موسوعة الفرق

المَطلَبُ الثَّاني: معنى الجماعةِ اصطِلاحًا


تُطلَقُ الجماعةُ على الطَّائفةِ أو الفِرقةِ أو الأُمَّةِ الذين يرتَبِطون بمَنهَجٍ واحدٍ وهَدَفٍ واحِدٍ، ولم يتفَرَّقوا في الاعتقادِ والسُّلوكِ.
وتُطلَقُ تَسميةُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ على السَّلَفِ الصَّالحِ من الصَّحابةِ وأتباعِهم إلى يومِ الدِّينِ.
ولا رَيبَ أنَّ اقترانَ اسمِ أهلِ السُّنَّةِ بالجماعةِ يُفيدُ مَزِيَّةً خاصَّةً لأهلِ السُّنَّةِ؛ إذ هم الجماعةُ التي حَثَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على الانضمامِ إليهم والسَّيرِ على منهجِهم حينما أخبَرَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عن هلاكِ الطَّوائِفِ إلَّا واحِدةً، وهي الجماعةُ [13] لفظ الحديث: ((ألَا إنَّ مَن قَبْلَكم من أهلِ الكِتابِ افتَرَقوا على اثنتَينِ وسَبعينَ مِلَّةً، وإنَّ هذه المِلَّةَ ستَفتَرِقُ على ثلاثٍ وسَبعين؛ اثنتانِ وسبعون في النَّارِ، وواحِدةٌ في الجنَّةِ، وهي الجماعةُ)). أخرجه أبو داود (4597) واللَّفظُ له، وأحمد (16937) من حديثِ معاويةَ بنِ أبي سفيانَ رَضِيَ اللهُ عنهما. صححه الحاكم في ((المستدرك)) (443)، وشعيب الأرناؤوط بشواهده في تخريج ((سنن أبي داود)) (4597)، وحسنه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4597). .
عن أنسِ بنِ مالِكٍ رَضيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ بَنِي إسرائيلَ افتَرَقَت على إحدَى وسَبْعين فِرقةً، وإنَّ أمَّتي سَتَفتَرِقُ على ثِنْتَينِ وسَبْعينَ فِرقةً كُلُّها في النَّارِ إلَّا واحِدةً، وهيَ الجَماعةُ )) [14] أخرجه من طرقٍ: ابنُ ماجه (3993) واللَّفظُ له، وأحمد (12208) دونَ ذِكرِ الجماعةِ. صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (3993)، وصحَّحه بشواهده شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (12208)، وصحَّح إسنادَه العراقي في ((الباعث على الخلاص)) (16)، وجوَّده وقوَّاه على شرط الصَّحيح: ابنُ كثير في ((نهاية البداية والنهاية)) (1/27). .
قال الشَّاطِبيُّ: (إنَّ قَولَهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إلَّا واحِدةً» قد أعطَى بنَصِّه أنَّ الحَقَّ واحِدٌ لا يَختَلِفُ؛ إذ لَو كان للحَقِّ فِرَقٌ أيضًا لم يَقُلْ: «إلَّا واحِدةً»، ولِأنَّ الاختِلافَ مَنفيٌّ عنِ الشَّريعةِ بإطلاقٍ؛ لأنَّها الحاكِمةُ بَينَ المُختَلِفين، لقَولِه تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء: 59] ، الآية، فردَّ التَّنازُعَ إلى الشَّريعةِ، فلَو كانتِ الشَّريعةُ تَقتَضي الخِلافَ لم يَكُن في الرَّدِّ إليها فائِدةٌ) [15] ((الاعتصام)) (3/193). .
وقال ابنُ أبي العِزِّ: (بيَّنَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ عامَّةَ المُختَلِفينَ هالِكَون من الجانِبينِ إلَّا أهلَ السُّنَّةِ والجَماعةِ) [16] ((شرح الطحاوية)) (2/545). .
وقال المناويُّ: (اعلَمْ أنَّ جَميعَ المَذاهِبِ الَّتي فارَقَتِ الجَماعةَ إذا اعتَبَرْتَها وتَأمَّلْتَها لم تَجِد لَها أصلًا فلِذلك سُمُّوا فِرَقًا؛ لأنَّهم فارَقوا الإجْماعَ، وهذا من مُعجِزاتِه؛ لأنَّه إخبارٌ عن غيبٍ وقَعَ، وهذه الفِرَقُ وإنْ تَبايَنَت مَذاهِبُهم مُتَّفِقونَ على إثباتِ الصَّانِعِ، وأنَّه الكامِلُ مُطلَقًا، الغَنيُّ عن كُلِّ شيءٍ، ولا يَستَغني عنه شيءٌ، فإنْ قيلَ: ما وثوقُكَ بأنَّ تِلكَ الفِرْقةَ النَّاجيةَ هيَ أهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ مَعَ أنَّ كُلَّ واحِدٍ من الفِرَقِ يَزعُمُ أنَّه هيَ دونَ غيرِه؟ قُلنا: ليسَ ذلك بالادِّعاءِ والتَّثَبُّتِ باستِعمالِ الوَهمِ القاصِرِ والقَولِ الزَّاعِمِ، بَل بالنَّقلِ عن جَهابِذةِ هذه الصَّنعةِ، وأئِمَّةِ أهلِ الحَديثِ الَّذينَ جَمَعوا صِحاحَ الأحاديثِ في أمرِ المُصطَفَى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأحوالِه وأفعالِه وحَرَكاتِه وسَكَناتِه، وأحوالِ الصَّحْبِ والتَّابِعين، كالشَّيخينِ وغَيرِهما الثِّقاتِ المَشاهيرِ، الَّذينَ اتَّفَقَ أهلُ المَشرِقِ والمَغرِبِ على صِحَّةِ ما في كُتُبِهم، وتَكفَّلَ باستِنباطِ مَعانيها وكَشْفِ مُشكِلاتِها؛ كالخَطابيِّ والبَغَويِّ والنَّوَويِّ، جَزاهمُ اللَّهُ خيرًا، ثُمَّ بَعدَ النَّقلِ يَنظُرُ إلى من تَمَسَّكَ بهَدْيِهم، واقتَفَى أثرَهم، واهتَدَى بسيرَتِهم في الأصولِ والفُروعِ، فيَحكُمُ بأنَّهم هم، وفيه كثرةُ أهلِ الضَّلالِ، وقِلَّةُ أهلِ الكَمالِ، والحَثُّ على الاعتِصامِ بالكِتابِ والسُّنَّة، ولُزومِ ما عليه الجَماعةُ) [17] ((فيض القدير)) (2/20). .
وقال ابنُ عُثيمين: (الَّذينَ كانوا على ما كان عليه الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابُه همُ الجَماعةُ الَّذينَ اجتَمَعوا على شَريعَتِه، وهمُ الَّذينَ امتَثلوا ما وصَّى اللَّهُ به: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: 13] ؛ فهم لم يَتَفَرَّقوا، بَل كانوا جَماعةً واحِدةً) [18] ((شرح العقيدة الواسطية)) (2/371). .
فأهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ يُعَظِّمون كتابَ اللهِ وسُنَّةَ نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يجتَمِعون عليها ولا يتفَرَّقون، فصاروا أثبَت النَّاسِ على الحَقِّ، بخلافِ من تتجارى بهم الأهواءُ، وهم من أكثَرِ النَّاسِ اتِّفاقًا، وأقَلِّهم اختلافًا؛ فاستحَقُّوا أن يُسَمَّوا أهلَ السُّنَّةِ والجماعةِ، وهما وصفانِ يدُلَّانِ على أفضلِيَّتِهم، وحُسْنِ ما هم عليه من المُعتَقَدِ السَّليمِ والسُّلوكِ الحميدِ. أمَّا أهلُ الأهواءِ والبِدَعِ فمِن صفاتِهم: بَغيُ بعضِهم على بعضٍ، واختلافُهم وكثرةُ تفَرُّقِهم، واتِّباعُهم لِما يَهْوَون حَسَبَما تُمليه عليهم آراؤُهم أو رَغَباتُهم، وتكفيُر بعضِهم بعضًا، وتتَبُّعُهم المُتشابهاتِ، وإثارةُ الخلافاتِ والإشكالاتِ، وبُغضُهم لأهلِ السُّنَّةِ، واختراعُ الألقابِ الباطِلةِ لهم تنفيرًا عنهم، وقَبولُهم للرِّواياتِ الكاذبةِ، وعَدَمُ تحرِّيهم النُّصوصَ الصَّحيحةَ، وعَدَمُ اهتمامِهم بالسُّنَّةِ النَّبَويَّةِ، وتسَلُّطُهم عليها بالتَّأويلِ أو الرَّدِّ بحُجَّةِ أنَّها غيرُ مُلزِمةٍ مثلَ القرآنِ [19] يُنظر: ((فرق معاصرة)) لعواجي (1/194-203). .

انظر أيضا: