موسوعة الفرق

المَطلَبُ الأوَّلُ: المُرادُ بالأمَّةِ في حديثِ افتراقِ الأُمَّةِ


مِن المعلومِ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد بُعِث إلى الخَلقِ كافَّةً إنسِهم وجِنِّهم، لكنَّ المُؤمِنينَ به المُستجيبينَ لدعوتِه هم أمَّةُ الإجابةِ [29] انظر الكليات للكفوي (176) بتصَرُّفٍ. ، والكُفَّارَ هم أمَّةُ الدَّعوةِ [30] انظر الكليات للكفوي (181، 182) بتصَرُّفٍ، وانظر لسان العرب لابن منظور (12/23، 26). .
وقد ذهَب أغلَبُ العُلَماءِ مِن سَلفِ الأمَّةِ وخَلفِها إلى أنَّ المُرادَ بالأمَّةِ في هذا الحديثِ: ((إنَّ بني إسرائيلَ افتَرَقت على إحدى وسبعينَ فِرقةً، وإنَّ أمتي ستفترِقُ على ثِنْتَينِ وسَبعين فرقةً، كُلُّها في النَّارِ إلَّا واحدةً، وهي الجماعةُ ))  [31] أخرجه من طُرُقٍ: ابنُ ماجه (3993) واللَّفظُ له، وأحمد (12208) من حديثِ أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (3993)، وصحَّحه بشواهِدِه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (12208)، وصحَّح إسنادَه العراقيُّ في ((الباعث على الخلاص)) (16)، وجوَّده وقوَّاه على شرطِ الصَّحيح: ابنُ كثير في ((نهاية البداية والنهاية)) (1/27). : أمَّةُ الإجابةِ؛ إذ غالِبُ النُّصوصِ حينَما تذكُرُ (أمَّةَ مُحمَّدٍ) أو (أمَّتي) أو (هذه الأمَّةَ) فيُرادُ بها أمَّةُ الإجابةِ.
وذهَب البعضُ إلى أنَّ المُرادَ بالأمَّةِ هنا أمَّةُ الدَّعوةِ لا أمَّةُ الإجابةِ، وأنَّ الافتِراقَ إلى فِرَقٍ واقِعٌ في الأمَّةِ التي دعاها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى الإيمانِ به ولم تُؤمِنْ، وأنَّ الفِرقةَ النَّاجيةَ: هي كُلُّ مَن آمَن بما جاء به رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فهُم كُلُّهم أمَّةُ الإجابةِ على اختِلافِ فِرَقِهم وطوائِفِهم، وهُم أيضًا الفِرقةُ النَّاجيةُ.
والأمرُ الذي ألجأ هؤلاء إلى هذا القولِ هو ما ورَد في حديثِ الافتِراقِ مِن وَصفِ هذه الفِرَقِ الثِّنتينِ والسَّبعينَ بالهلاكِ، والحُكمِ عليها بأنَّها في النَّارِ، فأشكَل عليهم ذلك، وألجأهم إلى القولِ بأنَّ المُرادَ بالأمَّةِ أمَّةُ الدَّعوةِ، وأنَّ النَّاجيةَ هي أمَّةُ الإجابةِ [32] انظر كتاب "حديث افتراق الأمة إلى نَيِّف وسبعين فرقة" للصنعاني (56) بتصَرُّفٍ، وممَّن ذهب إلى هذا القول ودافع عنه في العصرِ الحاضرِ: سَقَّاف علي الكاف في كتابه (حقيقة الفرقة الناجية) (4، 36، 42). .
قال الصَّنعانيُّ: (لمَّا كان حديثُ الافتِراقِ مُشكِلًا كما ترى أجاب بعضُهم: بأنَّ المُرادَ بالأمَّةِ فيه أمَّةُ الدَّعوةِ لا أمَّةُ الإجابةِ [33] انظر كتاب "حديث افتراق الأمة إلى نَيِّف وسبعين فرقة" للصنعاني (56) بتصَرُّفٍ، وممَّن ذهب إلى هذا القول ودافع عنه في العصرِ الحاضرِ: سَقَّاف علي الكاف في كتابه (حقيقة الفرقة الناجية) (4، 36، 42). .
ثُمَّ ردَّ الصَّنعانيُّ هذا القولَ، وبيَّن ما فيه مِن ضَعفٍ، فقال: (هذا جوابٌ حَسنٌ لولا أنَّه يبعُدُ مِن وُجوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ لَفظَ أمَّتي حيثُ جاء في كلامِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يُرادُ به إلَّا أمَّةُ الإجابةِ غالِبًا، كحديثِ... ((لا تزالُ طائِفةٌ مِن أمَّتي )) [34] أخرجه مسلم (156) من حديثِ جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، ولفظُه: ((لا تزالُ طائفةٌ من أمَّتي يقاتِلون على الحَقِّ ظاهِرين إلى يومِ القيامةِ، قال: فيَنزِلُ عيسى بنُ مريمَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيقولُ أميرُهم: تعالَ صَلِّ لنا. فيقولُ: لا، إنَّ بعضَكم على بعضٍ أُمَراءُ. تَكْرِمةَ اللهِ هذه الأمَّةِ)). ...، وحديثِ ((إذا وُضِع السَّيفُ في أمَّتي )) [35] لفظُه: عن ثوبانَ قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا وُضِع السَّيفُ في أمَّتي لم يرفَعْ عنها إلى يومِ القيامةِ)). أخرجه أبو داود (4252)، وابن ماجه (3952) مطولًا، والترمذي (2202). صحَّحه الترمذي، وابن حبان (7238)، والحاكم على شَرطِ الشَّيخينِ في ((المستدرك)) (8390)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2202). ...، وغَيرِ ذلك ممَّا لا يُحصى؛ فالأمَّةُ في كلامِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حيثُ أُطلِقَت لا تُحمَلُ إلَّا على ما تُعورِفَ منها وعُهِد بلَفظِها، ولا تُحمَلُ على خلافِه وإن جاء نادِرًا.
الثَّاني: قولُه: ((ستفترِقُ)) بالسِّينِ الدَّالَّةِ على أنَّ ذلك أمرٌ مُستقبَلٌ.
الثَّالثُ: قولُه: ((لَيأتيَنَّ على أمَّتي))؛ فإنَّه إخبارٌ بما سيكونُ ويحدُثُ، ولو جعلْناه إخبارًا ينتهي بافتِراقِ المُشرِكينَ في المُستقبَلِ لَما كان فيه فائِدةٌ؛ إذ هم على ضلالةٍ وهلاكٍ اجتمَعوا أو افترَقوا.
الرَّابِعُ: قَرنُهم بطائِفَتَيِ اليهودِ والنَّصارى؛ فإِنَّ المُفترِقينَ منهما هم طائِفتا الإجابةِ؛ لظاهِرِ قولِه تعالى: وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة: 4] .
الخامِسُ: ما أخرَجه التِّرمِذيُّ عن أبي واقِدٍ اللَّيثيِّ: أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمَّا خرَج إلى غزوةِ حُنَينٍ مرَّ بشجرةٍ للمُشرِكينَ كانوا يُعلِّقونَ عليها أسلِحتَهم، يُقالُ لها: ذاتُ أنْواطٍ، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، اجعَلْ لنا ذاتَ أنواطٍ كما لهم ذاتُ أنواطٍ، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((سُبحانَ اللهِ))! إلى أن قال: ((والذي نَفسي بيدِه لتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَن قَبلَكم ))، وهذا خطابٌ لمَن خاطَبه مِن أمَّةِ الإجابةِ قَطعًا) [36] ((افتراق الأمة إلى نيف وسبعين فرقة)) (ص: 56-66). .
السَّادسُ: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم منذُ بُعِث إلى أن تُوفِّي والنَّاسُ مُنقسِمونَ إلى أمَّةِ دعوةٍ، وأمَّةِ إجابةٍ؛ إذ لم يُؤمِنْ به كُلُّ أهلِ الأرضِ، وأهلُ الكُفرِ مِلَلٌ شتَّى ونِحَلٌ مُختلِفةٌ، فعلى قولِ مَن قال: إنَّ الافتِراقَ واقِعٌ في أمَّةِ الدَّعوةِ، فهذا يعني وُقوعَ الافتِراقِ في حياتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهذا غَيرُ صحيحٍ؛ لأنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخبَر أنَّه سيقعُ لا واقِعٌ؛ فقال: ((ستفترِقُ أمَّتي)).
السَّابعُ: أنَّ القولَ بأنَّ المُرادَ بالأمَّةِ أمَّةُ الدَّعوةِ وهُم الكُفَّارُ، لا أمَّةُ الإجابةِ: يَلزَمُ منه تكفيرُ الفِرَقِ المُبتدِعةِ مِن خوارِجَ وشيعةٍ وقَدَريَّةٍ ومُرجِئةٍ وغَيرِهم، وإخراجُهم مِن أمَّةِ الإجابةِ، وهذا غَيرُ صحيحٍ؛ إذ الصَّحابةُ رضِي اللهُ عنهم -كأبي أُمامةَ مَثلًا- نزَّل حديثَ الافتِراقِ على الخوارِجِ لمَّا خرجَت في حياتِه، وعدَّهم مِن ضمنِ الثِّنتينِ والسَّبعينَ فِرقةً [37] يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السُّنَّة والجماعة)) للَّالَكائي (1/102). ، وكذلك العُلَماءُ مِن بَعدِه، فإذا قيل: إنَّ المُرادَ بالأمَّةِ أمَّةُ الدَّعوةِ، وهذه الفِرَقُ عُدَّت مِن ضِمنِهم؛ فهذا يستلزِمُ كُفرَها، وهذا لازِمٌ باطِلٌ يدُلُّ على بُطلانِ الملزومِ؛ فوجَب أن يكونَ المُرادُ بــ ((أمَّتي)) في الحديثِ أمَّةَ الإجابةِ، وتكونَ هذه الفِرَقُ المُبتدِعةُ المعدودةُ ضِمنَ الثِّنتينِ والسَّبعينَ فِرقةً مِن أهلِ القِبلةِ.
فالصَّحيحُ إذًا أنَّ المُرادَ بالأمَّةِ في حديثِ الافتِراقِ أمَّةُ الإجابةِ لا أمَّةُ الدَّعوةِ، خاصَّةً أنَّ مَن قال بأنَّ المُرادَ أمَّةُ الدَّعوةِ إنَّما قاله لاستِشكالِه معنًى فَهِمَه مِن الحديثِ، وهو معنًى يُمكِنُ توجيهُه بما لا يتعارَضُ معَ القولِ بأنَّ المُرادَ بالأمَّةِ أمَّةُ الإجابةِ؛ فقد استُشكِل الحديثُ الوارِدُ في افتِراقِ الأمَّةِ بأنَّه يلزَمُ منه تكفيرُ تلك الفِرَقِ المُنتسِبةِ للإسلامِ، والحُكمُ عليها جميعًا بالنَّارِ إلَّا واحِدةً.

انظر أيضا: