موسوعة الفرق

المَطلَبُ الأوَّلُ: أدلَّةُ المُرجِئةِ على عَدمِ دُخولِ الأعمالِ في مُسمَّى الإيمانِ


أدلَّةُ المُرجِئةِ مُنصبَّةٌ على ما يدُلُّ على أنَّ الإيمانَ في القلبِ دونَ الجوارِحِ، ومِن أهَمِّ أدِلَّتِهم [137] يُنظر: ((المواقف)) للإيجي (3/527-530)، ((أصول مسائل العقيدة عند السَّلف وعند المبتدعة)) لسعود الخلف (1/ 56). :
1- أنَّ الإيمانَ في اللُّغةِ هو التَّصديقُ، واستدلُّوا بقولِ اللهِ تعالى: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا [يوسف: 19] ، أي: بمُصدِّقٍ لنا، وما دام الإيمانُ في اللُّغةِ التَّصديقَ فهو كذلك في الشَّرعِ، وهذا الدَّليلُ هو عُمدتُهم في عَدمِ دُخولِ العَملِ في الإيمانِ.
2- الآياتُ الدَّالَّةُ على مَحلِّيَّةِ القلبِ للإيمانِ، نَحوُ: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14] .
3- قولُ اللهِ تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ [النحل: 106] .
4- قولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأسامةَ وقد قتَل مَن قال لا إلهَ إلَّا اللهُ: ((أفلا شققْتَ عن قلبِه؟!)) [138] أخرجه مسلم (96) من حديثِ أسامةَ بنِ زيدٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. .
5- جاء الإيمانُ مقرونًا بالعملِ الصَّالِحِ في غَيرِ مَوضِعٍ مِن الكتابِ، نَحوُ قولِ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [البقرة: 82] ، فدلَّ على التَّغايُرِ.
6- أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ خاطَب المُؤمِنينَ باسمِ الإيمانِ قَبلَ أن يوجِبَ عليهم الأعمالَ، في مِثلِ قولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة: 183] .
7- أشهَرُ أدلَّةِ المُرجِئةِ الأحاديثُ الوارِدةُ في إثباتِ دُخولِ الجنَّةِ لكُلِّ مَن قال لا إلهَ إلَّا اللهُ [139] أخرجه ابن حبان (151) مُطَوَّلًا من حديثِ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما. صحَّحه ابنُ حبان، وصحَّح إسنادَه الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (3/127)، وشعيب الأرناؤوط على شرط مسلم في تخريج ((صحيح ابن حبان)) (151). وأخرجه مسلم (26) بلفظِ: عن عثمانَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((من مات وهو يعلَمُ أنَّه لا إلهَ إلَّا اللهُ دَخَل الجنَّةَ)). والحديثُ رُوِي بلفظِ: ((من كان آخِرَ كلامِه: لا إلهَ إلَّا اللَّهُ، دخَل الجنَّةَ)). أخرجه أبو داود (3116) واللَّفظُ له، وأحمد (22127) من حديثِ معاذِ بنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه ابنُ العربي في ((عارضة الأحوذي)) (2/369)، وابن الملقِّن في ((البدر المنير)) (5/188)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3116)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (3116). ، وحديثُ: ((شفاعتي لأهلِ الكبائِرِ مِن أمَّتي )) [140] أخرجه من طرُقٍ: أبو داود (4739)، والترمذي (2435)، وأحمد (13222). صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (6468)، والحاكم على شرط الشيخين في ((المستدرك)) (228)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4739)، وقال الترمذي: حسَنٌ صحيحٌ غريبٌ من هذا الوجهِ. ، وحديثُ الشَّفاعةِ الذي فيه إثباتُ الخُروجِ مِن النَّارِ لقومٍ لم يعمَلوا خيرًا قطُّ [141] أخرجه مسلم (183) من حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، بلفظِ: (فيَقولُ اللهُ عزَّ وجَلَّ: شَفَعَتِ المَلائِكةُ، وشَفعَ النَّبيُّونَ، وشَفعَ المُؤمِنونَ، ولَم يَبقَ إلَّا أرحَمُ الرَّاحِمينَ، فيَقبِضُ قَبضةً من النَّارِ فيُخرِجُ منها قَومًا لَم يَعمَلوا خَيرًا قَطُّ قد عادوا حُمَمًا، فيُلقيهم في نهرٍ في أفواهِ الجنَّةِ، يقالُ له نهرُ الحياةِ، فيَخرُجون كما تَخرُجُ الحِبَّةُ في حَمِيلِ السَّيلِ، ألَا ترونَها تكونُ إلى الحَجَرِ أو إلى الشَّجَرِ ما يكونُ إلى الشَّمسِ أصيفِرَ وأخيضِرَ، وما يكونُ منها إلى الظِّلِّ يكونُ أبيضَ. فقالوا: يا رسولَ اللهِ، كأنَّك كنتَ ترعى بالباديةِ! قال: فيَخرُجون كاللُّؤلُؤِ في رقابِهم الخواتِمُ، يَعرِفُهم أهلُ الجنَّةِ، هؤلاء عُتَقاءُ اللهِ الذين أدخلَهم اللهُ الجنَّةَ بغَيرِ عَمَلٍ عَمِلوه ولا خيرٍ قَدَّموه، ثُمَّ يقولُ: ادخُلوا الجنَّةَ، فما رأيتُموه فهو لكم. فيقولون: ربَّنا أعطيتَنا ما لم تُعطِ أحَدًا من العالَمين. فيقولُ: لكم عندي أفضَلُ من هذا، فيقولون: يا رَبَّنا أيُّ شيءٍ أفضَلُ مِن هذا؟ فيقول: رِضايَ فلا أسخَطُ عليكم بَعدَه أبدًا). .
قال ابنُ قُتَيبةَ: (المُرجِئُ يحتَجُّ برِوايتِهم: ((مَن قال لا إلهَ إلَّا اللهُ، فهو في الجنَّةِ، قيل: وإن زنى وإن سرَق؟ قال: وإن زنى وإن سرَق)) [142] أخرجه البخاري (5827)، ومسلم (94) باختلافٍ يسيرٍ مُطَوَّلًا من حديثِ أبي ذرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ البخاريِّ: (أتيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وعليه ثوبٌ أبيَضُ وهو نائِمٌ، ثم أتيتُه وقد استيقظ فقال: ((ما من عَبدٍ قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ، ثم مات على ذلك، إلَّا دَخَل الجنَّةَ. قُلتُ: وإن زنى وإن سَرَق؟! قال: وإن زنى وإن سَرَق. قلتُ: وإن زنى وإن سَرَق؟! قال: وإن زنى وإن سَرَق. قُلتُ: وإن زنى وإن سَرَق؟! قال: وإن زنى وإن سرق، على رَغمِ أنْفِ أبى ذَرٍّ)). ، و((مَن قال لا إلهَ إلَّا اللهُ مُخلِصًا، دخَل الجنَّةَ، ولم تمسَّه النَّارُ )) [143] لفظُه: عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما يقولُ: أخبرني من شَهِد مُعاذَ بنَ جَبَلٍ حينَ حَضَرَته الوفاةُ يقولُ: اكشِفوا عنِّي سَجْفَ القُبَّةِ حتَّى أحَدِّثَكم حديثًا سمعتُه من رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يمنَعْني أن أحَدِّثَكم إلَّا أن تتَّكِلوا عن العَمَلِ، سَمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((من قال لا إلهَ إلَّا اللهُ مخلِصًا من قَلبِه أو يقينًا من قَلبِه، دخل الجنَّةَ ولم تمسَّه النَّارُ)). أخرجه أحمد (22060)، وابن حبان (200) بلفظ: "من شَهِد أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ"، والحُمَيدي (369) واللَّفظُ له صحَّحه ابن حبان، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (22060)، وصحَّح إسناده على شرط الشيخين: الألبانيُّ في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (3/388)، وقال ابنُ كثير في ((جامع المسانيد والسنن)) (9754): له شواهدُ. ، و((أعدَدْتُ شفاعتي لأهلِ الكبائِرِ مِن أمَّتي )) [144] أخرجه من طرُقٍ: أبو داود (4739)، والترمذي (2435)، وأحمد (13222) من حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، بلفظ: ((شفاعتي لأهلِ الكبائِرِ من أمَّتي)). صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (6468)، والحاكم على شرط الشيخين في ((المستدرك)) (228)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4739)، وقال الترمذي: حسَنٌ صحيحٌ غريبٌ من هذا الوجهِ. [145] ((تأويل مختلف الحديث)) (ص: 49). .
وأمثالُ هذه الأحاديثِ هي مِن المُتشابِهِ الذي اتَّبَعه المُرجِئةُ، وترَكوا النُّصوصَ المُحكَمةَ مِن القرآنِ والسُّنَّةِ التي تُخالِفُ قولَهم، وهذه المُتشابِهاتُ قد ذكَر العُلَماءُ وُجوهًا كثيرةً في تفسيرِها وتوجيهِها، ومِن ذلك:
قال ابنُ خُزَيمةَ: (هذه اللَّفظةُ: ((لم يعمَلوا خيرًا قطُّ)) [146] أخرجه مسلم (183) من حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، بلفظِ: (فيَقولُ اللهُ عزَّ وجَلَّ: شَفَعَتِ المَلائِكةُ، وشَفعَ النَّبيُّونَ، وشَفعَ المُؤمِنونَ، ولَم يَبقَ إلَّا أرحَمُ الرَّاحِمينَ، فيَقبِضُ قَبضةً من النَّارِ فيُخرِجُ منها قَومًا لَم يَعمَلوا خَيرًا قَطُّ قد عادوا حُمَمًا، فيُلقيهم في نهرٍ في أفواهِ الجنَّةِ، يقالُ له نهرُ الحياةِ، فيَخرُجون كما تَخرُجُ الحِبَّةُ في حَمِيلِ السَّيلِ، ألَا ترونَها تكونُ إلى الحَجَرِ أو إلى الشَّجَرِ ما يكونُ إلى الشَّمسِ أصيفِرَ وأخيضِرَ، وما يكونُ منها إلى الظِّلِّ يكونُ أبيضَ. فقالوا: يا رسولَ اللهِ، كأنَّك كنتَ ترعى بالباديةِ! قال: فيَخرُجون كاللُّؤلُؤِ في رقابِهم الخواتِمُ، يَعرِفُهم أهلُ الجنَّةِ، هؤلاء عُتَقاءُ اللهِ الذين أدخلَهم اللهُ الجنَّةَ بغَيرِ عَمَلٍ عَمِلوه ولا خيرٍ قَدَّموه، ثُمَّ يقولُ: ادخُلوا الجنَّةَ، فما رأيتُموه فهو لكم. فيقولون: ربَّنا أعطيتَنا ما لم تُعطِ أحَدًا من العالَمين. فيقولُ: لكم عندي أفضَلُ من هذا، فيقولون: يا رَبَّنا أيُّ شيءٍ أفضَلُ مِن هذا؟ فيقول: رِضايَ فلا أسخَطُ عليكم بَعدَه أبدًا). مِن الجنسِ الذي يقولُ العربُ: يُنفى الاسمُ عن الشَّيءِ لنَقصِه عن الكمالِ والتَّمامِ؛ فمعنى هذه اللَّفظةِ على هذا الأصلِ: لم يعمَلوا خيرًا قطُّ على التَّمامِ والكمالِ، لا على ما أُوجِب عليه وأُمِرَ به) [147] ((التوحيد)) (2/ 732). .
وقال ابنُ عبدِ البَرِّ: (أمَّا قولُه: ((لم يعمَلْ حَسنةً قطُّ)) [148] أخرجه مسلم (2756) ولفظُه: عن أبي هُرَيرةَ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((قال رجُلٌ لم يعمَلْ حسَنةً قَطُّ لأهلِه: إذا مات فحَرِّقوه، ثُمَّ اذْرُوا نِصفَه في البَرِّ ونصفَه في البحرِ؛ فواللهِ لَئِن قدَرَ اللهُ عليه ليُعَذِّبنَّه عذابًا لا يُعَذِّبُه أحدًا من العالَمين. فلمَّا مات الرَّجُلُ فعَلوا ما أمرَهم. فأمَرَ اللهُ البَرَّ فجمَع ما فيه، وأمَرَ البحرَ فجَمَع ما فيه، ثُمَّ قال: لمَ فَعَلْتَ هذا؟ قال: مِن خَشيتِك يا رَبِّ وأنت أعلَمُ. فغَفَر اللهُ له)). ، وقد رُوِي: ((لم يعمَلْ خيرًا قطُّ)) [149] أخرجه البخاري (7506) ولفظُه: عن أبي هُرَيرةَ، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((قال رجلٌ لم يعمَلْ خيرًا قَطُّ: فإذا مات فحَرِّقوه، واذرُوا نِصفَه في البَرِّ ونصفَه في البحرِ؛ فواللهِ لَئِن قدَرَ اللهُ عليه ليُعَذِّبنَّه عذابًا لا يُعَذِّبُه أحدًا من العالَمين، فأمَر اللهُ البَحرَ فجَمَع ما فيه، وأمَرَ البَرَّ فجَمَع ما فيه، ثُمَّ قال: لمَ فَعَلْتَ؟ قال: من خَشيتِك، وأنت أعلَمُ، فغَفَر له)). ؛ أنَّه لم يُعذِّبْه إلَّا ما عدا التَّوحيدَ مِن الحَسناتِ والخيرِ [150] أخرجه أحمد (8040) عن أبي هُرَيرةَ، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((كان رجُلٌ ممَّن كان قَبلَكم لم يعمَلْ خيرًا قَطُّ إلَّا التوحيَد، فلمَّا احتُضِرَ قال لأهلِه: انظُروا إذا أنا مُتُّ أن يُحَرِّقوه حتَّى يَدَعوه حُمَمًا، ثُمَّ اطحَنوه، ثُمَّ اذرُوه في يومٍ راحٍ. فلمَّا مات فعلوا ذلك به، فإذا هو في قبضةِ اللهِ، فقال اللهُ عزَّ وجَلَّ: يا ابنَ آدمَ، ما حملَك على ما فعَلْتَ؟ قال: أيْ رَبِّ من مخافتِك. قال: فغَفَر له بها، ولم يعمَلْ خَيرًا قطُّ إلَّا التوحيدَ)). صحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (15/185)، والألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (3048)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (8040). وقولُه في آخِرِ الحديثِ: ولم يعمَلْ خَيرًا قَطُّ إلا التَّوحيدَ، يحتَمِلُ أن يكونَ مرفوعًا، ويحتَمِلُ أن يكونَ مُدرَجًا من بعضِ الرُّواةِ، وعلى كُلِّ حالٍ فهو يدُلُّ على معنى الحديثِ، وأنَّه ليس على إطلاقِه، وإنَّما المرادُ أنَّه لم يعمَلْ خيرًا قَطُّ مع قيامِه بتوحيدِ اللهِ سُبحانَه. وأخرجه أبو داود (5245)، وابن حبان (540) عن أبي هُرَيرةَ عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((نزع رجُلٌ لم يَعمَلْ خيرًا قَطُّ غُصنَ شَوكٍ عن الطَّريقِ إمَّا كان في شَجَرةٍ فقَطَعه فألقاه، وإمَّا كان موضوعًا فأماطه فشَكَر اللهُ له بها فأدخله الجنَّةَ))، ثُمَّ قال ابنُ حِبان: (معنى قولِه: لم يعمَلْ خَيرًا قَطُّ، يريدُ به سوى الإسلامِ). صحَّحه ابنُ حبان، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (5245)، وقوَّى إسناده شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (5245). ...، وهذا شائِعٌ في لسانِ العربِ: أن يُؤتى بلفظِ الكُلِّ والمُرادُ البعضُ، وقد يقولُ العربُ: لم يفعَلْ كذا قطُّ؛ يُريدُ الأكثَرَ مِن فِعلِه، ألا ترى إلى قولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((لا يضَعُ عصاه عن عاتِقِه )) [151] أخرجه مسلم (1480) من حديثِ فاطمةَ بنتِ قَيسٍ رَضِيَ اللهُ عنها، ولفظُه: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أمَّا أبو جَهمٍ فلا يَضَعُ عصاه عن عاتِقِه، وأمَّا مُعاويةُ فصُعلوكٌ لا مالَ له. انكِحي أسامةَ بنَ زيدٍ)). ، يُريدُ أنَّ الضَّربَ للنِّساءِ كان منه كثيرًا، لا أنَّ عصاه كانت ليلًا ونهارًا على عاتِقِه) [152] ((الاستذكار)) (3/ 94، 95). .
وقال عِياضٌ: (قد جاء هذا الحديثُ وأمثِلةٌ له كثيرةٌ في ألفاظِها اختِلافٌ، ولمعانيها عندَ أهلِ التَّحقيقِ ائتِلافٌ، وللنَّاسِ فيها خَبطٌ كثيرٌ، وعن السَّلفِ خلافٌ مأثورٌ...، فحُكِي عن جماعةٍ مِن السَّلفِ، منهم ابنُ المُسيَّبِ وغَيرُه؛ أنَّ هذا كان قَبلَ أن تَنزِلَ الفرائِضُ والأمرُ والنَّهيُ، وذهَب بعضُهم إلى أنَّها مُجمَلةٌ تحتاجُ إلى شرحٍ، ومعناه: مَن قال الكلمةَ وأدَّى حقَّها وفريضتَها، وهو قولُ الحَسنِ البَصريِّ، وذهَب بعضُهم إلى أنَّ ذلك لمَن قالها عندَ التَّوبةِ والنَّدمِ، ومات على ذلك، وهو قولُ البُخاريِّ) [153] ((إكمال المعلم بفوائد مسلم)) (1/ 254). .
وقال النَّوويُّ: (معنى قولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: دخَل الجنَّةَ، أي: دخَلها بَعدَ مُجازاتِه بالعذابِ، وهذا لا بُدَّ مِن تأويلِه؛ لِما جاء في ظواهِرَ كثيرةٍ مِن عذابِ بعضِ العُصاةِ، فلا بُدَّ مِن تأويلِ هذا؛ لئلَّا تتناقَض نُصوصُ الشَّريعةِ) [154] ((شرح مسلم)) (1/219). ويُنظر: ((إكمال المعلم بفوائد مسلم)) لعياض (1/253). .
فالمُرجِئةُ أخطؤوا خطأً عظيمًا في إخراجِ العَملِ مِن مُسمَّى الإيمانِ، واقتصَروا على جَعلِ الإيمانِ التَّصديقَ والقولَ، معَ أنَّ الإيمانَ يشمَلُ التَّصديقَ والقولَ والعَملَ.
قال ابنُ تيميَّةَ: (أنكَر حمَّادُ بنُ أبي سُلَيمانَ ومَن اتَّبَعه تفاضُلَ الإيمانِ، ودُخولَ الأعمالِ فيه، والاستِثناءَ فيه، وهؤلاء مِن مُرجِئةِ الفُقَهاءِ) [155] ((مجموع الفتاوى)) (7/ 507). .
وقال عنهم أيضًا: (قالوا: الأعمالُ ليست مِن الإيمانِ؛ لأنَّ اللهَ فرَّق بَينَ الإيمانِ والأعمالِ في كتابِه، ثُمَّ قال الفُقَهاءُ المُعتبَرونَ مِن أهلِ هذا القولِ: إنَّ الإيمانَ هو تصديقُ القلبِ وقولُ اللِّسانِ، وهذا المنقولُ عن حمَّادِ بنِ أبي سُلَيمانَ ومَن وافَقه، كأبي حَنيفةَ وغَيرِه) [156] ((مجموع الفتاوى)) (18/ 271). .
وقال أيضًا: (المُرجِئةُ المُتكلِّمونَ منهم والفُقَهاءُ منهم يقولونَ: إنَّ الأعمالَ قد تُسمَّى إيمانًا مجازًا؛ لأنَّ العَملَ ثَمَرةُ الإيمانِ ومُقتضاه، ولأنَّها دليلٌ عليه، ويقولونَ: قولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((الإيمانُ بِضعٌ وستُّونَ، أو بِضعٌ وسَبعونَ شُعبةً، أفضَلُها قولُ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأدناها إماطةُ الأذى عن الطَّريقِ )) [157] أخرجه البخاري (9) مختصرًا، ومسلم (35) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ مسلمٍ: (الإيمانُ بِضعٌ وسَبعون أو بِضعٌ وسِتُّون شُعبةً، فأفضَلُها قَولُ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأدناها إماطةُ الأذى عن الطَّريقِ ، والحياءُ شُعبةٌ مِن الإيمانِ)). مجازٌ) [158] ((مجموع الفتاوى)) (7/ 195). .
وقال أيضًا: (المُرجِئةُ ثلاثةُ أصنافٍ:
الذين يقولونَ: الإيمانُ مُجرَّدُ ما في القلبِ، ثُمَّ مِن هؤلاء مَن يُدخِلُ فيه أعمالَ القُلوبِ، وهُم أكثَرُ فِرَقِ المُرجِئةِ، كما قد ذكَر أبو الحَسنِ الأشعَريُّ أقوالَهم في كتابِه، وذكَر فِرَقًا كثيرةً يطولُ ذِكرُهم، لكن ذكَرْنا جُملَ أقوالِهم، ومنهم مَن لا يُدخِلُها في الإيمانِ، كجَهمٍ ومَن اتَّبَعه، كالصَّالِحيِّ، وهذا الذي نصَره هو وأكثَرُ أصحابِه.
والقولُ الثَّاني: مَن يقولُ: هو مُجرَّدُ قولِ اللِّسانِ، وهذا لا يُعرَفُ لأحدٍ قَبلَ الكَرَّاميَّةِ.
والثَّالثُ: تصديقُ القلبِ وقولُ اللِّسانِ، وهذا هو المشهورُ عن أهلِ الفِقهِ والعِبادةِ منهم، وهؤلاء غَلِطوا مِن وُجوهٍ؛ أحدُها: ظنُّهم أنَّ الإيمانَ الذي فرَضه اللهُ على العِبادِ مُتماثِلٌ في حقِّ العِبادِ، وأنَّ الإيمانَ الذي يجِبُ على شخصٍ يجِبُ مِثلُه على كُلِّ شخصٍ...، الوَجهُ الثَّاني مِن غَلطِ المُرجِئةِ: ظنُّهم أنَّ ما في القلبِ مِن الإيمانِ ليس إلَّا التَّصديقَ فقط دونَ أعمالِ القُلوبِ، كما تقدَّم عن جَهْميَّةِ المُرجِئةِ.
الثَّالثُ: ظنُّهم أنَّ الإيمانَ الذي في القلبِ يكونُ تامًّا بدونِ شيءٍ مِن الأعمالِ؛ ولهذا يجعَلونَ الأعمالَ ثَمرةَ الإيمانِ ومُقتضاه بمنزِلةِ السَّببِ معَ المُسبِّبِ، ولا يجعَلونَها لازِمةً له، والتَّحقيقُ أنَّ إيمانَ القلبِ التَّامَّ يستلزِمُ العَملَ الظَّاهِرَ بحسَبِه لا محالةَ، ويمتنِعُ أن يقومَ بالقلبِ إيمانٌ تامٌّ بدونِ عَملٍ ظاهِرٍ) [159] ((مجموع الفتاوى)) (7/ 195، 204). .
وقال ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (عندَ الجَهْميَّةِ: الإيمانُ مُجرَّدُ تصديقِ القلبِ وعِلمِه، هذا قولُ جَهمٍ والصَّالِحيِّ، والأشعَريِّ في المشهورِ عنه، وأكثَرِ أصحابِه. وعندَ فُقَهاءِ المُرجِئةِ: هو قولُ اللِّسانِ معَ تصديقِ القلبِ، وعلى القولَينِ أعمالُ القُلوبِ ليست مِن الإيمانِ عندَهم كأعمالِ الجوارِحِ، فيُمكِنُ أن يكونَ الرَّجلُ مُصدِّقًا بلِسانِه وقلبِه معَ كراهةِ ما نزَّل اللهُ) [160] ((منهاج السنة)) (5/ 288). .
وقال أيضًا: (مِن هنا غلِطَت الجَهْميَّةُ والمُرجِئةُ؛ فإنَّهم جعَلوا الإيمانَ مِن بابِ القولِ: إمَّا قولُ القلبِ الذي هو عِلمُه، أو معنًى غَيرُ العِلمِ عندَ مَن يقولُ ذلك، وهذا قولُ الجَهْميَّةِ ومَن تبِعهم كأكثَرِ الأشعريَّةِ، وبعضِ مُتأخِّري الحَنفيَّةِ؛ وإمَّا قولُ القلبِ واللِّسانِ، كالقولِ المشهورِ عن المُرجِئةِ، ولم يجعَلوا عَملَ القلبِ، مِثلُ حُبِّ اللهِ ورسولِه، ومِثلُ خَوفِ اللهِ؛ مِن الإيمانِ؛ فغَلِطوا في هذا الأصلِ) [161] ((جامع المسائل)) (5/ 246). .

انظر أيضا: