موسوعة الفرق

المَطلَبُ الثَّالثُ: الاستِثناءُ في الإيمانِ عندَ الأشاعِرةِ


ذهَب الأشاعِرةُ في مسألةِ الاستِثناءِ إلى أنَّ الإيمانَ الذي يتَّصِفُ به الإنسانُ في الحالِ مقطوعٌ به؛ فلا يجوزُ الاستِثناءُ فيه، وإنَّما يجوزُ الاستِثناءُ في الإيمانِ باعتِبارِ المُوافاةِ في المُستقبَلِ، أي: باعتِبارِ الإيمانِ الذي يموتُ عليه العبدُ، ويُوافي به ربَّه، وهذا مجهولٌ للعبدِ؛ فيجوزُ له أن يستثنيَ لذلك.
نُقولاتٌ للأشاعِرةِ في مسألةِ الاستِثناءِ في الإيمانِ:
1- قال الباقِلَّانيُّ: (يجِبُ أن يُعلَمَ أنَّه لا يجوزُ أن يقولَ العبدُ: أنا مُؤمِنٌ حقًّا ويعني به في الحالِ، ويجوزُ أن يقولَ: أنا مُؤمِنٌ إن شاء اللهُ ويعني به في المُستقبَلِ، فأمَّا في الماضي وفي الحالِ فلا يجوزُ أن يقولَ: إن شاء اللهُ؛ لأنَّ ذلك يكونُ شكًّا في الإيمانِ، ولأنَّ الاستِثناءَ إنَّما يصِحُّ في المُستقبَلِ، ولا يصِحُّ في الماضي) [468] ((الإنصاف)) (ص: 57). .
 2- قال البَغداديُّ: (القائِلونَ بأنَّ الإيمانَ هو التَّصديقُ مِن أصحابِ الحديثِ مُختلِفونَ في الاستِثناءِ فيه؛ فمنهم مَن يقولُ به، وهو اختِيارُ شيخِنا أبي سَهلٍ مُحمَّدِ بنِ سُلَيمانَ الصُّعلُوكيِّ، وأبي بكرٍ مُحمَّدِ بنِ الحُسَينِ بنِ فُورَكٍ، ومنهم مَن يُنكِرُه، وهذا اختِيارُ جماعةٍ مِن شُيوخِ عَصرِنا؛ منهم أبو عبدِ اللهِ بنُ مُجاهِدٍ، والقاضي أبو بكرٍ مُحمَّدُ بنُ الطَّيِبِ الأشعَريُّ، وأبو إسحاقَ إبراهيمُ بنُ مُحمَّدٍ الأَسْفَرايِينيُّ. وكُلُّ مَن قال مِن أهلِ الحديثِ بأنَّ جُملةَ الطَّاعاتِ مِن الإيمانِ قال بالمُوافاةِ، وقال: كُلُّ مَن وافى ربَّه على الإيمانِ فهو المُؤمِنُ، ومَن وافاه بغَيرِ الإيمانِ الذي أظهَره في الدُّنيا عُلِم في عاقِبتِه أنَّه لم يكنْ قطُّ مُؤمِنًا، والواحِدُ مِن هؤلاء يقولُ: أعلَمُ أنَّ إيماني حقٌّ، وضدَّه باطِلٌ، وإن وافَيتُ ربِّي عليه كنْتُ مُؤمِنًا حقًّا، فيستثني في كونِه مُؤمِنًا، ولا يستثني في صحَّةِ إيمانِه) [469] ((أصول الدين)) (ص:253). .
3- قال الجُوَينيُّ: (إن قيل: قد أُثِر عن سَلفِكم رَبطُ الإيمانِ بالمشيئةِ، وكان إذا سُئِل الواحِدُ منهم عن إيمانِه قال: إنَّه مُؤمِنٌ إن شاء اللهُ، فما محصولُ ذلك؟ قُلْنا: الإيمانُ ثابِتٌ في الحالِ قَطعًا لا شكَّ فيه، ولكنَّ الإيمانَ الذي هو عَلَمٌ على الفوزِ وآيةُ النَّجاةِ؛ إيمانَ المُوافاةِ، فاعتنى السَّلفُ به، وقرَنوه بالمشيئةِ، ولم يقصِدوا التَّشكيكَ في الإيمانِ النَّاجِزِ) [470] ((الإرشاد)) (ص:400). .
4- قال الغَزاليُّ مُبيِّنًا أوجُهَ الاستِثناءِ في الإيمانِ: (الاستِثناءُ صحيحٌ، وله أربَعةُ أوجُهٍ؛ وَجهانِ مُستنِدانِ إلى الشَّكِّ، لا في أصلِ الإيمانِ، ولكن في خاتِمتِه أو كمالِه، ووَجهانِ لا يستنِدانِ إلى الشَّكِّ؛ الوَجهُ الأوَّلُ الذي لا يستنِدُ إلى مُعارَضةِ الشَّكِّ: الاحتِرازُ مِن الجزمِ خيفةَ ما فيه مِن تزكيةِ النَّفسِ...، الوَجهُ الثَّاني: التَّأديبُ بذِكرِ اللهِ تعالى في كُلِّ حالٍ، وإحالةُ الأمورِ كُلِّها إلى مشيئةِ اللهِ سبحانَه، الوَجهُ الثَّالثُ مُستنَدُه الشَّكُّ: ومعناه: أنا مُؤمِنٌ حقًّا إن شاء اللهُ...، ويرجِعُ هذا إلى الشَّكِّ في كمالِ الإيمانِ لا في أصلِه، وكُلُّ إنسانٍ شاكٌّ في كمالِ إيمانِه، وذلك ليس بكُفرٍ، والشَّكُّ في كمالِ الإيمانِ حقٌّ مِن وَجهَينِ: أحدُهما مِن حيثُ إنَّ النِّفاقَ يُزيلُ كمالَ الإيمانِ، وهو خَفيٌّ لا تتحقَّقُ البَراءةُ منه، والثَّاني: أنَّه يَكمُلُ بأعمالِ الطَّاعاتِ، ولا يدري وُجودَها على الكمالِ...، الوَجهُ الرَّابعُ: وهو أيضًا مُستنِدٌ إلى الشَّكِّ، وذلك مِن خوفِ الخاتِمةِ؛ فإنَّه لا يدري أيسلَمُ له الإيمانُ عندَ الموتِ أم لا؟) [471] ((قواعد العقائد)) (ص: 270، 271 – 274، 282). .
5- قال الرَّازيُّ: (كان عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ رضِي اللهُ عنه يقولُ: أنا مُؤمِنٌ إن شاء اللهُ، وتبِعه جَمعٌ مِن عُظَماءِ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ رضِي اللهُ عنهم، وهو قولُ الشَّافِعيِّ رضِي اللهُ عنه، وأنكَره أبو حَنيفةَ وأصحابُه رحِمهم اللهُ تعالى؛ قالت الشَّافِعيَّةُ: لنا وُجوهٌ؛ الأوَّلُ: أنَّا لا نحمِلُ هذا على الشَّكِّ في الإيمانِ، بل على التَّبرُّكِ، كقولِ اللهِ تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح: 27] ، وليس المُرادُ منه الشَّكَّ؛ لأنَّه على اللهِ تعالى مُحالٌ، بل لأجْلِ التَّبرُّكِ والتَّعظيمِ، والثَّاني: أن يُحمَلَ على الشَّكِّ لكن لا في الحالِ، بل في العاقِبةِ؛ لأنَّ الإيمانَ المُنتفَعَ به هو الباقي عندَ الموتِ، وكُلُّ أحدٍ يشُكُّ في ذلك، فنسألُ اللهَ تعالى إبقاءَنا على تلك الحالةِ، والثَّالثُ: أنَّ الإيمانَ لمَّا كان عندَ الشَّافِعيِّ هو مجموعَ الأمورِ الثَّلاثةِ، وهي القولُ والعَملُ والاعتِقادُ، وكان حُصولُ الشَّكِّ في العَملِ يقتضي حُصولَ الشَّكِّ في أحدِ أجزاءِ هذه الماهيَّةِ، فيصِحُّ الشَّكُّ في حُصولِ الإيمانِ، وأمَّا عندَ أبي حَنيفةَ رضِي اللهُ عنه، فلمَّا كان الإيمانُ عبارةً عن الاعتِقادِ المُجرَّدِ لم يكنِ الشَّكُّ في العَملِ موجِبًا لوُقوعِ الشَّكِّ في الإيمانِ؛ فظهَر أنَّه ليس بَينَ الإمامَينِ رضِي اللهُ عنهما مُخالَفةٌ في المعنى) [472] ((معالم أصول الدين)) (ص: 135، 136). .
6- قال التَّفتازانيُّ: (الثَّالثُ -وعليه التَّعويلُ- ما قال إمامُ الحرمَينِ: أنَّ الإيمانَ ثابِتٌ في الحالِ قَطعًا مِن غَيرِ شكٍّ فيه، لكنَّ الإيمانَ الذي هو عَلَمُ الفوزِ وآيةُ النَّجاةِ؛ إيمانَ المُوافاةِ، فاعتَنى السَّلفُ به وقرَنوه بالمشيئةِ، ولم يقصِدوا الشَّكَّ في الإيمانِ النَّاجِزِ، ومعنى المُوافاةِ الإتيانُ والوُصولُ إلى آخِرِ الحياةِ وأوَّلِ منازِلِ الآخِرةِ، ولا خَفاءَ في أنَّ الإيمانَ المُنجيَ والكُفرَ المُهلِكَ ما يكونُ في تلك الحالِ، وإن كان مسبوقًا بالضِّدِّ، لا ما ثبَت أوَّلًا وتغيَّر إلى الضِّدِّ) [473] ((شرح المقاصد في علم الكلام)) (2/ 263). .
7- قال ابنُ تيميَّةَ عن الأشاعِرةِ: (الذين أوجَبوا الاستِثناءَ لهم مَأخَذانِ؛ أحدُهما: أنَّ الإيمانَ هو ما مات عليه الإنسانُ، والإنسانُ إنَّما يكونُ عندَ اللهِ مُؤمِنًا وكافِرًا باعتِبارِ المُوافاةِ وما سبَق في عِلمِ اللهِ أنَّه يكونُ عليه، وما قَبلَ ذلك لا عِبرةَ به، قالوا: والإيمانُ الذي يتعقَّبُه الكُفرُ، فيموتُ صاحِبُه كافِرًا؛ ليس بإيمانٍ، كالصَّلاةِ التي يُفسِدُها صاحِبُها قَبلَ الكمالِ، وكالصِّيامِ الذي يُفطِرُ صاحِبُه قَبلَ الغُروبِ، وصاحِبُ هذا هو عندَ اللهِ كافِرٌ؛ لعِلمِه بما يموتُ عليه) [474] ((مجموع الفتاوى)) (7/ 429). .
وقال ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (أمَّا الأشعَريُّ فالمعروفُ عنه وعن أصحابِه أنَّهم يُوافِقونَ جَهمًا في قولِه في الإيمانِ، وأنَّه مُجرَّدُ تصديقِ القلبِ أو معرفةِ القلبِ، لكن قد يُظهِرونَ معَ ذلك قولَ أهلِ الحديثِ، ويتأوَّلونَه، ويقولونَ بالاستِثناءِ على المُوافاةِ) [475] ((النبوات)) (1/ 580). .
وقال أيضًا: (هؤلاء لمَّا اشتَهر عندَهم عن أهلِ السُّنَّةِ أنَّهم يستَثنونَ في الإيمانِ، ورأَوا أنَّ هذا لا يُمكِنُ إلَّا إذا جُعِل الإيمانُ هو ما يموتُ العبدُ عليه، وهو ما يُوافي به العبدُ ربَّه؛ ظنُّوا أنَّ الإيمانَ عندَ السَّلفِ هو هذا، فصاروا يحكونَ هذا عن السَّلفِ، وهذا القولُ لم يقُلْ به أحدٌ مِن السَّلفِ، ولكنَّ هؤلاء حكَوه عنهم بحسَبِ ظنِّهم لمَّا رأَوا أنَّ قولَهم لا يتوجَّهُ إلَّا على هذا الأصلِ) [476] ((مجموع الفتاوى)) (7/ 436). .
وقال أيضًا: (أمَّا المُوافاةُ فما علِمْتُ أحدًا مِن السَّلفِ علَّل بها الاستِثناءَ، ولكنَّ كثيرًا مِن المُتأخِّرينَ يُعلِّلُ بها مِن أصحابِ الحديثِ؛ مِن أصحابِ أحمَدَ ومالِكٍ والشَّافِعيِّ وغَيرِهم، كما يُعلِّلُ بها نُظَّارُهم، كأبي الحَسنِ الأشعَريِّ، وأكثَرِ أصحابِه، لكنْ ليس هذا قولَ سَلفِ أصحابِ الحديثِ) [477] ((مجموع الفتاوى)) (7/ 439).
وقال ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (أكثَرُ المُتأخِّرينَ الذين نصَروا قولَ جَهمٍ يقولونَ بالاستِثناءِ في الإيمانِ، ويقولونَ: الإيمانُ في الشَّرعِ هو ما يُوافي به العبدُ ربَّه، وإن كان في اللُّغةِ أعَمَّ مِن ذلك، فجعَلوا في مسألةِ الاستِثناءِ مُسمَّى الإيمانِ ما ادَّعَوا أنَّه مُسمَّاه في الشَّرعِ، وعدَلوا عن اللُّغةِ، فهلَّا فعَلوا هذا في الأعمالِ! ودَلالةُ الشَّرعِ على أنَّ الأعمالَ الواجِبةَ مِن تمامِ الإيمانِ لا تُحصى كثرةً، بخلافِ دَلالتِه على أنَّه لا يُسمَّى إيمانًا إلَّا ما مات الرَّجلُ عليه؛ فإنَّه ليس في الشَّرعِ ما يدُلُّ على هذا، وهو قولٌ مُحدَثٌ لم يقُلْه أحدٌ مِن السَّلفِ) [478] ((مجموع الفتاوى)) (7/143). .
وقال أيضًا: (مَن قال: أنا مُؤمِنٌ إن شاء اللهُ، وهو يعتقِدُ أنَّ الإيمانَ فِعلُ جميعِ الواجِباتِ، ويخافُ ألَّا يكونَ قائِمًا بها فقد أحسَن؛ ولهذا كان الصَّحابةُ يخافونَ النِّفاقَ على أنفُسِهم، قال ابنُ أبي مُلَيكةَ: "أدرَكْتُ ثلاثينَ مِن أصحابِ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كُلُّهم يخافُ النِّفاقَ على نَفسِه"، ومَن اعتقَد أنَّ المُؤمِنَ المُطلَقَ هو الذي يستحِقُّ الجنَّةَ فاستَثنى خوفًا مِن سوءِ الخاتِمةِ، فقد أصاب، وهذا معنى ما يُروى عن ابنِ مسعودٍ أنَّه قيل له عن رجُلٍ: أنت مُؤمِنٌ؟ فقال: نعَم، فقيل له: أنت مِن أهلِ الجنَّةِ، فقال أرجو، فقال: هلَّا وكَل الأولى كما وكَل الثَّانيةَ؟ ومَن استَثنى خوفًا مِن تزكيةِ نَفسِه أو مَدحِها، أو تعليقَ الأمورِ بمشيئةِ اللهِ؛ فقد أحسَن، ومَن جزَم بما يعلَمُه أيضًا في نَفسِه مِن التَّصديقِ فهو مُصيبٌ) [479] ((مجموع الفتاوى)) (7/681، 682). .

انظر أيضا: