موسوعة الفرق

المبحَثُ الثَّالثُ: عقيدةُ الإباضيَّةِ في رُؤيةِ اللهِ تعالى في الآخِرةِ


ذهَبوا إلى إنكارِ وُقوعِها؛ لأنَّ العقلَ -كما يَزعُمون- يُحيلُ ذلك ويَستبعِدُه، واستدَلُّوا بقولِه تعالى: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام: 103] ، وأوَّلوا معنى الآيةِ تأويلًا خاطِئًا على طريقةِ المُعتَزِلةِ.
ومن أدِلَّتِهم قولُ اللهِ تعالى: قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي [الأعراف: 143] .
واستدلُّوا من السُّنَّةِ بحديثِ عائشةَ حينَ سُئِلت عن الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هل رأى ربَّه ليلةَ الإسراءِ؟ فأجابت بالنَّفيِ  [1046] رواه البخاري (4855)، ومُسلِم (177) من حديثِ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، ولفظُ البخاريِّ: (عن مسروقٍ قال: قُلتُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: يا أُمَّتَاهْ، هلْ رَأَى مُحَمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رَبَّهُ؟ فَقالَتْ: لقَدْ قَفَّ شَعَرِي ممَّا قُلْتَ، أيْنَ أنْتَ مِن ثَلَاثٍ مَن حَدَّثَكَهُنَّ فقَدْ كَذَبَ: مَن حَدَّثَكَ أنَّ مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رَأَى رَبَّهُ فقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام: 103] ، وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الشورى: 51] . ومَن حَدَّثَكَ أنَّه يَعْلَمُ ما في غَدٍ فقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا [لقمان: 34] . ومَن حَدَّثَكَ أنَّه كَتَمَ فقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة: 67] الآيَةَ، ولَكِنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ عليه السَّلَامُ في صُورَتِهِ مَرَّتَيْنِ). كما رواه صاحِبُ (وفاءُ الضَّمانةِ)  [1047] ((وفاء الضمانة)) (ص: 376- 277). ، وقد أورد الرَّبيعُ بنُ حَبيبٍ صاحِبُ كتابِ (الجامِعُ الصَّحيحُ) أو (مُسنَدُ الرَّبيعِ)، الذي هو عِندَهم بمَنزِلةِ صحيحِ البُخاريِّ ومُسلِمٍ عِندَ أهلِ السُّنَّةِ، ويَعتَبِرونَه أصَحَّ كتابٍ بَعدَ القرآنِ كما يَزعُمون، أورد عِدَّةَ رواياتٍ عن بعضِ الصَّحابةِ تدُلُّ على إنكارِهم رُؤيةَ اللهِ تعالى  [1048] يُنظر: ((مسند الرَّبيع بن حَبيبٍ)) (3/35). .
والواقِعُ أنَّ كُلَّ استدلالاتِهم التي شابهوا فيها المُعتَزِلةَ إمَّا استدلالاتٌ غيرُ صحيحةِ الثُّبوتِ، أو صحيحةٌ ولكِنْ أوَّلوها على حَسَبِ هواهم في نفيِ الرُّؤيةِ.
فإنَّ الآيةَ الأولى ليس فيها نفيُ الرُّؤيةِ، وإنَّما نفيُ الإحاطةِ والشُّمولِ؛ فاللهُ يُرى، ولكِنْ من غيرِ إحاطةٍ به عزَّ وجَلَّ.
وقولُه لموسى: لَنْ تَرَانِي أي: في الدُّنيا، وقد عَلَّق اللهُ إمكانَ رُؤيتِه تعالى بمُمكِنٍ، وهو استقرارُ الجَبَلِ.
وحديثُ عائشةَ رَضيَ اللهُ عنها إنَّما أرادت نفيَ أن يكونَ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رأى ربَّه في ليلةِ الإسراءِ، وليس المقصودُ نفيَ الرُّؤيةِ مُطلَقًا، فهذا لم تُرِدْه أمُّ المُؤمِنين.
وخلاصةُ القَولِ في هذه المسألةِ: أنَّ رُؤيةَ اللهِ تعالى تُعتَبَرُ عِندَ السَّلَفِ أمرًا معلومًا من الدِّينِ بالضَّرورةِ، لا يُماري فيها أحدٌ منهم بَعدَ ثبوتِها في كتابِ اللهِ تعالى، وفي سُنَّةِ نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفي أقوالِ الصَّحابةِ رَضيَ اللهُ عنهم، وفي أقوالِ عُلَماءِ السَّلَفِ قاطِبةً رَحِمَهم اللهُ تعالى.

انظر أيضا: