موسوعة الفرق

البابُ العاشِرُ: الحُكمُ على الخَوارِجِ


اختلف أهلُ العِلمِ في الحُكمِ على الخَوارِجِ بَينَ مُكَفِّرٍ لهم وغيرِ مُكَفِّرٍ، وهذا لعظيمِ جُرمِهم في الإسلامِ وأهلِه، ولبعضِ النُّصوصِ التي وردت في شأنِهم خاصَّةً [1083] يُنظر: ((الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية)) (ص: 527، 539، 544)، ((فرق معاصرة)) (1/295) كلاهما لعواجي. بتصرُّفٍ يسيرٍ. وللاستزادة يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 217- 218)، ((فتح الباري)) لابن حجر (12/ 299 – 301)، ((آراء الخوارج الكلامية)) للطالبي (ص: 21- 32). .
القَولُ الأوَّلُ: تكفيرُ الخَوارِجِ
نَظَر الذين كَفَّروا الخَوارِجَ أو كَفَّروا بعضَهم إلى ما أحدَثوه من عقائِدَ وأحكامٍ مُخالِفةٍ لِما هو معلومٌ من الدِّينِ بالضَّرورةِ، فكَفَّروهم، ومن هؤلاء المُكَفِّرينَ من رَدَّ سَلَفَهم القديمَ إلى ذي الخُوَيصِرةِ، ونظَر إلى ما ورد في حَقِّهم من الأحاديثِ التي تَصِفُهم بالمُروقِ من الدِّينِ؛ فكَفَّرهم.
فعن أبي سعيدٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((بينا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقسِمُ جاء عبدُ اللهِ بنُ ذي الخُوَيصِرةِ التَّميميُّ فقال: اعدِلْ يا رسولَ اللهِ. فقال: وَيلَك! مَن يَعدِلُ إذا لم أعدِلْ؟! قال عُمَرُ بنُ الخطَّابِ: دَعْني أضرِبْ عُنُقَه. قال: دَعْه؛ فإنَّ له أصحابًا يحقِرُ أحَدُكم صلاتَه مع صلاتِه، وصيامَه مع صيامِه، يَمرُقون من الدِّينِ كما يمرُقُ السَّهمُ من الرَّميَّةِ، يُنظَرُ في قُذَذِه [1084] قُذَذِه: بضَمِّ القافِ، أي: ريشِ السَّهمِ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 170). فلا يُوجَدُ فيه شيءٌ، يُنظَرُ في نَصلِه [1085] ‌نَصلِه: أي: حديدةِ السَّهمِ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (6/ 618). فلا يوجَدُ فيه شيءٌ، ثمَّ يُنظَرُ في رِصافِه [1086] ‌الرِّصافُ: بكَسرِ الرَّاءِ، أي: مَدخَلُ النَّصلِ من السَّهمِ. يُنظر: ((شرح مُسلِم)) للنووي (7/ 165). فلا يُوجَدُ فيه شيءٌ، ثمَّ يُنظَرُ في نَضِيِّه [1087] النَّضِيُّ: نَصلُ السَّهمِ، وقيل: هو القِدْحُ قبل أن يُنحَتَ، وقيل: النَّضِيُّ من السَّهمِ: ما جاوز الرِّيشَ إلى النَّصلِ، ومن الرُّمحِ: ما فوقَ المِقبَضِ. يُنظر: ((المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث)) للمديني (3/ 312). فلا يُوجَدُ فيه شيءٌ، قد سَبَق الفَرثَ والدَّمَ، آيتُهم رجلٌ إحدى يَدَيه -أو قال ثَدْيَيه- مِثلُ ثَدْيِ المرأةِ -أو قال مِثلُ البَضعةِ- تَدَرْدَرُ [1088] ‌تَدَرْدَرُ: أي: تَضطَرِبُ وتتحرَّكُ. يُنظر: ((غريب الحديث)) للخطابي (1/ 379). ، يخرُجون على حينِ فُرقةٍ من النَّاسِ. قال أبو سعيدٍ: أشهَدُ سَمِعتُ من النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأشهَدُ أنَّ عَلِيًّا قتَلَهم وأنا معه، جيءَ بالرَّجُلِ على النَّعتِ الذي نعَتَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. قال: فنزَلَت فيه: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ)) [1089] أخرجه البخاري (6933) واللَّفظُ له، ومُسلِم (1064). .
وعن عَليٍّ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((سيَخرُجُ قومٌ في آخِرِ الزَّمانِ حِداثُ الأسنانِ، سُفَهاءُ الأحلامِ، يقولون مِن خَيرِ قَولِ البريَّةِ، لا يجاوِزُ إيمانُهم حناجِرَهم، يَمرُقون من الدِّينِ كما يَمرُقُ السَّهمُ من الرَّميَّةِ، فأينما لَقِيتُموهم فاقْتُلوهم؛ فإنَّ في قَتْلِهم أجرًا لِمن قتَلَهم يومَ القيامةِ )) [1090] أخرجه البخاري (6930) واللَّفظُ له، ومُسلِم (1066). .
وعن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رَضيَ اللهُ عنه قال: سمِعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يخرُجُ في هذه الأمَّةِ -ولم يَقُلْ: منها- قومٌ تَحقِرون صلاتَكم مع صلاتِهم، يَقرَؤون القرآنَ لا يجاوِزُ حُلوقَهم -أو: حناجِرَهم- يَمرُقون من الدِّينِ مُروقَ السَّهمِ من الرَّمِيَّةِ)) [1091] أخرجه البخاري (6931) واللَّفظُ له، ومُسلِم (1064). .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ، وذَكَر الحَروريَّةَ، فقال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يَمرُقون من الإسلامِ مُروقَ السَّهمِ من الرَّميَّةِ )) [1092] رواه البخاري (6932). .
وعن يُسَيرِ بنِ عَمرٍو قال: قُلتُ لسَهلِ بنِ حُنَيفٍ: هل سَمِعتَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ في الخَوارِجِ شيئًا؟ قال: سمِعتُه يقولُ، وأهوى بيَدِه قِبَلِ العِراقِ: ((يخرُجُ منه قومٌ يَقرَؤون القُرآنَ لا يجاوِزُ تَراقِيَهم، يَمرُقون من الإسلامِ مُروقَ السَّهمِ من الرَّميَّةِ )) [1093] أخرجه البخاري (6934). .
وقد أورد ابنُ حَجَرٍ عِدَّةَ رواياتٍ عن الصَّحابةِ تَصِفُ الخَوارِجَ بأنَّهم شِرارُ الخَلقِ والخليقةِ، وأنَّهم أبغَضُ خَلقِ اللهِ، وأنَّه يَقتُلُهم خَيرُ الخَلقِ والخليقةِ، وهي رواياتٌ كثيرةٌ [1094] يُنظر: ((فتح الباري)) (12/286). ، ثُمَّ أورد أسماءَ طائفةٍ من العُلَماءِ الذين كفَّروهم، كالبُخاريِّ؛ حيثُ قرَنَهم بالمُلحِدين، وأفرد عنهم المتأوِّلين بترجمةٍ، وكالقاضي أبي بكرِ بنِ العربيِّ الذي قال: إنَّ هذا هو الصَّحيحُ، مُستَنِدًا إلى قولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يَمرُقون من الإسلامِ)) [1095] أخرجه البخاري (6932) عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ، وذكر الحَروريَّةَ فقال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يَمرُقون من الإسلامِ مُروقَ السَّهمِ من الرَّمِيَّةِ)). ، وقولِه: ((ولأقتُلَنَّهم قَتْلَ عادٍ)) [1096] رواه البخاري (3344)، ومُسلِم (1064) من حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه. وفي لفظٍ: ((ثمودَ)) [1097] رواه البخاري (4351)، ومُسلِم (1064) من حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه. ، ولحُكمِهم على من خالف مُعتَقَدَهم بالكُفرِ والتَّخليدِ في النَّارِ، فكانوا هم أحَقَّ بالاسمِ منهم، وقولِه: ((هم شَرُّ الخَلقِ والخليقةِ )) [1098] رواه مُسلِم (1067) من حديثِ أبي ذَرٍّ الغِفاريِّ رَضِيَ اللهُ عنه. ، ولا يُوصَفُ بذلك إلَّا الكُفَّارُ [1099] يُنظر: ((فتح الباري)) (12/299). .
ومِثلُه ما نقَلَه ابنُ حَجَرٍ عن السُّبكيِّ؛ حيثُ يرى أنَّ الصَّحيحَ هو القولُ بكُفرِهم، وذلك بسَبَبِ تكفيرِهم أعلامَ الصَّحابةِ؛ لتَضمُّنِه تكذيبَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في شهادتِه لهم بالجنَّةِ [1100] يُنظر: ((فتح الباري)) (12/299). .
وقال القاضي عِياضٌ: (نَقطَعُ بتكفيرِ كُلِّ قائِلٍ قال قولًا ‌يُتوصَّلُ ‌به ‌إلى ‌تضليلِ ‌الأمَّةِ وتكفيرِ جميعِ الصَّحابةِ) [1101] ((الشفا)) (2/ 286). .
وقال أبو العبَّاسِ القُرطبيُّ: (القولُ بتكفيرِهم أظهَرُ في الحديثِ) [1102] يُنظر: ((المفهم)) (3/ 110). .
وقال أيضًا: (فعلى القولِ بتكفيرِهم يُقاتَلون ويُقتَلون، وتُسْبى أموالُهم، وهو قوُل طائفةٍ من أهلِ الحديثِ في أموالِ الخَوارِجِ. وعلى قولِ من لا يُكَفِّرُهم: لا يُجهَزُ على جريحِهم، ولا يُتْبَعُ مُنهَزِمُهم، ولا يُقتَلُ أَسْراهم، ولا تُستباحُ أموالُهم. وكُلُّ هذا إذا خالفوا المُسلِمين، وشَقُّوا عَصاهم، ونَصَبوا رايةَ الحَربِ) [1103] ((المفهم)) (3/ 110- 111). . وهذا يدُلُّ على أنَّه غيرُ جازمٍ بالحُكمِ فيهم، وإن كان يرى تَرْكَ تكفيرِهم أسلَمَ؛ لقَولِه: (بابٌ: التَّكفيرُ بابٌ خطيرٌ أقدَمَ عليه كثيرٌ من النَّاسِ فسَقَطوا، وتوقَّف فيه الفُحولُ فسَلِموا، ولا نَعدِلُ بالسَّلامةِ شَيئًا) [1104] ((المفهم)) (3/ 111). .
ولقد بالغ المَلَطيُّ فادَّعى إجماعَ الأمَّةِ على تكفيرِ الخَوارِجِ، فقال مخاطِبًا لهم: (وأنتم بإجماعِ الأمَّةِ مارِقون، خارِجون من دينِ اللهِ، لا اختِلافَ بَينَ الأمَّةِ في ذلك) [1105] ((التنبيه والرد)) (ص: 54). .
وقد أنكر عليه الطَّالبيُّ دعوى الإجماعِ هذه بأنَّه من الصَّعبِ أن يُثبِتَ زَعْمَه الإجماعَ على إكفارِ الخَوارِجِ [1106] ((آراء الخوارج)) (ص: 21). .
وممَّن كَفَّرهم أيضًا أبو المُظَفَّرِ الأَسْفَرايِينيُّ، فيما ذَكَره عنه الطَّالبيُّ أيضًا، وذلك لأنَّهم (كَفَّروا الصَّحابةَ)، و(من كان اعتقادُه كاعتقادِهم فإنَّه لا شُبهةَ تَعتَرِضُ أهلَ الدِّيانةِ في خُروجِه عن المِلَّةِ) [1107] ((آراء الخوارج)) (ص: 23). .
وهذا هو رأيُ الزَّيديَّةِ جميعًا فيما نقله الطَّالبيُّ عن الشَّيخِ المُفيدِ بقَولِه: (ويُصَرِّحُ الشَّيخُ المُفيدُ بأنَّ الزَّيديَّةَ قاطِبةً مُجمِعةٌ على أنَّ الخارِجين على الإمامِ عَليِّ بنِ أبي طالبٍ كُفَّارٌ، بسَبَبِ خُروجِهم عليه، وأنَّهم مُخَلَّدون في النَّارِ) [1108] ((آراء الخوارج)) (ص: 23). ، وهو اعتقادُ جميعِ الشِّيعةِ في الخَوارِجِ الذين خَرَجوا على عَليٍّ رَضيَ اللهُ عنه.
وفي هذا يقولُ ابنُ أبي الحديد: (وأمَّا الخَوارِجُ فإنَّهم مَرَقوا عن الدِّينِ بالخبَرِ النَّبَويِّ المجمَعِ عليه، ولا يختَلِفُ أصحابُنا في أنَّهم من أهلِ النَّارِ) [1109] يُنظر: ((شرح نهج البلاغة)) (1/9). ، ثُمَّ صرَّح بأنَّ الخَوارِجَ والمُعتَزِلةَ على اتِّفاقٍ في كُلِّ المسائِلِ، ما عدا خُروجَهم على عليٍّ، فهو الفارِقُ فيما بَينَهم، وهو الذي أحبَط أعمالَهم عِندَه، كما في قولِه: (ولا ريبَ أنَّ الخَوارِجَ إنَّما بَرِئَ أهلُ الدِّينِ والحقِّ منهم -يعني بأهلِ الدِّينِ والحَقِّ المُعتَزِلةَ- لأنَّهم فارقوا عَليًّا، وبَرِئوا منه، وما عدا ذلك من عقائِدِهم نحوَ القَولِ بتخليدِ الفاسِقِ في النَّارِ، والقولِ بالخُروجِ على أُمَراءِ الجَورِ، وغيرِ ذلك من أقاويلِهم؛ فإنَّ أصحابَنا يقولون بها ويَذهَبون إليها، فلم يَبْقَ ما يقتضي البراءةَ منهم إلَّا براءتُهم من عليٍّ) [1110] يُنظر: ((شرح نهج البلاغة)) (5/131). .
وقد أرجَعَ علي يحيى مَعمَر الإباضيُّ كُلَّ ما جاء من أحاديثِ المُروقِ إلى المرتَدِّين الذين خرجوا على أبي بكرٍ رَضيَ اللهُ عنه بقولِه: (فإنَّ أحاديثَ المُروقِ -إذا صَحَّت- لا يكونُ المقصودُ منها إلَّا أصحابَ الثَّورةِ الأولى؛ أولئك الذين خَرَجوا على خلافةِ أبي بكرٍ مُنكِرينَ للشَّريعةِ أو لأصلٍ مِن أُصولِها) [1111] ((الإباضية في موكب التاريخ)) (1/29). .
فهو يَشُكُّ في صِحَّةِ أحاديثِ المروقِ، وعلى فَرْضِ صِحَّتِها -حَسَبَ تَعبيرِه- فإنَّه يَقصُرُها على المرتَدِّين، والواقِعُ أنَّها أحاديثُ صحيحةٌ جاءت في الصَّحيحَينِ.
ثمَّ إنَّ ما فيها من أوصافِ الخَوارِجِ من كَثرةِ قِراءتِهم للقُرآنِ وتعَمُّقِهم في العبادةِ لا يَنطَبِقُ على هؤلاءِ المُرتَدِّين!
وقد ذكَر الشَّاطبيُّ عِدَّةَ آياتٍ في ذَمِّ البِدَعِ وسُوءِ مُنقَلَبِ أصحابِها، (وذكَر عن بعضِ السَّلَفِ أنَّه أوَّلَها على الخَوارِجِ) [1112] ((الاعتصام)) (1/53 -68). .
ومن ذلك ما يُنسَبُ إلى عَليٍّ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه فسَّر قولَ اللهِ تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف: 103-104] بأنَّهم الحَروريَّةُ [1113] ((الاعتصام)) للشاطبي (ص: 65). .
إنَّ من تشَكَّك من العُلَماءِ في كُفْرِ الخَوارِجِ عمومًا لا يَشُكُّ في كُفرِ بَعضِ الفِرَقِ منهم.
فالبدعيَّةُ من الخَوارِجِ قَصَروا الصَّلاةَ على ركعةٍ في الصَّباحِ، وركعةٍ في المساءِ!
والميمونيَّةُ أجازت نكاحَ بعضِ المحارِمِ التي عُلِم تحريمُها من الدِّينِ بالضَّرورةِ، ثُمَّ زادت فأنكَرَت سورةَ يُوسُفَ أنَّها من القُرآنِ!
وفي هؤلاء قال ابنُ حَزمٍ: (قد تَسَمَّى باسمِ الإسلامِ مَن أجمَعَ جَميعُ فِرَقِ الإسلامِ على أنَّه ليس مُسلِمًا، مِثلُ طوائِفَ من الخَوارِجِ غَلَوا فقالوا: إنَّ الصَّلاةَ ركعةٌ بالغَداةِ ورَكعةٌ بالعَشيِّ فقط، وآخَرون استحَلُّوا نكاحَ بناتِ البَنينِ، وبناتِ بني الإِخوةِ، وبناتِ بني الأخَواتِ، وقالوا: إنَّ سورةَ يُوسُفَ ليست من القُرآنِ، وآخَرون منهم قالوا: يُحَدُّ الزَّاني والسَّارِقُ ثُمَّ يُستَتابون من الكُفرِ، فإن تابوا وإلَّا قُتِلوا) [1114] ((الفصل)) (2/114). ويُنظر: ((الفَرْق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 280، 281)، ((رسالة الدبسي)) (ص: 29). .
ولا شَكَّ أنَّ هذا كفرٌ صريحٌ لا يحتَمِلُ أيَّ تأويلٍ، ولا يَقِلُّ عنهم في الكُفرِ فِرقةُ اليزيديَّةِ؛ فإنَّ إمامَهم يزيدُ بنُ أنيسةَ (زعَم أنَّ اللهَ سيَبعَثُ رسولًا من العجَمِ، ويُنزِلُ عليه كتابًا من السَّماءِ يُكتَبُ في السَّماءِ، ويَنزِلُ عليه جملةً واحدةً، فتَرَك شريعةَ محمَّدٍ، ودانَ بشريعةٍ غَيرِها، وزَعَم أنَّ مِلَّةَ ذلك النَّبيِّ الصَّابِئةُ، وليس هذه الصَّابئةُ التي عليها النَّاسُ اليومَ، وليس هم الصَّابِئين الذين ذكَرَهم اللهُ في القُرآنِ، ولم يأتوا بَعْدُ) [1115] يُنظر: ((المقالات)) للأشعري (1/184). ويُنظر: ((الفصل)) لابن حزم (4/189)، ((المِلَل والنِّحَل)) للشهرستاني (1/136). .
وذكر البَغداديُّ أنَّ يزيدَ (كان -مع هذه الضَّلالةِ- يتولَّى من شَهِدَ لمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالنُّبُوَّةِ من أهلِ الكتابِ، وإنْ لم يدخُلْ في دينِه، وسمَّاهم بذلك مُؤمِنين، وعلى هذا القولِ يجِبُ أن يكونَ العِيسَويَّةُ والمُوشْكانيَّةُ من اليهودِ مُؤمِنين؛ لأنَّهم أقرُّوا بنبُوَّةِ محمَّدٍ عليه السَّلامُ ولم يدخُلوا في دينِه. وليس بجائِزٍ أن يُعَدَّ في فِرَقِ الإسلامِ مَن يَعُدُّ اليهودَ من المُسلِمين، وكيف يُعَدُّ مِن فِرَقِ الإسلامِ مَن يقولُ بنَسخِ شريعةِ الإسلامِ؟!) [1116] ((الفَرْق بين الفِرَق)) (ص: 280). .
وقد كَفَّر البَغداديُّ فِرقةَ الأزارِقةِ؛ حيثُ جعَلَها مع الفِرَقِ الخارِجةِ عن الإسلامِ كاليَزيديَّةِ والميمونيَّةِ، فبَعدَ أن ذَكَر أحداثَهم قال: (وأكفَرَتْهم الأمَّةُ في هذه البِدَعِ التي أحدَثوها بَعدَ كُفْرِهم الذي شارَكوا فيه المُحَكِّمةَ الأولى، فباؤوا بكُفرٍ على كُفرٍ، كمَن باء بغَضَبٍ على غَضَبٍ، وللكافِرين عذابٌ مُهِينٌ) [1117] ((الفَرْق بين الفِرَق)) (ص: 84). .
ومِن أشهَرِ بِدَعِهم إنكارُهم حَدَّ الرَّجمِ على المحصَنَينِ (إذ ليس في القرآنِ ذِكْرُه) [1118] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/173)، ((المِلَل والنِّحَل)) للشهرستاني (1/121). ، بينما هو ثابتٌ بالسُّنَّةِ من أقوالِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأفعالِه، وعليه مضى الصَّحابةُ.
وقد قال عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه: (إنَّ اللهَ بَعَث محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالحَقِّ، وأنزل عليه الكتابَ، فكان ممَّا أنزَلَ اللهُ آيةُ الرَّجمِ، فقرَأْناها وعَقَلْناها ووَعَيناها؛ فلذا رَجَم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ورَجَمْنا بَعدَه، فأخشى إن طال بالنَّاسِ زمانٌ أن يقولَ قائِلٌ: واللهِ ما نجِدُ آيةَ الرَّجمِ في كتابِ اللهِ، فيَضِلُّوا بتركِ فريضةٍ أنزَلَها اللهُ) [1119] رواه البخاري (6829)، ومُسلِم (1691). من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. .
والواقِعُ أنَّ الحُكمَ على الخَوارِجِ أو بَعضِ فِرَقِهم بالكُفرِ لم يكُنْ مِن قِبَلِ عُلَماءِ السَّلَفِ ومُؤَرِّخي الفِرَقِ فقط، وإنَّما حَكَم به بعضُهم على بعضٍ أيضًا، ولا سيَّما ما حكَمَتْ به فِرقةُ الإباضيَّةِ على غَيرِها من الفِرَقِ؛ فلقد كانت لهذه الفِرقةِ مَواقِفُ عَدائيَّةٌ من كثيرٍ من فِرَقِ الخَوارِجِ غيرَ المُحَكِّمةِ؛ فإنَّها تتولَّاها وتترضَّى عنها وتَعتَبِرُها سلَفَهم الصَّالحَ، أمَّا ما عداها كالأزارِقةِ والنَّجَداتِ والصُّفْريَّةِ وغَيرِهم، فإنَّها هي الفِرَقُ الخارِجيَّةُ حقيقةً في نَظَرِهم؛ ولهذا فقد كَفَّروهم ودارت بَينَهم وبَينَ هذه الفِرَقِ المعارِكُ الدَّاميةُ في بعضِ مراحِلِهم التَّاريخيَّةِ.
فالأزارِقةُ -وهي من أقدَمِ الفِرَقِ المشهورةِ للخَوارِج- كانت عِندَ الإباضيَّةِ من أهلِ الضَّلالِ والتَّقوُّلِ على اللهِ بالكَذِبِ، ومن المستحِلِّين لكُلِّ ما حَرَّم اللهُ من دماءِ المُسلِمين وأموالِهم وأعراضِهم، كما يَصِفونَهم، وأنَّهم أوَّلُ من خالف اعتقادَ أهلِ الاستقامةِ (أي: الإباضيَّةِ)، وأنَّهم أوَّلُ من شَقَّ عصا المُسلِمين، وفَرَّق جماعتَهم.
قال عنهم صاحِبُ كتابِ (الأديان)، بعدما تقدَّمَ من أوصافِهم: (وممَّا أضلَّهم اللهُ به وأعمى أبصارَهم، أنَّهم أنزَلوا أهلَ القِبلةِ بمَنزِلةِ حَربِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أهلَ الشِّرْكِ وأهلَ الأوثانِ) إلى أن قال: (فتَرَك نافِعُ بنُ الأزرَقِ وأتباعُه كِتابَ اللهِ وسُنَّةَ نبيِّه، وخالفوا سيرةَ المُسلِمين قَبْلَهم) [1120] يُنظر: ((الأديان)) (ص: 97/99/101). ، ولا يَقِلُّ عنه في تكفيرِ الأزارِقةِ الوَرْجَلانيُّ؛ فقد جعل الأحاديثَ الواردةَ في المارِقةِ على الأزارِقةِ، وأنَّهم هم المارِقةُ حقيقةً [1121] يُنظر: ((الدليل لأهل العقول)) (ص: 30). .
أمَّا مَوقِفُهم من النَّجَداتِ فإنَّ هذه الفِرقةَ لم تكُنْ عِندَهم أحسَنَ حالًا من سابقتِها؛ فقد تناوَلَها صاحِبُ كتابِ (الأديان) المتقَدِّمُ بالنَّقدِ، وذَكَر أحداثَها التي أحدَثَتْها في الدِّينِ، وأنَّ نَجْدةَ بنَ عامِرٍ: (قد انتَحَل أمورًا لم يأذَنِ اللهُ بها، ولم يَرَها المُسلِمون، قد ابتَدَع أمورًا شرَعَها له الشَّيطانُ وزَيَّنَها له)، ولم يَزَلْ نَجْدةُ يبتَدِعُ القولَ حتَّى نَقَم عليه أصحابُه فقَتَلوه ثُمَّ تفرَّقوا فيما بَينَهم، وقال فيهم وفي الأزارِقةِ جميعًا: (والكُلُّ منهم -والحَمدُ للهِ- ضالٌّ مُضِلٌّ، جايِرٌ حايِدٌ عن السَّبيلِ) [1122] ((الأديان)) (ص: 101-102). .
ومِثلُهم الصُّفْريَّةُ عِندَ صاحِبِ ((وفاءُ الضَّمانةِ))؛ فإنَّهم عِندَه هم المقصودون بأحاديثِ المُروقِ، ولا تَصدُقُ إلَّا عليهم، مع أنَّه يَذكُرُ أنَّ الإباضيَّةَ والصُّفْريَّةَ كانوا يدًا واحِدةً في النَّهْرَوانِ، حتَّى أحدثوا استِحلالَ دِماءِ وأموالِ أهلِ المعاصي، فتَرَكوهم، وذلك في قولِه: (وكان الصُّفْريَّةُ مع أهلِ الحَقِّ مِنَّا في النَّهْرَوانِ، ولَمَّا ظَهَر منهم استِحلالُ دِماءِ أهلِ التَّوحيدِ وأموالِهم بالكبائِرِ أو بالمعاصي، هاجَروهم وفارَقوهم) [1123] ((وفاء الضمانة)) (ص: 22-23). .
ومِثلُ تلك الفِرَقِ في الضَّلالِ عِندَ الإباضيَّةِ فِرقةُ الأعسَميَّةِ أتباعِ زيادِ بنِ الأعسَمِ، فذَكَر صاحِبُ كتابِ (الأديان) أنَّه خرج ناقمًا على الأزارِقةِ والنَّجْديَّةِ والعَطويَّةِ ولعَنَهم، ثُمَّ تابَعَهم في أمورٍ أهلَكَه اللهُ بها (منها: أنَّه اعتَبَرَ حَربَ أهلِ القِبلةِ كحَربِ رَسولِ اللهِ مع أهلِ الأوثانِ، وأنَّه يرى قَتْلَ قَومِه سِرًّا وعلانيةً، وأنَّه تابَعَ الأزارِقةَ والنَّجْديَّةَ والعَطويَّةَ على أعظَمِ ما استحَلُّوا من الجَورِ، فتابعه على ذلك مَن تابعَه حتَّى هَلَك، ولم يَزَلِ الشَّيطانُ يُزَيِّنُ لهم حتَّى صيَّرَهم شِيَعًا مُفتَرِقين، يَقتُلُ بعضُهم بعضًا، ويَستَحِلُّ بعضُهم حُرمةَ بَعضٍ، وشَهِد بعضُهم على بعضٍ بالشَّكِّ)، ونحوَ هذا قال أيضًا في فِرقةِ العَطويَّةِ أتباعِ عطيَّةَ بنِ الأسوَدِ المُنشَقَّةِ عن النَّجَداتِ [1124] يُنظر: ((الأديان)) لمؤلف إباضي مجهول (ص: 102 -103). .
القَولُ الثَّاني: عَدَمُ تكفيرِ الخَوارِجِ
أهلُ هذا الرَّأيِ يقولون: إنَّ الاجتراءَ على إخراجِ أحَدٍ من الإسلامِ أمرٌ غَيرُ هَيِّنٍ؛ نظرًا لكثرةِ النُّصوصِ التي تحَذِّرُ من ذلك، إلَّا مَن ظَهَر الكُفرُ من قولِه أو فِعلِه، فلا مانِعَ حينَئذٍ من تكفيرِه بَعدَ إقامةِ الحُجَّةِ عليه.
ولهذا أحجَم كثيرٌ من العُلَماءِ أيضًا عن إطلاقِ هذا الحُكمِ عليهم، وهؤلاء اكتَفَوا بتفسيقِهم، وأنَّ حُكمَ الإسلامِ يجري عليهم لقيامِهم بأمرِ الدِّينِ، وأنَّ لهم أخطاءً وحَسَناتٍ كغيرِهم من النَّاسِ، ثُمَّ إنَّ كثيرًا من السَّلَفِ لم يعامِلوهم مُعامَلةَ الكُفَّارِ، كما جرى لهم مع عَليٍّ رَضيَ اللهُ عنه، وعُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ؛ فلم تُسْبَ ذُرِّيَّتُهم وتُغنَمْ أموالُهم.
وذكَر القاضي عياضٌ أنَّ مسألةَ تكفيرِ الخَوارِجِ كادت أن تكونَ أشَدَّ إشكالًا عِندَ المتَكَلِّمين من غيرِها، حتَّى سأل الفقيهُ عبدُ الحقِّ الإمامَ أبا المعالي عنها فاعتَذَر بأنَّ إدخالَ كافِرٍ في المِلَّةِ وإخراجَ مُسلِمٍ عنها عظيمٌ في الدِّينِ. قال: وقد توقَّف قَبلَه القاضي أبو بكرٍ الباقِلَّانُّي، وقال: ولم يُصَرِّحِ القومُ بالكُفرِ، وإنَّما قالوا أقوالًا تؤدِّي إلى الكُفرِ [1125] ((الشفا)) (2/ 277). .
وقال أبو العبَّاسِ القُرطبيُّ: (بابٌ: التَّكفيرُ بابٌ خَطيرٌ، أقدَمَ عليه كثيرٌ من النَّاسِ فسَقَطوا، وتوقَّف فيه الفُحولُ فسَلِموا، ولا نَعدِلُ بالسَّلامةِ شَيئًا) [1126] ((المفهم)) (3/ 111). .
وأهلُ هذا الرَّأيِ، وإن كانوا قد تورَّعوا عن تكفيرِهم على العمومِ، إلَّا أنَّهم مُختَلِفون في حقيقةِ أمرِهم؛ فمنهم من يرى أنَّهم وإن كانوا غيرَ خارِجين عن الإسلامِ لكِنَّهم فَسَقةٌ؛ لأنَّهم قد شَهِدوا أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ، ثُمَّ طبَّقوا بالفِعلِ أركانَ الإسلامِ، وهذا يمنَعُ من تكفيرِهم أو إلحاقِهم بمَن لا يُقِرُّ بذلك، وتفسيقُهم إنَّما كان لِما عُرِف عنهم من تكفيرِهم المُسلِمين، واستباحةِ دِمائِهم وأموالِهم.
وهذا الرَّأيُ هو لأكثَرِ أهلِ الأصولِ من أهلِ السُّنَّةِ فيما يرويه ابنُ حَجَرٍ بقَولِه: (وذهب أكثَرُ أهلِ الأصولِ من أهلِ السُّنَّةِ إلى أنَّ الخَوارِجَ فُسَّاقٌ، وأنَّ حُكمَ الإسلامِ يجري عليهم لِتَلفُّظِهم بالشَّهادَتينِ، ومُواظبتِهم على أركانِ الإسلامِ، وإنَّما فَسَقوا بتكفيرِهم المُسلِمين مُستَنِدين إلى تأويلٍ فاسِدٍ، وجَرَّهم ذلك إلى استباحةِ دِماءِ مُخالِفيهم وأموالِهم، والشَّهادةِ عليهم بالكُفرِ والشِّرْكِ) [1127] ((فتح الباري)) (12/300). .
وذهب البعضُ الآخَرُ من القائِلين بعَدَمِ تكفيرِهم إلى أنَّ الخَوارِجَ فِرقةٌ كبقيَّةِ فِرَقِ المُسلِمين، وأنَّهم وإن كانوا على ضلالٍ فإنَّ ذلك لا يُخرِجُهم عن جملةِ فِرَقِ المُسلِمين التي وُجِد لها حسَناتٌ وأخطاءٌ، وهذا ما يقولُه الخَطَّابيُّ فيما يَذكُرُه عنه ابنُ حَجَرٍ، جازِمًا بأنَّ هذا الحُكمَ (أي: عَدَمَ إخراجِهم عن الإسلامِ) أمرٌ مُجمَعٌ عليه لدى عُلَماءِ المُسلِمين وذلك في قولِه: (أجمَع عُلَماءُ المُسلِمين على أنَّ الخَوارِجَ مع ضلالتِهم فِرقةٌ من فِرَقِ المُسلِمين، وأجازوا مُناكَحَتَهم، وأكْلَ ذبائِحِهم، وأنَّهم لا يُكَفَّرون ما داموا مُتمَسِّكين بأصلِ الإسلامِ) [1128] ((فتح الباري)) (12/300). .
ومِثلُ الخَطَّابيِّ ابنُ بَطَّالٍ؛ فقد قال أيضًا: (ذهب جمهورُ العُلَماءِ إلى أنَّ الخَوارِجَ غيرُ خارِجين عن جملةِ المُسلِمين) [1129] ((فتح الباري)) (12/301). .
ومن الذين اعتَبَروا الخَوارِجَ فِرقةً إسلاميَّةً كغَيرِها من الفِرَقِ الأُخرى الشَّافعيُّ فيما ينقُلُه عنه الطَّالبيُّ بقَولِه: (وأمَّا الإمامُ الشَّافعيُّ فإنَّه لم يُفَرِّقْ بَينَ مَذهَبِ الخَوارِجِ وبَينَ غيرِه من مذاهِبِ الفِرَقِ الأُخرى في عَدَمِ التَّكفيرِ بها) [1130] ((آراء الخوارج)) (ص: 21). .
والقولُ بعَدَمِ تكفيرِهم هو رأيُ ابنِ تيميَّةَ؛ فقد أورد حولَ الحُكمِ على الخَوارِجِ نقاشًا طويلًا، خَلَص منه إلى أنَّهم ليسوا كفَّارًا ولا مُرتَدِّين، وإنَّما هم فِئةٌ باغيةٌ، وأوردَ حُجَجًا على صِحَّةِ ما يراه في هذا الحُكمِ بما جرى لهم مع عَليٍّ وابنِ عبَّاسٍ وغيرِهما من الصَّحابةِ الذين لم يَحكُموا برِدَّتِهم، بل عامَلوهم مُعاملةَ المُسلِمين، خصوصًا حين انتهت تلك الحروبُ التي اشتعلت بينه وبَينَهم في النَّهْرَوانِ، فهو كما يقولُ: (لم يَسْبِ لهم ذُرِّيَّةً، ولا غَنِمَ لهم مالًا، ولا سار فيهم سيرةَ الصَّحابةِ في المُرتَدِّين، كمُسَيلِمةَ الكَذَّابِ وأمثالِه، بل كانت سيرةُ عَليٍّ والصَّحابةِ في الخَوارِجِ مُخالِفةً لسِيرةِ الصَّحابةِ في أهلِ الرِّدَّةِ، ولم يُنكِرْ أحدٌ على عليٍّ ذلك، فعُلِم اتِّفاقُ الصَّحابةِ على أنَّهم لم يكونوا مُرتَدِّين عن دينِ الإسلامِ) [1131] ((منهاج السنة)) (3/60 -62). .
وذكر أنَّ عَليًّا لم يحارِبْهم لأنَّهم كُفَّارٌ، وإنَّما حاربهم لدَفعِ ظُلمِهم وبَغْيِهم [1132] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (3/282) و(3/352، 357). .
ولكِنَّ ابنَ تيميَّةَ وإنْ لم يَقُلْ بكُفرِهم لكِنَّه يَعتَبِرُهم من شِرارِ الخَلقِ وممَّن يجِبُ قتالُهم، وهذا رأيُ كثيرٍ من عُلَماءِ المُسلِمين.
ومن أقوالِه فيهم قولُه: (اتَّفق الصَّحابةُ والعُلَماءُ بَعدَهم على قتالِ هؤلاء أي: الخَوارِجِ؛ فإنَّهم بُغاةٌ على جميعِ المُسلِمين سِوى مَن وافَقَهم على مَذهَبِهم، وهم يَبدَؤون المُسلِمين بالقتالِ، ولا يَندَفِعُ شَرُّهم إلَّا بالقتالِ، فكانوا أضَرَّ على المُسلِمين من قُطَّاعِ الطَّريقِ؛ فإنَّ أولئك مقصودُهم المالُ، فلو أُعطوه لم يُقاتِلوا، وإنَّما يَتعَرَّضون لبعضِ النَّاسِ، وهؤلاء يقاتِلون النَّاسَ على الدِّينِ حتَّى يرجِعوا عمَّا ثبَت بالكِتابِ والسُّنَّةِ وإجماعِ الصَّحابةِ إلى ما ابتدَعَه هؤلاء بتأويلِهم الباطِلِ وفَهْمِهم الفاسِدِ للقُرآنِ... وهم شَرٌّ على المُسلِمين من غيرِهم؛ فإنَّهم لم يكُنْ أحَدٌ شَرًّا على المُسلِمين منهم ولا اليهودُ ولا النَّصارى؛ فإنَّهم كانوا مجتَهِدين في قَتلِ كُلِّ مُسلِمٍ لم يُوافِقْهم، مُستَحِلِّين لدِماءِ المُسلِمين وأموالِهم وقَتلِ أولادِهم، مُكَفِّرين لهم، وكانوا مُتدَيِّنين بذلك لعِظَمِ جَهْلِهم، وبِدعتِهم المُضِلَّةِ) [1133] ((منهاج السنة النبوية)) (5/243 – 248) باختصارٍ وتصَرُّفٍ يسيرٍ. .
ومن الذين تورَّعوا عن تكفيرِهم، ورأى أنَّ حُكمَهم هو حُكمُ غَيرِهم من الفِرَقِ الإسلاميَّةِ: الشَّاطِبيُّ؛ فهو يرى أنَّ الخَوارِجَ غيرُ كافِرين، مُستَنِدًا في حكمِه هذا إلى ما ورد من رواياتٍ عن السَّلَفِ، وخُصوصًا ما كان من مَوقِفِ عَليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضيَ اللهُ عنه، وكذا عُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ؛ حيثُ عامَلوهم مُعاملةَ أهلِ الإسلامِ.
قال الشَّاطبيُّ: (قد اختَلَفَت الأُمَّةُ في تكفيرِ هؤلاء الفِرَقِ أصحابِ البِدَعِ العُظمى، ولكِنَّ الذي يَقْوى في النَّظَرِ، وبحَسَبِ الأثَرِ: عَدَمُ القَطعِ بتكفيرِهم، والدَّليلُ عليه عَمَلُ السَّلَفِ الصَّالحِ فيهم)، ثُمَّ استشهد بما جرى لهم مع عليٍّ وعُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ، فقال: (لمَّا اجتَمَعت الحَروريَّةُ وفارَقت الجماعةَ لم يُهَيِّجْهم عليٌّ ولا قاتَلَهم، ولو كانوا بخُروجِهم مُرتَدِّين لم يَترُكْهم؛ لقَولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((مَن بَدَّل دينَه فاقتُلوه )) [1134] أخرجه البخاري (3017) من حديثِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. ، وعُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ أيضًا لَمَّا خرج في زمانِه الحَروريَّةُ بالمَوصِلِ أمرَ بالكَفِّ عنهم، على ما أمر به عَليٌّ رَضيَ اللهُ عنه، ولم يُعامِلْهم معامَلةَ المُرتَدِّين) [1135] ((الاعتصام)) (2/186). .
ولعلَّ الشَّاطبيَّ يُشيرُ بما ذَكَره من أنَّ عَليًّا لم يُهَيِّجْهم ولم يُقاتِلْهم أنَّه لم يتسَرَّعْ إلى قَتْلِهم أوَّلَ الأمرِ، بل قال بأنَّه سوف يعامِلُهم مُعاملةً حَسَنةً، فلا يمنَعُهم المساجِدَ، ولا يَحرِمُهم الفَيءَ، ما دامت أيديهم معه وما داموا لم يَرتَكِبوا محرَّمًا، ولكِنَّهم حينَ خَرَجوا وقَتَلوا ابنَ خَبَّابٍ وغيرَه، حارَبَهم في معركةِ النَّهْرَوانِ الشَّهيرةِ حتَّى أفناهم.
تعقيبٌ على إطلاقِ الحُكمِ بالتَّكفيرِ
الواقِعُ أنَّ الحُكمَ بتكفيرِ الخَوارِجِ على الإطلاقِ فيه غُلُوٌّ، وأنَّ الحُكمَ بالتَّسويةِ بَينَهم وبَينَ غيرِهم من فِرَقِ المُسلِمين فيه تساهُلٌ.
يغالي من يُكَفِّرُهم جميعًا؛ لأنَّهم لم يُعلِنوا الكُفرَ، بل هم -كما هو المعروفُ عنهم- أهلُ عبادةٍ وتهجُّدٍ وصومٍ، ثُمَّ إنَّهم لم يُعامَلوا من الإمامِ عليٍّ والصَّحابةِ مُعامَلةَ الكُفَّارِ أو المُرتَدِّين، وما انحرَفوا عن الحَقِّ من آراءٍ ومواقِفَ وأحكامٍ إنَّما كان بناءً على تأويلٍ تأوَّلوا عليه الآياتِ والأحاديثَ، ومع أنَّه تأويلٌ فاسِدٌ إلَّا أنَّهم لم يتعَمَّدوا به الكُفرَ، ولم يَسْعَوا به إلى هَدمِ الإسلامِ، بل طَلَبوا الحَقَّ -كما قال عَليٌّ رَضيَ اللهُ عنه- فأخطَؤوه، اللَّهُمَّ إلَّا من أنكَر منهم ما هو معلومٌ من الدِّينِ بالضَّرورةِ.
ومع ذلك فإنَّه يُقَصِّرُ أو يتساهَلُ في الحُكمِ عليهم من يرى أنَّهم كغيرِهم مِن فِرَقِ المُسلِمين الأُخرى، وهذا خطَأٌ لأنَّهم بخلافِ الفِرَقِ الأُخرى التي لم يَستَحِلَّ أصحابُها من دِماءِ المُسلِمين وأموالِهم ما استحَلَّه الخَوارِجُ.
وفيما يَظهَرُ ألَّا يُعَمَّمَ الحُكمُ على جميعِ الخَوارِجِ، بل يقالُ في حَقِّ كُلِّ فِرقةٍ بما تَستَحِقُّه من الحُكمِ، حَسَبَ قُربِها أو بُعْدِها عن الدِّينِ، وحَسَبَ ما يَظهَرُ من اعتقاداتِها وآرائِها، أمَّا الحُكمُ عليهم جميعًا بحُكمٍ واحدٍ، فإنَّه يكونُ حُكمًا غيرَ دقيقٍ؛ لأنَّ الخَوارِجَ -كما تقدَّم- لم يكونوا على رأيٍ واحدٍ في الاعتقادِ، بل منهم المعتَدِلُ، ومنهم المُغالي.
قال ابنُ حزمٍ: (أقرَبُ فِرَقِ الخَوارِجِ إلى أهلِ السُّنَّةِ أصحابُ عبدِ اللهِ بنِ يزيدَ الإباضيِّ الفَزاريِّ الكوفيِّ، وأبعَدُهم الأزارِقةُ) [1136] ((الفصل)) (2/112). .
أو يقالُ: إنَّ مَن انطبقت عليه تلك الصِّفاتُ التي وردت في الأحاديثِ بذَمِّهم كان حُكمُه أنَّه مارِقٌ عن الدِّينِ، وفي حُكمِ الكُفَّارِ، وأمَّا مَن لم تنطَبِقْ عليه تلك الصِّفاتُ، وذلك باحتِمالِ أن يكونَ الشَّخصُ دَخَل في مَذهَبِهم بقَصدٍ حَسَنٍ من إعلاءِ كَلِمةِ اللهِ في الأرضِ، أو يكونَ الشَّخصُ مخدوعًا بهم، أو له أيُّ تأويلٍ كان؛ فإنَّ هذا لا ينبغي التَّسَرُّعِ في تكفيرِه، خصوصًا وهو يَدَّعي الالتِزامَ بجميعِ شرائِعِ الإسلامِ.



انظر أيضا: