موسوعة الفرق

المَطلَبُ الثَّاني: قولُ الجَهْميَّةِ


كان الجَهمُ يزعُمُ أنَّ الإيمانَ هو معرفةُ القلبِ، وأنَّه لا يتبعَّضُ، ولا يتفاضَلُ فيه أهلُه [103] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/114، 219)، ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (2/ 796). .
1- قال أبو الحَسنِ الأشعَريُّ: (الذي تفرَّد به جَهمٌ أنَّ الإيمانَ هو المعرفةُ باللهِ فقط) [104] ((مقالات الإسلاميين)) (1/219). .
وقال أيضًا: (الفِرقةُ الحادِيةَ عَشرةَ مِن المُرجِئةِ، أصحابُ بِشرٍ المِرِّيسيِّ يقولونَ: إنَّ الإيمانَ هو التَّصديقُ؛ لأنَّ الإيمانَ في اللُّغةِ هو التَّصديقُ، وما ليس بتصديقٍ فليس بإيمانٍ، ويزعُمُ أنَّ التَّصديقَ يكونُ بالقلبِ وباللِّسانِ جميعًا، وإلى هذا القولِ كان يذهَبُ ابنُ الرَّاوَنديِّ، وكان ابنُ الرَّاوَنديِّ يزعُمُ أنَّ الكُفرَ هو الجَحدُ والإنكارُ والسَّترُ والتَّغطيةُ، وليس يجوزُ أن يكونَ الكُفرُ إلَّا ما كان في اللُّغةِ كُفرًا، ولا يجوزُ أن يكونَ إيمانًا إلَّا ما كان في اللُّغةِ إيمانًا، وكان يزعُمُ أنَّ السُّجودَ للشَّمسِ ليس بكُفرٍ، ولكنَّه عَلَمٌ على الكُفرِ؛ لأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ بيَّن لنا أنَّه لا يسجُدُ للشَّمسِ إلَّا كافِرٌ) [105] ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 120). .
2- قال البَغداديُّ: (زعَمَت الجَهْميَّةُ أنَّ الإيمانَ هو المعرفةُ وَحدَها) [106] ((أصول الإيمان)) (ص: 249). .
وقال أيضًا عن الجَهمِ: (زعَم أيضًا أنَّ الإيمانَ هو المعرفةُ باللهِ تعالى فقط، وأنَّ الكُفرَ هو الجَهلُ به) [107] ((الفرق بين الفرق)) (ص: 199). .
3- قال الشَّهْرَستانيُّ في بيانِ مُعتقَدِ جَهمٍ: (مَن أتى بالمعرفةِ ثُمَّ جحَد بلِسانِه، لم يكفُرْ بجَحدِه؛ لأنَّ العِلمَ والمعرفةَ لا يزولانِ بالجَحدِ، فهو مُؤمِنٌ) [108] ((الملل والنحل)) (1/ 88). .
4- قال ابنُ تيميَّةَ: (آل الأمرُ بغُلاتِهم كجَهمٍ وأتباعِه إلى أن قالوا: يُمكِنُ أن يُصدِّقَ بقلبِه ولا يُظهِرَ بلِسانِه إلَّا كلمةَ الكُفرِ، معَ قُدرتِه على إظهارِها، فيكونَ الذي في القلبِ إيمانًا نافِعًا له في الآخِرةِ! وقالوا: حيثُ حكَم الشَّارِعُ بكُفرِ أحدٍ بعَملٍ أو قولٍ فلِكونِه دليلًا على انتِفاءِ ما في القلبِ) [109] ((مجموع الفتاوى)) (7/644). .
وقال ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (أصلُ جَهمٍ في الإيمانِ تضمَّن غَلطًا مِن وُجوهٍ؛ منها:
ظنُّه أنَّه مُجرَّدُ تصديقِ القلبِ ومعرفتِه بدونِ أعمالِ القلبِ، كحُبِّ اللهِ وخَشيتِه ونَحوِ ذلك. ومنها: ظنُّه ثُبوتَ إيمانٍ قائِمٍ في القلبِ بدونِ شيءٍ مِن الأقوالِ والأعمالِ.
ومنها: ظنُّه أنَّ مَن حكَم الشَّرعُ بكُفرِه وخُلودِه في النَّارِ فإنَّه يمتنِعُ أن يكونَ في قلبِه شيءٌ مِن التَّصديقِ، وجزَموا بأنَّ إبليسَ وفِرعونَ واليَهودَ ونَحوَهم لم يكنْ في قُلوبِهم شيءٌ مِن ذلك) [110] ((مجموع الفتاوى)) (10/749) بتصرُّفٍ يسيرٍ. ويُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/363). .
وقال أيضًا: (مَن كان مُوافِقًا لقولِ جَهمٍ في الإيمانِ بسببِ انتِصارِ أبي الحَسنِ لقولِه في الإيمانِ يبقى تارةً يقولُ بقولِ السَّلفِ والأئمَّةِ، وتارةً يقولُ بقولِ المُتكلِّمينَ المُوافِقينَ لجَهمٍ؛ حتَّى في مسألةِ سبِّ اللهِ ورسولِه رأَيتُ طائِفةً مِن الحنبليِّينَ والشَّافِعيِّينَ والمالِكيِّينَ إذا تكلَّموا بكلامِ الأئمَّةِ قالوا: إنَّ هذا كُفرٌ باطِنًا وظاهِرًا. وإذا تكلَّموا بكلامِ أولئك قالوا: هذا كُفرٌ في الظَّاهِرِ، وهو في الباطِنِ يجوزُ أن يكونَ مُؤمِنًا تامَّ الإيمانِ؛ فإنَّ الإيمانَ عندَهم لا يتبعَّضُ) [111] ((مجموع الفتاوى)) (7/403). .
وممَّا يُبيِّنُ بُطلانَ مَذهَبِ الجَهْميَّةِ في الإيمانِ أنَّه يلزَمُ منه ما يلي:
1- أنَّ فِرعونَ وقومَه كانوا مُؤمِنينَ؛ لِكونِهم عرَفوا صِدقَ موسى وهارونَ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ، وإن لم يُؤمِنوا بهما.
ولهذا قال موسى لفِرعونَ: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ [الإسراء: 102] .
وقال تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [النمل: 14] .
2- أنَّ أهلَ الكتابِ الذين كانوا يعرِفونَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كما يعرِفونَ أبناءَهم مُؤمِنونَ بسببِ هذه المعرفةِ رَغمَ إنكارِهم وعِنادِهم الظَّاهِرِ.
3- أنَّ إبليسَ مُؤمِنٌ كامِلُ الإيمانِ؛ لأنَّه لم يجهَلْ ربَّه، بل هو عارِفٌ به، فقد حكى اللهُ عنه في القرآنِ أنَّه قال: رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الحجر: 36] ، قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي [الحجر: 39] ، قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 82] [112] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (2/460) باختصارٍ. .
قال ابنُ تيميَّةَ: (لهذا لمَّا عرَف مُتكلِّموهم -مِثلُ جَهمٍ ومَن وافَقه- أنَّه لازِمٌ لهم، التزَموه، وقالوا: لو فعَل ما فعَل مِن الأعمالِ الظَّاهِرةِ لم يكن بذلك كافِرًا في الباطِنِ، لكن يكونُ دليلًا على الكُفرِ في أحكامِ الدُّنيا، فإذا احتُجَّ عليهم بنُصوصٍ تقتضي أن يكونَ كافِرًا في الآخِرةِ قالوا: فهذه النُّصوصُ تدُلُّ على أنَّه في الباطِنِ ليس معَه مِن معرفةِ اللهِ شيءٌ؛ فإنَّها عندَهم شيءٌ واحِدٌ، فخالَفوا صريحَ المعقولِ، وصريحَ الشَّرعِ) [113] ((مجموع الفتاوى)) (7/401). .

انظر أيضا: