موسوعة الفرق

المَطلَبُ الثَّاني: مَوقِفُ المُعتَدِلين من الخَوارِجِ من عامَّةِ المُسلِمين المُخالِفين لهم


رَغْمَ ما تقدَّمَ من تشَدُّدِ الخَوارِجِ تجاه مُخالِفيهم إلَّا أنَّ بَعضَ الفِرَقِ منهم خفَّفَت من وطأتِها.
فمثَلًا الأخنَسيَّةُ منهم يحَرِّمون الغَدْرَ وشِبْهَه بمُخالِفِهم، أو قَتْلَه قَبلَ الدَّعوةِ ما دام شخصًا مجهولَ الحالِ، أمَّا إذا عُرِف بما يوجِبُ قَتْلَه عِندَهم فإنَّه يُقتَلُ كيفما كان، وهذا ما قاله الأشعَريُّ عنهم: (ويُحَرِّمون الاغتيالَ والقَتْلَ في السِّرِّ، وأن يُبدَأَ بأحدٍ من أهلِ البَغيِ من أهلِ القِبلةِ بقِتالٍ حتَّى يُدعى إلَّا مَن عَرَفوه بعَينِه) [794] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/180)، ((الفَرْق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 101)، ((المِلَل والنِّحَل)) للشهرستاني (1/132). .
وقد وصَل بهم التَّسامُحُ إلى أن جَوَّزوا تزويجَ المُسلِمات من مُخالِفيهم المُشرِكين، يعني أهلَ الكبائِرِ والذُّنوبِ من المُسلِمين في زَعْمِهم، وهذا ما يرويه الشَّهْرَسْتانيُّ عنهم بقولِه: (وقيل: إنَّهم جوَّزوا تزويجَ المُسلِماتِ من مُشرِكي قومِهم أصحابِ الكبائِرِ) [795] ((المِلَل والنِّحَل)) (1/132). .
ويؤيِّدُ ما قاله الشَّهْرَسْتانيُّ عنهم ما جاء في كتاب (الأديان) لمؤلِّفِه الإباضيِّ؛ حيثُ ذكَر أنَّهم في حُكمِهم المتقَدِّمِ يُوافِقون الإباضيَّةَ إلَّا في مسألةِ سَبْيِ وغَنيمةِ مُخالِفيهم، فإنَّهم على مَذهَبِ الخَوارِجِ، كما قال عن رئيسِهم الأخنَسِ: (وجوَّز تزويجَ نِساءِ أهلِ الكبائِرِ مِن قَومِهم على أصولِ أهلِ الاستقامةِ، إلَّا أنَّه خالفَهم في السَّبيِ والغنيمةِ من أهلِ القبلةِ على مَذهَبِ الخَوارِجِ) [796] يُنظر: ((الأديان)) لمؤلف إباضي مجهول (ص: 105). .
ومِثلُ هذا التَّسامُحِ الضَّئيلِ مِن الأخنَسيَّةِ موجودٌ كذلك عِندَ الحَمْزيَّةِ من العَجارِدةِ، أو العَجارِدةِ كلُهِّم، على ما جاء في تعبيراتِ بعضِ عُلَماءِ الفِرَقِ عنهم، فهذه الفِرقةُ لا تُبيحُ قَتْلَ مُخالِفيهم من أهلِ القِبلةِ أو استِحلالِ أموالهم، إلَّا بَعدَ إعلانِ الحَربِ وخوضِها، فإذا قامت الحربُ فإنَّ الأموالَ لا تباحُ حتَّى يُقتَلَ أصحابُها، فيُعتَبَرُ قتلُ صاحِبِ المالِ تحليلًا ورفعًا للإثمِ في أخذِ مالِه، أي: أنَّ ارتكابَ جريمةِ القَتْلِ يُبيحُ جريمةَ استِحلالِ مالِه في ميزانِهم المعكوسِ!
قال الأشعَريُّ فيما يحكيه عن أحدِ الرُّواةِ المُسَمَّى زُرقانَ: (وحكى زُرقانُ أنَّ العَجارِدةَ أصحابَ حمزةَ لا يَرَون قَتلَ أهلِ القِبلةِ ولا أخْذَ المالِ في السِّرِّ حتَّى تُبعَثَ الحَربُ) [797] ((المقالات)) (1/177). .
أمَّا البَغداديُّ فيعَمِّمُ الحُكمَ على جميعِ العَجارِدةِ بقَولِه: (والعَجارِدةُ لا يَرَون أموالَ مُخالِفيهم فَيئًا إلَّا بَعدَ قَتلِ صاحِبِه) [798] ((الفَرْق بين الفِرَق)) (ص: 94). .
وأمَّا الشَّهْرَسْتانيُّ فيَجعَلُ الحُكمَ ليس للعَجارِدةِ ولا للحَمزيَّةِ، ولكِنَّه من أقوالِ عبدِ الكريمِ بنِ عَجرَدٍ رئيسِ العَجارِدةِ، وأنَّه ممَّا تفرَّد به عبدُ الكريمِ كما هو الظَّاهِرُ من قولِه عنه: (ولا يرى المالَ فَيئًا حتَّى يُقتَلَ صاحِبُه) [799] ((المِلَل والنِّحَل)) (1/128). .
ولعلَّ أكثَرَ الخَوارِجِ اعتدالًا تجاهَ مُخالِفيهم وأكثَرَهم تسامُحًا معهم والشَّخصيَّةَ المثاليَّةَ لدى الخَوارِجِ بل والشِّيعةِ أيضًا هو أبو بلالٍ مِرْداسُ بنُ أُدَيَّةَ؛ فقد كان مُعتَدِلًا زاهِدًا مجتَهِدًا في العبادةِ مُعَظَّمًا عِندَ كُلِّ الخَوارِجِ، وكان مسالِمًا، فعندما خرج بأصحابِه فارًّا بدينِه من حكَّامِ بني أُمَيَّةَ لَقِيَه أحَدُ أصدقائِه، فأشار عليه بعَدَمِ الخُروجِ خَوفًا عليه من بَطشِ زِيادٍ، فطَمْأنَه بأنَّه لن يُخيفَ آمنًا ولا يجَرِّدَ سيفًا إلَّا على من قاتَلَه.
وكان ممَّا أثار هَيَجانَه وجَعَله يخرُجُ أنَّ زيادًا خَطَب على المِنبَرِ ذاتَ يومٍ، وكان مِرداسٌ يَسمَعُه، فكان من قَولِه: (واللهِ لآخُذَنَّ المُحسِنَ منكم بالمُسيءِ، والحاضِرَ منكم بالغائِبِ، والصَّحيحَ بالسَّقيمِ). وهذا بالطَّبعِ ما لا تحتَمِلُه الخَوارِجُ؛ إذ يُعلِنُ جَورَه في أحكامِه علانيةً غيرَ مُبالٍ بالخوفِ من اللهِ، أو على الأقَلِّ من فتنةِ النَّاسِ؛ فثارت ثائرةُ مِرْداسٍ، فقام إليه فقال: "قد سمِعْنا ما قُلتَ أيُّها الإنسانُ، وما هكذا ذَكَر اللهُ عزَّ وجَلَّ عن نبيِّه إبراهيمَ عليه السَّلامُ؛ إذ يقولُ: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى [النجم: 37 - 41] ، وأنت تزعُمُ أنَّك تأخُذُ المطيعَ بالعاصي، ثُمَّ خرج عَقِبَ هذا اليومِ) [800] ((الكامل)) للمبرد (2/136). .
وذكَرَ المُبَرِّدُ أنَّ المُعتَزِلةَ والشِّيعةَ تنتَحِلُه، وأنَّه حينما أراد الخُروجَ بعدما عِيلَ صَبرُه وانتهى أملُه في صلاحِ حُكَّامِه، قال: (واللهِ ما يسَعُنا المُقامُ بَينَ هؤلاء الظَّلَمةِ، تجري علينا أحكامُهم مجانِبينَ للعَدْلِ مُفارِقين للفَصْلِ، واللهِ إنَّ الصَّبْرَ على هذا لعظيمٌ! وإنَّ تجريدَ السَّيفِ وإخافةَ السَّبيلِ لعظيمٌ! ولكِنَّنا ننتَبِذُ عنهم ولا نجَرِّدُ سيفًا ولا نقاتِلُ إلَّا مَن قاتَلَنا) [801] ((الكامل)) (2/155، 156). .
فهو يرى أنَّه بَينَ خيارينِ: إمَّا أن يَستكينَ لظُلمِ الوُلاةِ وهذا عظيمٌ، أو يُجَرِّدَ السَّيفَ في وجوهِهم وهذا عظيمٌ أيضًا؛ لِما يترتَّبُ عليه من سَفكِ الدِّماءِ، ولكِنَّه أراد حَلًّا وَسَطًا، وهو الهَرَبُ بدينِه، وعَدَمُ تجريدِ السَّيفِ.
ومن المُعتَدِلين من الخَوارِجِ أبو بَيْهَسٍ هَيصَمُ بنُ جابِرٍ الضَّبعيُّ، ولكِنَّه اعتدالٌ غيرُ كامِلٍ؛ فقد أحلَّ المُقامَ بَينَ مُخالِفيه وجوَّز مُناكَحتَهم ومُوارثَتَهم، ولكِنَّه اعتبرهم في الأحكامِ الدُّنيويَّةِ مُنافِقين يُظهِرون الإسلامَ ويُخْفون النِّفاقَ، وأمَّا حُكمُهم عِندَ اللهِ فقد زعم بأنَّه حُكمُ المُشرِكين [802] يُنظر: ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (1/223). .
وكذلك صالِحُ بنُ مُسَرَّحٍ؛ فقد كان يرى أنَّه يجِبُ دَعوةُ مُخالِفيه قَبلَ قتالِهم؛ لأنَّه أقطَعُ للعُذرِ وأبلَغُ في الحُجَّةِ عليهم، بينما كان شبيبٌ -وهو الزَّعيمُ الثَّاني بَعدَ صالحٍ- يُحَبِّذُه على القولِ بالفَتكِ بمُخالِفيهم قَبلَ الدَّعوةِ ولا يُوجِبُه، وقد اجتمع شبيبٌ بصالحٍ، وروى بنفسِه ما جرى بَينَهما فقال: (لَمَّا هَمَمْنا بالخُروجِ اجتمَعْنا إلى صالحِ بنِ مُسَرَّحٍ ليلةَ خَرَج، فكان رأيي استعراضَ النَّاسِ لِما رأيتُ من المُنكَرِ والعُدوانِ والفَسادِ في الأرضِ، فقُمتُ إليه فقُلتُ: يا أميرَ المُؤمِنين: كيف ترى في السِّيرةِ في هؤلاء الظَّلَمةِ؛ أنقتُلُهم قَبلَ الدُّعاءِ أو ندعوهم قَبلَ القِتالِ؟ وسأخبِرُك برأيي فيهم قَبلَ أن تخبِرَني فيهم برأيِك، أمَّا أنا فأرى أن نَقتُلَ كُلَّ من لا يرى رأيَنا قريبًا كان أو بعيدًا، فإنَّا نخرُجُ على قومٍ غاوين طاغين باغين قد تركوا أمرَ اللهِ واستحوَذَ عليهم الشَّيطانُ، فقال: لا بل ندعوهم، فلَعَمْري لا يجيبُك إلَّا من يرى رأيَك، ولَيُقاتِلَنَّك مَن يُزري عليك، والدُّعاءُ أقطَعُ لحُجَّتِهم، وأبلَغُ في الحُجَّةِ عليهم، قال: فقُلتُ له: فكيف ترى فيمن قاتَلْنا فظَفِرْنا به؟ ما تقولُ في دمائِهم وأموالِهم؟ فقال: إنْ قَتَلْنا وغَنِمْنا فلنا، وإن تجاوَزْنا وعَفَونا فمُوَسَّعٌ علينا ولنا. قال: فأحسَنَ القَولَ وأصابَ، رحمةُ اللهِ عليه وعلينا) [803] ((تاريخ الرسل والملوك)) للطبري (6/219). .
فهذه المحاوَرةُ الفِقهيَّةُ السِّياسيَّةُ في شأنِ مُخالِفيهم تعلَّقَت بأمورٍ، هي: هل عليهم دعوةُ مُخالِفيهم قَبلَ القتالِ أو لا؟ وهل الأَسْرى يجِبُ قَتْلُهم أو استِبقاؤُهم؟ ثُمَّ الحُكمُ في الأموالِ، ثُمَّ الغنائِمُ، وهكذا.
وهذا يفيدُ أنَّهم نوعًا ما كانوا أخَفَّ وَطأةً من الأزارقةِ، وإن كانوا قد عَقَدوا العَزْمَ على قتالِ مُخالِفيهم أو يُذْعِنوا لطاعتِهم؛ لأنَّهم في نظَرِهم خارِجون عن تطبيقِ الإسلامِ الصَّحيحِ، فيَجِبُ أن تُوضَعَ الحُلولُ لتلك المسائِلِ التي تعَلَّقَت بمُخالِفيهم؛ ولهذا فقد أنكَر صالحٌ على نافِعِ بنِ الأزرَقِ غُلُوَّه وعلى ابنِ إباضٍ في تقصيرِه في الحُكمِ على مُخالِفيهم، فقال لابنِ إباضٍ: (بَرِئَ اللهُ منك فقد قَصَّرْتَ، وبَرِئَ من ابنِ الأزرَقِ فقد غَلا) [804] ((الكامل)) لابن الأثير (4/168). .
مَوقِفُ الإباضيَّةِ من مُخالِفيهم:
حُكمُ الإباضيَّةِ في مُخالِفيهم قد تميَّزَ بنوعٍ من الاعتدالِ وحُبِّ التَّقارُبِ مع غيرِهم، فهم لا يحكُمون عليهم بالشِّرْكِ، وإن كانوا لا يَعتَبِرونهم كامِلي الإسلامِ، بل هم كُفَّارٌ.
وهذا التَّعبيرُ هو ما يستعمِلُه الأشعَريُّ والبَغداديُّ والشَّهْرَسْتانيُّ:
قال الأشعَريُّ: (جمهورُ الإباضيَّةِ يتولَّى المُحَكِّمةَ كُلَّها إلَّا من خرج، ويَزعُمون أنَّ مُخالِفيهم من أهلِ الصَّلاةِ كُفَّارٌ وليسوا بمُشرِكين) [805] ((المقالات)) (1/184). .
والبَغداديُّ ذَكَر أنَّهم يَرَون أنَّ مُخالِفيهم (بُراءٌ من الشِّرْكِ والإيمانِ، وأنَّهم ليسوا مُؤمِنين ولا مُشرِكين، ولكِنَّهم كُفَّارٌ) [806] ((الفَرْق بين الفِرَق)) (ص: 103). ، وكذا عِندَ الشَّهْرَسْتانيِّ [807] يُنظر: ((المِلَل والنِّحَل)) (1/134). .
وقد زاد البَغداديُّ حُكمًا آخَرَ عن الإباضيَّةِ، فقال: (وزعَموا أنَّهم -يعني مُخالِفي الإباضيَّةِ- في ذلك محارِبين للهِ ولرَسولِه لا يدينون دينَ الحَقِّ) [808] ((الفَرْق بين الفِرَق)) (ص: 103). .
وقد انتَقَد علي مَعمَر هذا الأسلوبَ في حُكمِ الإباضيَّةِ على مُخالِفيهم ووَصفَه بأنَّه أسلوبٌ مُوهِمٌ غامِضٌ، وأنَّ كثيرًا ممَّا قيل عن الإباضيَّةِ في هذا البابِ (إنَّما هو تشنيعاتٌ وتلفيقاتٌ من ناسٍ يريدون أن يوقِدوا نارَ الفتنةِ ضِدَّ الإباضيَّةِ، وأن يجعَلوهم مكروهين من بقيَّةِ إخوانِهم المُسلِمين، فيَنسُبون إليهم عقائِدَ ومقالاتٍ يَبْرَؤون منها وممَّن قال بها، ويسوقون عنهم أقوالًا في غايةِ الغُموضِ والإبهامِ؛ لإثارةِ الرَّأيِ العامِّ ضِدَّهم...) [809] ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص: 33، 43). .
ومن هذه الإيهاماتِ -كما يرى مَعمَرٌ- ذلك التَّعبيرُ الذي تقدَّم عِندَ الأشعَريِّ ومن أخذ عنه؛ حيثُ لم يُبَيِّنوا ما إذا كان المُسلِمون في نَظَرِ الإباضيَّةِ كُفَّارَ مِلَّةٍ أو كُفَّارَ نِعمةٍ.
وقد تقدَّم أنَّ الإباضيَّةَ يَرَون مُخالِفيهم من المُسلِمين كُفَّارَ نِعمةٍ لا كُفَّارَ مِلَّةٍ، ولا يُدرى كيف جمَع الأشعَريُّ والبَغداديُّ بَينَ القولِ بتكفيرِ الإباضيَّةِ لمُخالِفيهم تكفيرًا مُطلَقًا، والقولِ باعتبارِ دارِهم دارَ توحيدٍ إلَّا مُعسكَرَ السُّلطانِ؟!
قال الأشعَريُّ في هذا: (وزعَموا أنَّ الدَّارَ -يعنون دارَ مُخالِفيهم- دارُ توحيدٍ إلَّا مُعسكَرَ السُّلطانِ؛ فإنَّه دارُ كُفرٍ، يعني عِندَهم) [810] يُنظر: ((المقالات)) (1/185). ويُنظر: ((الفَرْق بين الفِرَق)) (ص: 106). .
وهكذا عِندَ البَغداديِّ إلَّا أنَّه قَصَر الدَّارَ على مكَّةَ؛ فهي دارُ التَّوحيدِ عِندَهم إلَّا مُعَسكَرَ السُّلطانِ؛ فالأشعَريُّ يَذكُرُ أنَّهم عَمَّموا الحُكمَ على جميعِ دُورِ مُخالِفيهم، والبَغداديُّ خَصَّصها بدُورِ مَكَّةَ، والتَّناقُضُ في هذه الرَّوايةِ عن الإباضيَّةِ ظاهِرٌ إذا كانا يَقصِدان هنا بتكفيرِ الإباضيَّةِ لمُخالِفيهم أنَّه كُفرُ مِلَّةٍ، وإلَّا كان تساهُلًا منهم في التَّعبيرِ عن مَذهَبِ الخَوارِجِ.
أمَّا رأيُ الإباضيَّةِ في الدَّارِ فإنَّهم يُقَسِّمونها إلى قِسمَينِ: دارُ إسلامٍ، ودارُ كُفرٍ، ودارُ الكُفرِ لا تنطَبِقُ بأيِّ حالٍ على دُورِ مُخالِفيهم من المُسلِمين، سواءٌ في ذلك عامَّةُ النَّاسِ أو مُعسكَرُ السُّلطانِ، خِلافًا لِما ذَكَره الأشعَريُّ وغيرُه من اعتبارِ مُعسكَرِ السُّلطانِ دارَ كُفرٍ عِندَ الإباضيَّةِ.
ودارُ الإسلامِ لا تخلو عِندَهم عن أربَعِ صُوَرٍ هي:
1- أن يكونَ أهلُ الوَطَنِ كُلُّهم مُسلِمين، والسُّلطانُ عادِلٌ ملتَزِمٌ بالمنهَجِ الإسلاميِّ، وفي هذه الصُّورةِ تكونُ الدَّارُ دارَ إسلامٍ، ومُعسكَرُ السُّلطانِ مُعسكَرَ إسلامٍ.
2- أن يكونَ أهلُ الوطَنِ مُسلِمين، ولكِنَّ حاكِمَهم وصَل إلى الحُكمِ بطُرُقٍ غيرِ مُستَكمِلةٍ للشُّروطِ، ولكِنْ بَعدَ أن تَسلَّمَ زِمامَ الحُكمِ التَزمَ المنهجَ الإسلاميَّ، وهذه الصُّورةُ في الحُكمِ كسابقتِها.
3- أن يكونَ أهلُ الوَطَنِ مُسلِمين، ويَصِلَ حاكِمُهم إلى الحُكمِ بطُرُقٍ شرعيَّةٍ، ولكِنَّه بَعدَ أن يتِمَّ له الأمرُ ينحَرِفُ، وفي هذه الصُّورةِ تكونُ الدَّارُ دارَ إسلامٍ، ومُعسكَرُ السُّلطانِ مُعسكَرَ إسلامٍ، إلَّا أنَّه مُعسكَرُ بَغيٍ وظُلمٍ.
4- أن يكونَ أهلُ الوَطَنِ مُسلِمين، ويَصِلَ حاكِمُهم إلى الحُكمِ بطُرُقٍ غيرِ شرعيَّةٍ، ولم يلتَزِمِ المنهجَ الإسلاميَّ، ففي هذه الحالِ (تُعتَبَرُ الدَّارُ دارَ إسلامٍ، ومُعسكَرُ السُّلطانِ مُعسكَرَ إسلامٍ، إلَّا أنَّه مُعسكَرُ بَغيٍ وظُلمٍ وعُدوانٍ) [811] يُنظر: ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) لمعمر (ص: 295). .
فالإباضيَّةُ إذًا لا يَرَون في هذه الصُّوَرِ مِن صُوَرِ الحُكمِ في بلادِ الإسلامِ صُورةً يَعتَبِرون فيها دارَ المُسلِمين من غيرِهم دارَ كُفرٍ، ولا مُعسكَرَ سُلطانِهم كذلك، وأقصى ما وَصَفوا به مُعسكَرَ السُّلطانِ هو البَغيُ والظُّلمُ والعُدوانُ.
أمَّا ما يَذكُرُه أهلُ الفِرَقِ عن معامَلةِ الإباضيَّةِ لغَيرِهم فهو أنَّهم يَعتَبِرون مُخالِفيهم حلالًا مُناكَحتُهم ومُوارَثتُهم، وحرامًا قَتْلُهم وسَبْيُهم في السِّرِّ إلَّا مَن دعا إلى الشِّرْكِ في دارِ التَّقيَّةِ ودان به. وأنَّهم أجازوا شهادةَ مُخالِفيهم على أوليائِهم وحَرَّموا دماءَ مُخالِفيهم حتَّى يَدْعوهم إلى دينِهم.
هكذا قيل عن سماحةِ الإباضيَّةِ في حالةِ السِّلمِ، أمَّا في حالةِ الحربِ فيُوصَفون بأنَّهم لا يَستَحِلُّون من أموالِ مُخالِفيهم بَعدَ المَعركةِ غيرَ عُدَّةِ الحَربِ، وما يُتقوَّى به عليها من السِّلاحِ والخَيلِ ونحوِهما.
كذلك من عاداتِهم أنَّهم لا يَتْبَعون المُنهَزِمين في الحربِ إذا كانوا من أهلِ القِبلةِ، إلَّا أن يكونوا من المُشَبِّهةِ، فهم عِندَهم كأهلِ الرِّدَّةِ يجوزُ قَتْلُهم وسَبْيُهم وغنيمةُ أموالِهم واتِّباعِ المُنهَزِمِ منهم.
وفي المعركةِ لا يَقتُلون النِّساءَ ولا الأطفالَ، على عكسِ ما يفعَلُه الأزارِقةُ [812] يُنظر: ((المقالات)) للأشعري (1/188، 285)، ((الفَرْق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 103). .
ومع هذا التَّسامُحِ الذي ذَكَره الأشعَريُّ وغيرُه عن الإباضيَّةِ إلَّا أنَّه قال عنهم: (وقالوا جميعًا: إنَّ الواجِبَ أن يَسْتَتيبوا من خالفَهم في تنزيلٍ أو تأويلٍ، فإن تاب وإلَّا قُتِل، كان ذلك الخلافُ فيما يَسَعُ جَهْلُه، أو فيما لا يَسَعُ جَهْلُه) [813] ((المقالات)) (1/186). ويُنظر: ((الفَرْق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 107). .
ويبقى هنا إشكالٌ في هذا التَّعبيرِ، وهو: هل يَسْتَتيبون جميعَ المُخالِفين لهم عِندَما يكونون في دارِهم أو في غيرِ دارِهم؟ أم أنَّ هذا خاصٌّ بالأسرى؟ ومهما كان فكيف يبلُغُ بهم التَّشدُّدُ والتَّعصُّبُ حتَّى إنَّهم يَقتُلون من خالفهم، ولو كان هذا الخلافُ فيما يَسَعُه جَهلُه، فإنَّ هذا غُلُوٌّ ظاهِرٌ.
والواقِعُ أنَّ كتابَ الإباضيَّةِ يَنْفون عن أنفُسِهم هذه المعامَلةَ لمُخالِفيهم، فيرى علي يحيى مَعمَر -وهو أكبَرُ من تزعَّم الدِّفاعَ عن الإباضيَّةِ- أنَّ الأشعَريَّ لم يلتَزِمْ بتحَرِّي الحقيقةِ في آراءِ الإباضيَّةِ، وإنَّما أخذها عن أُناسٍ مُغرِضين كانوا يَهدُفون إلى تشويهِ الإباضيَّةِ عِندَ مُخالِفيهم والتَّشنيعِ عليهم، واعتَبَرَ أنَّ قولَ الأشعَريِّ: (وقالوا جميعًا: إنَّ الواجِبَ أن يَسْتَتيبوا من خالفَهم في تنزيلٍ أو تأويلٍ، فإن تاب وإلَّا قُتِل)، وقَولَه أيضًا عنهم: (ويَزعُمون أنَّ مُخالِفيهم من أهلِ الصَّلاةِ كُفَّارٌ وليسوا بمُشرِكين، حلالٌ مُناكَحتُهم ومُوارَثتُهم، حرامٌ قَتْلُهم وسَبْيُهم) اعتبَرَ ذلك من أمثلةِ تناقُضِ أهلِ المقالاتِ والمؤَرِّخين وخاصَّةً الأشعَريَّ، في شأنِ الإباضيَّةِ، إلَّا أنَّه لم يجعَلِ المسؤوليَّةَ كاملةً على الأشعَريِّ، وإنَّما على من ألقى إليه تلك المعلوماتِ [814] يُنظر: ((الإباضية بين الفرق)) (ص: 27- 28). .
ويَشهَدُ لِما تقدَّم مِن رأيِ علي يحيى مَعمَر ما ردَّ به صاحِبُ كتابِ (الأديان) الإباضيُّ على الأزارِقةِ؛ من تخطئتِهم في تشريكِهم أهلَ القبلةِ ثُمَّ معاملتِهم لهم على هذا الأساسِ الذي لا يُقِرُّه الإباضيَّةُ الذين أجازوا التَّعامُلَ مع مُخالِفيهم في كُلِّ المجالاتِ، وأنَّ الإباضيَّةَ لا يَستَحِلُّون مِن مُخالِفيهم غيرَ دمائِهم في الحَربِ إذا وقعت بَينَهم، فقال عن الأزارِقةِ: (وأمَّا نَقضُ ما احتجُّوا به من تشريكِ أهلِ القِبلةِ واستعراضِهم بالسَّيفِ، فإنَّ اللهَ سُبحانَه حكَم في أهلِ القبلةِ خِلافَ ما حكَم به في المُشرِكين، وأنَّه لم يحكُمْ في أهلِ البَغيِ بالسَّبيِ والغنيمةِ، وإنَّما حكَم فيهم بدمائِهم وحِلِّها، ولم يُحِلَّ منهم غيرَ دمائِهم، ولَمَّا قتَل المُسلِمون عُثمانَ لم يَستَحِلُّوا منه غيرَ دَمِه ولم يَسْبُوا له عيالًا ولا غَنِموا له مالًا) [815] يُنظر: ((الأديان)) لمؤلف إباضي مجهول (ص: 99). .
ونحوُ ما تقدَّم نجِدُه عِندَ عالمٍ آخَرَ من علمائِهم، هو أبو زكريَّا يحيى بنُ الخيرِ الجَناونيُّ؛ فقد أجاز معامَلةَ المُخالِفين مُعاملةً حَسَنةً غيرَ أنَّه ينبغي أن يُدْعَوا إلى تركِ ما به ضَلُّوا، فإن أصَرُّوا ناصَبَهم إمامُ المُسلِمين الحربَ حتَّى يُذعِنوا للطَّاعةِ، ولا يَحِلُّ منهم غيرُ دمائِهم [816] يُنظر: ((الوضع)) للجناوني. .
ولعلَّ هذا الاستثناءَ يُؤَيِّدُ ما قاله الأشعَريُّ من ضرورةِ استتابةِ المُخالِفين وإلَّا قُتِلوا، وإنْ جَعَله مَعمَرٌ من التُّهَمِ التي قيلَت في الإباضيَّةِ.
وأوضح السَّالِميُّ الإباضيُّ أيضًا مَوقِفَ الإباضيَّةِ من مُخالِفيهم، فقال: (لا نرى الفَتْكَ بقومِنا ولا قَتْلَهم غِيلةً في السِّرِّ؛ لأنَّ اللهَ لم يأمُرْ به في كتابِه، ولم يفعَلْه أحدٌ من المُسلِمين). وقال أيضًا: (نرى أنَّ مُناكَحةَ قَومِنا ومُوارَثتَهم لا تَحرُمُ علينا ما داموا يَسْتَقبِلون قِبلَتَنا) [817] يُنظر: ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) لمعمر (ص: 311). .
وقال الوَرْجَلانيُّ عن مُخالِفيهم وما يكونُ عليه الإباضيَّةُ في ساحةِ الحَربِ تجاهَهم: (وإنْ حارَبْناهم فإنَّا لا نَتْبَعُ مُدبِرًا ولا نُجهِزُ على جريحٍ، وأموالُهم مردودةٌ عليهم إلَّا ما كان لبيتِ المالِ، فإنَّا نحوزُه على وَجهِه ولا نتوَرَّعُ عن جميعِ ما في أيديهم من المظاليمِ عِندَنا إذا كان جائِزًا في مَذهَبِهم، وما كان في أيديهم من بيتِ مالِ المُسلِمين فإنَّا نأخُذُه ولا نَرُدُّه إليهم، ونَصرِفُه في وجوهِه، وإن كان مَظلَمةً رَدَدْناها إلى أهلِها) [818] يُنظر: ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص: 335)، ((المِلَل والنِّحَل)) للشهرستاني (1/125)، ((الدين والعلم الحديث)) لعبد الباقي (ص: 252). .
ويرى الثَّعاريتيُّ -وهو أحدُ عُلَماءِ الإباضيَّةِ- أنَّ ما قيلَ عن الإباضيَّةِ من تحليلِهم لغنيمةِ أموالِ مُخالِفيهم من سلاحِهم وكُراعِهم عِندَ الحربِ غيرُ صَحيحٍ، (إذ تآليفُ أصحابِنا كُلُّها ناطقةٌ بتحريمِ أموالِ أهلِ القِبلةِ في الحربِ وغَيرِها للغَنيِّ والفقيرِ) [819] نقلًا عن ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص: 285). .
وأمَّا ما حكاه الأشعَريُّ وغيرُه عنهم من استباحتِهم قَتْلَ المُشَبِّهةِ وسَبْيَهم وغنيمةَ أموالِهم واتِّباعَ مُوَلِّيهم باعتبارِ أنَّهم مُرتَدُّون، فإنَّ الإباضيَّةَ لا تُقِرُّ هذا التَّعبيرَ على عمومِه، بل يَرَون أنَّه صيغَ بهذه الطَّريقةِ بقَصدِ التَّشنيعِ على الإباضيَّةِ كما يرى مَعمَرٌ، وذلك لأنَّه يشمَلُ بعضَ مَن يعامِلُهم الإباضيَّةُ معاملةَ المُسلِمين وإن اعتَبَروهم من المُشَبِّهةِ؛ بسَبَبِ خَطَئِهم في التَّعبيرِ عن ذاتِ الله تعالى، ذلك أنَّ المُشَبِّهةَ عِندَهم ثلاثةُ أقسامٍ: مجَسِّمةٌ، وهم الذين يَصِفون اللهَ بأنَّه جِسمٌ كالأجسامِ ثُمَّ يحَدِّدونه، وشِبهُ مُجَسِّمةٍ، وهم كالمجَسِّمةِ يُحَدِّدونه، ولكِنْ يحتَجِزون بقولِهم (ونحنُ لا نَعرِفُ ذلك)، كما عَبَّر علي مَعمَر، فأهلُ هذين القِسمَينِ هم عِندَ الإباضيَّةِ مُشرِكون مُرتَدُّون، قال مَعمَرٌ عن رأيِ الإباضيَّةِ فيهم: (فالمجَسِّمةُ يَعتَبِرُهم الإباضيَّةُ مُشرِكين، لا فَرْقَ بَينَهم وبَينَ عَبَدةِ الأوثانِ بسَبَبِ تصَوُّرِهم وتصويرِهم لإلهِهم بصورةِ المخلوقِ المحدودِ).
أمَّا القِسمُ الثَّالِثُ فهم الذين (يُثبِتون المعانيَ الحرفيَّةَ لبعضِ الكَلِماتِ التي وردت في القرآنِ تُثبِتُ له الحَرَكةَ أو الجوارِحَ؛ كاليَدِ والعَينِ والسَّاقِ، والمجيءِ والنُّزولِ والاستواءِ، والمسَرَّةِ والضَّحِكِ، فيُمسِكون عن تأويلِها بالمعنى المناسِبِ، ويقولون: كما أراد اللهُ). وأهلُ هذا القِسمِ يَعتَبِرُهم الإباضيَّةُ مُشَبِّهةً بسَبَبِ خَطَئِهم في التَّأويلِ، ولكِنَّهم يعامِلونهم معاملةَ المُسلِمين، ولا يُطلِقون عليهم اسمَ المُشَبِّهةِ إلَّا في مواطِنِ الجَدَلِ العنيفِ [820] يُنظر: ((الإباضية بين الفرق)) لمعمر (ص: 335 – 337). .
وهكذا يتَّضِحُ تسامُحُ الإباضيَّةِ في حُكمِهم على مُخالِفيهم ومعامَلتِهم لهم، حتَّى كانوا بذلك أقرَبَ فِرَقِ الخَوارِجِ إلى أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ.
ولقد اعتُبِرَ هذا المَوقِفُ المتسامِحُ عِندَ الإباضيَّةِ بمثابةِ تغَيُّرٍ في مَوقِفِ قُدَماءِ الخَوارِجِ المتشَدِّدِ من مُخالِفيهم.
وعَلَّل الغُرابيُّ تساهُلَ الإباضيَّةِ فأرجَعَه إلى سَبَبينِ:
السَّبَبُ الأوَّلُ: هو أنَّهم ضَعُفوا لكثرةِ حُروبِهم، فهم يريدون أن يتقَرَّبوا من مُخالِفيهم شيئًا فشيئًا حتَّى لا تقومَ بَينَهم الحربُ.
السَّبَبُ الثَّاني: هو (أنَّهم لَمَّا اتَّسَعَت مدارِكُهم وعَرَفوا ما لم يكُنْ يعرِفُه سَلَفُهم الذين كانوا من عَرَبِ الباديةِ، وفيهم سَذاجةٌ وعَدَمُ عُمقٍ في التَّفكيرِ؛ كانوا أكثَرَ تسامُحًا مع مُخالِفيهم من سَلَفِهم).
ثمَّ قال: (ولا مانِعَ من أن يكونَ قد اجتمع لديهم السَّبَبانِ معًا) [821] ((تاريخ الفرق الإسلامية)) (ص: 281، 282). .
والمُهِمُّ هنا مَعرِفةُ مَوقِفِ الإباضيَّةِ من هذا التَّحليلِ السَّابِقِ الذِّكرِ، فهل يَعتَرِفون حقًّا بأنَّهم أكثَرُ تساهُلًا مِن خَلَفِهم؟ وهل فِعلًا أضعَفَتْهم الحروبُ الدَّمَويَّةُ مع مُخالِفيهم؛ فأحبُّوا التَّقرُّبَ إليهم اتِّقاءَ شَرِّهم؟ وهل يَعتَرِفون بأنَّ سَلَفَهم كانوا على جانبٍ من البداوةِ التي كانت تَظهَرُ في سَذاجتِهم وعَدَمِ عُمقٍ في تفكيرِهم الذي كان سطحيًّا يأخُذُ الأمورَ ببراءةِ البدَويِّ وطباعِه أم أنَّهم كانوا ضِدَّ ذلك وضِدَّ تلك الصِّفاتِ؟ تصدَّى المدافِعُ الأكبَرُ عن الإباضيَّةِ علي يحيى مَعمَر للرَّدِّ على ذلك، وذَكَر أنَّها افتراضاتٌ غيرُ صحيحةٍ، وأنَّ القولَ بسَلَفٍ متشَدِّدٍ وخَلَفٍ متساهِلٍ كان من جزاءِ رَبطِ الإباضيَّةِ بالخَوارِجِ، وهو رَبطٌ يَصِفُه مَعمَرٌ بأنَّه انسياقٌ مع كتابِ المقالاتِ من غيرِ رُجوعٍ إلى كتُبِ الإباضيَّةِ ومَصادِرِها، ثُمَّ ذَكَر أنَّه لا مانِعَ من تغيُّرِ الاجتهاداتِ في غيرِ القَطعيَّاتِ، بل هو من محاسِنِ الشَّريعةِ، ولم يَخْلُ منها مَذهَبٌ من المذاهِبِ الإسلاميَّةِ، إلى أنْ قال عن الغرابيِّ بخُصوصِه: (ومع هذا فأنا أؤكِّدُ للأستاذِ الغُرابيِّ أنَّ المسائِلَ التي أوردها لم يتغيَّرْ فيها رأيُ خَلَفِ الإباضيَّةِ عن سَلَفِهم، فيما عدا مسألةً واحدةً هي مسألةُ أطفالِ المُشرِكين، فقد كانت عِندَ السَّلَفِ خلافيَّةً، ورجَّح الخَلَفُ أنَّهم من أهلِ الجنَّةِ خَدَمًا للمُسلِمين طِبقًا للأحاديثِ الواردةِ في الموضوعِ). وقد استَشهَدَ بعِدَّةِ أمثلةٍ تُبَيِّنُ اجتهادَ الخَلَفِ وتيسيرَهم في بعضِ المسائِلِ.
أمَّا القولُ بأنَّ الحُروَب أضعفَتْهم فأحَبُّوا مُسالَمةَ النَّاسِ، فقد نفى مَعمَرٌ صِحَّةَ هذا، ولم يُثبِتْ من حروبِهم غيرَ الحَرَكةِ التي قام بها طالِبُ الحَقِّ في الجزيرةِ العربيَّةِ طِيلةَ عَهدِ الدَّولةِ الأُمَويَّةِ، ثُمَّ جاء ببيانٍ لدُوَلِ الإباضيَّةِ التي قامت في الشَّرقِ والغَربِ أكَّدَ من خلالِه أنَّ الإباضيَّةَ كانوا لا يَعْتَدون على أحَدٍ مِن مُجاوِريهم [822] يُنظر: ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) لمعمر (ص: 70- 82). ، ومن ثَمَّ فلم يكُنْ تسامُحُهم عن غيرِهم ناشئًا عن ضعفٍ.
ولكِنَّ الإباضيَّةَ لم يكونوا جميعًا على هذا القَدْرِ الذي تقدَّم من التَّسامُحِ في الحُكمِ على مُخالِفيهم في معاملتِهم لهم، بل كان منهم المُغالون في التَّشدُّدِ تجاهَ مُخالِفيهم، ومن الشَّواهِدِ على ذلك ما رواه الجيطاليُّ الإباضيُّ عن الإمامِ عبدِ الوَهَّابِ: (أنَّه قال: سبعون وَجهًا تحِلُّ بها الدِّماءُ، فأخبَرْتُ منها لأبي مِرداسٍ بوَجهَينِ فقال: من أينَ هذا، من أينَ هذا؟ وفي كتابِ "سِيَرِ المشائِخِ" أنَّ الإمامَ كان يقولُ: عِندَي أربعةٌ وعِشرون وَجهًا تحِلُّ بها دماءُ أهلِ القبلةِ، ولم تكُنْ منهم عِندَ أبي مِرْداسٍ إلَّا أربعةُ أوجُهٍ) [823] يُنظر: ((قواعد الإسلام)) (ص: 105). .
وقد اعتَبَرَ علي مَعمَر معرفةَ الإمامِ عبدِ الوهَّابِ بهذه الأوجُهِ الكثيرةِ التي تحِلُّ بها دماءُ المُسلِمين أهلِ القِبلةِ من بابِ السَّعةِ في العِلمِ، كما يرى [824] ((الإباضية في موكب التاريخ)) (ص: 39). !
أمَّا المارغِينيُّ فإنَّه يحكُمُ على مُخالِفيهم بالهلاكِ والنَّارِ في الدَّارِ الآخِرةِ، وأنَّ الشَّخصَ ليس على شيءٍ ما دام غيرَ متمَسِّكٍ بالمَذهَبِ الإباضيِّ قَولًا وعمَلًا حتَّى يَلقى اللهَ به سعيدًا مقبولَ العمَلِ.
وقال المارغِينيُّ في رسالتِه عن مشائِخِهم: (قالت المشائخُ: إنَّ هذا الدِّينَ الذي دان به الوَهبيَّةُ من الإباضيَّةِ من المُحَكِّمةِ: دِينُ المصطفى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، هو الحَقُّ عِندَ اللهِ، وهو دينُ الإسلامِ، من مات مستقيمًا عليه فهو مُسلِمٌ عِندَ اللهِ، ومن شَكَّ فيه فليس على شيءٍ منه، ومن مات على خلافِه أو مات على كبيرةٍ مُوبِقةٍ فهو عِندَ اللهِ من الهالِكين أصحابِ النَّارِ) [825] ((رسالة في فرق الإباضية المغرب)) (ص: 13). .
فقد قَصَر الإسلامَ عِندَ اللهِ على المَذهَبِ الإباضيِّ، ومن جاء بغيرِه فهو على هلاكٍ وتَبارٍ، بل ويتبَرَّؤون ممَّن لا يدينُ بالقولِ بخَلقِ القرآنِ من أهلِ السُّنَّةِ، كما في قولِ ابنِ جُمَيعٍ الإباضيِّ: (وليس منَّا من قال: إنَّ القرآنُ غيرُ مخلوقٍ... ولا من قال: إنَّ جميعَ مَن يَحِلُّ دَمُه يحِلُّ مالُه) [826] ((مقدمة التوحيد)) (ص: 19). .
وممَّا جاء في تزكيةِ مَذهَبِهم وإبطالِ ما خالفه قولُ العِيزابيُّ الإباضيُّ: (الحَمدُ للهِ الذي جَعَل الحقَّ مع واحِدٍ في الدِّياناتِ، فنَقولُ مَعشَرَ الإباضيَّةِ الوَهبيَّةِ: الحَقُّ ما نحن عليه، والباطِلُ ما عليه خُصومُنا؛ لأنَّ الحَقَّ عِندَ اللهِ واحِدٌ، ومَذهَبُنا في الفُروعِ صوابٌ يحتَمِلُ الخَطَأَ، ومَذهَبُ مُخالِفينا خَطَأٌ يحتَمِلُ الصِّدقَ) [827] ((الحجة في بيان المحجة)) (ص: 37). .
أمَّا الوَرْجَلانيُّ من علمائِهم المشهورين فقد قضى على أمَّةِ أحمَدَ بالهلاكِ والثُّبورِ، ولم يَنْجُ منهم إلَّا من كان على المَذهَبِ الإباضيِّ! ويُورِدُ أدِلَّةً على ذلك واستِشكالاتٍ، ثُمَّ يَذكُرُ جوابَها مدَّعيًا أنَّ حديثَ افتِراقِ الأُمَمِ قد نَصَّ على هلاكِ من عَدا الإباضيَّةَ، وأنَّ السَّبَبَ في بقاءِ الإباضيَّةِ على الحَقِّ هو أنَّهم لم يُقَلِّدوا الآباءَ دونَ مُحاسَبتَهِم كما كان الحالُ عِندَ غيرِهم، بل اتَّبَعوهم تقييدًا لا تقليدًا.
ومِن تساؤلاتِه قَولُه: (فإنْ قال قائِلٌ: هذه أمَّةُ أحمَدَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد قَضَيتُم عليها بالهلاكِ وبالبِدعةِ والضَّلالِ، وحَكَمْتُم عليها بدُخولِ النَّارِ ما خلا أهلَ مَذهَبِكم. قُلْنا: إنَّما قضاه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا نحنُ، بقَولِه حيثُ يقولُ: ((ستَفتِرقُ أمَّتي على ثلاثٍ وسبعينَ فِرقةً، كُلُّهنَّ في النَّارِ ما خلا واحِدةً ناجيةً، كُلُّهم يَدَّعي تلك الواحِدةَ )) [828] لم نَقِفْ عليه بتمامِ لفظِه فيما لدينا من كُتُبٍ مُسنَدةٍ. وأخرجه أبو داود (4597)، وأحمد (16937) بنحوِه من حديثِ معاويةَ بنِ أبي سفيانَ رَضِيَ اللهُ عنهما، ولفظُ أبي داود: ((ألَا إنَّ من قَبْلَكم من أهلِ الكِتابِ افتَرَقوا على اثنتينِ وسبعين مِلَّةً، وإنَّ هذه المِلَّةَ ستَفترِقُ على ثلاثٍ وسبعين؛ اثنتانِ وسَبعون في النَّارِ، وواحِدةٌ في الجنَّةِ، وهي الجماعةُ)). صَحَّحه الحاكم في ((المستدرك)) (443)، وشعيب الأرناؤوط بشواهده في تخريج ((سنن أبي داود)) (4597)، وحَسَّنه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4597)، وحَسَّنه لغيره الوادعي في ((صحيح دلائل النبوة)) (577)، وحسَّن إسنادَه ابن كثير في ((نهاية البداية والنهاية)) (1/27). [829] ((العقود الفضية)) (ص: 169). .
ولئلَّا يَستَعظِمَ المستَمِعُ هذا الكلامَ جاء بما يجولُ في خاطِرِه من أسئلةٍ، وأهمُّها ما ذَكَره بقولِه: (فإن قال قائِلٌ: هذه أمَّةُ أحمدَ قد أصيبتَ باتِّباعِ أوائِلِها، وما يُدريكم لعَلَّكم أنتم أيضًا ممَّن أصيبَ باتِّباعِ أوائِلِه، ولمَ قَضَيتُم أنَّ أوائِلَكم على الهدى وأوائِلَ غيرِكم على الرَّدَى، وأوائِلُكم غيرُ معصومين كأوائِلِ غَيرِكم؟). هذا سؤالٌ -ولا شَكَّ- مُهِمٌّ، ولكِنَّ المؤلِّفَ قد أجاب بما لا مَقنَعَ فيه، أجاب بما حاصِلُه أنَّ الإباضيَّةَ اتَّبَعوا أوائِلَهم بَعدَ المحاسَبةِ لهم، وأنَّ أوائِلَهم عوَّلت على الوَزنِ بالقِسطاسِ المُستقيمِ والبُرهانِ القويمِ، وهو الكتابُ والسُّنَّةُ ورأيُ المُسلِمين، وذلك أنَّهم كانوا دائِمًا مع الفِرقةِ المحِقَّةِ، ولا شَكَّ أنَّ هذه الدَّعوى بطبيعةِ الحالِ تَدَّعيها كُلُّ فِرقةٍ، وهذا دَيدَنُ أصحابِ المذاهِبِ، ولهم أن يَفخَروا بما يَرَون أنَّه من مفاخِرِهم، ولكِنْ ماذا معهم من الفَخرِ حينَ يَفخَرون بأنَّهم كانوا في جانبِ الجَيشِ الذين قَتَلوا عُثمانَ، ثُمَّ في جانِبِ الجَيشِ الذين خَرَجوا على عَليٍّ؟! كما ذكَر المؤلِّفُ [830] يُنظر: ((الدليل لأهل العقول)) (ص: 35 - 37). .
وقد أورَد صاحِبُ (العُقودِ الفِضِّيَّة) كثيرًا من النُّصوصِ عن عُلَمائِهم تشهَدُ بأنَّ المَذهَبَ الإباضيَّ هو خيرُ المذاهِبِ وأصوَبُها، لا يَقبَلُ اللهُ من غيرِه أيَّ مَذهَبٍ، وأنَّ من خالفه فليس له إلَّا النَّارُ وبئس المصيرُ! ومن تلك النُّصوصِ ما جاء عن أبي الحسَنِ عليِّ بنِ محمَّدِ البِسيانيِّ من قولِه: (فحَصْتُ الأديانَ ظَهرًا وبَطنًا فلم أجِدْ دينًا أصفى من دينِنا، ولو عَلِمْنا غيرَه خيرًا منه لَمَا سمَحْنا لجَهَنَّمَ بأنفُسِنا)، إلى أن يقولَ: (فعَلِمْنا أنَّه هو الدِّينُ الذي لا يرضى اللهُ إلَّا به؛ لأنَّه مَذهَبٌ مُنَزَّهٌ صريحٌ صحيحٌ واضِحٌ من طريقِ الشَّريعةِ لا من طريقِ اللُّغةِ) [831] ((العقود الفضية)) (ص: 169). .
ومنها قولُ السَّالِميِّ: (واللهِ الذي لا إلهَ إلَّا هو إنَّ الحَقَّ لَمَع هذه العصابةِ) [832] ((العقود الفضية)) (ص: 172). ومنها قولُ جاعدِ بنِ خَميسِ بنِ مُبارَكٍ الخَروصيِّ: (إنِّي لأقسِمُ باللهِ قَسَمَ مَن بَرَّ في يمينِه فلا حَنَث، أنَّ مَن مات على الدِّينِ الإباضيِّ الصَّحيحِ غيرَ ناكِثٍ لِما عاهد اللهَ عليه من قَبلُ، ولا مُغَيِّرٍ حقيقتَه، كَلَّا، ولا مُبَدِّلٍ طريقتَه: أنَّه من السُّعَداءِ، ومن أهلِ الجنَّةِ مع الأنبياءِ والأولياءِ، وأنَّ من مات على خلافِه فليس له في الآخِرةِ إلَّا النَّارُ وبئسَ المصيرُ) [833] ((العقود الفضية)) (ص: 172). .
وقال الإزكويُّ صاحِبُ (كَشْفِ الغُمَّة) في تشنيعِه على مُخالِفيهم: (وجَدْنا من خالَفَنا يجمَعُ بَينَ الأضدادِ، ويساوي بَينَ أهلِ الصَّلاحِ والفَسادِ، ويجمَعُ بَينَ القاتِلِ والمقتولِ، والظَّالمِ والمظلومِ، فيتوَلَّونَهم ويَستغفرون لهم... فهذا من أوضَحِ السُّبُلِ وأبيَنِ الأدِلَّةِ وأقوى حُجَّةٍ على مَن خالَفَنا) [834] ((كشف الغمة)) (ص: 306).
ومِن أجَلِّ كُتُبِهم الفِقهيَّةِ عِندَهم وأكبَرِها كتابُ (النِّيل وشِفاءُ العَليل)، هذا الكتابُ يَذكُرُ فيه مؤلِّفُه الثمينيُّ عن مُعاملةِ الإباضيَّةِ لمُخالِفيهم بأنَّهم يعامِلونهم على حسَبِ ظاهِرِ الفِرَقِ ومُعتَقَداتِها: (ويحكُمُ فيهم بحُكمِ التَّوحيدِ مِن دُعاءٍ إلى تَرْكِ ما به ضَلُّوا، وما هم عليه من إظهارِ بِدعتِهم، ومن جوازِ مُناكحَتِهم، ومُؤاكلةٍ لذبائحِهم، والحَجِّ معهم).
أمَّا الأئمَّةُ والولاةُ فإنَّهم يَقِفون منهم مَوقِفًا صُلبًا لا هوادةَ فيه، فالحُكمُ فيهم أن (يبرَأَ من إمامِهم وقائِدِهم وعَسكَرِهم ومُقَوِّيهم على خِلافِهم، وإنْ مُؤَذِّنًا أو قاضِيًا؛ لِما في ذلك من الآثارِ والأحاديثِ فيمن كَثَّر سوادَ قومٍ فهو منهم، ومن ثَمَّ كُرِهَ الغَزوُ والجهادُ معهم وحضورُ جوامِعِهم ومجالِسِهم).
ثمَّ تطَرَّق إلى مسائِلَ فرعيَّةٍ لا ترتَفِعُ إلى درجةِ البراءةِ أو عدَمِها لتفاهةِ الخِلافِ فيها، فيقولُ: (وهل يبرَأُ منهم بعلاماتٍ انفَرَدوا بها؛ كرَفعِ اليدَينِ، وتَركِ التَّسميةِ في الصَّلاةِ والقُنوتِ فيها، ونَحوِ ذلك أو لا؟ قولانِ) [835] ((النيل وشفاء العليل)) (3/1061 – 1062). .
وذكر في موضِعٍ آخَرَ بعضَ المسائِلِ في الأسماءِ والصِّفاتِ، وبعضَ المسائِلِ الكلاميَّةِ التي دانوا بها، وأنَّ من خالفَهم فيها (حَلَّ قَتْلُه)، وقد يستغرِبُ السَّامِعُ حينما تمرُّ عليه تلك الخلافاتُ الكلاميَّةُ التي أحَلَّ المؤلِّفُ بها سَفْكَ دماءِ مُخالِفيهم! وذلك في قَولِه الآتي: (ومَن قَصَد لخَصلةٍ ممَّا دانوا به وخالفوا فيه غيرَهم، كقِدَمِ الأسماءِ والصِّفاتِ، ونفيِ زيادتِها على الذَّاتِ، والرُّؤيةِ، وحُدوثِ الكلامِ، وإثباتِ الخُلودِ، والكَسْبِ للعبدِ، والخَلقِ والأمرِ للهِ تعالى، وخَطَئِها، أو ما اجتمَعَت عليه الأمَّةُ، حَلَّ قَتْلُه) [836] ((النيل وشفاء العليل)) (3/1067). ولكِنْ يكونُ في دُورِ الظُّهورِ والغَلَبةِ لهم لا في دُورِ الكِتمانِ.
وهكذا نجِدُ بعضَ أصواتِ الإباضيَّةِ ترتَفِعُ بمِثلِ هذا التَّشدُّدِ في الحُكمِ على مُخالِفيهم واستِحلالِ دمائِهم، والتَّبَرُّؤِ منهم ممَّا لا يتَّفِقُ مع ما هو معروفٌ عن المَذهَبِ الإباضيِّ من أنَّه أكثَرُ مذاهِبِ الخَوارِجِ تسامحًا مع غيرِهم من المُسلِمين، وهذا يدُلُّ على أنَّ في الإباضيَّةِ من قد خرج عن تلك التَّعاليمِ التي توحي إليهم بالتَّسامُحِ مع مُخالِفيهم، ولِينِ جانِبِهم معهم.
وممَّا تجدُرُ الإشارةُ إليه أنَّ أولئك العُلَماءَ الذين قدَّمْنا ذِكْرَهم من أفاضِلِ العُلَماءِ عِندَ الإباضيَّةِ ومن المُعتَبَرين عِندَهم في المَذهَبِ، ومن قُدَماءِ عُلَمائِهم، ولكِنْ يبدو أنَّ هذا الاتِّجاهَ المتشَدِّدَ عِندَهم لم يكُنْ هو السَّائِدَ في الأوساطِ الإباضيَّةِ، بل كان السَّائِدُ هو التَّسامُحَ، ولعلَّ ذلك كان سَبَبًا في بقائِه وبقاءِ أتباعِه حتَّى الآنَ دونَ فِرَقِ الخَوارِجِ الأُخرى. واللهُ تعالى أعلَمُ.

انظر أيضا: