موسوعة الفرق

الفصلُ الثَّاني: ردُّ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ على المُرجِئةِ في مفهومِ الكُفرِ


الرِّدَّةُ حُكمٌ شرعيٌّ، لا تُطلَقُ على مُعيَّنٍ إلَّا بشُروطِها الشَّرعيَّةِ، والمُسلِمُ إذا تلبَّس بشيءٍ مِن مظاهِرِ الرِّدَّةِ لا يلزَمُ أن نحكُمَ عليه بالرِّدَّةِ؛ فقد يكونُ معذورًا، فلا يُحكَمُ برِدَّتِه حتَّى تتحقَّقَ فيه شُروطُ الرِّدَّةِ، وتنتفيَ موانِعُها، فلا تَلازُمَ في تلبُّسِه بذلك الفِعلِ وبَينَ الحُكمِ عليه بالرِّدَّةِ.
والجزمُ بتكفيرِ المُعيَّنِ وإخراجِه مِن الإسلامِ خَطرُه عظيمٌ، وتترتَّبُ عليه آثارٌ كثيرةٌ [319] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (23/345)، ((إتحاف النبلاء برد شبهات من وقع في الإرجاء)) لعلي موسى (ص: 382)، ((التوسط والاقتصاد في أن الكفر يكون بالقول أو العمل أو الاعتقاد)) لعلوي السقاف (ص: 22). .
لهذا ورَد الوعيدُ الشَّديدُ فيمَن كفَّر مُسلِمًا بغَيرِ حقٍّ؛ قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أيُّما رجُلٍ قال لأخيه: يا كافِرُ، فقد باء بهما أحدُهما )) [320] أخرجه البخاري (6104) واللَّفظُ له، ومسلم (60) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما. ، وفي رِوايةٍ: ((إن كان كما قال، وإلَّا رجَعَت عليه)) [321] أخرجها مسلم (60) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما. .
ولهذا فلا بُدَّ مِن قِيامِ الحُجَّةِ وتحقُّقِ الشُّروطِ وانتِفاءِ الموانِعِ، كالجَهلِ والتَّأويلِ والخَطأِ والإكراهِ، كما أنَّه لا بُدَّ مِن التَّفريقِ بَينَ التَّكفيرِ المُطلَقِ -كأن تقولَ: مَن فعَل كذا فهو كافِرٌ أو مُرتَدٌّ، أو تقولَ: هذا القولُ أو الفِعلُ كُفرٌ- وبَينَ تكفيرِ المُعيَّنِ، فتقولُ: فُلانٌ كافِرٌ [322] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (23/345)، ((التوسط والاقتصاد في أن الكفر يكون بالقول أو العمل أو الاعتقاد)) لعَلَوي السَّقَّاف (ص: 22). .
قال ابنُ تيميَّةَ: (حقيقةُ الأمرِ في ذلك: أنَّ القولَ قد يكونُ كُفرًا، فيُطلَقُ القولُ بتكفيرِ صاحِبِه، ويُقالُ: مَن قال كذا، فهو كافِرٌ، لكنَّ الشَّخصَ المُعيَّنَ الذي قاله لا يُحكَمُ بكُفرِه حتَّى تقومَ عليه الحُجَّةُ التي يكفُرُ تارِكُها) [323] ((مجموع الفتاوى)) (23/345). .
وعَملُ الفُقَهاءِ في بابِ الرِّدَّةِ يدُلُّ على أنَّ المُكلَّفَ قد يكفُرُ ببعضِ الأقوالِ أو الأعمالِ، وقد جاءت نُقولٌ كثيرةٌ عن السَّلفِ في التَّحذيرِ مِن بِدعةِ المُرجِئةِ الذين يحصُرونَ الكُفرَ في كُفرِ التَّكذيبِ فقط.
نُقولاتٌ للعُلَماءِ في أنَّ الكُفرَ يكونُ بالقولِ والفِعلِ والاعتِقادِ:
1- قال عبدُ اللهِ بنُ الزُّبَيرِ الحُمَيديُّ: (أُخبِرْتُ أنَّ قومًا يقولونَ: إنَّ مَن أقرَّ بالصَّلاةِ والزَّكاةِ والصَّومِ والحجِّ، ولم يفعَلْ مِن ذلك شيئًا حتَّى يموتَ، أو يُصلِّي مُستدبِرَ القِبلةِ حتَّى يموتَ؛ فهو مُؤمِنٌ ما لم يكنْ جاحِدًا...، إذا كان يُقِرُّ بالفرائِضِ واستِقبالِ القِبلةِ، فقلْتُ: هذا الكُفرُ الصُّراحُ، وخلافُ كتابِ اللهِ وسنَّةِ رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفِعلِ المُسلِمينَ) [324] يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للَّالكائي (5/ 957). .
2- قال إسحاقُ بنُ راهَوَيهِ: (ممَّا أجمَعوا على تكفيرِه، وحكَموا عليه كما حكَموا على الجاحِدِ؛ فالمُؤمِنُ الذي آمَن باللهِ تعالى وبما جاء مِن عندِه، ثُمَّ قتَل نبيًّا، أو أعان على قَتلِه، وإن كان مُقِرًّا، ويقولُ: قَتلُ الأنبياءِ مُحرَّمٌ؛ فهو كافِرٌ، وكذلك مَن شتَم نبيًّا، أو ردَّ عليه قولَه مِن غَيرِ تقيَّةٍ ولا خَوفٍ) [325] يُنظر: ((تعظيم قدر الصلاة)) للمروزي (2/ 930). .
وقال إسحاقُ بنُ راهَوَيهِ أيضًا: (أجمَع المُسلِمونَ على أنَّ مَن سبَّ اللهَ، أو سبَّ رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو دفَع شيئًا ممَّا أنزَل اللهُ عزَّ وجلَّ، أو قتَل نبيًّا مِن أنبِياءِ اللهِ؛ أنَّه كافِرٌ بذلك، وإن كان مُقِرًّا بكُلِّ ما أنزَل اللهُ) [326] يُنظر: ((الصارم المسلول)) لابن تيمية (ص: 3). .
3- قال أبو ثَورٍ: (اعلَمْ -يرحَمُنا اللهُ وإيَّاك- أنَّ الإيمانَ تصديقٌ بالقلبِ، وقولٌ باللِّسانِ، وعَملٌ بالجوارِحِ. وذلك أنَّه ليس بَينَ أهلِ العِلمِ خلافٌ في رجُلٍ لو قال: أشهَدُ أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ واحِدٌ، وأنَّ ما جاءت به الرُّسلُ حقٌّ، وأقرَّ بجميعِ الشَّرائِعِ، ثُمَّ قال: ما عُقِد قلبي على شيءٍ مِن هذا، ولا أُصدِّقُ به- أنَّه ليس بمُسلِمٍ، ولو قال: المسيحُ هو اللهُ، وجحَد أمرَ الإسلامِ، وقال: لم يعتقِدْ قلبي على شيءٍ مِن ذلك؛ أنَّه كافِرٌ بإظهارِ ذلك، وليس بمُؤمِنٍ) [327] يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (4/ 932). .
4- قال أحمَدُ بنُ حَنبَلٍ في ردِّه على الجَهمِ: (يلزَمُه أن يقولَ: إذا أقرَّ، ثُمَّ شدَّ الزُّنَّارَ في وَسَطِه، وصلَّى للصَّليبِ، وأتى الكنائِسَ والبِيَعَ، وعمِل الكبائِرَ كُلَّها، إلَّا أنَّه في ذلك مُقِرٌّ باللهِ؛ فيلزَمُه أن يكونَ عندَه مُؤمِنًا، وهذه الأشياءُ مِن أشنَعِ ما يلزَمُهم) [328] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 401). .
5- قال مُحمَّدُ بنُ سُحْنونَ المالِكيُّ: (أجمَع العُلَماءُ أنَّ شاتِمَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المُتنقِّصَ له كافِرٌ، والوعيدُ جارٍ عليه بعذابِ اللهِ له، وحُكمُه عندَ الأمَّةِ القَتلُ، ومَن شكَّ في كُفرِه وعذابِه كفَر) [329] يُنظر: ((الشفا)) لعياض (2/ 476)، ((الصارم المسلول)) لابن تيمية (ص: 513). .
6- قال البَربَهاريُّ: (لا نُخرِجُ أحدًا مِن أهلِ القِبلةِ مِن الإسلامِ حتَّى يَرُدَّ آيةً مِن كتابِ اللهِ، أو يَرُدَّ شيئًا مِن آثارِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو يذبَحَ لغَيرِ اللهِ، أو يُصلِّيَ لغَيرِ اللهِ، فإذا فعَل شيئًا مِن ذلك فقد وجَب عليك أن تُخرِجَه مِن الإسلامِ، وإذا لم يفعَلْ شيئًا مِن ذلك فهو مُؤمِنٌ مُسلِمٌ بالاسمِ لا بالحقيقةِ) [330] ((شرح السنة)) (ص: 64). .
7- قال الجَصَّاصُ: (قولُه تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ [التوبة: 65] ، إلى قولِه: إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ [التوبة: 66] ؛ فيه الدَّلالةُ على أنَّ اللَّاعِبَ والجادَّ سَواءٌ في إظهارِ كلمةِ الكُفرِ على غَيرِ وَجهِ الإكراهِ؛ لأنَّ هؤلاء المُنافِقينَ ذكَروا أنَّهم قالوا ما قالوه لعِبًا، فأخبَر اللهُ عن كُفرِهم باللَّعبِ) [331] ((أحكام القرآن)) (4/ 348). .
8- قال ابنُ العَربيِّ في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ [التوبة: 65] : (لا يخلو أن يكونَ ما قالوه مِن ذلك جِدًّا أو هَزلًا، وهو كيفما كان كُفرٌ؛ فإنَّ الهَزْلَ بالكُفرِ كُفرٌ، لا خلافَ فيه بَينَ الأمَّةِ؛ فإنَّ التَّحقيقَ أخو الحقِّ والعِلمِ، والهَزْلَ أخو الباطِلِ والجَهلِ) [332] ((أحكام القرآن)) (2/ 543). .
9- قال عِياضٌ: (أن يكونَ القائِلُ لِما قال في جِهتِه عليه السَّلامُ غَيرَ قاصِدٍ للسَّبِّ والإزراءِ، ولا مُعتقِدٍ له، ولكنَّه تكلَّم في جِهتِه عليه السَّلامُ بكلمةِ الكُفرِ مِن لَعنِه، أو سبِّه، أو تكذيبِه أو إضافةِ ما لا يجوزُ عليه، أو نَفيِ ما يجِبُ له ممَّا هو في حقِّه عليه السَّلامُ نقيصةٌ، مِثلُ أن يَنسُبَ إليه إتيانَ كبيرةٍ، أو مُداهَنةً في تبليغِ الرِّسالةِ، أو في حُكمٍ بَينَ النَّاسِ، أو يغُضَّ مِن مرتبتِه أو شَرفِ نَسبِه أو وُفورِ عِلمِه أو زُهدِه، أو يُكذِّبَ بما اشتهَر به مِن أمورٍ أخبَر بها عليه السَّلامُ، وتواتَر الخَبرُ بها عن قَصدٍ لردِّ خَبرِه، أو يأتيَ بسَفهٍ مِن القولِ، وقبيحٍ مِن الكلامِ، ونوعٍ مِن السَّبِّ في حقِّه، وإن ظهَر بدليلِ حالِه أنَّه لم يتعمَّدْ ذمَّه، ولم يقصِدْ سبَّه؛ إمَّا لجَهالةٍ حملَتْه على ما قاله، أو الضَّجَرِ، أو سُكرٍ اضطرَّه إليه، أو قِلَّةِ مُراقَبةٍ وضَبطٍ للِسانِه وعَجرَفةٍ وتهوُّرٍ في كلامِه؛ فحُكمُ هذا الوَجهِ حُكمُ الوَجهِ الأوَّلِ؛ القَتلُ، وإن تلعثَم؛ إذ لا يُعذَرُ أحدٌ في الكُفرِ بالجَهالةِ، ولا بدعوى زَللِ اللِّسانِ، ولا بشيءٍ ممَّا ذكَرْناه، إذا كان عَقلُه في فِطرتِه سليمًا، إلَّا مَن أُكرِه وقلبُه مُطمئِنٌّ بالإيمانِ) [333] ((الشفا)) (2/ 508). .
10- قال علاءُ الدِّينِ الكاسانيُّ: (أمَّا بيانُ أحكامِ المُرتدِّينَ فالكلامُ فيه في مواضِعَ؛ في بيانِ رُكنِ الرِّدَّةِ، وفي بيانِ شرائِطِ صحَّةِ الرُّكنِ، وفي بيانِ حُكمِ الرِّدَّةِ، أمَّا رُكنُها فهو إجراءُ كلمةِ الكُفرِ على اللِّسانِ بَعدَ وُجودِ الإيمانِ؛ إذ الرِّدَّةُ عبارةٌ عن الرُّجوعِ عن الإيمانِ؛ فالرُّجوعُ عن الإيمانِ يُسمَّى رِدَّةً في عُرفِ الشَّرعِ) [334] ((بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع)) (7/ 134). .
11- قال ابنُ الجَوزيِّ: (قولُه: قَدْ كَفَرْتُمْ [التوبة: 66] ، أي: قد ظهَر كُفرُكم بَعدَ إظهارِكم الإيمانَ، وهذا يدُلُّ على أنَّ الجِدَّ واللَّعبَ في إظهارِ كلمةِ الكُفرِ سواءٌ) [335] ((زاد المسير)) (2/ 275). .
12- قال ابنُ قُدامةَ المَقدِسيُّ: (مَن سبَّ اللهَ تعالى كَفرَ سَواءٌ كان مازِحًا أو جادًّا، وكذلك مَن استهزَأ باللهِ تعالى، أو بآياتِه أو برُسلِه أو كُتبِه؛ قال اللهُ تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة: 65-66] ) [336] ((المغني)) (9/ 28). .
13- قال ابنُ الحاجِبِ: (الرِّدَّةُ: الكُفرُ بَعدَ الإسلامِ، ويكونُ: بصريحٍ، وبلفظٍ يقتضيه، وبفِعلٍ يتضمَّنُه) [337] ((جامع الأمهات)) (ص: 512). .
14- قال النَّوَويُّ عن الرِّدَّةِ: (هي قَطعُ الإسلامِ، ويحصُلُ ذلك تارةً بالقولِ الذي هو كُفرٌ، وتارةً بالفِعلِ. والأفعالُ الموجِبةُ للكُفرِ هي التي تصدُرُ عن تعمُّدٍ واستِهزاءٍ بالدِّينِ صريحٍ، كالسُّجودِ للصَّنمِ أو للشَّمسِ، وإلقاءِ المُصحَفِ في القاذوراتِ، والسِّحرِ الذي فيه عِبادةُ الشَّمسِ) [338] ((روضة الطالبين)) (10/ 64). .
15- قال ابنُ تيميَّةَ: (إنَّ سبَّ اللهِ أو سبَّ رسولِه كُفرٌ ظاهِرًا وباطِنًا، وسَواءٌ كان السَّابُّ يعتقِدُ أنَّ ذلك مُحرَّمٌ، أو كان مُستحِلًّا له، أو كان ذاهِلًا عن اعتِقادِه، هذا مَذهَبُ الفُقَهاءِ وسائِرِ أهلِ السُّنَّةِ القائِلينَ بأنَّ الإيمانَ قولٌ وعَملٌ) [339] ((الصارم المسلول)) (ص: 512). .
16- قال ابنُ القيِّمِ: (شُعَبُ الإيمانِ قِسمانِ: قوليَّةٌ، وفِعليَّةٌ، وكذلك شُعَبُ الكُفرِ نوعانِ: قوليَّةٌ وفِعليَّةٌ، ومِن شُعَبِ الإيمانِ القوليَّةِ: شُعبةٌ يوجِبُ زوالُها زوالَ الإيمانِ، فكذلك مِن شُعَبِه الفِعليَّةِ ما يوجِبُ زوالَ الإيمانِ، وكذلك شُعَبُ الكُفرِ القوليَّةِ والفِعليَّةِ، فكما يكفُرُ بالإتيانِ بكلمةِ الكُفرِ اختِيارًا، وهي شُعبةٌ مِن شُعَبِ الكُفرِ، فكذلك يكفُرُ بفِعلِ شُعبةٍ مِن شُعَبِه، كالسُّجودِ للصَّنمِ، والاستِهانةِ بالمُصحَفِ؛ فهذا أصلٌ) [340] ((الصلاة وحكم تاركها)) (ص: 70). .
17- قال ابنُ مُفلِحٍ: (المُرتَدُّ: مَن كفَر طوعًا، ولو هازِلًا بَعدَ إسلامِه) [341] ((الفروع)) (10/ 186). .
18- قال ابنُ رَجبٍ: (قد يترُكُ دينَه ويُفارِقُ الجماعةَ وهو مُقِرٌّ بالشَّهادتَينِ ويدَّعي الإسلامَ، كما إذا جحَد شيئًا مِن أركانِ الإسلامِ، أو سبَّ اللهَ ورسولَه، أو كفَر ببعضِ الملائِكةِ أو النَّبيِّينَ أو الكُتبِ المذكورةِ في القرآنِ، معَ العِلمِ بذلك) [342] ((جامع العلوم والحكم)) (1/ 318). .
وقال ابنُ رَجبٍ أيضًا: (أمَّا تَركُ الدِّينِ ومُفارَقةُ الجماعةِ فمعناه الارتِدادُ عن دينِ الإسلامِ، ولو أتى بالشَّهادتَينِ، فلو سبَّ اللهَ ورسولَه وهو مُقِرٌّ بالشَّهادتَينِ أُبيح دمُه؛ لأنَّه قد ترَك بذلك دينَه، وكذلك لو استهان بالمُصحَفِ وألقاه في القاذوراتِ، أو جحَد ما يُعلَمُ مِن الدِّينِ بالضَّرورةِ، كالصَّلاةِ وما أشبَه ذلك ممَّا يُخرِجُ مِن الدِّينِ) [343] ((جامع العلوم والحكم)) (1/ 327). .
19- قال ابنُ نُجَيمٍ الحَنفيُّ: (الحاصِلُ أنَّ مَن تكلَّم بكلمةِ الكُفرِ هازِلًا أو لاعِبًا، كفَر عندَ الكُلِّ، ولا اعتِبارَ باعتِقادِه...، ومَن تكلَّم بها عالِمًا عامِدًا كفَر عندَ الكُلِّ) [344] ((البحر الرائق)) (5/ 134).  .
20- قال مُحمَّدُ بنُ عبدِ الوهَّابِ: (مَن استهزَأ بشيءٍ مِن دينِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو ثوابِ اللهِ، أو عِقابِه؛ كفَر) [345] ((مجموعة رسائل في التوحيد والإيمان))، مطبوعٌ ضِمنَ مؤلَّفاتِ الشَّيخِ محمَّدِ بنِ عبدِ الوهَّاب، الجزء الأول- (ص: 386). .
21- قال السَّعديُّ: (كُلُّ اعتِقادٍ أو قولٍ أو عَملٍ ثبَت أنَّه مأمورٌ به مِن الشَّارِعِ، فصَرفُه للهِ وحدَه توحيدٌ وإيمانٌ وإخلاصٌ، وصَرفُه لغَيرِه شِركٌ وكُفرٌ؛ فعليك بهذا الضَّابِطِ للشِّركِ الأكبَرِ الذي لا يَشِذُّ عنه شيءٌ) [346] ((القول السديد شرح كتاب التوحيد)) (ص: 54). .
22- سُئِل عُلَماءُ اللَّجنةِ الدَّائِمةِ للبُحوثِ العِلميَّةِ والإفتاءِ عن أنواعِ الرِّدَّةِ، فكان الجوابُ: (الرِّدَّةُ هي الكُفرُ بَعدَ الإسلامِ، وتكونُ بالقولِ والفِعلِ والاعتِقادِ والشَّكِّ؛ فمَن أشرَك باللهِ، أو جحَد رُبوبيَّتَه أو وَحدانيَّتَه، أو صِفةً مِن صفاتِه، أو بعضَ كُتبِه أو رُسلِه، أو سبَّ اللهَ أو رسولَه، أو جحَد شيئًا مِن المُحرَّماتِ المُجمَعِ على تحريمِها، أو استحلَّه، أو جحَد وُجوبَ رُكنٍ مِن أركانِ الإسلامِ الخمسةِ، أو شكَّ في وُجوبِ ذلك، أو في صِدقِ مُحمَّدٍ أو غَيرِه مِن الأنبِياءِ، أو شكَّ في البَعثِ، أو سجَد لصَنمٍ أو كَوكَبٍ ونَحوِه- فقد كفَر وارتدَّ عن دينِ الإسلامِ، وعليك بقِراءةِ أبوابِ حُكمِ الرِّدَّةِ مِن كُتبِ الفِقهِ الإسلاميِّ؛ فقد اعتنَوا به رحِمهم اللهُ) [347] يُنظر: ((فتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الأولى)) (2/ 8). وللاستزادة يُنظر: ((التوسط والاقتصاد)) لعَلوي السَّقَّاف (ص: 26- 133)، ((إتحاف النبلاء برد شبهات من وقع في الإرجاء)) لعلي موسى (ص: 383- 415). .
ونختِمُ هذا المَبحَثَ بهذا الحديثِ الدَّالِّ على أنَّ الرِّدَّةَ تكونُ بالفِعلِ؛ فعن البَراءِ بنِ عازِبٍ رضِي اللهُ عنهما قال: ((مرَّ بي عمِّي الحارِثُ بنُ عَمرٍو ومعَه لِواءٌ قد عقَده له رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: فسألْتُه، قال: بعَثني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن أضرِبَ عُنقَ رجُلٍ تزوَّج امرأةَ أبيه)) [348] أخرجه الترمذي (1362)، وابن ماجه (2607)، والطبري في ((مسند ابن عباس)) (892) واللَّفظُ له. صحَّحه الطبري، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (2607)، وقال الترمذي: حسَنٌ غريبٌ. والحديثُ رُوِي بلفظِ: عن البراءِ بنِ عازبٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: (لقيتُ عَمِّي ومعه رايةٌ، فقُلتُ له: أين تريدُ؟ قال: بعَثَني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى رجُلٍ نَكَح امرأةَ أبيه، فأمَرني أن أضرِبَ عُنُقَه وآخُذَ مالَه). أخرجه أبو داود (4457) واللَّفظُ له، والنسائي (3332). صحَّحه ابن حزم في ((المحلى)) (11/253)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4457)، وقال الذهبي في ((المهذب)) (7/3334): أخرجه أهلُ السُّنَنِ بطُرُقٍ. وأخرجه من طريقٍ آخَرَ: النَّسائي (3331)، وأحمد (18557). صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (4112)، والحاكم على شرط مسلم في ((المستدرك)) (2776)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (1331). .
قال ابنُ جَريرٍ: (كان الذي عرَّس بزوجةِ أبيه مُتخطِّيًا بفِعلِه حُرمتَينِ، وجامِعًا بَينَ كبيرتَينِ مِن معاصي اللهِ؛ إحداهما: عَقدُ نِكاحٍ على مَن حرَّم اللهُ...، والثَّانيةُ: إتيانُه فَرْجًا مُحرَّمًا عليه إتيانُه، وأعظَمُ مِن ذلك تقدُّمُه على ذلك بمَشهَدٍ مِن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإعلانُه عَقدَ النِّكاحِ على مَن حرَّم اللهُ عليه عَقدُه عليه بنصِّ كتابِه الذي لا شُبهةَ في تحريمِها عليه، وهو حاضِرُه...، فكان فِعلُه ذلك مِن أدَلِّ الدَّليلِ على تكذيبِه رسولَ اللهِ فيما آتاه به عن اللهِ تعالى ذِكرُه، وجُحودِه آيةً مُحكَمةً في تنزيلِه؛ فكان بذلك مِن فِعْلِه كذلك عن الإسلامِ -إن كان قد كان للإسلامِ مُظهِرًا- مُرتَدًّا...، وذلك أنَّ فاعِلَ ذلك على عِلمٍ منه بتحريمِ اللهِ ذلك على خَلقِه إن كان مِن أهلِ الإسلامِ، إن لم يكنْ مسلوكًا به في العُقوبةِ سبيلُ أهلِ الرِّدَّةِ بإعلانِه استِحلالَ ما لا لَبسَ فيه على ناشِئٍ نشَأ في أرضِ الإسلامِ؛ أنَّه حرامٌ) [349] ((تهذيب الآثار)) (1/ 574). .
وقد سُئِل ابنُ عُثَيمينَ عن ضابِطِ الاستِحلالِ الذي يكفُرُ به العبدُ، فقال: (الاستِحلالُ: هو أن يعتقِدَ حِلَّ ما حرَّمه اللهُ.
وأمَّا الاستِحلالُ الفِعليُّ فيُنظَرُ: إن كان هذا الاستِحلالُ ممَّا يُكفِّرُ فهو كافِرٌ مُرتَدٌّ، فمَثلًا لو أنَّ الإنسانَ تعامَل بالرِّبا، ولا يعتقِدُ أنَّه حَلالٌ، لكنَّه يُصِرُّ عليه؛ فإنَّه لا يُكفَّرُ؛ لأنَّه لا يستحِلُّه، ولكن لو قال: إنَّ الرِّبا حلالٌ، ويعني بذلك الرِّبا الذي حرَّمه اللهُ؛ فإنَّه يُكفَّرُ؛ لأنَّه مُكذِّبٌ للهِ ورسولِه.
الاستِحلالُ إذًا: استِحلالٌ فِعليٌّ، واستِحلالٌ عَقديٌّ بقلبِه؛ فالاستِحلالُ الفِعليُّ: يُنظَرُ فيه للفِعلِ نَفسِه، هل يُكفِّرُ أم لا؟ ومعلومٌ أنَّ أكلَ الرِّبا لا يُكفَّرُ به الإنسانُ، لكنَّه مِن كبائِرِ الذُّنوبِ، أمَّا لو سجَد لصنمٍ فهذا يُكفَّرُ لماذا؟ لأنَّ الفِعلَ يُكفِّرُ؛ هذا هو الضَّابِطُ، ولكن لا بُدَّ مِن شرطٍ آخَرَ، وهو: ألَّا يكونَ هذا المُستحِلُّ معذورًا بجَهلِه، فإن كان معذورًا بجَهلِه فإنَّه لا يُكفَّرُ، مِثلُ أن يكونَ إنسانٌ حديثَ عَهدٍ بالإسلامِ، لا يدري أنَّ الخَمرَ حرامٌ؛ فإنَّ هذا وإن استحلَّه فإنَّه لا يُكفَّرُ حتَّى يعلَمَ أنَّه حرامٌ، فإذا أصرَّ بَعدَ تعليمِه صار كافِرًا) [350] ((لقاء الباب المفتوح)) (رقم اللقاء: 50).  .

انظر أيضا: