موسوعة الفرق

الفصلُ الثَّاني: تحذيرُ عُلَماءِ السَّلفِ مِن بِدعةِ المُرجِئةِ


قال ابنُ تيميَّةَ: (البِدعةُ التي يُعَدُّ بها الرَّجلُ مِن أهلِ الأهواءِ ما اشتَهر عندَ أهلِ العِلمِ بالسُّنَّةِ مُخالَفتُها للكتابِ والسُّنَّةِ؛ كبِدعةِ الخوارِجِ والرَّوافِضِ والقَدَريَّةِ والمُرجِئةِ) [627] ((مجموع الفتاوى)) (35/414). .
وقد ورَد عن كثيرٍ مِن التَّابِعينَ وأتباعِهم وأئمَّةِ السُّنَّةِ قديمًا كثيرٌ مِن النُّصوصِ في ذمِّ الإرجاءِ وأهلِه، والتَّحذيرِ مِن بِدعتِهم، وكان التَّابِعونَ وأتباعُهم يقصِدونَ بذلك مُرجِئةَ الفُقَهاءِ، معَ أنَّ إرجاءَهم خفيفٌ، فكيف يكونُ حالُ مُرجِئةِ المُتكلِّمينَ الذين جاؤوا مِن بَعدِهم؟!
بعضُ أقوالِ عُلَماءِ السَّلفِ في ذمِّ المُرجِئةِ:
1- سعيدُ بنُ جُبَيرٍ:
عن أيُّوبَ قال: قال لي سعيدُ بنُ جُبَيرٍ: (ألَمْ أرَك معَ طَلْقٍ؟) قال: قلْتُ: بلى، فما له؟ قال: (لا تُجالِسْه؛ فإنَّه مُرجِئٌ)، قال أيُّوبُ: وما شاوَرْتُه في ذلك، ولكن يحِقُّ للمُسلِمِ إذا رأى مِن أخيه ما يكرَهُ أن يأمُرَه وينهاه [628] يُنظر: ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (1/ 323)، ((الشريعة)) للآجري (2/ 681). .
وعن عطاءِ بنِ السَّائِبِ، قال: ذكَر سعيدُ بنُ جُبَيرٍ المُرجِئةَ، قال: فضرَب لهم مَثلًا، فقال: (مَثلُهم مَثلُ الصَّابِئينَ، إنَّهم أتَوا اليهودَ، فقالوا: ما دينُكم؟ قالوا: اليهوديَّةُ، قالوا: مَن نبيُّكم؟ قالوا: موسى، قالوا: فماذا لمَن تبِعَكم؟ قالوا: الجنَّةُ، ثُمَّ أتَوا النَّصارى فقالوا: ما دينُكم؟ قالوا: النَّصرانيَّةُ، قالوا: فما كتابُكم؟ قالوا: الإنجيلُ، قالوا: فمَن نبيُّكم؟ قالوا: عيسى، قالوا: فماذا لمَن تبِعَكم؟ قالوا: الجنَّةُ، قالوا: فنحن بَينَ دينَينِ) [629] يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (5/ 1063). .
وعن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ قال: (المُرجِئةُ يهودُ القِبلةِ) [630] يُنظر: ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (1/ 341). .
وعن العَلاءِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ رافِعٍ: أنَّ ذرًّا [631] هو ذَرُّ بنُ عبدِ اللهِ المُرْهِبيُّ -بضَمِّ الميمِ وسُكونِ الرَّاءِ- الهَمدانيُّ أبو عُمَرَ الكوفيُّ، وقد رُمِيَ بالإرجاءِ. يُنظر: ((تقريب التهذيب)) (ص: 203)، ((تهذيب التهذيب)) (3/ 218) كلاهما لابن حَجَرٍ. أتى سعيدَ بنَ جُبَيرٍ يومًا في حاجةٍ، فقال: (لا، حتَّى تُخبِرَني على أيِّ دينٍ أنت اليومَ، أو رأيٍ أنت اليومَ؟ فإنَّك لا تزالُ تلتمِسُ دينًا قد أضلَلْتَه! ألا تستحي مِن رأيٍ أنت اليومَ أكبَرُ منه؟) [632] يُنظر: ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (1/ 325). .
وعن أبي جَحَّافٍ قال: قال سعيدُ بنُ جُبَيرٍ لذرٍّ: (يا ذرُّ، ما لي أراك كُلَّ يومٍ تُجدِّدُ دينًا؟) [633] يُنظر: ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (1/ 328). .
وعن أبي المُختارِ قال: شكا ذرٌّ سعيدَ بنَ جُبَيرٍ إلى أبي البَختَريِّ الطَّائيِّ، فقال: مررْتُ، فسلَّمْتُ عليه، فلم يرُدَّ عليَّ، فقال أبو البَختَريِّ لسعيدِ بنِ جُبَيرٍ، فقال سعيدٌ: (إنَّ هذا يُجدِّدُ كُلَّ يومٍ دينًا، لا واللهِ لا أكلِّمُه أبدًا) [634] يُنظر: ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (1/ 328). .
وعن حبيبٍ قال: كنْتُ عندَ سعيدِ بنِ جُبَيرٍ في مسجِدٍ، فتذاكَرْنا ذرًّا في حديثِنا، فنال منه، فقلْتُ: يا أبا عبدِ اللهِ، إنَّه لوادٌّ لك بحُسنِ الثَّناءِ إذا ذكَرَك، فقال: (ألا تراه ضالًّا كُلَّ يومٍ يطلُبُ دينَه؟!) [635] يُنظر: ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (1/ 333). .
2- إبراهيمُ النَّخَعيُّ:
عن الحَسَنِ بنِ عُبَيدِ اللهِ، قال: سَمِعْتُ إبراهيمَ يقولُ لذرٍّ: (وَيحَك يا ذرُّ! ما هذا الدِّينُ الذي جئْتَ به؟)، قال ذرٌّ: ما هو إلَّا رأيٌ رأَيتُه، قال: ثُمَّ سمعْتُ ذرًّا يقولُ: إنَّه لدينُ اللهِ عزَّ وجلَّ الذي بعَث اللهُ به نوحًا عليه السَّلامُ [636] يُنظر: ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (1/ 335). !
وعن المُغيرةِ قال: (مرَّ إبراهيمُ التَّيميُّ بإبراهيمَ النَّخَعيِّ، فسلَّم عليه؛ فلم يَرُدَّ عليه) [637] يُنظر: ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (1/ 327)، ((الإبانة الكبرى)) لابن بطة (2/ 891). ، وقد كان إبراهيمُ التَّيميُّ يقولُ بإرجاءِ الفُقَهاءِ.
وعن ميمونٍ أبي حمزةَ قال: قال لي إبراهيمُ النَّخَعيُّ: (لا تدَعُوا هذا الملعونَ يدخُلُ عَلَيَّ بَعدَما تكلَّم في الإرجاءِ؛ يعني حمَّادًا) [638] يُنظر: ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (1/ 365). ، وحمَّادُ بنُ أبي سُلَيمانَ هو فقيهُ أهلِ الكوفةِ بَعدَ إبراهيمَ النَّخَعيِّ، وهو أوَّلُ مَن أظهَر الإرجاءَ في الكوفةِ، وتبِعه على ذلك تلميذُه أبو حَنيفةَ عفا اللهُ عنهم، ومعَ كونِ إرجائِهم خفيفًا فإنَّ السَّلفَ اشتدَّ نكيرُهم عليهم، وهذا يدُلُّ على فِقهِ السَّلفِ؛ فإنَّ البِدعةَ تبدأُ صغيرةً، ثُمَّ تكبُرُ، ويَعظُمُ شرُّها.
وعن أبي حمزةَ الثُّمَاليِّ قال: قُلْتُ لإبراهيمَ: ما ترى في رأيِ المُرجِئةِ؟ فقال: (أَوَّهْ! لفَّقوا قولًا، فأنا أخافُهم على الأمَّةِ، والشَّرُّ مِن أمرِهم كثيرٌ؛ فإيَّاك وإيَّاهم) [639] يُنظر: ((الشريعة)) للآجري (2/ 678)، ((الإبانة الكبرى)) لابن بطة (2/ 892). .
وعن سعيدِ بنِ صالِحٍ قال: قال إبراهيمُ النَّخَعيُّ: (لَأنا لِفتنةِ المُرجِئةِ أخوَفُ على هذه الأمَّةِ مِن فِتنةِ الأزارِقةِ!) [640] يُنظر: ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (1/ 313)، ((الإبانة الكبرى)) لابن بطة (2/ 888). ، والأزارِقةُ هم فِرقةٌ مِن الخوارِجِ، فجعَل النَّخَعيُّ بِدعةَ المُرجِئةِ أشَدَّ مِن بِدعةِ الخوارِجِ؛ فالخوارِجُ يُعظِّمونَ الطَّاعاتِ، ويُعظِّمونَ اقتِرافَ المُحرَّماتِ، إلَّا أنَّهم غلَوا في تكفيرِ صاحِبِ الكبيرةِ، بخلافِ المُرجِئةِ الذين غلَوا في عَدمِ اعتِبارِ الطَّاعاتِ مِن الإيمانِ، وتهاوَنوا في أمرِ المعاصي، فجعَلوا اقتِرافَها لا ينقُصُ الإيمانَ.
وعن حكيمِ بنِ جُبَيرٍ قال: قال إبراهيمُ النَّخَعيُّ: (المُرجِئةُ أخوَفُ عندي على أهلِ الإسلامِ مِن عِدَّتِهم مِن الأزارقةِ) [641] يُنظر: ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (1/ 313، 338)، ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (5/ 1061). .
وعن مُسلِمٍ المُلَائيِّ، عن إبراهيمَ النَّخَعيِّ قال: (الخوارِجُ أعذَرُ عندي مِن المُرجِئةِ) [642] يُنظر: ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (1/ 337). .
وقال إبراهيمُ النَّخَعيُّ: (تركَتِ المُرجِئةُ الدِّينَ أرَقَّ مِن ثَوبٍ سابِريٍّ) [643] يُنظر: ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (1/ 313). والسَّابِريُّ من الثِّيابِ: الرِّقاقُ. يُنظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (4/ 341). .
3- مُجاهِدُ بنُ جَبرٍ:
عن الوليدِ بنِ زيادٍ، عن مُجاهِدٍ قال: (يبتَدونَ، فيكونونَ مُرجِئةً، ثُمَّ يكونونَ قَدَريَّةً، ثُمَّ يصيرونَ مجوسًا!) [644] يُنظر: ((الإبانة الكبرى)) لابن بطة (4/ 123، 207). .
4- نافِعٌ مولى ابنِ عُمرَ:
عن مَعقِلِ بنِ عُبَيدِ اللهِ العَبْسيِّ، أنَّه قال لنافِعٍ: إنَّهم يقولونَ: نحن نُقِرُّ بأنَّ الصَّلاةَ فريضةٌ ولا نُصلِّي، وأنَّ الخَمرَ حرامٌ ونحن نشرَبُها، وأنَّ نِكاحَ الأمَّهاتِ حرامٌ ونحن نفعَلُ، قال: فنتَر يدَه مِن يدي، ثُمَّ قال: (مَن فعَل هذا فهو كافِرٌ) [645] يُنظر: ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (1/ 383)، ((الإبانة الكبرى)) لابن بطة (2/ 810)، ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (5/ 1025). .
5- مُحمَّدُ بنُ عليِّ بنِ الحُسَينِ:
قال أبو جَعفَرٍ مُحمَّدُ بنُ عليِّ بنِ الحُسَينِ: (ما ليلٌ بليلٍ، ولا نهارٌ بنهارٍ مِن المُرجِئةِ باليهودِ) [646] يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (5/ 1064). .
6- قَتادةُ بنُ دِعامةَ:
عن الأوزاعيِّ قال: كان يحيى وقَتادةُ يقولانِ: (ليس مِن الأهواءِ شيءٌ أخوَفَ عندَهم على الأمَّةِ مِن الإرجاءِ) [647] يُنظر: ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (1/ 318، 345). .
7- مُحمَّدُ بنُ مُسلِمٍ الزُّهريُّ:
قال الزُّهريُّ: (ما ابتُدِعَت في الإسلامِ بِدعةٌ أضَرُّ على الملَّةِ مِن هذه، يعني: أهلَ الإرجاءِ) [648] يُنظر: ((الشريعة)) للآجري (2/ 677). .
8- منصورُ بنُ المُعتمِرِ:
قال منصورُ بنُ المُعتَمِرِ في شيءٍ: (لا أقولُ كما قالت المُرجِئةُ الضَّالَّةُ المُبتدِعةُ) [649] يُنظر: ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (1/312، 338)، ((الشريعة)) للآجري (2/682)، ((الإبانة الكبرى)) لابن بطة (2/886)، ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي(5/1064). .
وعن منصورِ بنِ المُعتمِرِ قال: (هم أعداءُ اللهِ: المُرجِئةُ والرَّافِضةُ) [650] يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (5/ 1064). .
9- مُغيرةُ بنُ مِقْسَمٍ الضَّبِّيُّ:
عن الأسوَدِ بنِ عامِرٍ قال: سمعْتُ أبا بكرِ بنَ عيَّاشٍ ذكَر أبا حَنيفةَ وأصحابَه الذين يُخاصِمونَ، فقال: كان مُغيرةُ يقولُ: (واللهِ الذي لا إلهَ إلَّا هو، لَأنا أخوَفُ على الدِّينِ منهم مِن الفُسَّاقِ) [651] يُنظر: ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (1/ 190). .
10- سُلَيمانُ الأعمَشُ:
حلَف الأعمَشُ، فقال: (واللهِ الذي لا إلهَ إلَّا هو ما أعرِفُ مَن هو شرٌّ منهم) [652] يُنظر: ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (1/ 190). .
11- مُحمَّدُ بنُ عَجلانَ:
عن سعيدِ بنِ سالِمٍ، أنَّه قال لابنِ عَجلانَ: أرأَيتَ إن أنا لم أرفَعِ الأذى عن الطَّريقِ، أكونُ ناقِصَ الإيمانِ؟ فقال: (هذا مُرجِئٌ، مَن يعرِفُ هذا؟)، قال: فلمَّا قُمْنا عاتَبْتُه، فردَّ عليَّ القولَ، فقلْتُ: هل لك أن تقِفَ فتقولَ: يا أهلَ الطَّوافِ، إنَّ طَوافَكم ليس مِن الإيمانِ، وأقولَ أنا: بل مِن الإيمانِ، وننظُرَ ما يصنَعونَ؟ قال: تُريدُ أن تُشهِّرَني؟ قلْتُ: فما تُريدُ إلى قولٍ إذا أظهَرْتَه شهَّرَك؟ [653] يُنظر: ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (9/ 320). .
12- سُفيانُ الثَّوريُّ:
عن أبي نُعَيمٍ الفَضلِ بنِ دُكَينٍ قال: كنَّا معَ سُفيانَ جُلوسًا في المسجِدِ الحرامِ، فأقبَل أبو حَنيفةَ يُريدُه، فلمَّا رآه سُفيانُ قال: (قوموا بنا لا يُعْدِنا هذا بجَرَبِه!)، فقُمْنا وقام سُفيانُ، وكنَّا مرَّةً أخرى جُلوسًا معَ سُفيانَ في المسجِدِ الحرامِ، فجاءه أبو حَنيفةَ، فجلَس، فلم نشعُرْ به، فلمَّا رآه سُفيانُ استدار، فجعَل ظَهرَه إليه [654] يُنظر: ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (1/ 199). .
وعن وَكيعٍ قال: لمَّا تكلَّم أبو حَنيفةَ في الإرجاءِ، وخاصَم فيه، قال سُفيانُ الثَّوريُّ: (ينبغي أن يُنفى مِن الكوفةِ، أو يخرُجَ منها) [655] يُنظر: ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (1/ 222). .
وقال ابنُ نُمَيرٍ: سمعْتُ سُفيانَ يقولُ: (دينٌ مُحدَثٌ، دينُ الإرجاءِ) [656] يُنظر: ((السنة)) للخلال (3/ 563). .
وعن مُحمَّدِ بنِ يوسُفَ قال: دخلْتُ على سُفيانَ الثَّوريِّ وفي حِجرِه المُصحَفُ، وهو يُقلِّبُ الوَرقَ، فقال: (ما أحدٌ أبعَدَ منه مِن المُرجِئةِ) [657] يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (5/ 1067). .
13- شَريكُ بنُ عبدِ اللهِ القاضي:
عن عبدِ الرَّحمنِ بنِ مَهديٍّ قال: بلَغني أنَّ شُعبةَ قال لشَريكٍ: كيف لا تُجيزُ شهادةَ المُرجِئةِ؟ قال: (كيف أجيزُ شهادةَ قومٍ يزعُمونَ أنَّ الصَّلاةَ ليست مِن الإيمانِ؟!) [658] يُنظر: ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (1/ 334). .
وقال حجَّاجٌ: سمعْتُ شَريكًا وذكَر المُرجِئةَ، فقال: (هم أخبَثُ قومٍ، وحسْبُك بالرَّافِضةِ خُبثًا، ولكنَّ المُرجِئةَ يَكذِبونَ على اللهِ تعالى) [659] يُنظر: ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (1/ 312)، ((الشريعة)) للآجري (2/ 683). .
14- مالِكُ بنُ أنسٍ:
عن مَعنِ بنِ عيسى: أنَّ رجُلًا بالمدينةِ يُقالُ له: أبو الجُوَيريةِ يرى الإرجاءَ، فقال مالِكُ بنُ أنسٍ: (لا تُناكِحوه) [660] يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (5/ 1067). .
15- شِهابُ بنُ خِراشٍ الشَّيبانيُّ:
قال هِشامٌ: لَقِيتُ شِهابًا وأنا شابٌّ في سنةِ أربعٍ وسَبعينَ ومائةٍ، فقال لي: (إن لم تكنْ قَدَريًّا ولا مُرجِئًا حدَّثْتُك، وإلَّا لم أُحدِّثْك)، فقلْتُ: ما فيَّ مِن هذَينِ شيءٌ [661] يُنظر: ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (8/ 285-286). .
16- عبدُ اللهِ بنُ المُبارَكِ:
عن عليِّ بنِ الحَسنِ بنِ شقيقٍ قال: قال رجُلٌ لعبدِ اللهِ بنِ المُبارَكِ: يا مَعشَرَ المُرجِئةِ، قال: (رمَيتَني بهوًى مِن الأهواءِ) [662] يُنظر: ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (1/ 336). .
17- وَكيعُ بنُ الجرَّاحِ:
قال وَكيعٌ: (أحدَثوا هؤلاء المُرجِئةُ الجَهْميَّةُ، والجَهْميَّةُ كُفَّارٌ، والمِرِّيسيُّ جَهْميٌّ، وعلِمْتُم كيف كفَروا، قالوا: يكفيك المعرفةُ، وهذا كُفرٌ، والمُرجِئةُ يقولونَ: الإيمانُ قولٌ بلا فِعلٍ، وهذا بِدعةٌ) [663] يُنظر: ((خلق أفعال العباد)) للبخاري (ص: 34). .
18- سُفيانُ بنُ عُيَينةَ:
سُئِل ابنُ عُيَينةَ عن الإرجاءِ، فقال: (أمَّا المُرجِئةُ اليومَ فهُم قومٌ يقولونَ: الإيمانُ قولٌ بلا عَملٍ، فلا تُجالِسوهم، ولا تُؤاكِلوهم، ولا تُشارِبوهم، ولا تُصلُّوا معَهم، ولا تُصلُّوا عليهم) [664] يُنظر: ((تهذيب الآثار)) للطبري (2/ 659). .
19- يَزيدُ بنُ هارونَ:
عن إسحاقَ بنِ بُهلولٍ قال: قلْتُ ليَزيدَ بنِ هارونَ: أصلِّي خَلفَ الجَهْميَّةِ؟ قال: (لا)، قلْتُ: أصلِّي خَلفَ المُرجِئةِ؟ قال: (إنَّهم لخُبَثاءُ) [665] يُنظر: ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (1/ 123). .
20- جَعفَرُ بنُ عَونٍ:
قال ابنِ عَونٍ: (كان حمَّادُ بنُ أبي سُلَيمانَ مِن أصحابِنا حتَّى أحدَث ما أحدَث)، قال: أحدَث الإرجاءَ [666] يُنظر: ((السنة)) للخلال (3/ 599). .
21- عبدُ الرَّزَّاقِ بنُ همَّامٍ الصَّنعانيُّ:
قال سَلَمةُ بنُ شَبيبٍ: كنْتُ عندَ عبدِ الرَّزَّاقِ، فجاءنا موتُ عبدِ المجيدِ، وذلك في سنةِ ستٍّ ومائتينِ، فقال: (الحَمدُ للهِ الذي أراح أمَّةَ مُحمَّدٍ مِن عبدِ المجيدِ) [667] يُنظر: ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (9/ 435). .
قال ابنُ عَديٍّ: (عامَّةُ ما أُنكرَ عليه الإرجاءُ) [668] يُنظر: ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (9/ 435). .
وقال الذَّهبيُّ: (كان مِن المُرجِئةِ، ومعَ هذا فوثَّقه: أحمَدُ، ويحيى بنُ مَعينٍ، وقال أحمَدُ: كان فيه غُلوٌّ في الإرجاءِ، يقولُ: هؤلاء الشُّكَّاكُ، يُريدُ قولَ العُلَماءِ: أنا مُؤمِنٌ إن شاء اللهُ...، قال أبو داودَ: كان عبدُ المجيدِ رأسًا في الإرجاءِ، وقال يعقوبُ بنُ سُفيانَ: كان مُبتدِعًا، داعيةً، قال هارونُ بنُ عبدِ اللهِ الحمَّالُ: ما رأَيتُ أخشَعَ للهِ مِن وَكيعٍ، وكان عبدُ المجيدِ أخشَعَ منه، قلْتُ: خُشوعُ وَكيعٍ معَ إمامتِه في السُّنَّةِ جعَله مُقدَّمًا، بخلافِ خُشوعِ هذا المُرجِئِ -عفا اللهُ عنه- أعاذنا اللهُ وإيَّاكم مِن مُخالَفةِ السُّنَّةِ، وقد كان على الإرجاءِ عددٌ كثيرٌ مِن عُلَماءِ الأمَّةِ، فهلَّا عُدَّ مَذهَبًا؟! وهو قولُهم: أنا مُؤمِنٌ حقًّا عندَ اللهِ السَّاعةَ، معَ اعتِرافِهم بأنَّهم لا يدرونَ بما يموتُ عليه المُسلِمُ مِن كُفرٍ أو إيمانٍ، وهذه قولةٌ خفيفةٌ، وإنَّما الصَّعبُ مِن قولِ غُلاةِ المُرجِئةِ: إنَّ الإيمانَ هو الاعتِقادُ بالأفئِدةِ، وإنَّ تارِكَ الصَّلاةِ والزَّكاةِ، وشارِبَ الخمرِ، وقاتِلَ الأنفُسِ، والزَّانيَ، وجميعَ هؤلاء يكونونَ مُؤمِنينَ كامِلي الإيمانِ، ولا يدخُلونَ النَّارَ، ولا يُعذَّبونَ أبدًا، فردُّوا أحاديثَ الشَّفاعةِ المُتواتِرةَ، وجَسَّروا كُلَّ فاسِقٍ وقاطِعِ طريقٍ على الموبِقاتِ. نعوذُ باللهِ مِن الخِذلانِ!) [669] ((سير أعلام النبلاء)) (9/ 434 - 436). .
22- عبدُ اللهِ بنُ يَزيدَ المُقرِئُ:
قال ابنُ السُّرْماريِّ: سُئِل المُقرِئُ، فقيل له: إنَّ رجُلًا ببُخارى يُقالُ له: أحمَدُ بنُ حَفصٍ يقولُ: الإيمانُ القولُ، فقال: (مُرجِئٌ)، وكنْتُ قُدَّامَه، فقلْتُ: وأنا أقولُ كذلك، فأخَذ برأسي ونطَحني برأسِه نَطحةً، وقال: (أنت مُرجِئٌ يا خُراسانيُّ) [670] يُنظر: ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (13/ 36). .
23- أحمَدُ بنُ حَنبَلٍ:
حدَّث أبو الحارِثِ قال: قال أبو عبدِ اللهِ: (كان شَبابةُ يدعو إلى الإرجاءِ، وكتَبْنا عنه قَبلَ أن نعلَم أنَّه كان يقولُ هذه المقالةَ، كان يقولُ: الإيمانُ قولٌ وعَملٌ، فإذا قال فقد عَمِل بلِسانِه؛ قولٌ رديءٌ) [671] يُنظر: ((السنة)) للخلال (3/ 571). .
وعن الأثرَمِ قال: سمعْتُ أبا عبدِ اللهِ، وقيل له: شَبابةُ، أيُّ شيءٍ يقولُ فيه؟ فقال: شَبابةُ كان يدعو إلى الإرجاءِ، قال: وقد حُكيَ عن شَبابةَ قولٌ أخبَثُ مِن هذه الأقاويلِ، ما سمعْتُ أحدًا عن مِثلِه، قال: قال شَبابةُ: إذا قال فقد عمِل، قال: الإيمانُ قولٌ وعَملٌ كما يقولونَ، فإذا قال فقد عمِل بجارِحتِه، أي: بلِسانِه حينَ تكلَّم، ثُمَّ قال أبو عبدِ اللهِ: (هذا قولٌ خبيثٌ، ما سمعْتُ أحدًا يقولُ به، ولا بلَغني) [672] يُنظر: ((السنة)) للخلال (3/ 571). .
وعن أبي حارِثٍ: أنَّ أبا عبدِ اللهِ قال: (إذا كان المُرجِئُ داعيةً فلا تُكلِّمْه) [673] يُنظر: ((السنة)) للخلال (4/54). .
وروى الخَلَّالُ عن أبي داودَ، قال: قلْتُ لأحمَدَ: يُصلَّى خَلفَ المُرجِئِ؟ قال: (إذا كان داعيةً فلا يُصلَّى خَلفَه) [674] يُنظر: ((السنة)) للخلال (4/10). .
وعن أبي بكرٍ المَرُّوذيِّ قال: سمعْتُ أبا عبدِ اللهِ يقولُ: (المُرجِئُ إذا كان يُخاصِمُ فلا يُصلَّى خَلفَه) [675] يُنظر: ((السنة)) للخلال (4/52). .
وعن إسحاقَ بنِ منصورٍ أنَّه قال لأبي عبدِ اللهِ: المُرجِئُ إذا كان داعيًا؟ قال: (إي واللهِ يُجفَى ويُقصَى) [676] يُنظر: ((السنة)) للخلال (4/53). .
ونختِمُ هذا الفصلَ بفتوى للَّجْنةِ الدَّائِمةِ في التَّحذيرِ مِن مَذهَبِ الإرجاءِ؛ حيثُ قالت: (الحَمدُ للهِ وحدَه، والصَّلاةُ والسَّلامُ على مَن لا نبيَّ بَعدَه، وبَعدُ:
فقد اطَّلَعَت اللَّجنةُ الدَّائِمةُ للبُحوثِ العِلميَّةِ والإفتاءِ على ما ورَد إلى سماحةِ المُفتي العامِّ مِن عَددٍ مِن المُستفتينَ...، وقد سأل المُستَفتونَ أسئِلةً كثيرةً مضمونُها: ظهرَت في الآوِنةِ الأخيرةِ فكرةُ الإرجاءِ بشكلٍ مخيفٍ، وانبرى لترويجِها عددٌ كثيرٌ مِن الكُتَّابِ، يعتمِدونَ على نُقولاتٍ مبتورةٍ مِن كلامِ ابنِ تيميَّةَ؛ ممَّا سبَّب ارتِباكًا عندَ كثيرٍ مِن النَّاسِ في مُسمَّى الإيمانِ؛ حيثُ يُحاوِلُ هؤلاء الذين ينشرونَ هذه الفِكرةَ أن يُخرِجوا العَملَ عن مُسمَّى الإيمانِ، ويرَونَ نجاةَ مَن ترَك جميعَ الأعمالِ، وذلك ممَّا يُسهِّلُ على النَّاسِ الوُقوعَ في المُنكَراتِ، وأمورِ الشِّركِ، وأمورِ الرِّدَّةِ؛ إذا علِموا أنَّ الإيمانَ مُتحقِّقٌ لهم، ولو لم يُؤدُّوا الواجِباتِ، ويتجنَّبوا المُحرَّماتِ، ولو لم يعمَلوا بشرائِعِ الدِّينِ، بناءً على هذا المَذهَبِ، ولا شكَّ أنَّ هذا المَذهَبَ له خُطورتُه على المجتَمَعاتِ الإسلاميَّةِ، وأمورِ العقيدةِ والعِبادةِ؛ فالرَّجاءُ مِن سماحتِكم بيانُ حقيقةِ هذا المَذهَبِ وآثارِه السِّيِّئةِ، وبيانُ الحقِّ المبنيِّ على الكتابِ والسُّنَّةِ، وتحقيقُ النَّقلِ عن ابنِ تيميَّةَ؛ حتَّى يكونَ المُسلِمُ على بصيرةٍ مِن دينِه، وفَّقكم اللهُ وسدَّد خُطاكم.
والسَّلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه.
وبَعدَ دِراسةِ اللَّجنةِ للاستِفتاءِ أجابت بما يلي:
هذه المقالةُ المذكورةُ هي مقالةُ المُرجِئةِ الذين يُخرِجونَ الأعمالَ عن مُسمَّى الإيمانِ، ويقولونَ: الإيمانُ هو التَّصديقُ بالقلبِ، أو التَّصديقُ بالقلبِ والنُّطقُ باللِّسانِ فقط، وأمَّا الأعمالُ فإنَّها عندَهم شرطُ كمالٍ فيه فقط، وليست منه؛ فمَن صدَّق بقلبِه ونطَق بلِسانِه فهو مُؤمِنٌ كامِلُ الإيمانِ عندَهم، ولو فعَل ما فعَل مِن تَركِ الواجِباتِ وفِعلِ المُحرَّماتِ، ويستحِقُّ دُخولَ الجنَّةِ، ولو لم يعمَلْ خيرًا قطُّ! ولزِم على ذلك الضَّلالِ لوازِمُ باطِلةٌ؛ منها: حَصرُ الكُفرِ بكُفرِ التَّكذيبِ والاستِحلالِ القلبيِّ، ولا شكَّ أنَّ هذا قولٌ باطِلٌ، وضلالٌ مُبينٌ مُخالِفٌ للكتابِ والسُّنَّةِ، وما عليه أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ سَلَفًا وخَلَفًا، وأنَّ هذا يفتَحُ بابًا لأهلِ الشَّرِّ والفسادِ للانحِلالِ مِن الدِّينِ، وعَدمِ التَّقيُّدِ بالأوامِرِ والنَّواهي، والخَوفِ والخَشيةِ مِن اللهِ سبحانَه، ويُعطِّلُ جانِبَ الجِهادِ في سبيلِ اللهِ، والأمرِ بالمعروفِ، والنَّهيِ عن المُنكَرِ، ويُسوِّي بَينَ الصَّالِحِ والطَّالِحِ، والمُطيعِ والعاصي، والمُستقيمِ على دينِ اللهِ والفاسِقِ المُتحلِّلِ مِن أوامِرِ الدِّينِ ونواهيه، ما دام أنَّ أعمالَهم هذه لا تُخِلُّ بالإيمانِ كما يقولونَ؛ ولذلك اهتمَّ أئمَّةُ الإسلامِ قديمًا وحديثًا ببيانِ بُطلانِ هذا المَذهَبِ، والرَّدِّ على أصحابِه، وجعَلوا لهذه المسألةِ بابًا خاصًّا في كُتبِ العقائِدِ، بل ألَّفوا فيها مُؤلَّفاتٍ مُستقلَّةً كما فعَل ابنُ تيميَّةَ.
قال ابنُ تيميَّةَ: (ومِن أصولِ الفِرقةِ النَّاجيةِ: أنَّ الدِّينَ والإيمانَ قولٌ وعَملٌ؛ قولُ القلبِ واللِّسانِ، وعَملُ القلبِ واللِّسانِ والجوارِحِ، وأنَّ الإيمانَ يزيدُ بالطَّاعةِ، ويَنقُصُ بالمعصيةِ) [677] ((العقيدة الواسطية)) (ص: 113). .
وقال أيضًا: (ومِن هذا البابِ أقوالُ السَّلفِ وأئمَّةِ السُّنَّةِ في تفسيرِ الإيمانِ؛ فتارةً يقولونَ: هو قولٌ وعَملٌ، وتارةً يقولونَ: هو قولٌ وعَملٌ ونيَّةٌ، وتارةً يقولونَ: قولٌ وعَملٌ ونيَّةٌ واتِّباعُ السُّنَّةِ، وتارةً يقولونَ: قولٌ باللِّسانِ، واعتِقادٌ بالقلبِ، وعَملٌ بالجوارِحِ) [678] ((الإيمان)) (ص: 137). ، وكُلُّ هذا صحيحٌ.
وقال أيضًا: (والسَّلفُ اشتدَّ نكيرُهم على المُرجِئةِ لمَّا أخرَجوا العَملَ مِن الإيمانِ، ولا ريبَ أنَّ قولَهم بتساوي إيمانِ النَّاسِ مِن أفحَشِ الخطأِ، بل لا يتساوى النَّاسُ في التَّصديقِ، ولا في الحُبِّ، ولا في الخَشيةِ، ولا في العِلمِ، بل يتفاضَلونَ مِن وُجوهٍ كثيرةٍ) [679] ((مجموع الفتاوى)) (7/ 555). .
وقال أيضًا: (وقد عدَلَت المُرجِئةُ في هذا الأصلِ عن بيانِ الكتابِ والسُّنَّةِ وأقوالِ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ لهم بإحسانٍ، واعتمَدوا على رأيِهم، وعلى ما تأوَّلوه بفَهمِهم للُّغةِ، وهذه طريقةُ أهلِ البِدَعِ) [680] ((الإيمان)) (ص: 98). .
ومِن الأدلَّةِ على أنَّ الأعمالَ داخِلةٌ في حقيقةِ الإيمانِ وعلى زيادتِه ونُقصانِه بها قولُه تعالى:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال: 2 - 4] ، وقَولُه تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [المؤمنون: 1 - 9] .
وقولُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((الإيمانُ بِضعٌ وسَبعونَ أو بِضعٌ وستُّونَ شُعبةً، فأفضَلُها قولُ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأدناها إماطةُ الأذى عن الطَّريقِ ، والحياءُ شُعبةٌ مِن الإيمانِ )) [681] أخرجه البخاري (9) مختصرًا، ومسلم (35) واللَّفظُ له من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
قال ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (فأصلُ الإيمانِ في القلبِ، وهو قولُ القلبِ وعَملُه، وهو إقرارٌ بالتَّصديقِ والحُبِّ والانقِيادِ، وما كان في القلبِ فلا بُدَّ أن يظهَرَ موجِبُه ومُقتضاه على الجوارِحِ، وإذا لم يعمَلْ بموجِبِه ومُقتضاه دلَّ على عَدَمِه أو ضَعفِه؛ ولهذا كانت الأعمالُ الظَّاهِرةُ مِن موجِبِ إيمانِ القلبِ ومُقتضاه، وهي تصديقٌ لِما في القلبِ، ودليلٌ عليه، وشاهِدٌ له، وهي شُعبةٌ مِن مجموعِ الإيمانِ المُطلَقِ، وبعضٌ له) [682] ((مجموع الفتاوى)) (7/ 644). .
وقال أيضًا: (بل كُلُّ مَن تأمَّل ما تقولُه الخوارِجُ والمُرجِئةُ في معنى الإيمانِ عَلِم بالاضطِرارِ أنَّه مُخالِفٌ للرَّسولِ، ويَعلَمُ بالاضطِرارِ أنَّ طاعةَ اللهِ ورسولِه مِن تمامِ الإيمانِ، وأنَّه لم يكنْ يجعَلُ كُلَّ مَن أذنَب ذَنبًا كافِرًا، ويَعلَمُ أنَّه لو قُدِّر أنَّ قومًا قالوا للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: نحن نُؤمِنُ بما جِئْتَنا به بقُلوبِنا مِن غَيرِ شكٍّ، ونُقِرُّ بألسِنتِنا بالشَّهادتَينِ، إلَّا أنَّا لا نُطيعُك في شيءٍ ممَّا أمَرْتَ به ونَهَيتَ عنه؛ فلا نُصلِّي، ولا نصومُ، ولا نحُجُّ، ولا نُصدِّقُ الحديثَ، ولا نُؤدِّي الأمانةَ، ولا نَفِي بالعَهدِ، ولا نَصِلُ الرَّحِمَ، ولا نفعَلُ شيئًا مِن الخيرِ الذي أمَرْتَ به، ونشرَبُ الخَمرَ، وننكِحُ ذواتِ المحارِمِ بالزِّنا الظَّاهِرِ، ونقتُلُ مَن قدَرْنا عليه مِن أصحابِك وأمَّتِك، ونأخُذُ أموالَهم، بل نقتُلُك أيضًا، ونُقاتِلُك معَ أعدائِك، هل كان يَتوهَّمُ عاقِلٌ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ لهم: أنتم مُؤمِنونَ كامِلو الإيمانِ، وأنتم مِن أهلِ شفاعتي يومَ القيامةِ، ويُرجى لكم ألَّا يدخُلَ أحدٌ منكم النَّارَ؟! بل كُلُّ مُسلِمٍ يعلَمُ بالاضطِرارِ أنَّه يقولُ لهم: أنتم أكفَرُ النَّاسِ بما جئْتُ به، ويَضرِبُ رِقابَهم إن لم يتوبوا مِن ذلك) [683] ((الإيمان)) (ص: 225). .
وقال أيضًا: (فلفظُ الإيمانِ إذا أُطلِق في القرآنِ والسُّنَّةِ يُرادُ به ما يُرادُ بلفظِ البِرِّ، وبلفظِ التَّقوى، وبلفظِ الدِّينِ كما تقدَّم؛ فإنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بيَّن أنَّ ((الإيمانَ بِضعٌ وسبعونَ شُعبةً، أفضَلُها قولُ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأدناها إماطةُ الأذى عن الطَّريقِ )) [684] أخرجه البخاري (9) مختصرًا، ومسلم (35) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ مسلمٍ: ((الإيمانُ بِضعٌ وسَبعون أو بِضعٌ وسِتُّون شُعبةً، فأفضَلُها قولُ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأدناها إماطةُ الأذى عن الطَّريقِ ، والحياءُ شُعبةٌ من الإيمانِ)). ، فكان كُلُّ ما يُحِبُّه اللهُ يدخُلُ في اسمِ الإيمانِ، وكذلك لفظُ البِرِّ يدخُلُ فيه جميعُ ذلك إذا أُطلِق، وكذلك لفظُ التَّقوى، وكذلك الدِّينُ أو دينُ الإسلامِ، وكذلك رُوِي أنَّهم سألوا عن الإيمانِ، فأنزَل اللهُ هذه الآيةَ: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ... [البقرة: 177] ...، والمقصودُ هنا أنَّه لم يَثبُتِ المدحُ إلَّا على إيمانٍ معَه العَملُ، لا على إيمانٍ خالٍ عن عَملٍ) [685] ((الإيمان)) (ص: 143). ، فهذا كلامُ ابنِ تيميَّةَ في الإيمانِ، ومَن نقَل عنه غَيرَ ذلك فهو كاذِبٌ عليه.
وأمَّا ما جاء في الحديثِ: ((أنَّ قومًا يدخُلونَ الجنَّةَ لم يعمَلوا خيرًا قطُّ)) [686] أخرجه مسلم (183) من حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، بلفظِ: (فيَقولُ اللهُ عزَّ وجَلَّ: شَفَعَتِ المَلائِكةُ، وشَفعَ النَّبيُّونَ، وشَفعَ المُؤمِنونَ، ولَم يَبقَ إلَّا أرحَمُ الرَّاحِمينَ، فيَقبِضُ قَبضةً من النَّارِ فيُخرِجُ منها قَومًا لَم يَعمَلوا خَيرًا قَطُّ قد عادوا حُمَمًا، فيُلقيهم في نهرٍ في أفواهِ الجنَّةِ، يقالُ له نهرُ الحياةِ، فيَخرُجون كما تَخرُجُ الحِبَّةُ في حَمِيلِ السَّيلِ، ألَا ترونَها تكونُ إلى الحَجَرِ أو إلى الشَّجَرِ ما يكونُ إلى الشَّمسِ أصيفِرَ وأخيضِرَ، وما يكونُ منها إلى الظِّلِّ يكونُ أبيضَ. فقالوا: يا رسولَ اللهِ، كأنَّك كنتَ ترعى بالباديةِ! قال: فيَخرُجون كاللُّؤلُؤِ في رقابِهم الخواتِمُ، يَعرِفُهم أهلُ الجنَّةِ، هؤلاء عُتَقاءُ اللهِ الذين أدخلَهم اللهُ الجنَّةَ بغَيرِ عَمَلٍ عَمِلوه ولا خيرٍ قَدَّموه، ثُمَّ يقولُ: ادخُلوا الجنَّةَ، فما رأيتُموه فهو لكم. فيقولون: ربَّنا أعطيتَنا ما لم تُعطِ أحَدًا من العالَمين. فيقولُ: لكم عندي أفضَلُ من هذا، فيقولون: يا رَبَّنا أيُّ شيءٍ أفضَلُ مِن هذا؟ فيقول: رِضايَ فلا أسخَطُ عليكم بَعدَه أبدًا). فليس هو عامًّا لكُلِّ مَن ترَك العَملَ وهو يقدِرُ عليه، وإنَّما هو خاصٌّ بأولئك؛ لعُذرٍ منَعهم مِن العَملِ، أو لغَيرِ ذلك مِن المعاني التي تُلائِمُ النُّصوصَ المُحكَمةَ، وما أجمَع عليه السَّلفُ الصَّالِحُ في هذا البابِ.
هذا، واللَّجنةُ الدَّائِمةُ إذ تُبيِّنُ ذلك فإنَّها تنهى وتُحذِّرُ مِن الجِدالِ في أصولِ العقيدةِ؛ لِما يترتَّبُ على ذلك مِن المحاذيرِ العظيمةِ، وتُوصي بالرُّجوعِ في ذلك إلى كُتبِ السَّلفِ الصَّالِحِ وأئمَّةِ الدِّينِ المبنيَّةِ على الكتابِ والسُّنَّةِ وأقوالِ السَّلفِ، وتُحذِّرُ مِن الرُّجوعِ إلى الكُتبِ المُخالِفةِ لذلك، وإلى الكُتبِ الحديثةِ الصَّادِرةِ عن أناسٍ مُتعالِمينَ لم يأخُذوا العِلمَ عن أهلِه ومصادِرِه الأصيلةِ، وقد اقتَحَموا القولَ في هذا الأصلِ العظيمِ مِن أصولِ الاعتِقادِ، وتبنَّوا مَذهَبَ المُرجِئةِ، ونسَبوه ظُلمًا إلى أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، ولبَّسوا بذلك على النَّاسِ، وعزَّزوه عُدوانًا بالنَّقلِ عن ابنِ تيميَّةَ وغَيرِه مِن أئمَّةِ السَّلفِ بالنُّقولِ المبتورةِ، وبمُتشابِهِ القولِ، وعَدمِ ردِّه إلى المُحكَمِ مِن كلامِهم، وإنَّنا ننصَحُهم أن يتَّقوا اللهَ في أنفُسِهم، وأن يثوبوا إلى رُشدِهم، ولا يصدَعوا الصَّفَّ بهذا المَذهَبِ الضَّالِّ، واللَّجنةُ أيضًا تُحذِّرُ المُسلِمينَ مِن الاغتِرارِ والوُقوعِ في شِراكِ المُخالِفينَ لِما عليه جماعةُ المُسلِمينَ أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ، وفَّق اللهُ الجميعَ للعِلمِ النَّافِعِ، والعَملِ الصَّالِحِ، والفِقهِ في الدِّينِ.
وباللهِ التَّوفيقُ، وصلَّى اللهُ على نبيِّنا مُحمَّدٍ وآلِه وصَحبِه وسلَّم) [687] ((فتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الثانية) (2/126-133). .


انظر أيضا: