موسوعة الفرق

المَطلَبُ الأوَّلُ: آراءُ الخَوارِجِ في التَّقيَّةِ وأدِلَّتُهم


للخَوارِج آراءٌ مُختَلِفةٌ حولَ هذه المسألةِ، هي كالآتي:
القَولُ الأوَّلُ: عَدَمُ جوازِ التَّقيَّةِ
وهو رأيُ الأزارقةِ؛ فقد كان نافِعُ بنُ الأزرَقِ زعيمُهم من أشَدِّ المُبغِضين للتَّقيَّةِ، ويرى أنَّها تنافي وجوبَ الجهادِ الذي فرَضَه اللهُ على المُسلِمين؛ لقَولِه تعالى: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة: 36] ؛ إذ إنَّ القائِلَ بالتَّقيَّةِ لا يمكِنُ أن يندَفِعَ إلى قتالِهم ما دام يجِدُ ملجَأً في التَّقيَّةِ، ومن ثَمَّ فإنَّه يَضعُفُ فيه ذلك العَزمُ والصِّدقُ الذي أراده اللهُ من المجاهِدِ؛ ولذلك فقد (بَرِئوا من أهلِ التَّقيَّةِ) [689] ((المقالات)) (1/173). كما قال الأشعَريُّ، ومِن ثَمَّ فلا محَلَّ لها عِندَهم ولا مَنزِلةَ لها بَينَهم، سواءٌ كانت في الأقوالِ أو الأفعالِ. وقد عدَّ الشَّهْرَسْتانيُّ هذا القولَ من بِدَعِهم وضلالتِهم، أي: قَولَهم: (إنَّ التَّقيَّةَ غيرُ جائزةٍ في قولٍ ولا عَمَلٍ) [690] ((المِلَل والنِّحَل)) (1/122). ويُنظر: ((البحرين في صدر الإسلام)) للعاني (ص: 128). .
القَولُ الثَّاني: جوازُ التَّقيَّةِ قولًا وعمَلًا
وهو رأيُ النَّجَداتِ، فقال الشَّهْرَسْتانيُّ: (حكى الكعبيُّ عن النَّجَداتِ أنَّ التَّقيَّةَ جائزةٌ في القولِ والعَمَلِ كُلِّه، وإن كان في قَتلِ النُّفوسِ) [691] ((المِلَل والنِّحَل)) (1/124). ويُنظر: ((البحرين في صدر الإسلام)) للعاني (ص: 128). .
ومن القائِلين بجوازِها من الخَوارِجِ أيضًا: أبو بلالٍ مِرداسٌ، الشَّخصيَّةُ المحبوبةُ لدى كُلِّ فِرَقِهم، ويتبيَّنُ تجويزُه لها من موقِفِه مع البَلجاءِ المرأةِ الخارِجيَّةِ المشهورةِ بمواقِفِها العنيدةِ من ابنِ زيادٍ؛ فقد قال لها أبو بلالٍ مُشفِقًا عليها من بطشِ ابنِ زيادٍ: (إنَّ اللهَ قد وسَّع على المُؤمِنين التَّقيَّةَ فاستَتري؛ فإنَّ هذا المُسرِفَ على نَفسِه الجبَّارَ العنيدَ قد ذكَرَكِ) [692] ((الكامل)) للمبرد (2/154). .
وممَّن أجازها أيضًا من الفِرَقِ الأخرى: الإباضيَّةُ؛ فهي عِندَهم جائزةٌ، بل قد تكونُ واجبةً كما يظهَرُ من الأحاديثِ التي ذكرها الرَّبيعُ بنُ حبيبٍ في مُسنَدِه؛ قال الرَّبيعُ بنُ حَبيبٍ: (بابُ ما جاء في التَّقيَّةِ) ثُمَّ أورد الحديثَ الآتيَ: قال جابِرٌ: سُئِلَ ابنُ عبَّاسٍ عن التَّقيَّةِ، فقال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((رَفَع اللهُ عن أمَّتي: الخطَأَ، والنِّسيانَ، وما لم يَستطيعوا، وما أُكرِهوا عليه)) [693] أخرجه الرَّبيعُ بنُ حَبيبٍ في ((المسند)) (794). وأخرجه من طرق: ابن ماجه (2045)، وابن حبان (7219)، والحاكم (2801) باختلافٍ يسيرٍ قال الإمام أحمد في ((العلل ومعرفة الرجال – رواية عبد اللهِ)) (1/561): منكرٌ جِدًّا، وقال أبو حاتم الرازي في ((العلل)) لابن أبي حاتم (1296): هذه أحاديثُ مُنكَرةٌ، كأنَّها موضوعةٌ، وقال ابنُ عَدِيٍّ في ((الكامل في الضعفاء)) (6/494): مُنكَرٌ. . قال: (وقال ابنُ مسعودٍ: ما من كَلِمةٍ تَدفَعُ عنِّي ضَربَ سَوطَينِ إلَّا تكلَّمتُ بها، وليس الرَّجُلُ على نفسِه بأمينٍ إذا ضُرِب أو عُذِّب أو حُبِس أو قُيِّد) [694] أخرجه الرَّبيعُ بنُ حَبيبٍ في ((المسند)) (795) وأسانيدُه لا تَثبُتُ. ، أي: وهو يجِدُ خَلاصًا في الأخذِ بالتَّقيَّةِ.
القَولُ الثَّالثُ: جوازُ التَّقيَّةِ القوليَّةِ دونَ العَمَليَّةِ
وهو قَولُ الصُّفْريَّةِ الذين توسَّطوا بَينَ الأزارقةِ والنَّجَداتِ؛ حيثُ أجازوا التَّقيَّةَ في الأقوالِ لا في الأعمالِ، حسَبَما ذَكَر الشَّهْرَسْتانيُّ عنهم ذلك بقولِه: (قالوا: التَّقيَّةُ جائزةٌ في القولِ دونَ العَمَلِ) [695] ((المِلَل والنِّحَل)) (1/137). .
فتختَلِفُ الأحكامُ عِندَهم في حالِ التَّقيَّةِ من حالِ العلانيةِ؛ فقد جوَّز الضَّحَّاكُ -وهو من الصُّفْريَّةِ- التَّزوُّجَ في حالِ التَّقيَّةِ من مُخالِفيهم، ومنَعَها في دارِ العلانيةِ والغَلَبةِ لهم، ويختَلِفُ أيضًا تنظيمُ الزَّكاةِ وسِهامُها في دارِ التَّقيَّةِ؛ فقد جعلها زيادُ بنُ الأصفَرِ سَهمًا واحدًا في حالِ التَّقيَّةِ، كما ذكَر ذلك الشَّهْرَسْتانيُّ أيضًا في قولِه: (ونُقِل عن الضَّحَّاكِ منهم أنَّه جوَّز تزويجَ المُسلِماتِ من كُفَّارِ قَومِهم في دارِ التَّقيَّةِ دونَ دارِ العلانيةِ، ورأى زيادُ بنُ الأصفَرِ جميعَ الصَّدَقاتِ سَهمًا واحِدًا في حالِ التَّقيَّةِ) [696] ((المِلَل والنِّحَل)) (1/137). .
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: أدِلَّةُ المانِعين للتَّقيَّةِ
استدلَّ نافِعٌ على تحريمِ التَّقيَّةِ بآياتٍ من القرآنِ الكريمِ، ورَد بعضُها في الأصلِ في مُشرِكي العَرَبِ وغَيرِهم، وورد بعضُها في المُنافِقين، ولكِنَّ نافِعًا جَعَل حُكمَها شاملًا لمُخالِفيه من أهلِ القِبلةِ ومُنطَبِقًا عليهم، فاستدلَّ على مَنعِ التَّقيَّةِ بقَولِ اللهِ تعالى: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التوبة: 36] ، وبما جاء في أمرِ اللهِ المُؤمِنين بالجهادِ على ما تيسَّر من حالٍ بَعدَ أن قَطَع العُذرَ في التَّخَلُّفِ، فقال: انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا [التوبة: 41] ، أي: أنَّ اللهَ أمَر بقَتلِ المُشرِكين أمرًا عامًّا دونَ استثناءٍ لحالٍ من الأحوالِ يجوزُ فيه القعودُ عن قتالِهم على سبيلِ التَّقيَّةِ.
واستدلَّ أيضًا بقولِ اللهِ تعالى: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ والْمُجَاهِدُونَ [النساء: 95] ، وذلك أنَّ الله تعالى وإن كان قد عذَر الضُّعَفاءَ والمَرْضى والذين لا يجِدون ما يُنفِقون، ومن كانت إقامتُه لعِلَّةٍ، إلَّا أنَّه فضَّل مع ذلك المجاهِدين، وأخبر أنَّهم لا يَسْتوون عِندَه في الثَّوابِ مع غيرِهم من أصحابِ الأعذارِ، ومنهم القاعِدون عن القتالِ تقيَّةً.
وقد استدلَّ نافِعٌ كذلك على تحريمِ التَّقيَّةِ بما وصف اللهُ به القَعَدةَ في قولِه تعالى: وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [التوبة: 90] ، أي: أنَّ القعودَ عِندَهم من صفاتِ المُكَذِّبين للهِ ورَسولِه، وهم غيرُ المُؤمِنين.
واستدلَّ أيضًا بأنَّ اللهَ قد ذَمَّ الذين يخشَون غيرَه من النَّاسِ، أو تكونُ خشيتُهم من النَّاسِ أشَدَّ من خَشيتِهم من اللهِ، وهو من لوازمِ صِفاتِ أهلِ التَّقيَّةِ، وذلك في قولِه تعالى: إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً [النساء: 77] ، ثُمَّ مدَح تعالى نقيضَ هؤلاء، وهم المجاهِدون الذين لا يُبالون بغَيرِهم، فقال تعالى: يُجَاهِدُونَ فيِ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ [المائدة: 54] [697] يُنظر: ((المِلَل والنِّحَل)) للشهرستاني (1/125)، ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (2/297). .
ثانيًا: أدِلَّةُ القائِلين بجوازِ التَّقيَّةِ
استدلَّ نَجْدةُ على جوازِ التَّقيَّةِ بقَولِ اللهِ تعالى: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [آل عمران: 28] ، وبقولِه تعالى: وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ [غافر: 28] ، وبقَولِه تعالى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ [التوبة: 91] ، وبقَولِه تعالى: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 95] .
فقال: إنَّ اللهَ قد جعَلَهم -وهم قَعَدةٌ- مُؤمِنين، وإن كان قد فضَّل عليهم المجاهِدين، فإنَّه ليس دليلًا على تحريمِها؛ إذ لو كانت محرَّمةً لَمَّا سَمَّاهم مُؤمِنين، ولَمَا كانت مفاضَلةٌ بَينَهم، ولعلَّ هذا التَّوجيهَ للآيةِ أَولى من استدلالِ نافعٍ بها على تحريمِ التَّقيَّةِ [698] يُنظر: ((الكامل)) للمبرد (2/177). ويُنظر: ((شرح نهج البلاغة)) لابن أبي حديد (4/136- 137). .
والسَّلَفُ يَرَونَ أنَّ التَّقيَّةَ رُخصةٌ أباحها اللهُ بشُروطِها لِمن احتاج إليها، والذين أجازوا اعتمَدوا على ظاهِرِ قَولِ اللهِ تعالى: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً، ولا يرى بها بأسًا ما دامت الغَلَبةُ للكُفَّارِ؛ حيثُ لا يُنجِّي صاحِبَ التَّقيَّةِ منهم إلَّا إظهارُ وَلائِه لهم وموافَقتُه إيَّاهم في الظَّاهِرِ.
وبعضُهم قال: إنَّ التَّقيَّةَ لا تجوزُ، خُصوصًا بَعدَ أنَّ أعزَّ اللهُ الإسلامَ، وانتشر بَينَ النَّاسِ، وصار المُسلِمون أهلَ قُوَّةٍ ومَنَعةٍ؛ قال الشَّوكانيُّ بَعدَ إيرادِه الآيةَ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً: (وفي ذلك دليلٌ على جوازِ الموالاةِ لهم مع الخوفِ منهم، ولكِنَّها تكونُ ظاهِرًا لا باطِنًا، وخالف في ذلك قومٌ من السَّلَفِ فقالوا: لا تقيَّةَ بَعدَ أنَّ أعزَّ اللهُ الإسلامَ) [699] ((فتح القدير)) (1/331). .
والذين أجازوها من السَّلَفِ يَرَون أنَّها لا تكونُ إلَّا باللِّسانِ فقط لا يتعَدَّى حُكمُها إلى العَمَلِ بحالٍ، كما نَقَل ذلك عنهم ابنُ جريرٍ في تفسيرِه [700] يُنظر: ((جامع البيان)) (3/228- 229). ؛ فقد استشهد بأقوالِ عَدَدٍ من العُلَماءِ كلُّهم لا يجيزُ في التَّقيَّةِ إلَّا القولَ باللِّسانِ مع إضمارِ عَداوةِ الكُفَّارِ، وهكذا السُّيوطيُّ؛ فقد أورَد عِدَّةَ رواياتٍ في حُكمِ التَّقيَّةِ وأنَّها لا تكونُ إلَّا باللِّسانِ فقط عِندَما تقتضي الضَّرورةُ ذلك [701] يُنظر: ((الدر المنثور)) (2/16). .

انظر أيضا: