر: 10] ، وتوبتُه معروفةٌ مشهورةٌ) [140] ((بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية)) (8/ 529). .
وقال أيضًا: (أبو عبدِ اللهِ محمَّدُ بنُ عُمَرَ الرَّازيُّ الجَهميُّ الجَبريُّ، قد يخرُجُ إلى حقيقةِ الشِّركِ وعبادةِ الكواكِبِ والأوثانِ في بعضِ الأوقاتِ، وصنَّف في ذلك كتابَه المعروفَ في السِّحرِ وعبادةِ الكواكِبِ والأوثانِ، مع أنَّه كثيرًا ما يحَرِّمُ ذلك، وينهى عنه متَّبِعًا للمُسلِمينَ وأهلِ الكُتُبِ والرِّسالةِ، وينصُرُ الإسلامَ وأهلَه في مواضِعَ كثيرةٍ، كما يُشَكِّكُ أهلَه ويُشَكِّكُ غيرَ أهلِه في أكثَرِ المواضِعِ، وقد ينصُرُ غيرَ أهلِه في بعضِ المواضِعِ؛ فإنَّ الغالِبَ عليه التَّشكيكَ والحَيرةَ أكثَرَ من الجَزمِ والبيانِ) [141] ((مجموع الفتاوى)) (16/ 213) بتصَرُّفٍ يسيرٍ. .
وقالَ أيضًا: (الرَّازِيُّ وأمْثالُه يَدَّعونَ أنَّه ليس في السَّمْعِ ما يُصَرِّحُ بأنَّ اللهَ كانَ وَحْدَه ثُمَّ ابْتَدَأَ إحْداثَ الأشْياءِ مِن العَدَمِ، بلْ يَقولونَ بما هو أَبلَغُ مِن ذلك، كما يَذكُرُ مِثلَ ذلك في كِتابِ (المَطالِب العالِية) وغَيْرِ ذلك مِن كُتُبِه) [142] ((درء تعارض العَقْل والنقل)) (6/ 325). .
وقالَ عنهُ الذَّهَبيُّ: (صاحِبُ التَّصانيفِ، رأسٌ في الذَّكاءِ والعَقْليَّاتِ، لكنَّه عُرِّيَ مِن الآثارِ، وله تَشْكيكاتٌ على مَسائِلَ مِن دَعائِمِ الدِّينِ تورِثُ حَيْرةً، نَسأَلُ اللهَ أن يُثَبِّتَ الإيمانَ في قُلوبِنا، وله كِتابُ (السِّر المَكْتوم في مُخاطَبةِ النُّجوم)، سِحْرٌ صَريحٌ، فلَعلَّه تابَ مِن تَأليفِه إن شاءَ اللهُ تَعالى) [143] ((ميزان الاعتدال)) (3/ 340). .
ثانيًا: الرَّازِيُّ مِن الَّذين خَلَطوا الكَلامَ بالفَلْسَفةِ، وقدِ انْتَقَدَه في ذلك بعضُ مُتَأخِّري الأشْعَريَّةِ، وهو وإن خالَفَ الفَلاسِفةَ أحْيانًا أو رَدَّ على بعضِ أعْلامِ الأشاعِرةِ، فإنَّه وَضَعَ بعضَ التَّآليفِ الَّتي أَصْبَحَتْ فيما بَعْدُ عُمْدةً يَعْتمِدُ عليها الأشاعِرةُ، لا سِيَّما كِتابِه (أساس التَّقْديسِ) الَّذي يُعَدُّ مِن أَقْوى كُتُبِه الأشْعَريَّةِ وأَهَمِّها، كَتَبَه الرَّازِيُّ وأهْداه للمَلِكِ العادِلِ مُحَمَّدِ بنِ أَيُّوبَ، مِن كِبارِ سَلاطينِ الدَّوْلةِ الأَيُّوبيَّةِ، وهو أخو السُّلْطانِ صَلاحِ الدِّينِ الأَيُّوبِيِّ [144] قال الرَّازيُّ في مُقَدِّمةِ كِتابه: (أمَّا بَعْدُ؛ فإنِّي وإن كُنتُ ساكِنًا في أقاصي بلادِ المَشرِقِ إلَّا أنِّي سَمِعْتُ أهْلَ المشرِقِ والمَغرِبِ مُطبِقينَ مُتَّفِقينَ على أنَّ السُّلطانَ المُعظَّمَ العالِمَ العادِلَ المُجاهِدَ سَيْفَ الدُّنيا والدِّينِ، سُلطانَ الإسلامِ والمُسلِمين، أفضَلَ سلاطينِ الحَقِّ واليَقينِ، أبا بَكْرِ بنَ أيُّوبَ، لا زالت راياتُه في تقويةِ الحَقِّ والمَذهَبِ الصِّدْقِ متصاعِدةً إلى عَنانِ السَّماءِ، وآثارُ أنوارِ قُدرتِه ومَكِنَتِه باقيةً بحَسَبِ تعاقُبِ الصَّباحِ والمساءِ- أفضَلُ الملوكِ وأكمَلُ السَّلاطينِ في آياتِ الفَضْلِ، وبَيِّناتِ الصِّدقِ، وتقويةِ الدِّينِ القويمِ، ونُصرةِ الصِّراطِ المستقيمِ؛ فأردْتُ أن أتحِفَه بتُحفةٍ سَنِيَّةٍ، وهَدِيَّةٍ مَرْضِيَّةٍ، فأتحَفْتُه بهذا الكِتابِ الَّذي سَمَّيتُه بـ (أساس التَّقْديس) على بُعْدِ الدَّارِ، وتبايُنِ الأقطارِ، وسألتُ اللهَ الكَريمَ أن ينفَعَه به في الدَّارَينِ، بفَضْلِه وكَرَمِه) ((أساس التقديس في علم الكَلام)) (ص: 13). ، وقدْ رَدَّ على هذا الكِتابِ ابنُ تَيْمِيَّةَ في كِتابِه (بَيان تَلْبيسِ الجَهْميَّةِ في تَأسيسِ بِدَعِهم الكَلامِيَّةِ)؛ حيثُ تَتَبَّعَ فيه أقْوالَ الرَّازِيِّ ونَقَضَها وبَيَّنَ ما فيها مِن مُخالَفةِ مَذهَبِ السَّلَفِ. قالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ في مُقدِّمةِ كِتابِه (بَيان تَلْبيسِ الجَهْميَّةِ): (إنَّما يَعْتَمِدونَ على ما يَجِدونَه في كُتُبِ المُتَجَهِّمةِ المُتَكلِّمينَ، وأَجَلُّ مَن يَعْتمِدونَ كَلامَه هو أبو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بنُ عُمَرَ الرَّازِيُّ، إمامُ هؤلاء المُتَأخِّرينَ...، فلِهذا ذَكَرْتُ ما ذَكَرَه أبو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بنُ عُمَرَ الرَّازِيُّ المَعْروفُ بابنِ خَطيبِ الرَّيِّ، الإمامُ المُطلَقُ في اصْطِلاحِ المُقْتَدينَ به مِن أهْلِ الفَلْسَفةِ والكَلامِ، المُقدَّمُ عِنْدَهم على مَن تَقدَّمَه مِن صِنفِه في الأنامِ، القائِمُ عِنْدَهم بتَجْديدِ الإسْلامِ، حتَّى قد يَجْعلونَه في زَمَنِه ثانيَ الصِّدِّيق في هذا المَقامِ، لِما رَدَّه في ظَنِّهم مِن أقاويلِ الفَلاسِفةِ والمُعْتَزِلةِ ونَحْوِهم بالحُجَجِ العِظامِ، ويَقولونَ: إنَّ أبا حامِدٍ ونَحْوَه لم يَصِلوا إلى تَحْقيقِ ما بَلَغَه هذا الإمامُ، فَضْلًا عن أبي المَعالي ونَحْوِه مِمَّن عِنْدَهم فيما يُعَظِّمونَه مِن العِلمِ والجَدَلِ بالوُقوفِ على نِهايةِ الإقْدامِ، وإنَّ الرَّازِيَّ أتى في ذلك مِن نِهايةِ العُقولِ والمَطالِبِ العالِيةِ بما يَعجِزُ عنه غَيْرُه مِن ذَوي الإقْدامِ، حتَّى كانَ فَهْمُ ما يَقولُه عِنْدَهم هو غايةَ المَرامِ، وإن كانَ فُضَلاؤُهم معَ ذلك مُعْتَرِفينَ بِما في كَلامِه مِن كَثْرةِ التَّشْكيكِ في الحَقائِقِ، وكَثْرةِ التَّناقُضِ في الآراءِ والطَّرائِقِ، وأنَّه مُوقِعٌ لأصْحابِه في الحَيْرةِ والاضْطِرابِ، غَيْرُ موصِلٍ إلى تَحْقيقِ الحَقِّ الَّذي تَسكُنُ إليه النُّفوسُ وتَطْمَئِنُّ إليه الألْبابُ، لكنَّهم لم يَرَوا أَكمَلَ مِنه في هذا البابِ...، فإنَّه اسْتَقْصى في هذا البابِ الحُجَجَ الَّتي للجَهْمِيَّةِ مِن السَّمْعِيَّاتِ والعَقْليَّاتِ، وبالَغَ فيها بأَعظَمِ المُبالَغاتِ...، وتَأوَّلَ فيه الآياتِ والأحاديثَ الوارِدةَ في ذلك بما ذَكَرَه مِن أباطيلِ التَّأويلاتِ، وذَكَرَ فيه ما ذَكَرَه مِن حُجَجِ مُخالفيه، وأجابَ عنها بما أَمكَنَه مِن الجَواباتِ؛ فكانَ عُمْدتَهم في هذا البابِ) [145] ((بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكَلامِيَّة)) (1/ 8 - 12). .
ومِمَّا يَدُلُّ على دُخولِ الرَّازِيِّ في الفَلْسَفةِ:
1-  تصريحُ الرَّازيِّ نفسِه أنَّه قضى شَطرًا كبيرًا من حياتِه في قراءةِ كُتُبِ الفَلسفةِ ليَرُدَّ على أهلِها، فلعلَّ اطِّلاعَه عليها أورثَ تأثيرًا سيِّئًا على فِكرِه واعتقادِه؛ قال الرَّازيُّ: (كان أعظَمَ الفلاسفةِ قَدْرًا أرستطاليسُ، وله كتُبٌ كثيرةٌ، ولم يَنقُلْ تلك الكُتُبَ أحَدٌ أحسَنُ ممَّا نقله الشَّيخُ الرَّئيسُ أبو عليِّ بنُ سينا، الذي كان في زمَنِ محمودِ بنِ سُبُكْتِكينَ، وجميعُ الفلاسفةِ يعتَقِدونَ في تلك الكتُبِ اعتقاداتٍ عظيمةً، وكنَّا نحن في ابتداءِ اشتِغالِنا بتحصيلِ علمِ الكلامِ تشَوَّقْنا إلى معرفةِ كُتُبِهم لنَرُدَّ عليهم، فصَرَفْنا شَطرًا صالحًا من العُمُرِ في ذلك، حتَّى وفَّقَنا اللهُ تعالى في تصنيفِ كُتُبٍ تتضَمَّنُ الرَّدَّ عليهم) [146] ((اعتقادات فرق المسلمين والمشركين)) (ص: 91). .
قال الشَّهْرَزوريُّ عنه: (أَورَدَ على الحُكَماءِ شُكوكًا وشُبَهًا كَثيرةً، وما قَدَرَ أن يَتَخَلَّصَ مِنها، وأَكثَرُ مَن جاءَ بَعْدَه ضَلَّ بسَبَبِها ... مُتحيِّرٌ في مذاهِبِه التي يخبِطُ فيها خَبْطَ عَشْواءَ) [147] ((نزهة الأرواح)) (2/144، 146). .
2- اهْتِمامُه بكُتُبِ ابنِ سينا وغَيْرِه؛ ففي (المَباحِث المَشْرِقيَّة) اعْتَمَدَ كَثيرًا على أقْوالِ ابنِ سينا ونَقَلَها، كما أنَّه شَرَحَ (الإشارات)، واخْتَصَرَها، وشَرَحَ (عُيون الحِكْمةِ)، وكلُّها لابنِ سينا.
3- مُوافَقتُه لأقْوالِ الفَلاسِفةِ، وهو وإن رَجَعَ عن بعضِها فإنَّ أقْوالَه وتَرْجيحاتِه بَقِيَتْ مُدَوَّنةً في كُتُبِه، كقَوْلِه بالتَّنْجيمِ، وأنَّ للكَواكِبِ أرْواحًا تُؤَثِّرُ في الحَوادِثِ الأرْضِيَّةِ، وكذلك قَوْلُه في السِّحْرِ، وتَأليفُه في ذلك كِتابًا مُسْتَقِلًّا سَمَّاه (السِّرَّ المَكْتوم في مُخاطَبةِ النُّجوم)، وقدْ أشارَ إليه الرَّازِيُّ وأحالَ عليه في بعضِ كُتُبِه [148] يُنظر تفصيلُ ذلك في كِتابِ: ((فخر الدين الرازي وآراؤه الكَلامِيَّة والفَلْسَفيَّة)) لمُحَمَّد صالح الزركان. .
والنَّاظِرُ في كِتابِ الرَّازِيِّ (المَطالِب العالِية مِن العِلمِ الإلهيِّ) [149] قال ابنُ تَيْمِيَّةَ: (المطالِبُ العاليةُ هي آخِرُ ما صَنَّفه، وجمَعَ فيها غايةَ عُلومِه) ((درء تعارض العَقْل والنقل)) (3/ 23)، وقال ابنُ تَيْمِيَّةَ أيضًا: (وهو من أكبَرِ كُتُبِه الكَلامِيَّةِ) ((مجموع الفَتاوى)) (6/ 221)، ونَسَب الكِتابَ إليه غيرُ واحِدٍ مِنَ العُلَماءِ؛ منهم ابنُ خَلِّكانَ، وتاجُ الدِّينِ السُّبكيُّ، وابنُ حَجَرٍ العَسْقَلانيُّ. يُنظر: ((وفيات الأعيان)) لابن خلكان (4/ 249)، ((طبقات الشافعية الكبرى)) للسبكي (8/ 87)، ((لسان الميزان)) لابن حَجَر (6/ 319)، وقال ابنُ كَثيرٍ: (جالت أقلامُ فَخْرِ الدِّينِ رحمه الله في فنونٍ كَثيرةٍ مِنَ العُلومِ، واتَّسَعَت دائِرَتُه، وتسَلْطَنَ في فَنِّ الكَلامِ خاصَّةً، حتى قيل: إنَّه كان يحفَظُ (الشَّامِل) لإمامِ الحَرَمينِ في ذلك، وله اختياراتٌ كَثيرةٌ في كُتُبٍ مُتعَدِّدةٍ يَرُدُّ بَعْضُها بعضًا، ولكِنَّ الَّذي صنَّفه على طَريقةِ أهْلِ الكَلامِ (نهاية العقَوْل)، وهو من أجوَدِ كُتُبِه، وكذا كِتاب (الأربعين)، وأمَّا (المباحِثُ الشَّرقيَّة) فأكثَرُها على طَريقِ الحِكْمةِ، ومَذهَبِ الفلاسِفةِ، وكِتابُه (المطالِبُ العاليةُ) أجمَعُ في ذلك كُلِّه، وهي آخِرُ ما صَنَّف في ذلك؛ ولهذا لم يُتِمَّها، وبَقِيَ عليه منها بَقِيَّةٌ، ثُمَّ قيل: إنَّه نَدِمَ على دُخولِه في هذا الفَنِّ، كما قال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابنُ الصَّلاحِ رحمه اللهُ: أخبرني القُطْبُ الطوغانيُّ مرَّتَينِ أنَّه سمع الفَخْرَ الرَّازيَّ يقولُ: ليتني لم أشتَغِلْ بعِلْمِ الكَلامِ، وبكى) ((طبقات الشافعيين)) (ص: 780). يَجِدُ عَجائِبَ مِن عِلمِ السِّحْرِ والتَّنْجيمِ والطَّلاسِمِ والشِّرْكيَّاتِ، ومِن أقْوالِه في هذا الكِتابِ:
1- قَوْلُه: (الفَصْلُ الثَّامِنَ عَشَرَ في بَيانِ كَيْفيَّةِ الانْتِفاعِ بزِيارةِ المَوْتى والقُبورِ، سَألَني بعضُ أكابِرِ المُلوكِ عن هذه المَسْألةِ، وهو المَلِكُ مُحَمَّدُ بنُ سامِ بنِ الحُسَيْنِ الغُوريُّ، وكانَ رَجُلًا حَسَنَ السِّيرةِ، مَرْضِيَّ الطَّريقةِ، شَديدَ المَيْلِ إلى العُلَماءِ، قَوِيَّ الرَّغْبةِ في مُجالَسةِ أهْلِ الدِّينِ والعَقْلِ، فكَتَبْتُ له فيه رِسالةً، وأنا أَذكُرُ هاهنا مُلَخَّصَ ذلك الكَلامِ...، إنَّ الإنْسانَ إذا ذَهَبَ إلى قَبْرِ إنْسانٍ قَوِيِّ النَّفْسِ كامِلِ الجَوْهَرِ شَديدِ التَّأثيرِ، ووَقَفَ هناك ساعةً، وتَأثَّرَتْ نَفْسُه مِن تلك التُّرْبةِ؛ حَصَلَ لنَفْسِ هذا الزَّائِرِ تَعَلُّقٌ بتلك التُّرْبةِ، وقدْ عَرَفْتَ أنَّ لنَفْسِ ذلك المَيِّتِ تَعَلُّقًا بتلك التُّرْبةِ أيضًا، فحينَئذٍ يَحصُلُ لنَفْسِ هذا الزَّائِرِ الحَيِّ ولنَفْسِ ذلك الإنْسانِ المَيِّتِ مُلاقاةٌ؛ بسَبَبِ اجْتِماعِهما على تلك التُّرْبةِ!...) [150] ((المطالب العالية من العِلم الإلهي)) (7/ 275). .
2- قَوْلُه: (إنَّ المُنَجِّمينَ يَنسُبونَ كلَّ بَلْدةٍ إلى بُرْجٍ مُعيَّنٍ وإلى كَوْكَبٍ مُعيَّنٍ، ولا بُدَّ في الأعْمالِ السِّحْريَّةِ مِن رِعايةِ تلك الأحْوالِ؛ فهذه أمورٌ يَجِبُ على مَن يَتَوَلَّى هذه الصِّناعةَ ألَّا يكونَ غافِلًا عنها؛ حتَّى تكونَ أعْمالُه أَقرَبَ إلى الصَّوابِ، وأَبعَدَ عن الزَّلَلِ، واللهُ المُوَفِّقُ!) [151] ((المطالب العالية من العِلم الإلهي)) (8/ 185). .
3- قَوْلُه: (العِلمُ بالسِّحْرِ غَيْرُ قَبيحٍ ولا مَحْظورٍ، اتَّفَقَ المُحَقِّقونَ على ذلك؛ لأنَّ العِلمَ لِذاتِه شَريفٌ، وأيضًا لعُمومِ قَوْلِه تَعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر: 9] ، ولأنَّ السِّحْرَ لو لم يكُنْ يُعلَمُ لَما أَمكَنَ الفَرْقُ بَيْنَه وبَيْنَ المُعجِزِ، والعِلمُ بكَوْنِ المُعجِزِ مُعْجِزًا واجِبٌ، وما يَتَوَقَّفُ الواجِبُ عليه فهو واجِبٌ، فهذا يَقْتَضي أن يكونَ تَحْصيلُ العِلمِ بالسِّحْرِ واجِبًا، وما يكونُ واجِبًا كيف يكونُ حَرامًا وقَبيحًا؟!) [152] ((تفسير الرازي)) (3/ 626). .
ثالثًا: تقريرُه أنَّ أحاديثَ الآحادِ لا تفيدُ إلَّا الظَّنَّ، ولا يجوزُ التمَسُّكُ بها في العقيدةِ حتى ولو كانت في صحيحِ البُخاريِّ ومُسلِمٍ!
قال الرَّازيُّ: (أخبارُ الآحادِ مظنونةٌ، فلم يجُزِ التمَسُّكُ بها في معرفةِ اللهِ تعالى وصفاتِه... أمَّا البُخاريُّ والقُشَيريُّ فهما ما كانا عالِمَينِ بالغُيوبِ، بل اجتهدا واحتاطا بمقدارِ طاقتِهما، فأمَّا اعتقادُ أنَّهما عَلِما جميعَ الأحوالِ الواقعةِ في زمانِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى زمانِنا فذلك لا يقولُه عاقِلٌ، غايةُ ما في البابِ أنَّا نحسِنُ الظَّنَّ بهما، وباللذينِ رويا عنهم، إلَّا أنَّا إذا شاهَدْنا خبرًا مشتَمِلًا على مُنكَرٍ لا يمكِنُ إسنادُه إلى الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قطَعْنا بأنَّه من أوضاعِ الملاحِدةِ ومن ترويجاتِهم على أولئك المُحدِّثينَ... واعلَمْ أنَّ هذا البابَ كثيرُ الكلامِ، وأنَّ القَدْرَ الذي أورَدْناه كافٍ في بيانِ أنَّه لا يجوزُ التمَسُّكُ في أصلِ الدِّينِ بأخبارِ الآحادِ. واللهُ أعلَمُ) [153] ((أساس التقديس في علم الكلام)) (ص: 127 - 129). .
وقد تعجَّب ابنُ تيميَّةَ من كلامِ الرَّازيِّ في ردِّ أحاديثِ الآحادِ، فقال: (من العَجَبِ العجيبِ أنَّ هذا الرَّجُلَ المحادَّ للهِ ولرَسولِه عَمَد إلى الأخبارِ المُستفيضةِ عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم التي توارَثَها عن أئمَّةِ الدِّينِ ووَرَثةِ الأنبياءِ والمُرسَلينَ، واتَّفق على صِحَّتِها جميعُ العارِفينَ، فقَدَح فيها قدحًا يُشبِهُ قَدحَ الزَّنادقةِ!) [154] ((بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية)) (3/ 83). .
وأعجَبُ من هذا أنَّ الرَّازيَّ قرَّر أنَّ الأدِلَّةَ النَّقليَّةَ وإن كانت من القُرآنِ الكريمِ لا تفيدُ اليقينَ، وإنَّما تفيدُ الظَّنَّ! فإذا حصل تعارُضٌ بينها وبين العقلِ فيَجِبُ عنده تقديمُ العقلِ؛ لأنَّ الأدِلَّةَ العقليَّةَ قطعيَّةٌ، وأمَّا أدلَّةُ القرآنِ وكذلك أدلَّةُ السُّنَّةِ النَّبويَّةِ سواءٌ المتواتِرةُ أو الآحادُ، فهي ظنِّيَّةُ الدَّلالةِ!
قال الرَّازيُّ: (الدَّلائِلُ النَّقليَّةُ لا تفيدُ اليقينَ؛ لأنَّها مبنيَّةٌ على نقلِ اللُّغاتِ، ونَقلِ النَّحوِ والتَّصريفِ، وعَدَمِ الاشتراكِ، وعَدَمِ المجازِ، وعَدَمِ الإضمارِ، وعَدَمِ النَّقلِ، وعَدَمِ التقديمِ والتأخيرِ، وعَدَمِ التخصيصِ، وعَدَمِ النَّسخِ، وعَدَمِ المُعارِضِ العقليِّ. وعَدَمُ هذه الأشياءِ مظنونٌ لا معلومٌ، والموقوفُ على المظنونِ مظنونٌ، وإذا ثبت هذا ظهر أنَّ الدَّلائِلَ النَّقليَّةَ ظنِّيَّةٌ، وأنَّ العقليَّةَ قَطعيَّةٌ، والظَّنُّ لا يُعارِضُ القَطعَ) [155] ((معالم أصول الدين)) (ص: 25). ويُنظر: ((الأربعين في أصول الدين)) للرازي (2/ 251 - 254)، ((المطالب العالية من العلم الإلهي)) للرازي (9/ 113 - 117). وهذا كلامٌ خطيرٌ جِدًّا، فيه تعطيلٌ للإسلامِ كما قال ابنُ الصَّلاحِ؛ حيث جعل دلالاتِ القُرآنِ والسُّنَّةِ لا تُفيدُ اليقينَ، قال ابنُ تيميَّةَ: (كان الثِّقةُ يحدِّثُ عن الشَّيخِ أبي عمرِو بنِ الصَّلاحِ أنَّه لمَّا رأى قَولَه: إنَّ الأدلَّةَ السَّمعيَّةَ لا تفيدُ اليقينَ، لعَنَه على ذلك، وقال: هذا تعطيلُ الإسلامِ! والمقصودُ هنا: أن يتبيَّنَ أنَّ دعواه أنَّ كُلَّ دليلٍ سمعيٍّ موقوفٌ على مُقدِّماتٍ ظَنيَّةٍ دعوى باطلةٌ، معلومٌ فسادُها بالاضطرارِ، ولو صحَّ هذا لكان لا يجزِمُ أحدٌ بمرادِ أحدٍ، ولكان العلمُ بمرادِ كُلِّ مُتكلِّمٍ لا يكونُ إلَّا ظنًّا، وهذا ممَّا يُعلَمُ فسادُه بالاضطرارِ، وإذا كان آحادُ العامَّةِ قد بيَّن مرادَه بكلامِه حتى يقطَعَ بمرادِه، فالعُلماءُ أَولى بذلك، وإذا كان العُلَماءُ المُصَنِّفون في العُلومِ يُقطَعُ بمرادِهم في أكثَرِ ما يقولونه كما يُقطَعُ بمرادِ الفُقَهاءِ والأطبَّاءِ والحُسَّابِ وغيرِهم؛ فالرَّسولُ الذي هو أكمَلُ الخلقِ عِلمًا وبيانًا ونصحًا أَولى أن يُبيِّنَ مرادَه ويقطَعَ به، وكلامُ اللهِ تعالى أكمَلُ من كلامِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأكمَلُ بيانًا، فهو أَولى بالقطعِ بمرادِ الرَّبِّ فيه من كلامِ كُلِّ أحدٍ) ((بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية)) (8/ 487 - 489). .
وقال أيضًا: (شَرطُ التَّمسُّكِ بالدَّلائلِ النَّقليَّةِ عدَمُ المُعارِضِ العقليِّ القاطِعِ؛ لأنَّ بتقديرِ وجودِه يجِبُ صَرفُ الظَّاهِرِ السَّمعيِّ إلى التَّأويلِ) [156] ((الأربعين في أصول الدين)) (2/ 253) بتصَرُّفٍ. قال ابنُ تيميَّةَ: (من قال: إنَّ الدَّليلَ السَّمعيَّ لا يُعلَمُ به مرادُ المتكَلِّمِ، كما يقولُ الرَّازيُّ ومتَّبِعوه الذين يزعُمونَ أنَّ الأدِلَّةَ السَّمعيَّةَ لا تفيدُ اليقينَ بمرادِ المتكَلِّمُ، فهؤلاء ليس عِندَهم دليلٌ شرعيٌّ يفيدُ العِلمَ بما أخبَرَ به الرَّسولُ، فكيف يعارِضونَ ذلك المعقولَ؟!) ((درء تعارض العقل والنقل)) (5/ 342). .
وقرَّر الرَّازيُّ أنَّ الأصلَ في الاستدلالِ أن يكونَ بالأدلَّةِ العقليَّةِ، أمَّا الأدِلَّةُ النَّقليَّةُ من القُرآنِ والسُّنَّةِ فهي لزيادةِ اليقينِ، وليست أصلًا في الاستدلالِ، وإنَّما الاعتمادُ على العقولِ! قال الرَّازيُّ: (الدَّلائِلُ العقليَّةُ إذا دلَّت على صِحَّةِ قولِنا، ثمَّ رأينا أنَّ ظواهِرَ القُرآنِ والأخبارِ تؤكِّدُ تلك العَقليَّاتِ، قَوِيَ اليقينُ وزالت الشُّبُهاتُ) [157] ((المطالب العالية من العلم الإلهي)) (9/ 214). .
وقد مشى الأشاعِرةُ المتأخِّرونَ على ما قرَّره لهم الرَّازيُّ [158] قال ابنُ تيميَّةَ: (لم يكُنِ الأشعَريُّ وأئمَّةُ أصحابِه على هذا، بل كانوا موافِقينَ لسائِرِ أهلِ السُّنَّةِ في وجوبِ تصديقِ ما جاء به الشَّرعُ مُطلَقًا، والقَدحِ فيما يعارِضُه، ولم يكونوا يقولون: الأدِلَّةُ السَّمعيَّةُ لا تفيدُ اليقينَ، بل كُلُّ هذا ممَّا أحدَثه المتأخِّرونَ الذين مالوا إلى الاعتزالِ والفلسفةِ مِن أتباعِهم) ((درء تعارض العقل والنقل)) (2/ 13). ، فتجِدُهم في كتُبِ العقيدةِ يُكثِرونَ من الاستدلالِ بالأدِلَّةِ العقليَّةِ، ولا يستدِلُّونَ بأدِلَّةِ القُرآنِ والسُّنَّةِ إلَّا قليلًا، فهم يُقدِّمونَ العَقلَ على النَّقلِ حتَّى ولو كان النَّقلُ من القُرآنِ الكريمِ! بل قال السُّنوسيُّ الأشعريُّ: (من أصولِ الكُفرِ التمَسُّكُ في أصولِ العقائِدِ بمُجرَّدِ ظواهِرِ الكتابِ والسُّنَّةِ مِن غيرِ عَرضِها على البراهينِ العقليَّةِ والقواطِعِ الشَّرعيَّةِ؛ للجَهلِ بأدِلَّةِ العُقولِ، وعدَمِ الارتباطِ بأساليبِ العَرَبِ) [159] ((حاشية الدسوقي على أم البراهين)) (ص: 217) بتصَرُّفٍ يسيرٍ. .
قال المُعلِّميُّ: (اعلَمْ أنَّ مقتضى كلامِ الرَّازيِّ في منعِه الاحتجاجَ البتَّةَ بالنُّصوصِ بالعقائِدِ التي لا يجزِمُ العَقلُ وَحدَه فيها بالجوازِ: أنَّه لو كان الرَّازيُّ في عهدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم، وقد قامت عندَه البراهينُ العقليَّةُ اليقينيَّةُ على أنَّه نبيٌّ صادقٌ، وآمَن به، ثمَّ أخبر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم بخبرٍ يتعلَّقُ بتلك العقائِدِ؛ لقال الرَّازيُّ: لا يمكِنُني أن أعلَمَ أنَّ هذا المعنى الظَّاهِرَ الواضِحَ من كلامِك هو مُرادُك؛ لاحتمالِ أن تكونَ أردْتَ خلافَه! فلو قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم: لم أرِدْ إلَّا هذا المعنى، وهو الظَّاهِرُ الواضِحُ، وهو كَيتَ وكَيتَ، لقال الرَّازيُّ: كلامُك هذا الثَّاني كالأوَّلِ! فلو أكَّد النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم وأقسَم بآكَدِ الأقسامِ لقال الرَّازيُّ: لا تتعَبْ يا رسولَ اللهِ؛ فإنَّ ذاك الأمرَ الذي دلَّ عليه خَبَرُك يحتَمِلُ أن يكونَ ممتَنِعًا عَقلًا، ما دام كذلك فلا يمكِنُ أن أثِقَ بمرادِك! فلو قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم: إنَّه ليس بمُمتنعٍ عَقلًا، بل هو واقِعٌ حَقًّا، لقال الرَّازيُّ: لا يمكِنُني أن أثِقَ بما يُفهِمُه كلامُك مهما صرَّحْتَ وحقَّقْتَ وأكَّدْتَ حتى يَثبُتَ عندي ببرهانٍ عقليٍّ أنَّه غيرُ ممتَنِعٍ عَقلًا! فلْيتدبَّرِ العاقِلُ هل يصدُرُ مِثلُ هذا ممَّن يؤمِنُ بأنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ، وأنَّه صادِقٌ في كُلِّ ما أخبره به عن اللهِ؟!) [160] ((القائد إلى تصحيح العقائد)) (ص: 171). .
رابِعًا: حَيْرتُه وتَناقُضُه ورُجوعُه
يُعَدُّ الرَّازِيُّ مِن أَكثَرِ الأشاعِرةِ اضْطِرابًا في أقْوالِه، وهذا بالنَّظَرِ إلى مُجمَلِ أقْوالِه في جَميعِ كُتُبِه، كما أنَّه في بعضِ المَسائِلِ أَعلَنَ حَيْرتَه أو شَكَّه، وفي آخِرِ أمْرِه رَجَعَ إلى طَريقةِ القُرْآنِ وفَضَّلَها، ولَعلَّ مِن أسْبابِ هذه الأمورِ في مَنهَجِه اعتِقادَه أنَّ دَلالاتِ القُرآنِ والسُّنَّةِ لا تفيدُ إلَّا الظَّنَّ، وأنَّها لا تفيدُ اليقينَ، وإنَّما المُعَوَّلُ عنده على العَقلِ، ولا يخفى أنَّ العقولَ مختلِفةٌ متبايِنةٌ، وما ينفيه بعَقلِه يُثبِتُه غيرُه بالعقلِ أيضًا، ولعَلَّ من الأسبابِ كذلك خَوْضَه في المَسائِلِ الفَلْسَفيَّةِ والكَلامِيَّةِ، وتَقْريرَه لكلِّ مَسْألةٍ بالأدِلَّةِ الَّتي أَورَدَها أصْحابُها، وزِيادتَه على ذلك بأدِلَّةٍ مِن عِنْدِه يَرى أنَّها صالِحةٌ لأن تكونَ دَليلًا لهم.
ومِن المُلاحَظاتِ في مَنهَجِ الرَّازِيِّ وأثَرِه على مَن بَعْدَه [161] يُنظر: ((موقف ابن تَيْمِيَّةَ من الأشاعِرة)) للمحمود (2/ 675 - 678). :
1- كلُّ مَن جاءَ بَعْدَ الرَّازِيِّ مِن الأشاعِرةِ اعْتَمَدَ في تَقْريرِ أُصولِ المَذهَبِ الأشْعَريِّ على ما كَتَبَه الرَّازِيُّ؛ لأنَّه اسْتَقْصى ما قالَه المُتَقَدِّمونَ مِن الأشاعِرةِ، وزادَ على ذلك؛ ومِن ثَمَّ أَصْبَحَتْ كُتُبُه مَصادِرَ مُيَسَّرةً ومُسْتَوْعِبةً لأدِلَّةِ الأشاعِرةِ في تَقْريرِ مَذهَبِهم، والرَّدِّ على خُصومِهم، وإذا أَطْلَقوا الإمامَ فهُمْ يُريدونَ الرَّازِيَّ.
2- ضَعَّفَ الرَّازِيُّ بعضَ أدِلَّةِ الأشاعِرةِ، ونَقَدَ بعضَ أعْلامِ الأشاعِرةِ في مُناسَباتٍ مُخْتلِفةٍ، فقدْ نَقَدَ البَغْداديَّ والغَزاليَّ والشَّهْرَسْتانيَّ في بعضِ المَسائِلِ.
3- كانت للرَّازِيِّ اجْتِهاداتٌ في المَذهَبِ الأشْعَريِّ، وَصَلَتْ إلى حَدِّ القُرْبِ مِن المُعْتَزِلةِ أحْيانًا؛ ففي صِفةِ الكَلامِ ضَعَّفَ الرَّازِيُّ أدِلَّةَ الأشاعِرةِ العَقْلِيَّةَ لإثْباتِ هذه الصِّفةِ، بلْ بَيَّنَ أنَّ مُنازَعةَ الأشاعِرةِ للمُعْتَزِلةِ في هذه المَسْألةِ ضَعيفةٌ، وصَرَّحَ بأنَّ الحُروفَ والأصْواتَ مُحدَثةٌ.
4- صَرَّحَ الرَّازِيُّ بالجَبْرِ في مَسْألةِ القَدَرِ خِلافًا لأئِمَّةِ الأشاعِرةِ الَّذين يُنكِرونَ أن يكونَ قَوْلُهم بالكَسْبِ يُؤَدِّي إلى الجَبْرِ.
5- تَأثَّرَ الأشاعِرةُ المُتَأخِّرونَ بمَنهَجِ الرَّازِيِّ في خَلْطِ عُلومِ الفَلْسَفةِ بعِلمِ الكَلامِ؛ قالَ ابنُ خَلْدونَ: (لمَّا وَضَعَ المُتَأخِّرونَ في عُلومِ الفَلْسَفةِ ودَوَّنوا فيها ورَدَّ عليهم الغَزاليُّ ما رَدَّ مِنها، ثُمَّ خَلَطَ المُتَأخِّرونَ مِن المُتَكلِّمينَ مَسائِلَ عِلمِ الكَلامِ بمَسائِلِ الفَلْسَفةِ لاشْتِراكِهما في المَباحِثِ، وتَشابُهِ مَوْضوعِ عِلمِ الكَلامِ بمَوْضوعِ الإلَهيَّاتِ ومَسائِلِه بمَسائِلِها، فصارَتْ كأنَّها فَنٌّ واحِدٌ، ثُمَّ غَيَّروا تَرْتيبَ الحُكَماءِ في مَسائِلِ الطَّبيعيَّاتِ والإلَهيَّاتِ وخَلَطوهما فَنًّا واحِدًا؛ قَدَّموا الكَلامَ في الأمورِ العامَّةِ ثُمَّ أَتْبَعوه بالجسْمانيَّاتِ وتَوابِعِها ثُمَّ بالرُّوحانيَّاتِ وتَوابِعِها إلى آخِرِ العِلمِ كما فَعَلَه الإمامُ ابنُ الخَطيبِ الرَّازِيُّ في (المَباحِث المَشرِقيَّة) وجَميعُ مَن بَعْدَه مِن عُلَماءِ الكَلامِ، وصارَ عِلمُ الكَلامِ مُخْتَلِطًا بمَسائِلِ الحِكْمةِ وكُتُبُه مَحْشُوَّةً بِها...، فاعْلَمْ ذلك لتُمَيِّزَ به بَيْنَ الفَنَّينِ؛ فإنَّهما مُخْتَلِطانِ عِنْدَ المُتَأخِّرينَ في الوَضْعِ والتَّأليفِ، والحَقُّ مُغايَرةُ كلٍّ مِنهما لصاحِبِه بالمَوْضوعِ والمَسائِلِ، وإنَّما جاءَ الالْتِباسُ مِن اتِّحادِ المَطالِبِ عِنْدَ الاسْتِدلالِ، وصارَ احْتِجاجُ أهْلِ الكَلامِ كأنَّه إنْشاءٌ لطَلَبِ الاعْتِدادِ بالدَّليلِ، وليس كذلك، بلْ إنَّما هو رَدٌّ على المُلْحِدينَ) [162] ((تاريخ ابن خلدون)) (1/ 653، 654) باختِصارٍ وتَصَرُّفٍ يسير. .
والمُتَتَبِّعُ لكُتُبِ البَيْضاويِّ والتَّفْتازانيِّ والإيجيِّ وغَيْرِهم يُلاحِظُ هذا المَنهَجَ واضِحًا، حتَّى إنَّ مَباحِثَ الإلَهيَّاتِ -وهي المَقْصودةُ- لا تَأخُذُ مِن الكِتابِ الواحِدِ مِنها إلَّا جُزْءًا صَغيرًا في آخِرِ الكِتابِ، والباقي كلُّه مُقدِّماتٌ مَنْطِقيَّةٌ وطَبيعيَّةٌ وفَلْسَفيَّةٌ.
قالَ الأسْتاذُ الدُّكْتورُ حُسَين آتاي، عَميدُ كُلِّيَّةِ الإلَهيَّاتِ بجامِعةِ أنْقَرة: (مِن خِلالِ اطِّلاعِنا على ما كُتِبَ عن هذا العالِمِ الكَبيرِ فَخْرِ الدِّينِ الرَّازِيِّ، وعلى ضَوْءِ ما تَوَصَّلْنا إليه مِن نَتائِجَ نَسْتَطيعُ أن نَقولَ: إنَّ الرَّازِيَّ قد لَعِبَ دَوْرًا كَبيرًا في عِلمِ الكَلامِ، والفَلْسَفةِ الإسْلاميَّةِ، ويُمكِنُ إيجازُ ذلك في نُقْطتَينِ:
الأُولى: أنَّه اسْتَوْعَبَ فَلْسَفةَ أَرِسْطو التَّقْليديَّةَ، ثُمَّ كانَ أوَّلَ مَن أَدخَلَ هذه الفَلْسَفةَ في عِلمِ الكَلامِ، ونَتيجةً لِما قامَ به الرَّازِيُّ أَصْبَحَ عِلمُ الكَلامِ فَلْسَفةً، ويُمكِنُ أن نَقولَ بعِبارةٍ أخرى: إنَّه جَعَلَ تلك الفَلْسَفةَ كَلامًا، وهكذا امْتَزَجَ عِلمُ الكَلامِ بالفَلْسَفةِ.
والثَّانِيةُ: وإذا كانَ الرَّازِيُّ قد أَدخَلَ الفَلْسَفةَ في عِلمِ الكَلامِ فإنَّه على ضَوْءِ فَلْسَفةِ أَرِسْطو التَّقْليديَّةِ قد أَعْطى اتِّجاهًا جَديدًا لعِلمِ الكَلامِ، فأثَّرَ بِذلك في الفِكْرِ الإسْلاميِّ؛ وقدْ ظَهَرَ تَأثيرُ الرَّازِيِّ جَلِيًّا في غَيْرِه مِن خِلالِ بَقاءِ العَديدِ مِن العُلَماءِ والمُفَكِّرينَ أَسْرى اتِّجاهِه ومَنهَجِه بَعْدَ ذلك) [163]تقديم الدكتور حسين آتاي لكِتاب ((محصل أفكار المتقدمين)) للرازي. .
هذا، وقدْ تَقدَّمَ في تَرْجمةِ الرَّازِيِّ أنَّه في آخِرِ حَياتِه صَرَّحَ بتَرْجيحِه لمَذهَبِ السَّلَفِ، ونَدَمِه على الدُّخولِ في عِلمِ الكَلامِ والفَلْسَفةِ.
18- أبو الحَسَنِ الآمِدِيُّ (ت 631هـ)
قالَ الذَّهَبيُّ: (وُلِدَ بَعْدَ الخَمْسينَ وخَمْسِمِئةٍ بيَسيرٍ بآمِدَ، وقَرَأَ بها القِراءاتِ، وحَفِظَ الهِدايةَ في مَذهَبِ أَحْمَدَ، وقَرَأَ القِراءاتِ أيضًا ببَغْدادَ، وتَفَقَّهَ ببَغْدادَ على أبي الفَتْحِ ابنِ المَنِّيِّ الحَنْبليِّ، ثُمَّ انْتَقَلَ شافِعيًّا، وصَحِبَ أبا القاسِمِ بنَ فَضْلانَ، واشْتَغَلَ عليه في الخِلافِ، وبَرَعَ فيه، وتَفَنَّنَ في عِلمِ النَّظَرِ والفَلْسَفةِ، وأَكثَرَ مِن ذلك. وكانَ مِن أذْكياءِ العالَمِ، ثُمَّ دَخَلَ الدِّيارَ المِصْريَّةَ، وتَصدَّرَ بها لإقْراءِ العَقْليَّاتِ بالجامِعِ الظَّافِريِّ، وأعادَ بمَدْرَسةِ الشَّافِعيِّ، وتَخرَّجَ به جَماعةٌ، وصَنَّفَ تَصانيفَ عَديدةً، ثُمَّ قاموا عليه ونَسَبوه إلى فَسادِ العَقيدةِ والانْحِلالِ والتَّعْطيلِ والفَلْسَفةِ، وكَتَبوا مَحْضَرًا بِذلك، قالَ القاضي ابنُ خَلِّكانَ: وَضَعوا خُطوطَهم بما يُسْتَباحُ به الدَّمُ، فخَرَجَ مُسْتَخْفيًا إلى الشَّامِ فاسْتَوْطَنَ حَماةَ، وصَنَّفَ في الأَصْلَينِ والمَنطِقِ والحِكْمةِ والخِلافِ، وله نَحْوٌ مِن عِشْرينَ تَصْنيفًا، ثُمَّ تَحَوَّلَ إلى دِمَشْقَ، ودَرَّسَ بالعَزيزيَّةِ مُدَّةً، ثُمَّ عُزِلَ عنها لسَبَبٍ اتُّهِمَ فيه، وأقامَ بَطَّالًا في بَيْتِه، وماتَ وله ثَمانونَ سَنَةً) [164] ((تاريخ الإسلام)) (14/ 50) باختِصارٍ وتَصَرُّفٍ يَسيرٍ. .
وقالَ السُّبْكيُّ: (الإمامُ أبو الحَسَنِ سَيْفُ الدِّينِ الآمِدِيُّ، الأُصوليُّ المُتَكلِّمُ، أحَدُ أذْكياءِ العالَمِ...، وتَفَنَّنَ في عِلمِ النَّظَرِ، وأَحكَمَ الأَصْلَينِ والفَلْسَفةَ وسائِرَ العَقْليَّاتِ، وأَكثَرَ مِن ذلك...، وحَمَلَ عنه الأذْكياءُ العِلمَ أُصولًا وكَلامًا وخِلافًا، وصَنَّفَ كِتابَ (الأبْكار في أُصولِ الدِّينِ)، و(الإحْكام في أُصولِ الفِقْهِ)، وتَصانيفُه فَوْقَ العِشْرينَ تَصْنيفًا، كلُّها مُنَقَّحةٌ حَسَنةٌ، ويُحْكى أنَّ شَيْخَ الإسْلامِ عِزَّ الدِّينِ بنَ عَبْدِ السَّلامِ قالَ: ما سَمِعْتُ أحَدًا يُلْقي الدَّرْسَ أَحسَنَ مِنه، وأنَّه قالَ: ما عَلِمْنا قَواعِدَ البَحْثِ إلَّا مِن سَيْفِ الدِّينِ الآمِدِيِّ، وأنَّه قالَ: لو وَرَدَ على الإسْلامِ مُتَزَنْدِقٌ يُشَكِّكُ ما تَعيَّنَ لمُناظَرتِه غَيْرُ الآمِدِيِّ؛ لاجْتِماعِ أهْليَّةِ ذلك فيه) [165] ((طبقات الشافعية الكبرى)) (8/ 306) باختِصارٍ. .
وقالَ سِبْطُ ابنِ الجَوْزيِّ: (لم يكُنْ في زَمانِه مَن يُجاريه في عِلمِ الكَلامِ والأَصْلَينِ، وكانَ يُنبَزُ بأشْياءَ ظاهِرُ حالِه أنَّه كانَ بَريئًا مِنها؛ لأنَّه سَريعُ الدَّمْعةِ، رَقيقُ القَلْبِ، سَليمُ الصَّدْرِ، وكانَ مُقيمًا بحَماةَ، ثُمَّ سَكَنَ دِمَشْقَ، وكانَ بَنو العادِلِ: المُعظَّمُ والأَشرَفُ والكامِلُ يَكْرَهونَه؛ لِما اشْتَهَرَ عنه مِن الاشْتِغالِ بالمَنطِقِ وعُلومِ الأوائِلِ، ومعَ كَراهيَةِ المُعظَّمِ له فإنَّه فَوَّضَ إليه أمْرَ المَدْرَسةِ العَزيزيَّةِ...، وأقامَ مُدَرِّسًا بالعَزيزيَّةِ إلى أن تُوفِّيَ المُعظَّمُ ومَلَكَ الأَشرَفُ، فأَخرَجَه مِنها، ونادى في المَدارِسِ: مَن ذَكَرَ غَيْرَ التَّفْسيرِ والفِقْهِ أو تَعرَّضَ لكَلامِ الفَلاسِفةِ، نَفَيْتُه، وأقامَ السَّيْفُ الآمِدِيُّ خامِلًا في بَيْتِه، قد طُفِئَ نورُ سَعادتِه إلى أن تُوفِّيَ) [166] ((مرآة الزمان في تواريخ الأعيان)) (22/ 332) باختِصارٍ. .
وقالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ المَحْمودُ: (مَنهَجُ الآمِدِيِّ يَقرُبُ مِن مَنهَجِ الرَّازِيِّ في بعضِ الأمورِ؛ مِنها:
1- خَلْطُه عِلمَ الكَلامِ بالفَلْسَفةِ.
2- نَقْدُه لأدِلَّةِ الأشاعِرةِ في المَسائِلِ المُخْتلِفةِ وتَضْعيفُها.
3- مَيْلُه إلى التَّصوُّفِ الفَلْسَفيِّ.
4- الحَيْرةُ وإيرادُ الإشْكالاتِ.
وقدْ خالَفَ الآمِدِيُّ الرَّازِيَّ في أمورٍ؛ مِنها:
1- الآمِدِيُّ معَ غَلَبةِ الحَيْرةِ عليه حتَّى في الأُصولِ الكِبارِ فإنَّ تَناقُضَه أَقَلُّ مِن تَناقُضِ الرَّازِيِّ.
2- الآمِدِيُّ كَثيرًا ما يَرُدُّ على الرَّازِيِّ) [167] ((موقف ابن تَيْمِيَّةَ من الأشاعِرة)) (2/ 678 - 680) باختِصارٍ. .
19- العِزُّ بنُ عَبْدِ السَّلامِ (ت 660 هـ)
قالَ الذَّهَبيُّ: (عَبْدُ العَزيزِ بنُ عَبْدِ السَّلامِ، شَيْخُ الإسْلامِ، وبَقِيَّةُ الأئِمَّةِ الأعْلامِ، عِزُّ الدِّينِ، أبو مُحَمَّدٍ السُّلَميُّ، الدِّمَشْقيُّ، الشَّافِعيُّ، وُلِدَ سَنَةَ سَبْعٍ وسَبْعينَ وخَمْسِمِئةٍ، وسَمِعَ مِن القاسِمِ بنِ الحافِظِ علِيِّ بنِ عَساكِرَ، رَوى عنه: شُيوخُنا العَلَّامةُ أبو الفَتْحِ ابنُ دَقيقِ العيدِ، وأبو مُحَمَّدٍ الدِّمْياطيُّ، وأبو الحُسَيْنِ اليُونينيُّ، وتَفَقَّهَ على الإمامِ فَخْرِ الدِّينِ بنِ عَساكِرَ، وقَرَأَ الأُصولَ والعَرَبيَّةَ، ودَرَّسَ وأَفْتى وصَنَّفَ، وبَرَعَ في المَذهَبِ، وبَلَغَ رُتْبةَ الاجْتِهادِ، وقَصَدَه الطَّلَبةُ مِن البِلادِ، وانْتَهَتْ إليه مَعْرِفةُ المَذهَبِ ودَقائِقُه، وتَخرَّجَ به أئِمَّةٌ، وله التَّصانيفُ المُفيدةُ، والفَتاوى السَّديدةُ، وكانَ إمامًا ناسِكًا، وَرِعًا عابِدًا، أمَّارًا بالمَعْروفِ نَهَّاءً عن المُنكَرِ، لا يَخافُ في اللهِ لَوْمةَ لائِمٍ، ذَكَرَه الشَّريفُ عِزُّ الدِّينِ فقالَ: حَدَّثَ ودَرَّسَ، وأَفْتى وصَنَّفَ، وتَوَلَّى الحُكْمَ بمِصْرَ مُدَّةً، والخَطابةَ بجامِعِها العَتيقِ، وكانَ عَلَمَ عَصْرِه في العِلمِ، جامِعًا لفُنونٍ مُتَعَدِّدةٍ، عارِفًا بالأُصولِ والفُروعِ والعَرَبيَّةِ، مُضافًا إلى ما جُبِلَ عليه مِن تَرْكِ التَّكَلُّفِ، والصَّلابةِ في الدِّينِ، وشُهْرتُه تُغْني عن الإطْنابِ في وَصْفِه. قُلْتُ: ووَلِيَ خَطابةَ دِمَشْقَ، فلمَّا تَسَلْطَنَ الصَّالِحُ إسْماعيلُ وأَعْطى الفَرِنْجَ الشَّقيفَ وصَفَدَ، نالَ مِنه ابنُ عَبْدِ السَّلامِ على المِنبَرِ، وتَرَكَ الدُّعاءَ له، فعَزَلَه الصَّالِحُ وحَبَسَه، ثُمَّ أَطلَقَه، فنَزَحَ إلى مِصْرَ، فلمَّا قَدِمَها تَلَقَّاه المَلِكُ الصَّالِحُ نَجْمُ الدِّينِ أَيُّوبُ، وبالَغَ في احْتِرامِه إلى الغايةِ، ولمَّا ماتَ شَهِدَ جِنازتَه المَلِكُ الظَّاهِرُ بِيبَرسُ) [168] ((تاريخ الإسلام)) (14/ 933) بتَصَرُّفٍ. .
وقالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ المَحْمودُ: (العِزُّ بنُ عَبْدِ السَّلامِ، الإمامُ العَلَمُ المَشْهورُ، أحَدُ تَلامِذةِ الآمِدِيِّ، تَميَّزَ بكَوْنِه مِن أعْلامِ العُلَماءِ العامِلينَ المُجاهِدينَ الَّذين يَقْتَدي بِهم فِئاتٌ عَظيمةٌ مِن النَّاسِ مِن العُلَماءِ وغَيْرِهم؛ ولِذلك فدِفاعُه عن مَذهَبِ الأشاعِرةِ وتَقْريرُه له في كُتُبِه له أثَرُه في النَّاسِ، ألَّفَ (المُلْحة في اعْتِقادِ أهْلِ الحَقِّ) قَرَّرَ فيها مَذهَبَ الأشاعِرةِ في كَلامِ اللهِ، وإنْكارِ الحَرْفِ والصَّوْتِ، وشَنَّعَ على مُخالِفيه مِن الحَنابِلةِ، ووَصَفَهم بالحَشْوِ، وأَغلَظَ عليهم، وفي كِتابِه (الإشارة) أوَّلَ صِفاتِ المَجيءِ، والقَبْضةِ، واليَدَينِ، والنُّزولِ، والضَّحِكِ، والفَرَحِ، والعَجَبِ، والاسْتِواءِ، والمَحَبَّةِ، والغَضَبِ، والسَّخْطِ وغَيْرِها، كما أنَّ الشَّيْخَ له مَيْلٌ إلى التَّصوُّفِ؛ فقدْ ذَكَرَ في كِتابِه (القَواعِد) أنْواعَ العُلومِ الَّتي يُمنَحُها الأنْبياءُ والأَوْلياءُ؛ فمِنها: عُلومٌ إلْهاميَّةٌ يُكشَفُ بها عمَّا في القُلوبِ، فيَرى أحَدُهم مِن الغائِباتِ ما لم تَجْرِ العادةُ بسَماعِ مِثلِه، ومِنهم مَن يَرى المَلائِكةَ، والشَّياطينَ، والبِلادَ النَّائِيةَ، بلْ يَنظُرُ إلى ما تحتَ الثَّرى، ومِنهم مَن يَرى السَّمَواتِ وأفْلاكَها وكَواكِبَها، وشَمْسَها وقَمَرَها على ما هي عليه، ومِنهم مَن يَرى اللَّوْحَ المَحْفوظَ ويَقرَأُ ما فيه، وكذلك يَسمَعُ أحَدُهم صَريرَ الأقْلامِ، وأصْواتَ المَلائِكةِ والجانِّ، ويَفهَمُ أحَدُهم مَنطِقَ الطَّيْرِ! فسُبْحانَ مَن أعَزَّهم وأدْناهم، والمُلاحَظُ في مَنهَجِ العِزِّ رَحِمَه اللهُ أنَّه معَ قَسْوتِه على مُخالِفيه في مَسْألةِ كَلامِ اللهِ فإنَّه ذَكَرَ في بعضِ كُتُبِه وفَتاويه وُجوهًا مِن الأعْذارِ لهم؛ فمَثَلًا ذَكَرَ في (الفَتاوى) أنَّ مُعْتقِدَ الجِهةِ لا يَكْفُرُ، وكذلك مَن يُثبِتُ الحَرْفَ والصَّوْتَ في كَلامِ اللهِ، وذَكَرَ في (القَواعِد) أنَّ مَسائِلَ قِدَمِ كَلامِ اللهِ، والصِّفاتِ الخَبَريَّةِ، كالوَجْهِ واليَدَينِ والجِهةِ وغَيْرِها، لا يُمكِنُ تَصْويبُ المُجْتَهِدينَ فيها، بلِ الحَقُّ معَ واحِدٍ مِنهم، والباقونَ مُخْطِؤونَ خَطَأً مَعْفُوًّا عنه؛ لمَشَقَّةِ الخُروجِ مِنه، والانْفِكاكِ عنه) [169] ((موقف ابن تَيْمِيَّةَ من الأشاعِرة)) (2/ 681 - 683) بتَصَرُّفٍ. .
فالعِزُّ بنُ عَبْدِ السَّلامِ رَحِمَه اللهُ لم يكُنْ مِن غُلاةِ الأشاعِرةِ الَّذين يُكفِّرونَ مُخالِفيهم المُثْبِتينَ للصِّفاتِ [170]: يُنظر: ((تحفة المريد على جوهرة التوحيد)) للباجوري (ص: 165). ، ولَعلَّ هذا -واللهُ أَعلَمُ- أثَّرَ في بعضِ تَلاميذِه ومَن جاءَ بَعْدَه؛ فهذا ابنُ دَقيقِ العيد رَحِمَه اللهُ، وهو مِن تَلاميذِ العِزِّ بنِ عَبْدِ السَّلامِ، لم يَتَوَسَّعْ في تَأويلِ الصِّفاتِ كما تَوَسَّعَ مُتَأخِّرو الأشاعِرةِ، قالَ السُّيوطيُّ: (تَوَسَّطَ ابنُ دَقيقِ العيدِ فقالَ: إذا كانَ التَّأويلُ قَريبًا مِن لِسانِ العَربِ لم يُنكَرْ، أو بَعيدًا تَوَقَّفْنا عنه، وآمَنَّا بمَعْناه على الوَجْهِ الَّذي أُريدَ به معَ التَّنْزيهِ، وما كانَ مَعْناه مِن هذه الألْفاظِ ظاهِرًا مَفْهومًا مِن تَخاطُبِ العَربِ قُلْنا به مِن غَيْرِ تَوْقيفٍ، كما في قَوْلِه تَعالى: يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر: 56] فنَحمِلُه على حَقِّ اللهِ وما يَجِبُ له) [171] ((الإتقان في علوم القُرْآن)) (4/ 1357). .
20- القاضي ناصِرُ الدِّينِ البَيْضاويُّ (ت 685هـ)
قالَ تاجُ الدِّينِ السُّبْكيُّ: (عَبْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ، القاضي ناصِرُ الدِّينِ البَيْضاويُّ، صاحِبُ (الطَّوالِعِ)، و(المِصباح في أُصولِ الدِّينِ)، و(الغاية القُصْوى) في الفِقْهِ، و(المِنْهاج في أُصولِ الفِقْهِ)، و(مُخْتَصَر الكَشَّافِ) في التَّفْسيرِ، و(شَرْح المَصابيحِ) في الحَديثِ، كانَ إمامًا مُبَرِّزًا نَظَّارًا صالِحًا مُتَعَبِّدًا زاهِدًا، وَلِيَ قَضاءَ القُضاةِ بشيرازَ، ودَخَلَ تَبْريزَ وناظَرَ بها) [172] ((طبقات الشافعية الكبرى)) للسبكي (8/ 157). .
وقالَ عبَّاس سُلَيْمان في مُقدِّمةِ تَحْقيقِه لكِتابِ (الطَّوالِع): (الطَّوالِعُ أنْفَسُ ما كَتَبَه البَيْضاويُّ على الإطْلاقِ، نَظَرًا للدَّوْرِ الَّذي لَعِبَه هذا الكِتابُ في تَأسيسِ الفَلْسَفةِ الكَلامِيَّةِ أو عِلمِ الكَلامِ الفَلْسَفيِّ، والطَّوالِعُ نَموذَجٌ جَيِّدٌ للمُؤَلَّفاتِ الكَلامِيَّةِ في عَصْرِ البَيْضاويِّ، وَضَعَ فيه مُؤَلِّفُه تَفْصيلًا لمُشكِلاتِ عِلمِ الكَلامِ والفَلْسَفةِ، وناقَشَ هذه المُشكِلاتِ مُناقَشةً وافِيةً مِن وِجْهةِ نَظَرِه كأحَدِ أقْطابِ الأشاعِرةِ؛ حيثُ لا يَخْفى على المُطالِعِ ذلك المَنهَجُ الأشْعَريُّ الَّذي اتَّبَعَه البَيْضاويُّ جُمْلةً وتَفْصيلًا، وقدْ ظَهَرَتِ الرُّوحُ الأشْعَريَّةُ واضِحةً في الطَّوالِعِ وُضوحًا مَلْموسًا نَظَرًا لمُتابَعةِ البَيْضاويِّ فيه لواحِدٍ مِن أقْطابِ الأشاعِرةِ السَّابِقينَ عليه، هو فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ الَّذي تَقيَّدَ البَيْضاويُّ بخُطاه خاصَّةً في كِتابِه المَباحِثِ المَشرِقيَّةِ) [173] مقدمة كِتاب ((طوالع الأنوار من مطالع الأنظار)) (ص: 15). .
وقالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ المَحْمودُ: (اشْتَهَرَتْ مُؤَلَّفاتُ البَيْضاويِّ خاصَّةً تَفْسيرَه المُسمَّى (أنْوارَ التَّنْزيلِ)، وكِتابَه (طَوالع الأنْوارِ) في عِلمِ الكَلامِ، وعُنِيَ بهما العُلَماءُ فشَرَحوهما، ووَضَعوا عليهما حَواشِيَ عَديدةً، قالَ السُّبْكيُّ: أمَّا الطَّوالِعُ فهو عنْدي أَجَلُّ مُخْتَصَرٍ أُلِّفَ في عِلمِ الكَلامِ، وأَبرَزُ مَن شَرَحَه أبو الثَّناءِ مَحْمودٌ الأصَبْهانيُّ المُتَوفَّى سَنَةَ 749هـ، والطَّوالِعُ يُعتَبَرُ مِن كُتُبِ الأشاعِرةِ الَّتي نَهَجَها مُتَأخِّرو الأشْعَريَّةِ في الاعْتِمادِ على المُقدِّماتِ الطَّويلةِ، ثُمَّ ذَكَرَ ما يَتَعلَّقُ بالإلَهيَّاتِ، وقدِ اسْتَغْرَقَتْ الإلَهيَّاتُ عنْدَ البَيْضاويِّ ما يُقارِبُ ثُلُثَ الكِتابِ فقط، وباقيه في المُقدِّماتِ العَقْلِيَّةِ والطَّبيعيَّةِ وما شابَهَها، وليس هناك جَديدٌ فيما عَرَضَه في مَسائِلِ الإلَهيَّاتِ سِوى أنَّه قالَ في مَسْألةِ كَلامِ اللهِ: والإطْنابُ في ذلك قَليلُ الجَدْوى، ولمَّا عَرَضَ لصِفاتِ الاسْتِواءِ واليَدَينِ والوَجْهِ والعَيْنِ ذَكَرَ خِلافَ الأشاعِرةِ فيها، ثُمَّ قالَ: والأَوْلى اتِّباعُ السَّلَفِ في الإيمانِ بِها، والرَّدُّ إلى اللهِ تَعالى، وفي مَسْألةِ القَدَرِ والكَسْبِ عنْدَ الأشاعِرةِ قالَ: وهو مُشكِلٌ، ولصُعوبةِ هذا المَقامِ أَنكَرَ السَّلَفُ على المُناظِرينَ فيه، وقدْ تابَعَه الأصْفَهانيُّ في شَرْحِه) [174] ((موقف ابن تَيْمِيَّةَ من الأشاعِرة)) (2/ 687) باختِصارٍ وتَصَرُّفٍ. .
21- القاضي عَضُدُ الدِّينِ الإيجيُّ (ت 756 هـ)
قالَ السُّبْكيُّ: (كانَ إمامًا في المَعْقولات، عارِفًا بالأَصْلَينِ والمَعاني والبَيانِ والنَّحْوِ، مُشارِكًا في الفِقْهِ، له في عِلمِ الكَلامِ كِتابُ (المَواقِف) وغَيْرِها، وفي أُصولِ الفِقْهِ (شَرْحُ مُخْتَصَرِ ابنِ الحاجِبِ)، وفي المَعاني والبَيانِ (القَواعِدُ الغِياثيَّةُ)، وكانَتْ له سَعادةٌ مُفرِطةٌ، ومالٌ جَزيلٌ، وإنْعامٌ على طَلَبةِ العِلمِ، وكَلِمةٌ نافِذةٌ، اشْتَغَلَ على الشَّيْخِ زَيْنِ الدِّينِ الهنكيِّ، تَلْميذِ القاضي ناصِرِ الدِّينِ البَيْضاويِّ وغَيْرِه، وكانَ أَكثَرُ إقامتِه أوَّلًا بمَدينةٍ سُلْطانيَّةَ، ووَلِيَ في أيَّامِ أبي سَعيدٍ قَضاءَ المَمالِكِ، ثُمَّ غَضِبَ عليه صاحِبُ كَرَمانَ فحَبَسَه إلى أن ماتَ رَحِمَه اللهُ) [175] ((طبقات الشافعية الكبرى)) (10/ 46). .
وقالَ ابنُ قاضي شُهْبةَ: (عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ أَحْمَدَ بنِ عَبْدِ الغَفَّارِ، قاضي قُضاةِ الشَّرْقِ، وشَيْخُ العُلَماءِ بتلك البِلادِ، العَلَّامةُ عَضُدُ الدِّينِ الإيجيُّ الشِّيرازيُّ، شارِحُ مُخْتَصَرِ ابنِ الحاجِبِ الشَّرْحَ المَشْهورَ، وغَيْرِ ذلك مِن المُؤَلَّفاتِ المَشْهورةِ في العُلومِ الكَلامِيَّةِ والعَقْلِيَّةِ، ذَكَرَه الإسْنَويُّ في طَبَقاتِه وقالَ: كانَ إمامًا في عُلومٍ مُتَعَدِّدةٍ، مُحَقِّقًا مُدَقِّقًا، ذا تَصانيفَ مَشْهورةٍ؛ مِنها (شَرْحُ المُخْتَصَرِ لابنِ الحاجِبِ)، و(المَواقِفُ)، و(الجَواهِرُ)، وغَيْرُها في عِلمِ الكَلامِ، و(الفَوائِدُ الغِياثيَّةُ) في المَعاني والبَيانِ، وكانَ صاحِبَ ثَرْوةٍ، وجودٍ وإكْرامٍ للوافِدينَ عليه، تَوَلَّى قَضاءَ القُضاةِ بمَمْلَكةِ أبي سَعيدٍ، فحُمِدَتْ سيرتُه... وأَنجَبَ تَلاميذَ اشْتَهَروا في الآفاقِ، مِثلُ: شَمْسِ الدِّينِ الكَرمانيِّ، وضِياءِ الدِّينِ العَفيفيِّ، وغَيْرِهم. قُلْتُ: والشَّيْخُ سَعْدُ الدِّينِ التَّفْتازانيُّ في (حاشِيةِ العَضُدِ) كَثيرُ الثَّناءِ عليه، ويَصِفُه بالمُحَقِّقِ. قالَ في بعضِ المَواضِعِ: وبالجُمْلةِ، لمَّا كانَ النَّاظِرُ في الشُّروحِ لا يَحصُلُ في المَقامِ على طائِلٍ، حاوَلَ الشَّارِحُ المُحَقِّقُ -شَكَرَ اللهُ سَعْيَه- على ما هو دَأبُه في تَحْقيقِ المَقامِ وتَفْسيرِ الكَلامِ على وَجْهٍ ليس للنَّاظِرِ فيه سِوى أن يَسْتَفيدَ، وحاشاه أن يُنقِصَ أو يَزيدَ، وقالَ: واعْلَمْ أنَّ الشَّارِحَ المُحَقِّقَ قد بَلَغَ في تَحْقيقِ مَباحِثِ القِياسِ سِيَّما الاعْتِراضاتِ كلَّ مَبلَغٍ، نسخًا مِنه شَريعةَ الشَّارِحينَ في تَطْويلِ الواضِحاتِ، والإغْضاءِ عن المُعْضِلاتِ، والاقْتِصارِ على إعادةِ المَتْنِ حيثُ لا سَبيلَ إلى نَقْلِ ما في المُطَوَّلاتِ، فلم يَبْقَ لنا سِوى اقْتِفاءِ آثارِه، والكَشْفِ عن خَبيئاتِ أسْرارِه، بل الاجْتِناءُ مِن بِحارِ ثِمارِه، والاسْتِضاءةُ بأنْوارِه) [176] ((طبقات الشافعية)) (3/ 27 - 29). .
هذا، وإنَّ بعضَ النَّاسِ يَظُنُّ أنَّ الأشاعِرةَ إنَّما يُخالِفونَ السَّلَفَ الصَّالِحَ في مَسْألةِ تَأويلِ الصِّفاتِ فقط، وليس الأمْرُ كذلك، وإنَّما شَنَّعَ العُلَماءُ على الأشاعِرةِ بسَبَبِ دُخولِهم في عِلمِ الكَلامِ، وتَأثُّرِهم بالفَلاسِفةِ، وتَوَسُّعِهم في تَأويلِ الصِّفاتِ مِثلَ تَأويلاتِ المُعْتَزِلةِ والجَهْميَّةِ، حتَّى أَنكَرَ بعضُهم صِفةَ العُلُوِّ للهِ سُبْحانَه الَّتي أَجمَعَ عليها أهْلُ الإسْلامِ ما عدا المُتَكلِّمينَ والمُتَأثِّرينَ بهم، ولم يُثبِتِ الأشاعِرةُ إلَّا سَبْعَ صِفاتٍ للهِ سُبْحانَه لدَلالةِ العَقْلِ عليها، وهي: الحَياةُ، والإرادةُ، والقُدْرةُ، والعِلمُ، والسَّمْعُ، والبَصَرُ، والكَلامُ. ثُمَّ قالوا في كَلامِ اللهِ: إنَّه كَلامٌ نَفْسيٌّ لا يُسمَعُ. وقالَ بعضُهم كالرَّازِيِّ: إنَّ رُؤْيةَ اللهِ تكونُ بالانْكِشافِ في القَلْبِ، فقارَبوا المُعْتَزِلةَ في إنْكارِ الرُّؤْيةِ بالعَيْنِ، وقالوا بأن أخْبارَ الآحادِ وإن كانَتْ صَحيحةً لا يُعتَمَدُ عليها في إثْباتِ مَسائِلِ العَقيدةِ، وتابَعوا المُرْجِئةَ في القَوْلِ بأنَّ الإيمانَ مُجَرَّدُ التَّصْديقِ، وأنَّ الأعْمالَ ليسَتْ مِن الإيمانِ، ووافَقوا الجَبْريَّةَ في نَفْيِ قُدْرةِ العَبْدِ، ولم يُفرِّقوا بَيْنَ الإرادةِ الكَوْنيَّةِ والإرادةِ الشَّرْعيَّةِ، ولا يُثبِتونَ لأفْعالِ اللهِ سُبْحانَه حِكْمةً، ثُمَّ صارَ المَذهَبُ الأشْعَريُّ عنْدَ المُتَأخِّرينَ مُمْتزِجًا بالتَّصوُّفِ، فتَوَسَّعوا جِدًّا في إثْباتِ كَراماتِ الأوْلِياءِ، وتَهاوَنوا كَثيرًا في تَوْحيدِ الأُلوهيَّةِ، حتَّى وَقَعَ بعضُهم في تَسْويغِ الاسْتِغاثةِ بغَيْرِ اللهِ سُبْحانَه، وتَبْريرِ وَسائِلِ الشِّرْكِ كالتَّوَسُّلِ بأصْحابِ القُبورِ!
ويَجِبُ التَّفْريقُ بَيْنَ مُتَكلِّمي الأشاعِرةِ؛ كعَبْدِ القاهِرِ البَغْداديِّ، وأبي المَعالي الجُوَيْنيِّ، وأبي حامِدٍ الغَزاليِّ، والشَّهْرَسْتانيِّ، والفَخْرِ الرَّازيِّ، والآمِدِيِّ، والإيجيِّ، ونَحْوِهم، عَفا اللهُ عنَّا وعنهم، وبَيْنَ مَن تأثَّرَ بمَذهَبِ الأشاعِرةِ مِن كِبارِ عُلَماءِ الأُمَّةِ الأعْلامِ -كالنَّوَويِّ، وابنِ حَجَرٍ العَسْقَلانيِّ، وغَيْرِهم- عن حُسْنِ نِيَّةٍ واجْتِهادٍ، أو مُتابَعةٍ خاطِئةٍ، أو جَهْلٍ بعِلمِ الكَلامِ، أو ظَنٍّ أنَّ مَذهَبَ السَّلَفِ هو تَفْويضُ المَعْنى، وأنَّ مَذهَبَ الخَلَفِ هو التَّأويلُ، وأنَّ الأمْرَ واسِعٌ لمَن اخْتارَ أحَدَ الطَّريقتَينِ، وفاتَهم مَعْرِفةُ أنَّ مَنهَجَ السَّلَفِ الصَّالِحِ في الصِّفاتِ هو تَفْويضُ الكَيْفِ لا المَعْنى [177] تقَدَّم في المَبحَثِ الرَّابِعِ: أنَّ مِن أسبابِ انتِسابِ كَثيرٍ مِنَ العُلَماءِ إلى أبي الحَسَنِ الأشْعَريِّ -رحمه اللهُ- ظَنَّهم أنَّ مَذهَب السَّلَفِ هو التَّفْويضُ، وأنَّ مَذهَبَ الخَلَفِ هو التَّأويلُ، وأنَّ كِلا المَذهَبينِ سائِغٌ، وقد بَيَّنَّا بحَمْدِ اللهِ بُطلانَ مَذهَبِ التَّفْويضِ بالحُجَجِ الواضِحةِ، والأمثِلةِ الصَّريحةِ، فراجِعْه لأهمِّيَّتِه. ، ولا شَكَّ أنَّهم في تَأويلِهم لبعضِ نُصوصِ الصِّفاتِ لا يَقْصِدونَ إلَّا تَنْزيهَ اللهِ سُبْحانَه؛ لِظَنِّهم أنَّ ظاهِرَها يَحْتاجُ إلى تَأويلٍ [178] يُنظر: ((جزء فيه ذكر اعتقاد السَّلَف في الحروف والأصوات)) للنووي (ص: 15 - 69)، ((تعقيب على مقالات الصابوني)) للحوالي (ص: 25)، ((الأشاعِرة في ميزان أهْل السُّنَّة)) للجاسم (ص: 597 - 640)، ((المقدمات الأساسية في علوم القُرْآن)) للجديع (ص: 367)، ((البدور السافرة في نفي انتساب ابن حَجَر إلى الأشاعِرة)) لأبي أسامة الأثري (ص: 57 - 148)، ((الردود والتعقبات على ما وقع للإمام النووي في شرح صَحيح مُسلِم من التَّأويل في الصِّفات)) لمشهور حسن (ص: 18 - 29). .
وإنَّ بعضَ النَّاسِ يُشكِلُ عليه أنَّ كَثيرًا مِن العُلَماءِ المَشْهورينَ يَنْتَسِبونَ إلى المَذهَبِ الأشْعَريِّ، ويُؤَوِّلونَ الصِّفاتِ [179] يُنظر ما تقدَّم في المَبحَثِ الرَّابِعِ: نَشْأةُ المَذهَبِ الأشْعَريِّ وأسبابُ انتِشارِه. !
قالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ: (لا يَجِبُ على أحَدٍ مِن المُسلِمينَ تَقْليدُ شَخْصٍ بعَيْنِه مِن العُلَماءِ في كلِّ ما يَقولُ، ولا يَجِبُ على أحَدٍ مِن المُسلِمينَ الْتِزامُ مَذهَبِ شَخْصٍ مُعيَّنٍ غَيْرِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في كُلِّ ما يوجِبُه ويُخبِرُ به، بلْ كُلُّ أحَدٍ مِن النَّاسِ يُؤخَذُ مِن قَوْلِه ويُترَكُ إلَّا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، واتِّباعُ شَخْصٍ لمَذهَبِ شَخْصٍ بعَيْنِه لِعَجْزِه عن مَعْرِفةِ الشَّرْعِ مِن غَيْرِ جِهتِه إنَّما هو مِمَّا يُسوَّغُ له، ليس هو ممَّا يَجِبُ على كلِّ أحَدٍ إذا أَمكَنَه مَعْرِفةُ الشَّرْعِ بغَيْرِ ذلك الطَّريقِ، بل كُلُّ أحَدٍ عليه أن يَتَّقِيَ اللهَ ما اسْتَطاعَ، ويَطلُبَ عِلمَ ما أمَرَ اللهُ به ورَسولُه، فيَفعَلَ المَأمورَ ويَترُكَ المَحْظورَ) [180] ((مجموع الفَتاوى)) (20/ 208). .
وقدْ نَقَلَ ابنُ القَيِّمِ الإجْماعَ على عَدَمِ جَوازِ التَّعَصُّبِ لعالِمٍ بعَيْنِه، واتِّخاذِ أقْوالِه بمَنزِلةِ نُصوصِ الشَّارِعِ لا يُلْتَفَتُ إلى قَوْلِ مَن سِواه، بلْ ولا يُلْتَفَتُ إلى نُصوصِ الشَّارِعِ إلَّا إذا وافَقَتْ نُصوصَ قَوْلِه، وذَكَرَ أنَّ هذا التَّعَصُّبَ لم يَظهَرْ في الأُمَّةِ إلَّا بَعْدَ انْقِراضِ القُرونِ الفاضِلةِ [181] يُنظر: ((إعلام الموقعين عن رب العالمين)) (3/ 532). .
وقالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ: (مَن أَمكَنَه الهُدى مِن غَيْرِ انْتِسابٍ إلى شَيْخٍ مُعيَّنٍ، فلا حاجةَ به إلى ذلك، ولا يُسْتَحَبُّ له ذلك، بل يُكرَهُ له، وأمَّا إن كانَ لا يُمكِنُه أن يَعبُدَ اللهَ بما أمَرَه إلَّا بذلك، مِثلُ أن يكونَ في مَكانٍ يَضعُفُ فيه الهُدى والعِلمُ والإيمانُ، والَّذين يُعَلِّمونَه ويُؤَدِّبونَه لا يَبذُلونَ له ذلك إلَّا بانْتِسابٍ إلى شَيْخِهم، أو يكونَ انْتِسابُه إلى شَيْخٍ يَزيدُ في دينِه وعِلمِه؛ فإنَّه يَفعَلُ الأَصلَحَ لدينِه، وهذا لا يكونُ في الغالِبِ إلَّا لتَفْريطِه، وإلَّا فلو طَلَبَ الهُدى على وَجْهِه لوَجَدَه، فأمَّا الانْتِسابُ الَّذي يُفرِّقُ بَيْنَ المُسلِمينَ، وفيه خُروجٌ عن الجَماعةِ والائْتِلافِ إلى الفُرْقةِ وسُلوكِ طَريقِ الابْتِداعِ ومُفارَقةِ السُّنَّةِ والاتِّباعِ؛ فهذا ممَّا يُنْهى عنه، ويَأثَمُ فاعِلُه، ويَخرُجُ بِذلك عن طاعةِ اللهِ ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [182] ((مجموع الفَتاوى)) (11/ 514). .
ويُعذَرُ العُلَماءُ المَعْروفونَ بتَعْظيمِ الشَّريعةِ، والتَّمَسُّكِ بالكِتابِ والسُّنَّةِ، وإن وَقَعَ مِنهم تَأوُّلٌ لبعضِ نُصوصِ الصِّفاتِ؛ فهُمْ لم يَقصِدوا بتَأويلِها إلَّا تَنْزيهَ اللهِ سُبْحانَه؛ لِظَنِّهم أنَّ ظاهِرَها يَحْتاجُ إلى تَأويلٍ. قالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ: (المُتَأوِّلُ الَّذي قَصْدُه مُتابَعةُ الرَّسولِ لا يُكَفَّرُ، بل ولا يُفَسَّقُ إذا اجْتَهَدَ فأَخطَأَ، وهذا مَشْهورٌ عنْدَ النَّاسِ في المَسائِلِ العَمَليَّةِ، وأمَّا مَسائِلُ العَقائِدِ فكَثيرٌ مِن النَّاسِ كَفَّرَ المُخْطِئينَ فيها، وهذا القَوْلُ لا يُعرَفُ عن أحَدٍ مِن الصَّحابةِ والتَّابِعينَ لهم بإحْسانٍ، ولا عن أحَدٍ مِن أئِمَّةِ المُسلِمينَ، وإنَّما هو في الأصْلِ مِن أقْوالِ أهْلِ البِدَعِ، الَّذين يَبْتَدِعونَ بِدْعةً ويُكَفِّرونَ مَن خالَفَهم، كالخَوارِجِ والمُعْتَزِلةِ والجَهْميَّةِ، ووَقَعَ ذلك في كَثيرٍ مِن أتْباعِ الأئِمَّةِ، كبعضِ أصْحابِ مالِكٍ والشَّافِعيِّ وأَحْمَدَ وغَيْرِهم ...، وإذا لم يكونوا في نَفْسِ الأمْرِ كُفَّارًا لم يكونوا مُنافِقينَ، فيَكونونَ مِن المُؤمِنينَ، فيُسْتَغْفَرُ لهم ويُتَرَحَّمُ عليهم. وإذا قالَ المُؤمِنُ: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر: 10] يَقصِدُ كلَّ مَن سَبَقَه مِن قُرونِ الأُمَّةِ بالإيمانِ، وإن كانَ قد أَخطَأَ في تَأويلٍ تَأوَّلَه فخالَفَ السُّنَّةَ، أو أَذنَبَ ذَنْبًا، فإنَّه مِن إخْوانِه الَّذين سَبَقوه بالإيمانِ، فيَدخُلُ في العُمومِ، وإن كانَ مِن الثِّنْتَينِ والسَّبْعينَ فِرْقةً، فإنَّه ما مِن فِرْقةٍ إلَّا وفيها خَلْقٌ كَثيرٌ ليسوا كُفَّارًا بل مُؤمِنينَ فيهم ضَلالٌ وذَنْبٌ يَسْتَحِقُّونَ به الوَعيدَ، كما يَسْتَحِقُّه عُصاةُ المُؤمِنينَ. والنَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يُخرِجْهم مِن الإسْلامِ، بل جَعَلَهم مِن أُمَّتِه، ولم يَقُلْ: إنَّهم يُخَلَّدونَ في النَّارِ، فهذا أَصْلٌ عَظيمٌ يَنْبَغي مُراعاتُه؛ فإنَّ كَثيرًا مِن المُنْتَسِبينَ إلى السُّنَّةِ فيهم بِدْعةٌ) [183] ((منهاج السنة النبوية)) (5/ 239 - 241). .
وقالَ ابنُ عُثَيْمينَ: (أمَّا مَوقِفُنا مِن العُلَماءِ المُؤَوِّلينَ فنَقولُ: مَن عُرِفَ مِنهم بحُسْنِ النِّيَّةِ، وكانَ لهم قَدَمُ صِدْقٍ في الدِّينِ واتِّباعِ السُّنَّةِ- فهو مَعْذورٌ بتَأويلِه السَّائِغِ، ولكنَّ عُذْرَه في ذلك لا يَمنَعُ مِن تَخْطِئةِ طَريقتِه المُخالِفةِ لِما كانَ عليه السَّلَفُ الصَّالِحُ مِن إجْراءِ النُّصوصِ على ظاهِرِها، واعْتِقادِ ما دَلَّ عليه ذلك الظَّاهِرُ مِن غَيْرِ تَكْييفٍ ولا تَمْثيلٍ؛ فإنَّه يَجِبُ التَّفْريقُ بَيْنَ حُكْمِ القَوْلِ وقائِلِه، والفِعلِ وفاعِلِه، فالقَوْلُ الخَطَأُ إذا كانَ صادِرًا عن اجْتِهادٍ وحُسْنِ قَصْدٍ لا يُذَمُّ عليه قائِلُه، بل يكونُ له أجْرٌ على اجْتِهادِه؛ لقَوْلِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا حَكَمَ الحاكِمُ فاجْتَهَدَ ثُمَّ أصابَ فله أجْرانِ، وإذا حَكَمَ فاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخطَأَ فله أجْرٌ )) مُتَّفَقٌ عليه [184] أخرجه البخاريُّ (7352)، ومُسلِم (1716) من حديثِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنه. ، وأمَّا وَصْفُه بالضَّلالِ، فإن أُريدَ بالضَّلالِ الضَّلالُ المُطلَقُ الَّذي يُذَمُّ به المَوْصوفُ، ويُمقَتُ عليه، فهذا لا يَتَوَجَّهُ في مِثلِ هذا المُجتَهِدِ الَّذي عُلِمَ مِنه حُسْنُ النِّيَّةِ، وكانَ له قَدَمُ صِدْقٍ في الدِّينِ واتِّباعِ السُّنَّةِ، وإن أُرِيدَ بالضَّلالِ مُخالَفةُ قَوْلِه للصَّوابِ مِن غَيْرِ إشْعارٍ بذَمِّ القائِلِ فلا بأسَ بذلك؛ لأنَّ مِثلَ هذا ليس ضَلالًا مُطلَقًا؛ لأنَّه مِن حيثُ الوَسيلةُ صَوابٌ، حيثُ بَذَلَ جُهْدَه في الوُصولِ إلى الحَقِّ، لكنَّه باعْتِبارِ النَّتيجةِ ضَلالٌ؛ حيثُ كانَ خِلافَ الحَقِّ، وبِهذا التَّفْصيلِ يَزولُ الإشْكالُ والتَّهْويلُ. واللهُ المُسْتَعانُ) [185] ((مجموع فَتاوى ورسائل العثيمين)) (1/ 120). .

انظر أيضا: