موسوعة الفرق

الفَصلُ الثَّاني: الوَعظُ والنَّصيحةُ


لقد أقدَم كثيرٌ من الصَّحابةِ رَضيَ اللهُ عنهم على وَعظِ ونُصحِ الخَوارِجِ في أكثَرَ من موطِنٍ، ومن ذلك أنَّ عَليًّا رَضيَ اللهُ عنه أتاه رجلانِ من الخَوارِجِ، هما زُرعةُ بنُ البُرجِ الطَّائيُّ، وحُرقوصُ بنُ زُهَيرٍ السَّعديُّ، وأنكروا عليه أمرَ الحكومةِ، وطَلَبوا منه أن يتوبَ. وقال له زُرعةُ: أمَا واللهِ يا عليُّ لئِنْ لم تَدَعْ تحكيمَ الرِّجالِ في كتابِ اللهِ عزَّ وجَلَّ قاتَلْتُك، أطلُبُ بذلك وَجهَ اللهِ ورِضوانَه! فقال له عليٌّ: بؤسًا لك! ما أشقاك! كأنِّي بك قتيلًا تَسْفي عليك الرِّيحُ، قال: وَدِدْتُ أنْ قد كان ذلك، فقال له عليٌّ: لو كنتَ مُحِقًّا كان في الموتِ على الحَقِّ تعزيةٌ عن الدُّنيا، إنَّ الشَّيطانَ قد استهواكم، فاتَّقوا اللهَ عزَّ وجَلَّ، إنَّه لا خيرَ لكم في دنيا تُقاتِلون عليها. فخَرَجا من عِندِه يَحكُمانِ [902] أخرجه الطبري في ((التاريخ)) (3/113)، ومعنى، يَحكُمانِ، أي: يقولانِ: لا حُكمَ إلَّا للهِ. .
وقد استمَرَّ نُصحُ الصَّحابةِ للخَوارِج ووعظُهم لهم حتَّى لَمَّا شارَفوا على القتالِ في النَّهْرَوانِ واصطَفُّوا؛ إذ تقدَّمَ لهم قيسُ بنُ سَعدِ بنِ عُبادةَ فوعَظَهم فيما ارتَكَبوه من الأمرِ العظيمِ والخَطْبِ الجَسيمِ فلم ينفَعْ [903] أخرجه الطبري في ((التاريخ)) (3/120) بلفظِ: (أنَّ قيسَ بنَ سعدِ بنِ عُبادةَ قال لهم: عِبادَ اللهِ أخرِجوا إلينا طَلِبَتَنا منكم وادخُلوا في هذا الأمرِ الذي منه خرجْتُم وعودوا بنا إلى قتالِ عَدُوِّنا وعَدُوِّكم؛ فإنَّكم رَكِبتُم عظيمًا من الأمرِ، تَشهَدون علينا بالشِّركِ، والشِّركُ ظُلمٌ عظيمٌ، وتَسْفِكون دماءَ المُسلِمين وتَعُدُّونهم مُشرِكين، فقال عبدُ اللهِ بنُ شَجرةَ السُّلَميُّ: إنَّ الحَقَّ قد أضاء لنا فلَسْنا نتابِعُكم، أو تأتونا بمِثلِ عُمَرَ، فقال: ما نعلَمُه فينا غيرَ صاحِبِنا، فهل تعلَمونه فيكم، وقال: نشَدْتُكم باللهِ في أنفُسِكم أن تُهلِكوها؛ فإنِّي لأرى الفِتنةَ قد غَلَبت عليكم). .
 وكذلك أبو أيُّوبَ الأنصاريُّ أنَّبَهم ووبَّخَهم ووعَظَهم [904] أخرجه الطبري في ((التاريخ)) (3/120) بلفظ: (وخطبهم أبو أيُّوبَ خالدُ بنُ زيدٍ الأنصاريُّ، فقال: عبادَ اللهِ إنَّا وإيَّاكم على الحالِ الأُولى التي كُنَّا عليها ليست بيننا وبينكم فُرقةٌ، فعلام تقاتِلونَنا، فقالوا: إنَّا لو بايَعْناكم اليومَ حكمتُم غدًا، قال: فإني أنشُدُكم اللهَ أن تُعَجِّلوا فتنةَ العامِ مخافةَ ما يأتي في قابِلٍ). ، وتقدَّم أميرُ المُؤمِنين عَليُّ بنُ أبي طالبٍ إليهم وخطَبَهم ووعَظَهم، وخوَّفَهم وأنذَرَهم، وتوعَّدَهم وحَذَّرهم [905] أخرجه الطبري في ((التاريخ)) (3/120). ويُنظر: ((البداية والنهاية)) لابن كثير (7/288)، ((تاريخ ابن خلدون)) (2/180). .
إنَّ هذا الوَعظَ والنُّصحَ قد أثَّر في جماعةٍ من الخَوارِجِ، وذلك أنَّ عَليًّا لَمَّا رفع رايةَ الأمانِ مع أبي أيُّوبَ الأنصاريِّ رَضيَ اللهُ عنه انضَمَّ إليها جماعةٌ من الخَوارِجِ، وانصرف آخَرون إلى الكوفةِ، وإن كان ظاهِرُ الأمرِ هو عَدَمَ تفاعُلِهم مع هذه المواعِظِ إلَّا أنَّها تَظَلُّ مُؤَثِّرةً في جماعةٍ.

انظر أيضا: