موسوعة الفرق

المبحَثُ الثَّاني: مَوقِفُ الإباضيَّةِ من الصَّحابةِ


أوَّلًا: مَوقِفُ الإباضيَّةِ من الخُلَفاءِ الرَّاشِدين رَضيَ اللهُ عنهم:
من الأُمورِ المتَّفَقِ عليها عِندَ سائِرِ الخَوارِجِ التَّرضِّي التَّامُّ، والولاءُ والاحترامُ للخَليفتَينِ الرَّاشِدَينِ أبي بكرٍ وعُمَرَ رِضوانُ اللهِ عليهما، لم تخرُجْ فِرقةٌ منهم عن ذلك.
أمَّا بالنِّسبةِ للخليفتَينِ الرَّاشِدَينِ الآخَرَينِ عُثمانَ بنِ عَفَّانَ وعَليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضيَ اللهُ عنهما، فقد هلك الخَوارِجُ فيهما وذَمُّوهما ممَّا برَّأَهما اللهُ منه.
1- مَوقِفُ الإباضيَّةِ من عُثمانَ رَضيَ اللهُ عنه:
في كتابِ (كَشْف الغُمَّة) للإزكَويِّ الإباضيِّ من السَّبِّ والشَّتمِ لعُثمانَ ما لا يُوصَفُ، ولم يكتَفِ بالسَّبِّ والشَّتمِ، وإنَّما اختَلَق رواياتٍ عن بعضِ الصَّحابةِ يَسُبُّون فيها عُثمانَ بزَعمِه، ويَحكُمون عليه بالكُفرِ [1032] يُنظر: ((كشف الغمة)) (ص: 268). ، ولا شَكَّ أنَّ هذا بهتانٌ عظيمٌ.
ويُوجَدُ كذلك كتابُ (الأديان) لمؤلِّفٍ إباضيٍّ مَجهولٍ [1033] يُنظر: ((الأديان)) (ص: 26- 27). وكتابُ (الدَّليلُ لأهلِ العُقولِ) للوَرْجَلانيِّ [1034] يُنظر: ((الدليل لأهل العقول)) (ص: 27- 28). ، فيهما أنواعٌ من السِّبابِ والشَّتمِ لعُثمانَ، ومَدحٌ لِمن قَتَلوه؛ حيثُ سمَّاهم فِرقةَ أهلِ الاستقامةِ، وهم في الحقيقةِ بُغاةٌ مارِقون لا استقامةَ لهم إلَّا على ذلك.
2- مَوقِفُ الإباضيَّةُ من عَليٍّ رَضيَ اللهُ عنه:
يتَّضِحُ مَوقِفُهم منه بما جاء في كتابِ (كَشفُ الغُمَّة) تحتَ عُنوانِ: فَصلٌ من كتابِ (الكفاية) من قَولِه: فإن قال: ما تقولون في عَليِّ بنِ أبي طالبٍ؟ قُلْنا له: إنَّ عَليًّا مع المُسلِمين في مَنزِلةِ البراءةِ، وذَكَر أسبابًا -كُلُّها كَذِبٌ- توجِبُ البراءةَ منه في زَعمِ مؤلِّفِ هذا الكتابِ، منها حربُه لأهلِ النَّهْرَوانِ، وهو تحامُلٌ يَشهَدُ بخارِجيَّتِه المذمومةِ.
وقد ذَكَر لُورِيمَرُ عن مَوقِفِ المطاوِعةِ -جماعةٌ مُتشَدِّدةٌ في الدِّينِ من الإباضيَّةِ- قَولُه: (يعتَقِدُ المُطَوِّعون أنَّ الخليفةَ عَليًّا لم يكُنْ مُسلِمًا على الإطلاقِ، بل كان كافِرًا!) [1035] ((دليل الخليج)) (6/3406). .
كما تأوَّل حَفصُ بنُ أبي المِقدامِ بَعضَ آياتِ القُرآنِ على أنَّها واردةٌ في عليٍّ، وقد كَذَب حفصٌ [1036] يُنظر: ((المقالات)) للأشعري (1/183). .
ومن الجديرِ بالذِّكرِ أنَّ علي يحيى مَعمَر -المدافِعَ القويَّ عن الإباضيَّةِ- يَزعُمُ أنَّ الإباضيَّةَ لا يُكَفِّرون أحدًا من الصَّحابةِ، وأنَّهم يترَضَّون على عَليٍّ رَضيَ اللهُ عنه، فهو يَنقُلُ عن كتابِ (وفاءُ الضَّمانة بأداءِ الأمانة) مَدحًا وثناءً لعَليٍّ [1037] يُنظر: ((وفاء الضمانة)) (3/22). .
وأورَد علي يحيى مَعمَر فصلًا طويلًا بَيَّنَ فيه اعتقادَ الإباضيَّةِ في الصَّحابةِ بأنَّهم يَقدُرونَهم حَقَّ قَدرِهم، ويترَضَّون عليهم، ويَسكُتون عمَّا جرى بَينَهم، ونقل عن أبي إسحاقَ أَطَّفَيِّشَ في رَدِّه على الأستاذِ محمَّدِ بنِ عَقيلٍ العَلَويِّ أنَّه قال له: أمَّا ما زَعَمْتَ مِن شَتمِ أهلِ الاستقامةِ لأبي الحَسَنِ عليٍّ وأبنائِه، فمَحضُ اختِلاقٍ.
ونَقَل عن الثَّعاريتيِّ أيضًا مَدحُه للصَّحابةِ خُصوصًا عَليًّا وأبناءَه، وكذلك التَّندَميريُّ الإباضيُّ.
وأخيرًا قال علي يحيى مَعمَر: (ولم يكُنْ يومًا من الأصحابِ شَتمٌ له أو طَعنٌ، اللَّهُمَّ مِن بعضِ الغُلاةِ، وهم أفذاذٌ لا يخلو منهم وَسَطٌ ولا شعْبٌ) [1038] ((الإباضية بين الفرق)) (ص: 278). .
وهذه الحقيقةُ التي اعترف بها أخيرًا تجعَلُ ما ملأَ به كتابَه (الإباضيَّةُ بَينَ الفِرَقِ) من الشَّتائِمِ على كُلِّ كُتَّابِ الفِرَقِ، غيرَ صحيحٍ، فما الذي يمنَعُ أن يكونَ نَقْلُ هؤلاء العُلَماءِ يَصدُقُ -على أقلِّ تقديرٍ- على هؤلاء الأفذاذِ الذين أشار إليهم، مع أنَّ ما يَذكُرُه علي يحيى مَعمَر لا يتَّفِقُ مع النُّصوصِ المستفيضةِ عن عُلَماءِ الإباضيَّةِ في ذَمِّهم لبعضِ الصَّحابةِ، فهل الوَرْجلانيُّ يُعتَبَرُ-على حَدِّ التَّعبيرِ السَّابِقِ ليحيى مَعمَر- من الغُلاةِ المتشَدِّدين، وهو مَن هو في صفوفِ الإباضيَّةِ؟
فهذا الرَّجُلُ يواصِلُ في كتابِه (الدَّليلُ لأهلِ العُقولِ) تكفيرَه وشَتْمَه لمعاويةَ رَضيَ اللهُ عنه ولعَمرِو بنِ العاصِ، بل قد قال زعيمُ الإباضيَّةِ عبدُ اللهِ بنُ إباضٍ نَفسُه في كتابِه لعَبدِ المَلِكِ عن مُعاويةَ ويزيدَ وعُثمانَ كما يرويه الإزكَويُّ في (كَشْف الغُمَّة): ((فإنَّا نُشهِدُ اللهَ وملائِكَتَه أنَّا بُرآءُ منهم وأعداءٌ لهم بأيدينا وألسِنَتِنا وقُلوبِنا، نعيشُ على ذلك ما عِشْنا، ونموتُ عليه إذا مِتْنا، ونُبعَثُ عليه إذا بُعِثْنا، نحاسَبُ بذلك عِندَ اللهِ)).
والإزكَويُّ يَشتِمُ الحَسَنَ والحُسَينَ رَضيَ اللهُ عنهما، وأوجب البراءةَ منهما؛ بسَبَبِ وَلايتِهما لأبيهما على ظُلمِه وغَشْمِه، وبسَبَبِ قَتْلِهما عبدَ الرَّحمنِ بنَ مُلْجَمٍ، وتسليمِهما الإمامةَ لمعاويةَ.
ونَفسُ المَوقِفِ الذي وقَفه الخَوارِجُ عُمومًا والإباضيَّةُ أيضًا من الصَّحابةِ السَّابقين، وَقَفوه أيضًا من طلحةَ بنِ عُبَيدِ اللهِ، والزُّبَيرِ بنِ العَوَّامِ، وأوجَبَ لهما الوَرْجَلانيُّ النَّارَ [1039] يُنظر: ((الدليل لأهل العقول)) (ص: 28). ويُنظر: ((كشف الغمة)) للإزكوي (ص: 304). . وقد بشَّرَهما الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالجنَّةِ، وهؤلاء يُوجِبون عليهما النَّارَ!

انظر أيضا: