موسوعة الفرق

المَبحَثُ الأوَّلُ: حُكمُ مُرتكِبِ الكبيرةِ عندَ مُرجِئةِ الفُقَهاءِ


وافَق مُرجِئةُ الفُقَهاءِ أهلَ السُّنَّةِ في أنَّ مُرتكِبَ الكبيرةِ ليس كافِرًا مُخلَّدًا في النَّارِ [534] يُنظر: ((التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع)) للملطي (ص: 43)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/297)، ((مجلة البحوث الإسلامية)) للرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء (40/254). .
قال ابنُ تيميَّةَ: (المُرجِئةُ تقولُ: هو -أي مُرتكِبُ الكبيرةِ- مُؤمِنٌ تامُّ الإيمانِ، لا نَقصَ في إيمانِه، بل إيمانُه كإيمانِ الأنبِياءِ والأولِياءِ، وهذا نِزاعٌ في الاسمِ، ثُمَّ تقولُ فُقَهاؤُهم ما تقولُه الجماعةُ في أهلِ الكبائِرِ: فيهم مَن يدخُلُ النَّارَ، وفيهم مَن لا يدخُلُ، كما دلَّت على ذلك الأحاديثُ الصَّحيحةُ، واتَّفَق عليه الصَّحابةُ والتَّابِعونَ لهم بإحسانٍ، فهؤلاء لا ينازِعونَ أهلَ السُّنَّةِ والحديثِ في حُكمِه في الآخِرةِ، وإنَّما يُنازِعونَهم في الاسمِ، ويُنازِعونَ أيضًا فيمَن قال ولم يفعَلْ، وكثيرٌ مِن مُتكلِّمةِ المُرجِئةِ تقولُ: لا نعلَمُ أنَّ أحدًا مِن أهلِ القِبلةِ مِن أهلِ الكبائِرِ يدخُلُ النَّارَ، ولا أنَّ أحدًا منهم لا يدخُلُها، بل يجوزُ أن يدخُلَها جميعُ الفُسَّاقِ، ويجوزُ ألَّا يدخُلَها أحدٌ منهم، ويجوزُ دُخولُ بعضِهم، ويقولونَ: مَن أذنَب وتاب لا يُقطَعُ بقَبولِ توبتِه، بل يجوزُ أن يدخُلَ النَّارَ أيضًا، فهُم يقِفونَ في هذا كُلِّه؛ ولهذا سُمُّوا الواقِفةَ) [535] ((منهاج السنة)) (5/284). .
وقال ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (قالت المُرجِئةُ على اختِلافِ فِرَقِهم: لا تُذهِبُ الكبائِرُ وتَركُ الواجِباتِ الظَّاهِرةِ شيئًا مِن الإيمانِ؛ إذ لو ذهَب شيءٌ منه لم يبقَ شيءٌ، فيكونُ شيئًا واحِدًا يستوي فيه البَرُّ والفاجِرُ) [536] ((مجموع الفتاوى)) (7/223). .
قال الطَّحاويُّ في بيانِ اعتِقادِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ على مَذهَبِ أبي حَنيفةَ وصاحِبَيه: (أهلُ الكبائِرِ مِن أمَّةِ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في النَّارِ لا يُخَلَّدونَ إذا ماتوا، وهُم مُوحِّدونَ وإن لم يكونوا تائِبينَ بَعدَ أن لَقُوا اللهَ عارِفينَ مُؤمِنينَ، وهُم في مشيئتِه وحُكمِه؛ إن شاء غفَر لهم وعفا عنهم بفَضلِه، كما ذكَر اللهُ عزَّ وجلَّ في كتابِه: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء: 48] ، وإن شاء عذَّبهم في النَّارِ بعَدلِه، ثُمَّ يُخرِجُهم برحمتِه وشفاعةِ الشَّافِعينَ مِن أهلِ الطَّاعةِ، ثُمَّ يبعَثُهم إلى جنَّتِه) [537] ((الطحاوية)) (ص: 30). .
وقال الطَّحاويُّ أيضًا: (نُسمِّي أهلَ قِبلتِنا مُسلِمينَ مُؤمِنينَ، ما داموا بما جاء به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُعترِفينَ، وله بكُلِّ ما قاله وأخبَر مُصدِّقينَ) [538] ((الطحاوية)) (ص:23). .
وقال أيضًا: (لا نُكفِّرُ أحدًا مِن أهلِ القِبلةِ بذَنبٍ ما لم يستحِلَّه) [539] ((الطحاوية)) (ص:25). .
خُلاصةُ مقالةِ فُقَهاءِ المُرجِئةِ في مُرتكِبِ الكبيرةِ:
1- أنَّه مُؤمِنٌ كامِلُ الإيمانِ، كإيمانِ جِبريلَ، وإيمانِ الأنبِياءِ والأولِياءِ.
وبعضُ أصحابِ أبي حَنيفةَ نسَب إلى إمامِه وصاحِبَيه -أبي يوسُفَ، وأبي مُحمَّدٍ- كراهةَ أن يقولَ الرَّجلُ: إيماني كإيمانِ الملائِكةِ أو أبي بكرٍ [540] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (13/41)، ((حاشية ابن عابدين)) (3/274).  .
2- أنَّ الإيمانَ شيءٌ واحِدٌ، وعليه فإيمانُ الفاسِقِ كإيمانِ البَرِّ، فهُما سواءٌ في الإيمانِ.
3- أنَّه داخِلٌ تحتَ الذَّمِّ والوعيدِ، ومُستحِقٌّ للذَّمِّ والعِقابِ.
4- أنَّ مِن أهلِ الكبائِرِ مَن يدخُلُ النَّارَ، لكنَّه لا يُخَلَّدُ فيها، ومنهم مَن لا يدخُلُها.
5- أنَّ مُرتكِبَ الكبيرةِ لا يُكفَّرُ، ولا يُباحُ دمُه لكبيرتِه.
6- أنَّه يجتمِعُ في العبدِ طاعةٌ ومعصيةٌ، ولا يجتمِعُ فيه إيمانٌ ونِفاقٌ.
وهذا بسببِ الشُّبهةِ التي دخلَت عليهم كما دخلَت على سائِرِ الفِرَقِ المُخالِفةِ، وهي أنَّ الإيمانَ شيءٌ واحِدٌ لا يتبعَّضُ، بل إذا ذهَب بعضُه ذهَب كُلُّه.
وأمَّا اجتِماعُ الطَّاعاتِ والمعاصي فلا يمتنِعُ على أصلِهم؛ لأنَّها عندَهم مُرتبِطةٌ بالأعمالِ، وهي ليست مِن الإيمانِ؛ ولذا تراهم يعُدُّونَ العاصِيَ مُؤمِنًا كامِلَ الإيمانِ؛ لمجيئِه بالإيمانِ الذي هو مُجرَّدُ التَّصديقِ عندَهم [541] يُنظر: ((آراء المرجئة في مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية)) لعبدِ اللهِ محمد السند (ص: 504). ويُنظر: ((منهاج السنة)) لابن تيمية (5/284). .

انظر أيضا: