موسوعة الفرق

الفصلُ الثَّاني: الاستِثناءُ في الإيمانِ عندَ أئمَّةِ السَّلفِ


1- رُوِي أنَّ رجُلًا قال عندَ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضِي اللهُ عنه: أنا مُؤمِنٌ، فقال ابنُ مسعودٍ: أفأنت مِن أهلِ الجنَّةِ؟ فقال: أرجو، فقال ابنُ مسعودٍ: أفلا وكَلْتَ الأولى كما وكَلْتَ الأخرى؟ [510] يُنظر: ((الشريعة)) للآجري (2/ 657). .
2- عن جَريرِ بنِ عبدِ الحَميدِ قال: (كان الأعمَشُ، ومنصورٌ، ومُغيرةُ، وليثٌ، وعطاءُ بنُ السَّائِبِ، وإسماعيلُ بنُ أبي خالِدٍ، وعُمارةُ بنُ القَعقاعِ، والعلاءُ بنُ المُسيَّبِ، وابنُ شُبرُمةَ، وسُفيانُ الثَّوريُّ، وأبو يحيى صاحِبُ الحَسنِ، وحمزةُ الزَّيَّاتُ- يقولونَ: نحن مُؤمِنونَ إن شاء اللهُ، ويَعيبونَ على مَن لم يستَثنِ) [511] يُنظر: ((الشريعة)) للآجري (2/ 663). .
3- قال الأوزاعيُّ: (ثلاثٌ هُنَّ بِدعةٌ: أنا مُؤمِنٌ مُستكمِلُ الإيمانِ، وأنا مُؤمِنٌ حقًّا، وأنا مُؤمِنٌ عندَ اللهِ تعالى) [512] يُنظر: ((الشريعة)) للآجري (2/ 688). .
4- قيل لسُفيانَ بنِ عُيَينةَ: الرَّجلُ يقولُ: مُؤمِنٌ أنت؟ فقال: فقُلْ: ما أشُكُّ في إيماني، وسُؤالُك إيَّاي بِدعةٌ، وقال: ما أدري أنا عندَ اللهِ عزَّ وجلَّ شقِيٌّ أم سعيدٌ، أمقبولُ العَملِ أو لا [513] يُنظر: ((الشريعة)) للآجري (2/ 667). ؟
5- عن عبدِ الرَّحمنِ بنِ مَهديٍّ قال: (إذا تُرِك الاستِثناءُ فهو أصلُ الإرجاءِ) [514] يُنظر: ((الشريعة)) للآجري (2/ 663). .
6- قال يحيى بنُ سعيدٍ القطَّانُ: (ما أدركْتُ أحدًا مِن أصحابِنا إلَّا وهُم يستَثنونَ في الإيمانِ) [515] رواه الخلَّال في ((السنة)) (1052) و (1053). .
7- قال أحمَدُ بنُ حَنبَلٍ: (إنَّما نُصيِّرُ الاستِثناءَ على العَملِ؛ لأنَّ القولَ قد جِئْنا به) [516] ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (1/309). .
وعن أبي بكرٍ الأثرَمِ قال: سمعْتُ أبا عبدِ اللهِ أحمَدَ بنَ حَنبَلٍ سُئِل عن الاستِثناءِ في الإيمانِ: ما تقولُ فيه؟ قال: أمَّا أنا فلا أَعيبُه إذا كان يقولُ: إنَّ الإيمانَ قولٌ وعَملٌ، واستَثنى مخافةً واحتِياطًا، ليس كما يقولونَ على الشَّكِّ، إنَّما تستثني للعَملِ، قال اللهُ عزَّ وجلَّ: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح: 27] ، فهذا استِثناءٌ بغَيرِ شكٍّ [517] يُنظر: ((الشريعة)) للآجري (2/ 658). .
وقيل لأحمَدَ بنِ حَنبَلٍ: إن استَثنَيتُ في إيماني أكونُ شاكًّا؟ قال: لا [518] يُنظر: ((الشريعة)) للآجري (2/ 663). .
وقال أبو بكرٍ الخَلَّالُ: أخبَرَني أحمَدُ بنُ أصرَمَ المُزَنيُّ أنَّ أبا عبدِ اللهِ قيل له: إذا سألني رجُلٌ: أمُؤمِنٌ أنت؟ قال: سُؤالُه إيَّاك بِدعةٌ، لا يُشَكُّ في إيمانِك، أو قال: لا نشُكُّ في إيمانِنا، قال المُزَنيُّ: وحِفظي أنَّ أبا عبدِ اللهِ قال: أقولُ كما قال طاووسٌ: آمَنْتُ باللهِ، وملائِكتِه، وكُتبِه، ورُسلِه [519] يُنظر: ((السنة)) للخلال (3/ 601). .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (قد كان أحمَدُ وغَيرُه مِن السَّلفِ معَ هذا يكرَهونَ سُؤالَ الرَّجلِ لغَيرِه: أمُؤمِنٌ أنت؟ ويكرَهونَ الجوابَ؛ لأنَّ هذه بِدعةٌ أحدَثها المُرجِئةُ ليحتجُّوا بها لقولِهم؛ فإنَّ الرَّجلَ يعلَمُ مِن نَفسِه أنَّه ليس بكافِرٍ، بل يجِدُ قلبَه مُصدِّقًا بما جاء به الرَّسولُ، فيقولُ: أنا مُؤمِنٌ، فيُثبِتُ أنَّ الإيمانَ هو التَّصديقُ؛ لأنَّك تجزِمُ بأنَّك مُؤمِنٌ، ولا تجزِمُ بأنَّك فعلْتَ كُلَّ ما أُمِرْتَ به، فلمَّا علِم السَّلفُ مَقصَدَهم صاروا يكرَهونَ الجوابَ، أو يُفصِّلونَ في الجوابِ، وهذا لأنَّ لفظَ الإيمانِ فيه إطلاقٌ وتقييدٌ؛ فكانوا يُجيبونَ بالإيمانِ المُقيَّدِ الذي لا يستلزِمُ أنَّه شاهِدٌ فيه لنَفسِه بالكمالِ؛ ولهذا كان الصَّحيحُ أنَّه يجوزُ أن يُقالَ: أنا مُؤمِنٌ بلا استِثناءٍ إذا أراد ذلك، لكن ينبغي أن يقرُنَ كلامَه بما يُبيِّنُ أنَّه لم يُرِدِ الإيمانَ المُطلَقَ الكامِلَ، ولهذا كان أحمَدُ يكرَهُ أن يُجيبَ على المُطلَقِ بلا استِثناءٍ يُقدِّمُه) [520] ((مجموع الفتاوى)) (7/448). .
8- قال القصَّابُ: (قولُه إخبارًا عن إبراهيمَ وإسماعيلَ صلَّى اللهُ عليهما وسلَّم: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة: 128] ردٌّ على المُرجِئةِ فيما يزعُمونَ أنَّ الاستِثناءَ في الإيمانِ شكٌّ فيه، أفَتَرى إبراهيمَ وإسماعيلَ عندَهم كانا شاكَّينِ في إسلامِهما حيثُ دعَوَا ربَّهما أن يجعَلَهما مُسلِمَينِ، وهُما مُسلِمانِ؟ أم لم يكونا أسلَما عندَهم قَبلَ الدُّعاءِ، فدعَوَا أن يُرزَقاه؟! أوَلا يعتبِرونَ -وَيحَهم- أنَّهما كانا لا محالةَ مُسلِمَينِ، ومعَ الإسلامِ نبيَّينِ؟ فرغِبا أن يُزادَ في إسلامِهما الذي لا نهايةَ لفضائِلِه، وزيادةَ الخَشيةِ في إقامةِ فرائِضِه، وقد دلَّلْنا على أنَّ العَملَ يُسمَّى إيمانًا كتسميةِ القولِ والتَّصديقِ، وأنَّ الإيمانَ والإسلامَ يجمَعُهما اسمٌ، وإن فرَّق بهما غَيرُه... فأيُّ المَعنيَينِ اعتَرَفوا به مِن هذَينِ لزِمَتهم به الحُجَّة: إن أثبَتوا كمالَ الإسلامِ لهما قَبلَ الدُّعاءِ انتقَض عليهم قولُهم في إنكارِ الاستِثناءِ، وإن زعَموا أنَّهما لم يكونا كامِلَيْ نهايتِه انتقَض عليهم في إنكارِ الزِّيادةِ فيه، ولا سبيلَ إلى ثالِثٍ إلَّا ما ألزَمْناهم مِن نَفيِ جميعِه عنهما قَبلَ المسألةِ، وهذا كُفرٌ بعَينِه لم يلتزِموه لفظاعةِ توهُّمِه) [521] ((نكت القرآن)) (1/139-141). .
وقال القصَّابُ أيضًا: (قولُه: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ [الفتح: 27] حُجَّةٌ لمَن يستثني في الإيمانِ، ولا يكونُ شكًّا منه، وقد سبَقَنا إلى هذا غَيرُ واحِدٍ مِن أهلِ العِلمِ) [522] ((نكت القرآن)) (4/ 163). .
9- قال الآجُرِّيُّ: (مِن صفةِ أهلِ الحقِّ ممَّن ذكَرْنا مِن أهلِ العِلمِ: الاستِثناءُ في الإيمانِ، لا على جِهةِ الشَّكِّ، نعوذُ باللهِ مِن الشَّكِّ في الإيمانِ، ولكن خوفَ التَّزكيةِ لأنفُسِهم مِن الاستِكمالِ للإيمانِ، لا يدري أهو ممَّن يستحِقُّ حقيقةَ الإيمانِ أم لا؟ وذلك أنَّ أهلَ العِلمِ مِن أهلِ الحقِّ إذا سُئِلوا: أمُؤمِنٌ أنت؟ قال: آمَنْتُ باللهِ، وملائِكتِه، وكُتبِه، ورُسلِه، واليومِ الآخِرِ، والجنَّةِ والنَّارِ، وأشباهِ هذا، والنَّاطِقُ بهذا والمُصدِّقُ به بقلبِه مُؤمِنٌ، وإنَّما الاستِثناءُ في الإيمانِ، لا يدري: أهو ممَّن يستوجِبُ ما نعَت اللهُ عزَّ وجلَّ به المُؤمِنينَ مِن حقيقةِ الإيمانِ أم لا؟ هذا وطريقُ الصَّحابةِ رضِي اللهُ عنهم والتَّابِعينَ لهم بإحسانٍ عندَهم أنَّ الاستِثناءَ في الأعمالِ لا يكونُ في القولِ والتَّصديقِ بالقلبِ، وإنَّما الاستِثناءُ في الأعمالِ الموجِبةِ لحقيقةِ الإيمانِ، والنَّاسُ عندَهم على الظَّاهِرِ مُؤمِنونَ، به يتوارَثونَ، وبه يتناكَحونَ، وبه تجري أحكامُ ملَّةِ الإسلامِ، ولكنَّ الاستِثناءَ منهم على حسَبِ ما بيَّنَّاه لك، وبيَّنه العُلَماءُ مِن قَبلِنا، رُوِي في هذا سُنَنٌ كثيرةٌ، وآثارٌ تدُلُّ على ما قُلْنا. قال اللهُ عزَّ وجلَّ: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح: 27] ، وقد علِم عزَّ وجلَّ أنَّهم داخِلونَ، وقد دخَل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المَقبَرةَ، فقال: ((السَّلامُ عليكم دارَ قومٍ مُؤمِنينَ، وإنَّا إن شاء اللهُ بكم لاحِقونَ )) [523] أخرجه مسلم (249) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. [524] ((الشريعة)) (2/ 656). .
وقال الآجُرِّيُّ أيضًا: (إذا قال لك رجُلٌ: أنت مُؤمِنٌ؟ فقُلْ: آمَنْتُ باللهِ، وملائِكتِه، وكُتبِه، ورُسلِه، واليومِ الآخِرِ، والموتِ، والبَعثِ مِن بَعدِ الموتِ، والجنَّةِ والنَّارِ، وإن أحبَبْتَ ألَّا تُجيبَه تقولُ له: سُؤالُك إيَّاي بِدعةٌ، فلا أُجيبُك، وإن أجَبْتَه، فقلْتَ: أنا مُؤمِنٌ إن شاء اللهُ تعالى على النَّعتِ الذي ذكَرْناه، فلا بأسَ به، واحذَرْ مُناظَرةَ مِثلِ هذا؛ فإنَّ هذا عندَ العُلَماءِ مذمومٌ، واتَّبِعْ مَن مضى مِن أئمَّةِ المُسلِمينَ تسلَمْ إن شاء اللهُ تعالى) [525] ((الشريعة)) (2/ 667). .
10- قال أبو القاسِمِ الأصبَهانيُّ: (يُكرَه لمَن حصَل منه الإيمانُ أن يقولَ: أنا مُؤمِنٌ حقًّا، ومُؤمِنٌ عندَ اللهِ، ولكن يقولُ:
- أنا مُؤمِنٌ أرجو.
- أو مُؤمِنٌ إن شاء اللهُ.
- أو يقولُ: آمَنْتُ باللهِ وملائِكتِه وكُتبِه ورُسلِه.
وليس هذا على طريقِ الشَّكِّ في إيمانِه، لكنَّه على معنى أنَّه لا يضبِطُ أنَّه قد أتى بجميعِ ما أُمِر به، وترَك جميعَ ما نُهِي عنه، خلافًا لقولِ مَن قال: إذا عَلِم مِن نَفسِه أنَّه مُؤمِنٌ جاز أن يقولَ: أنا مُؤمِنٌ حقًّا. والدَّليلُ على امتِناعِ القَطعِ لنَفسِه ودُخولِ الاستِثناءِ إجماعُ السَّلفِ، ولأنَّه قد ثبَت أنَّ الإيمانَ جميعُ الطَّاعاتِ وتَركُ المُحرَّماتِ، وهو في الحالِ لا يضبِطُ أنَّه قد أدَّى سائِرَ ما لزِمه، واجتنَب كُلَّ ما حُرِّم عليه، وإنَّما يعلَمُ ذلك في الثَّاني، فلا يجوزُ أن يعلَمَ أنَّه مُؤمِنٌ مُستحِقٌّ للثَّوابِ) [526] ((الحجة في بيان المحجة)) (1/ 443-445). .
11- قال ابنُ تيميَّةَ: (الاستِثناءُ في الإيمانِ بقولِ الرَّجلِ: أنا مُؤمِنٌ إن شاء اللهُ، النَّاسُ فيه على ثلاثةِ أقوالٍ: منهم مَن يوجِبُه، ومنهم مَن يُحرِّمُه، ومنهم مَن يُجوِّزُ الأمرَينِ باعتبارَينِ، وهذا أصَحُّ الأقوالِ؛ فالذين يُحرِّمونَه هم المُرجِئةُ والجَهْميَّةُ ونَحوُهم ممَّن يجعَلُ الإيمانَ شيئًا واحِدًا يعلَمُه الإنسانُ مِن نَفسِه، كالتَّصديقِ بالرَّبِّ ونَحوِ ذلك ممَّا في قلبِه، فيقولُ أحدُهم: أنا أعلَمُ أنِّي مُؤمِنٌ كما أعلَمُ أنِّي تكلَّمْتُ بالشَّهادتَينِ، وكما أعلَمُ أنِّي قرأْتُ الفاتِحةَ...، قالوا: فمَن استثنى في إيمانِه فهو شاكٌّ فيه، وسمَّوهم الشَّكَّاكةَ.
والذين أوجَبوا الاستِثناءَ لهم مَأخَذانِ: أحدُهما أنَّ الإيمانَ هو ما مات عليه الإنسانُ، والإنسانُ إنَّما يكونُ عندَ اللهِ مُؤمِنًا وكافِرًا باعتِبارِ المُوافاةِ، وما سبَق في عِلمِ اللهِ أنَّه يكونُ عليه، وما قَبلَ ذلك لا عِبرةَ به، قالوا: والإيمانُ الذي يعقُبُه الكُفرُ فيموتُ صاحِبُه كافِرًا ليس بإيمانٍ، كالصَّلاةِ التي يُفسِدُها صاحِبُها قَبلَ الكمالِ، وكالصِّيامِ الذي يُفطِرُ صاحِبُه قَبلَ الغُروبِ، وصاحِبُ هذا هو عندَ اللهِ كافِرٌ؛ لعِلمِه بما يموتُ عليه، وكذلك قالوا في الكُفرِ، وهذا المَأخَذُ مَأخَذُ كثيرٍ مِن المُتأخِّرينَ مِن الكُلَّابيَّةِ وغَيرِهم ممَّن يُريدُ أن ينصُرَ ما اشتَهر عن أهلِ السُّنَّةِ والحديثِ مِن قولِهم: أنا مُؤمِنٌ إن شاء اللهُ، ويُريدُ معَ ذلك أنَّ الإيمانَ لا يتفاضَلُ، ولا يشُكُّ الإنسانُ في الموجودِ منه، وإنَّما يشُكُّ في المُستقبَلِ...، والمَأخَذُ الثَّاني في الاستِثناءِ: أنَّ الإيمانَ المُطلَقَ يتضمَّنُ فِعلَ ما أمَر اللهُ به عبدَه كُلِّه، وتَرْكَ المُحرَّماتِ كُلِّها؛ فإذا قال الرَّجُلُ: أنا مُؤمِنٌ بهذا الاعتِبارِ، فقد شهِد لنَفسِه بأنَّه مِن الأبرارِ المُتَّقينَ القائِمينَ بفِعلِ جميعِ ما أُمِروا به، وتَركِ كُلِّ ما نُهوا عنه، فيكونُ مِن أولِياءِ اللهِ، وهذا مِن تزكيةِ الإنسانِ لنَفسِه وشهادتِه لنَفسِه بما لا يعلَمُ، ولو كانت هذه الشَّهادةُ صحيحةً لكان ينبغي له أن يشهَدَ لنَفسِه بالجنَّةِ إن مات على هذه الحالِ، ولا أحدٌ يشهَدُ لنَفسِه بالجنَّةِ؛ فشهادتُه لنَفسِه بالإيمانِ كشهادتِه لنَفسِه بالجنَّةِ إذا مات على هذه الحالِ، وهذا مَأخَذُ عامَّةِ السَّلفِ الذين كانوا يستَثنونَ وإن جوَّزوا تَركَ الاستِثناءِ بمعنًى آخَرَ...، لفظُ الإيمانِ فيه إطلاقٌ وتقييدٌ، فكانوا يُجيبونَ بالإيمانِ المُقيَّدِ الذي لا يستلزِمُ أنَّه شاهِدٌ فيه لنَفسِه بالكمالِ؛ ولهذا كان الصَّحيحُ أنَّه يجوزُ أن يُقالَ: أنا مُؤمِنٌ، بلا استِثناءٍ، إذا أراد ذلك، لكن ينبغي أن يقرُنَ كلامَه بما يُبيِّنُ أنَّه لم يُرِدِ الإيمانَ المُطلَقَ الكامِلَ) [527] ((الإيمان)) (ص: 334، 335، 348، 350). .
وقال ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (اسمُ المُؤمِنُ عندَهم إنَّما هو لمَن مات مُؤمِنًا، فأمَّا مَن آمَن ثُمَّ ارتَدَّ فذاك ليس عندَهم بإيمانٍ، وهذا اختِيارُ الأشعَريِّ وطائِفةٍ مِن أصحابِ أحمَدَ وغَيرِهم، وهكذا يُقالُ: الكافِرُ مَن مات كافِرًا، وهؤلاء يقولونَ: إنَّ حُبَّ اللهِ وبُغضَه، ورِضاه وسُخطَه، ووَلايتَه وعَداوتَه؛ إنَّما يتعلَّقُ بالمُوافاةِ فقط؛ فاللهُ يحِبُّ مَن علِم أنَّه يموتُ مُؤمِنًا، ويرضى عنه، ويواليه بحُبٍّ قديمٍ ومُوالاةٍ قديمةٍ، ويقولونَ: إنَّ عُمَرَ حالَ كُفرِه كان ولِيًّا للهِ، وهذا القولُ معروفٌ عن ابنِ كُلَّابٍ ومَن تبِعه، كالأشعَريِّ وغَيرِه، وأكثَرُ الطَّوائِفِ يُخالِفونَه في هذا، فيقولونَ: بل قد يكونُ الرَّجلُ عَدوًّا للهِ، ثُمَّ يصيرُ ولِيًّا للهِ، ويكونُ اللهُ يُبغِضُه، ثُمَّ يُحِبُّه، وهذا مَذهَبُ الفُقَهاءِ والعامَّةِ، وهو قولُ المُعتزِلةِ والكَرَّاميَّةِ والحَنفيَّةِ قاطِبةً، وقُدَماءِ المالِكيَّةِ والشَّافِعيَّةِ والحَنبليَّةِ، وعلى هذا يدُلُّ القرآنُ، كقولِه: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران: 31] ، ووَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر: 7] ، وقولِه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا [النساء: 137] ، فوصَفهم بكُفرٍ بَعدَ إيمانٍ، وإيمانٍ بَعدَ كُفرٍ، وأخبَر عن الذين كفَروا أنَّهم كُفَّارٌ، وأنَّهم إن انتهَوا يُغفَرْ لهم ما قد سلَف، وقال: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [مُحمَّد: 28] ، وفي الصَّحيحَينِ في حديثِ الشَّفاعةِ: تقولُ الأنبِياءُ: ((إنَّ ربِّي قد غضِب غَضبًا لم يغضَبْ قَبلَه مِثلَه، ولن يغضَبَ بَعدَه مِثلَه )) [528] أخرجه البخاري (4712)، ومسلم (194) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، بلفظِ: ((إنَّ رَبِّي قد غَضِب اليومَ غَضَبًا لم يغضَبْ قَبْلَه مِثلَه، ولن يغضَبَ بَعدَه مِثلَه)). [529] ((مجموع الفتاوى)) (16/582، 583). .
وقال ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (ابنُ كُلَّابٍ وأتباعُه بنَوا ذلك على أنَّ الوَلايةَ صفةٌ قديمةٌ لذاتِ اللهِ، وهي الإرادةُ والمحبَّةُ والرِّضا ونَحوُ ذلك، فمعناها إرادةُ إثابتِه بَعدَ الموتِ، وهذا المعنى تابِعٌ لعِلمِ اللهِ، فمَن علِم أنَّه يموتُ مُؤمِنًا لم يزَلْ ولِيًّا للهِ؛ لأنَّه لم يزَلِ اللهُ مُريدًا لإدخالِه الجنَّةَ، وكذلك العَداوةُ، وأمَّا الجُمهورُ فيقولونَ: الوَلايةُ والعَداوةُ وإن تضمَّنَت محبَّةَ اللهِ ورضاه وبُغضَه وسُخطَه، فهو سبحانَه يرضى عن الإنسانِ ويُحِبُّه بَعدَ أن يُؤمِنَ ويعمَلَ صالِحًا، وإنَّما يسخَطُ عليه ويغضَبُ بَعدَ أن يكفُرَ، كما قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ [مُحمَّد: 28] ، فأخبَر أنَّ الأعمالَ أسخَطَته، وكذلك قال: فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ [الزخرف: 55] ، قال المُفسِّرونَ: أغضَبونا، وفي الحديثِ الصَّحيحِ الذي في البُخاريِّ، عن أبي هُرَيرةَ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((يقولُ اللهُ تعالى: ... ولا يزالُ عَبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنَّوافِلُ حتَّى أحِبَّه... )) [530] أخرجه البخاري (6502) باختلافٍ يسيرٍ. ، فأخبَر أنَّه: لا يزالُ يتقرَّبُ إليه بالنَّوافِلِ حتَّى يُحِبَّه ...، والقرآنُ قد دلَّ على مِثلِ ذلك، قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران: 31] ؛ فقولُه: يُحْبِبْكُمُ جوابُ الأمرِ في قولِه: فَاتَّبِعُونِي، وهو بمنزِلةِ الجزاءِ معَ الشَّرطِ؛ ولهذا جُزِم، وهذا ثوابُ عَملِهم، وهو اتِّباعُ الرَّسولِ، فأثابهم على ذلك بأن أحَبَّهم، وجزاءُ الشَّرطِ وثوابُ العَملِ ومُسبِّبُ السَّببِ لا يكونُ إلَّا بَعدَه لا قَبلَه) [531] ((مجموع الفتاوى)) (7/ 442، 443). .
وقد أنكَر أئمَّةُ السَّلفِ مَذهَبَ المُرجِئةِ؛ لأنَّهم بنَوا تحريمَ الاستِثناءِ على أساسِ أنَّ الإيمانَ هو التَّصديقُ القلبيُّ فقط، والاستِثناءُ فيه لا يكونُ إلَّا عن شكٍّ؛ فلا يجوزُ، وأثبَت السَّلفُ أنَّ الإيمانَ تصديقٌ وعَملٌ، فالاستثناءُ فيه إن كان عن شكٍّ، وأحسَّ الإنسانُ ذلك مِن نَفسِه؛ فإنَّ السَّلفَ يُوافِقونَ على تحريمِه، أمَّا أن يُحرَّمَ كُلِّيَّةً بالاستِنادِ إلى دعوى لم تصِحَّ، وهي أنَّ الإيمانَ عبارةٌ عن التَّصديقِ القلبيِّ فحسْبُ؛ فإنَّ ذلك غَيرُ صحيحٍ [532] يُنظر: ((الإيمان بين السَّلف والمتكلمين)) لأحمد الغامدي (ص: 214). ويُنظر: ((تبصرة الأدلة)) للنسفي (2/1091). .

انظر أيضا: