موسوعة الفرق

الفَصلُ السَّابعُ: الإجابةُ عن أسئِلَتِهم، وعَدَمُ صَدِّهم، ومراسَلَتُهم إن دعَت الحاجةُ


تقدَّم أنَّ الهَجْرَ من العقوباتِ والزَّواجِرِ لأهلِ البِدَعِ، ولكِنَّ هذا الهَجرَ لا يتنافى مع الإجابةِ عن أسئِلَتِهم إن هم سألوا، أو بيانِ وتوضيحِ مُشكِلةٍ إن هم استَفهَموا، فإن جاؤوا طالِبين للعِلمِ، مُستَفهِمين لا مُعانِدين مخاصِمين، فإنَّهم يُجابُون ولا يُصَدُّون، والذي يتولَّى إجابتَهم ومُناقشَتَهم هو العالِمُ العارِفُ لا الجاهِلُ العامِّيُّ.
فقد كتب نَجْدةُ الحَروريُّ إلى عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما يسألُه عن خَمسِ خِلالٍ، فقال: ابنُ عبَّاسٍ: (لولا أنَّ أكتُمَ عِلمًا ما كتَبتُ إليه. كتَبَ إليه نَجْدةُ: أمَّا بعدُ، فأخبِرْني هل كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يغزو بالنِّساءِ؟ وهل كان يَضرِبُ لهنَّ بسَهمٍ؟ وهل كان يقتُلُ الصِّبيانَ؟ ومتى ينقضي يُتمُ اليتيمِ؟ وعن الخُمُسِ لِمَن هو؟ فكتَب إليه ابنُ عبَّاسٍ: كتبتَ تسألُني هل كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يغزو بالنِّساءِ؟ وقد كان يغزو بهِنَّ فيُداوين الجَرحى ويُحْذَينَ [924] أي: يُعْطَينَ تلك العطيَّةَ، وتُسَمَّى الرَّضْخَ. يُنظر: ((شرح مُسلِم)) (12/190). من الغنيمةِ. وأمَّا بسَهمٍ فلم يَضرِبْ لهُنَّ. وإنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يكُنْ يَقتُلُ الصِّبيانَ، فلا تَقتُلِ الصِّبيانَ. وكَتَبْتَ تسألُني: متى ينقضي يُتمُ اليتيمِ؟ فلعَمْري إنَّ الرَّجُلَ لَتنبُتُ لحيتُه وإنَّه لضعيفُ الأخذِ لنَفسِه، ضعيفُ العطاءِ منها، فإذا أخَذ لنفسِه مِن صالحِ ما يأخُذُ النَّاسُ، فقد ذهب عنه اليُتمُ. وكَتبتَ تَسألُني عن الخُمُسِ لِمن هو؟ وإنَّا كُنَّا نقولُ: هو لنا. فأبى علينا قَومُنا ذاك) [925] رواه مُسلِم (1812). .
والمُلاحَظُ في هذه المكاتَبةِ أنَّ ابنَ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما أراد أن يستَغِلَّ الفُرصةَ لِينهى نَجْدةَ عن بَعضِ بِدَعِه، ويُنَبِّهَه إلى الشُّبَهِ التي تحولُ بينه وبَينَ الحَقِّ.
فلمَّا سأله نَجْدةُ عن قَتلِ الصِّبيانِ بَيَّنَ له أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يكُنْ يَقتُلُ الصِّبيانَ، ولعِلمِ ابنِ عبَّاسٍ بمنهَجِ الخَوارِجِ في الاستدلالِ واتِّباعِهم للمُتشابِهِ من النُّصوصِ، أخبرَه أنَّ قَتْلَ الخَضِرِ للصَّبيِّ الذي قد يَستَدِلُّون له على جوازِ قَتلِ الصِّبيانِ ويُعارِضون به فِعلَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه كان عن عِلمٍ من اللهِ، وليس أمرًا عامًّا، فإنْ كُنتَ تَعلَمُ عِلمَه فافعَلْ فِعْلَه، وإنْ كُنتَ لا تعلَمُ عِلمَه -وأنت لا تَعلَمُ- فلا تقتُلِ الصِّبيانَ [926] النَّجَداتُ: أتباعُ نجدةَ الحَروريِّ لا يجيزون قَتْلَ الصِّبيانِ بخِلافِ الأزارِقةِ الذين جوَّزوا ذلك. يُنظر: ((الفَرْق بين الفِرَق)) (ص: 56). .
ثمَّ لَمَّا سأله عن الخُمُسِ، قال: هو لنا، ثُمَّ زاد في الإجابةِ، وقال: فأبى قومُنا علينا ذلك فصَبَرْنا عليه، أي: مع عِلْمِنا أنَّ الخُمُسَ لنا، وأنَّ قَومَنا منعونا منه وخالفوا نصوصَ الكتابِ والسُّنَّةِ، إلَّا أنَّنا لم نُكَفِّرْهم ولم نتبَرَّأْ منهم، فما زالوا قومَنا، ولم يدفَعْنا ذلك للخُروجِ عليهم بالسَّيفِ بل صبَرْنا على ذلك، وهذا هو المنهَجُ؛ الصَّبرُ على جَورِ الوُلاةِ، وعَدَمُ الخُروجِ عليهم بالسَّيفِ كما تفعَلُ الخَوارِجُ.
ومن أسئلةِ الخَوارِجِ للصَّحابةِ سؤالاتُ نافِعِ بنِ الأزرَقِ لعَبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ، فسأله عِدَّةَ أسئلةٍ، وكان ابنُ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما يجيبُ [927] يُنظر: ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (301 – 327) حيثُ سرد هذه الأسئلةَ وإجاباتِ ابنِ عَبَّاسٍ عليها. .
بل إنَّ عبدَ اللهِ بنَ عبَّاسٍ بادَر إلى مُكاتبةِ نَجْدةَ الحَروريِّ لَمَّا كانت المصلحةُ مُقتَضيةً لذلك، فإنَّ نَجْدةَ مَنعَ الميِرةَ عن الحَرَمينِ، فكَتَب إليه ابنُ عبَّاسٍ ينهاه عن ذلك، ويقولُ: إنَّ ثُمامةَ بنَ أُثالٍ لَمَّا أسلم قَطَع المِيرةَ عن مكَّةَ وهم مُشرِكون، فكتب إليه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بألَّا يمنَعَهم المِيرةَ، فخَلَّاها لهم [928] الحديث رواه البخاري (4372)، ومُسلِم (1764) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه دونَ ذِكرِ أمرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لثُمامةَ أن يَرُدَّ الميرةَ على أهلِ مكَّةَ، ولفظُ البخاري: (بعَث رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خَيلًا قِبَلَ نَجدٍ، فجاءت برجُلٍ مِن بَني حَنيفةَ، يُقالُ له: ثُمامةُ بنُ أُثالٍ، سيِّدُ أهلِ اليَمامةِ، فربَطوه بساريةٍ مِن سَواري المسجدِ، فخرَج إليه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: ماذا عندَك يا ثُمامةُ؟ قال: عِندي يا محمَّدُ خَيرٌ؛ إن تقتُلْ تقتُلْ ذا دَمٍ، وإن تُنعِمْ تُنعِمْ على شاكِرٍ، وإن كنْتَ تُريدُ المالَ فسَلْ تُعطَ منه ما شِئْتَ، فترَكه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى إذا كان الغدُ، ثُمَّ قال له: ما عِندك يا ثُمامةُ؟ فأعاد مِثلَ هذا الكلامِ، فترَكه حتَّى كان بَعدَ الغدِ فذكَر مِثلَ هذا، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أطلِقوا ثُمامةَ، فانطلَق إلى نَخلٍ قريبٍ مِن المسجدِ، فاغتسَل فيه، ثُمَّ دخل المسجدَ، فقال: أشهَدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأشهَدُ أنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ، يا محمَّدُ، واللهِ ما كان على الأرضِ وَجهٌ أبغَضَ إليَّ من وَجهِك، فقد أصبح وجهُك أحَبَّ الوُجوهِ إليَّ، واللهِ ما كان من دينٍ أبغَضَ إليَّ من دينِك، فأصبح دينُك أحَبَّ الدِّينِ إليَّ، واللهِ ما كان من بَلَدٍ أبغَضَ إليَّ من بلدِك، فأصبح بلَدُك أحبَّ البلادِ إليَّ، وإنَّ خَيْلَك أخذَتْني وأنا أريدُ العُمرةَ، فماذا ترى؟ فبَشَّره رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأمره أن يعتَمِرَ، فلمَّا قَدِم مكَّةَ قال له قائِلٌ: صَبَوتَ؟! قال: لا، ولكِنْ أسلَمْتُ مع محمَّدٍ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا واللهِ لا يأتيكم من اليمامةِ حَبَّةُ حِنطةٍ حتى يأذَنَ فيها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم). ، وإنَّك قطَعْتَ الميرةَ ونحن مُسلِمون، فخَلَّاها لهم نَجْدةُ [929] يُنظر: ((تاريخ ابن خلدون)) (3/147)، ((الكامل)) لابن الأثير (3/353). .

انظر أيضا: