موسوعة الفرق

المَطلَبُ الثَّاني: شُروطُ الإمامِ


فيَشتَرِطُ الخَوارِجُ فيمن يَرتَضونه إمامًا أن تتوفَّرَ فيه عِدَّةُ صِفاتٍ تجعَلُه جديرًا بحَملِ الأمانةِ.
وأهمُّ هذه الشُّروطِ ما يأتي:
1- أن يكونَ شديدَ التَّمسُّكِ بالعقيدةِ الإسلاميَّةِ، مخلِصًا في عبادتِه وتقواه، كثيرَ التَّعبُّدِ والطَّاعاتِ على طريقتِهم.
2- أن يكونَ قويًّا في نفسِه، ذا عَزمٍ نافِذٍ وتفكيرٍ ناضِجٍ وشجاعةٍ وحَزمٍ.
3- ألَّا يكونَ فيه ما يُخِلُّ بإيمانِه من حُبِّ المعاصي واللَّهْوِ واتِّباعِ الهوى.
4- أن يكونَ انتِخابُه برِضا الجميعِ لا يغني بعضُهم عن بعضٍ في ذلك.
5- لا عِبرةَ بالنَّسَبِ أو الجِنسِ أو اللَّونِ.
فيكونُ هذا المنتَخَبُ من أيِّ جِنسٍ كان، سواءٌ كان عربيًّا أم أعجَميًّا، قُرَشيًّا أم غيرَ قُرَشيٍّ.
وقال ابنُ الجوزيِّ عن شروطِ الخَوارِجِ في الخليفةِ: (ومِن رأيِ الخَوارِجِ أنَّه لا تختَصُّ الإمامةُ بشَخصٍ إلَّا أن يجتَمِعَ فيه العِلمُ والزُّهدُ، فإذا اجتمعا كان إمامًا نَبَطيًّا) [608] ((تلبيس إبليس)) (ص: 96). أي: مِن أخلاطِ النَّاسِ وأوباشِهم.
وبالإضافةِ إلى ما تقدَّم فإنَّهم يُولُون جانِبَ الشَّجاعةِ والمهارةِ اهتِمامًا خاصًّا، كما عَبَّر عن هذه المسألةِ مُعاذُ بنُ جُوَينٍ الخارِجيُّ حينَ قال: (وإنَّما ينبغي أن يَليَ على المُسلِمين إذا كانوا سواءً في الفَضلِ أبصَرُهم بالحَربِ، وأفقَهُهم في الدِّينِ، وأشَدُّهم اضطِلاعًا بما حُمِّل) [609] ((تاريخ الرسل والملوك)) للطبري (5/ 175). .
أي: إنَّ الخَوارِجَ يَرَون أنَّ المهارةَ الحربيَّةَ والشَّجاعةَ من صِفاتِ الخليفةِ الضَّروريَّةِ؛ وذلك نظرًا لحروبِهم الدَّائِمةِ مع مُخالِفيهم، وهذا ما يُعَبِّرُ عنه الإباضيَّةُ بالإمامِ الشَّاري، وهو بمعنى الفِدائيِّ، وقد عَرَّفه السَّالِميُّ بقولِه: (هو الذي يتمَتَّعُ بالثِّقةِ المُطلَقةِ من قِبَلِ أتباعِه جميعًا، ويُعلِنُ الجهادَ، ولا يجوزُ له الهَرَبُ من ساحةِ المَيدانِ، ويقودُه شِعارانِ في المعركةِ: النَّصرُ أو الموتُ) [610] ((عمان تاريخ يتكلم)) (ص: 126). .
فالأئِمَّةُ عِندَ الخَوارِجِ يَنحَصِرون في أربعةٍ:
1- الإمامُ الشَّاري: وقد تقدَّم تعريفُه.
2- إمامُ الدِّفاعِ: وهو الذي يتولَّى القيادةَ وعامَّةَ أتباعِه في الحربِ في الظُّروفِ العَصيبةِ.
3- إمامُ الظُّهورِ: وهو الذي تَتِمُّ بَيعتُه في السِّلمِ عن اختيارِ ورِضا جميعِ المُسلِمين.
4- إمامُ الكِتمانِ: وهو الإمامُ الذي ترجِعُ إليه الإباضيَّةُ في حَلِّ مُشكِلاتِهم عِندَما يكونون تحتَ سَيطرةٍ حُكوميَّةٍ من غيرِ الإباضيَّةِ، ولا يَستطيعون مُناوَأَتَها بالقُوَّةِ.
وقد تقَدَّم أنَّ الخَوارِجَ ينادون بالاختيارِ الحُرِّ لرئيسِ الأمَّةِ، ويكونُ مِن بَينِ أفرادِها، لا يتمتَّعُ بأيِّ ميزةٍ غيرِ كَفاءتِه في إدارةِ شُؤونِ المُسلِمين، وقد وُصِفوا بذلك بأنَّهم جمهوريُّون وأنَّهم ديمقراطيُّون، وأنَّ نَظرتَهم هذه تستَنِدُ إلى قولِه تعالى: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى: 38] .
قال الطَّالبيُّ: (تُعتَبَرُ الخَوارِجُ مُمثِّلةً للنَّزعةِ الإجماعيَّةِ أو الاتِّجاهِ الجُمهوريِّ في الفِقهِ السِّياسيِّ، وهي نَظرةٌ قرآنيَّةٌ؛ لأنَّ مَصدَرَ السُّلطةِ في الشَّريعةِ الإسلاميَّةِ إنَّما هو اختيارُ الأمَّةِ وانتِخابُها، ومبدَأُ الشُّورى نصَّ عليه القرآنُ بلا نزاعٍ، ولا فَرْقَ في ذلك بَينَ مُسلِمٍ ومُسلِمٍ، ولا نَظَرَ إلى الجِنسِ أو اللَّونِ) [611] ((آراء الخوارج)) (ص: 121). .
وقد زَعَم أَلْبير نَصْري بأنَّ الخَوارِجَ هم أوَّلُ من نادى بأنَّ الأمَّةَ هم مَصدَرُ السُّلطةِ، ومن ثَمَّ كانوا أوَّلَ من نادى بالاختيارِ الحُرِّ للإمامِ، فقال: (إنَّ الخَوارِجَ هم أوَّلُ من ادَّعى في الإسلامِ أنَّ الأمَّةَ هي مَصدَرُ السُّلطةِ، فكان مَوقِفُهم هذا خُطوةً أُولى نحوَ القولِ بحَقِّ الاختيارِ الحُرِّ لرئيسِ الأمَّةِ، وهذا هو لُبُّ الدِّيمُقراطيَّةِ، وإن جعلوا هذه الدِّيمُقراطيَّةَ محدودةً) [612] ((أهم الفرق الإسلامية السياسية والكلامية)) (ص: 12). .
وقال السَّالِميُّ عن الإمامةِ في عُمانَ: (كانت الإمامةُ تَستَنِدُ إلى قواعِدَ وجُذورٍ قويَّةٍ، كانت تستَنِدُ إلى أساسٍ دِيمُقراطيِّ يتساوى فيه الغَنيُّ والفقيرُ والقَويُّ والضَّعيفُ أمامَ قوانينِ الشَّريعةِ السَّمحاءِ؛ ولذا فإنَّ بُذورَ الحُكمِ الجُمهوريِّ قد نبتت في عُمانَ ومجتَمَعِها الإباضيِّ، وكانت بذورًا صالحةً في تربةٍ صالحةٍ) [613] ((عمان تاريخ يتكلم)) (ص: 129، 130). .
وقال أيضًا: (إنَّ بُذورَ الدِّيمُقراطيَّةِ قد نشأت في هذا المجتَمَعِ، وتطوَّرَت في سبيلِ مَصلحةِ الشَّعبِ نَفسِه) [614] ((عمان تاريخ يتكلم)) (ص: 126). .
والواقِعُ أنَّ ما زعمه أَلْبير نَصْري من أنَّ الخَوارِجَ هم أوَّلُ من نادى بالانتِخابِ الحُرِّ للإمامِ: زعمٌ باطلٌ تاريخيًّا وموضوعيًّا؛ فالمُسلِمون الأُوَلُ اختاروا الخُلَفاءَ اختيارًا حُرًّا كما في اختيارِهم للخُلَفاءِ الرَّاشِدين رَضيَ اللهُ عنهم أجمعينَ، ولم يَخرُجوا عن قولِ اللهِ تعالى: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى: 38] ، فإذًا ليس الخَوارِجُ هم أوَّلَ من نادى باختيارِ الخليفةِ عن طريقِ الشُّورى ورِضا النَّاسِ [615] يُنظر: ((الخلافة والخوارج في المغرب العربي)) لرفعت فوزي (ص: 14). .
أمَّا القَولُ الذي انفرد به الخَوارِجُ في موضوعِ الإمامةِ، وهو عَدَمُ اشتراطِ القُرَشيَّةِ فيها، فهم في هذا الاتِّجاهِ لا يَنظُرون إلى ما ورد في ذلك من الأحاديثِ عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولا إلى ما قاله جمهورُ الصَّحابةِ والتَّابعين وسَلَفُ الأمَّةِ، بل حَكَّموا فيها مجرَّدَ رأيِهم وما تميلُ إليه نفوسُهم.
قال الأشعَريُّ: (يَرَون أنَّ الإمامةَ في قُرَيشٍ وغيرِهم إذا كان القائِمُ بها مُستَحِقًّا لذلك، ولا يَرَون إمامةَ الجائِرِ) [616] ((المقالات)) (1/ 204). .
وقال ابنُ حزمٍ: (ذهبت الخَوارِجُ كُلُّها وجمهورُ المُعتَزِلةِ وبعضُ المُرجِئةِ إلى أنَّها جائزةٌ في كُلِّ مَن قام بالكتابِ والسُّنَّةِ قُرَشيًّا كان أو عَرَبيًّا أو ابنَ عَبدٍ) [617] ((الفصل)) (4/ 89). .
واعتَبَر الشَّهْرَسْتانيُّ تجويزَ الخَوارِجِ للإمامةِ في غيرِ قُرَيشٍ من بِدَعِهم التي خرجوا من أجلِها في الزَّمَنِ الأوَّلِ، فبَعدَ أن ذَكَر خُرافَتَهم في القولِ بالاستغناءِ عن الإمامِ، قال مُصَوِّرًا رأيَهم: (وإن احتِيجَ إليه فيجوزُ أن يكونَ عَبدًا أو حُرًّا أو نَبَطيًّا أو قُرَشيًّا) [618] ((المِلَل والنِّحَل)) (1/ 116). .
وهذا الرَّأيُ قد قام به قُدَماءُ المُعتَزِلةِ أيضًا فيما يرويه ابنُ أبي الحديدِ بقولِه: (قد اختلف النَّاسُ في اشتِراطِ النَّسَبِ في الإمامةِ، فقال قومٌ من قُدَماءِ أصحابِنا -يعني المُعتَزِلةَ-: إنَّ النَّسَبَ ليس بشَرطٍ فيها أصلًا، وإنَّها تصلُحُ في القُرَشيِّ وغيرِ القُرَشيِّ، إذا كان فاضِلًا مُستجمِعًا للشَّرائِطِ المعتَبَرةِ، واجتمعت الكَلِمةُ عليه، وهو قولُ الخَوارِجِ) [619] ((شرح نهج البلاغة)) (9/ 87). .
وقال ابنُ حَجَرٍ: (قالت الخَوارِجُ وطائفةٌ من المُعتَزِلةِ: يجوزُ أن يكونَ الإمامُ غيرَ قُرَشيٍّ، وإنَّما يستَحِقُّ الإمامةَ مَن قام بالكتابِ والسُّنَّةِ سواءٌ أكان عربيًّا أو أعجَميًّا) [620] ((فتح الباري)) (13/ 118). .
ولهذا فهم -كما يُذكَرُ- تسَمَّوا بالخُلَفاءِ؛ لأنَّهم لا يَعتَبِرون القُرَشيَّةَ شَرطًا في الخلافةِ كما ينُصُّ على هذا ابنُ حَجَرٍ بقَولِه: (إنَّ الخَوارِجَ في زَمَنِ بني أميَّةَ تسَمَّوا بالخِلافةِ واحِدًا بَعدَ واحِدٍ، ولم يكونوا من قُرَيشٍ) [621] ((فتح الباري)) (13/ 119). . وهذا بناءً على أنَّ (الخلافةَ حَقٌّ لكُلِّ مُسلِمٍ، وغايتُها إقامةُ الأحكامِ) [622] ((تاريخ الفكر العربي)) لفروخ (ص: 207). .
أمَّا رأيُ الإباضيَّةِ في اشتراطِ قُرَشيَّةِ الإمامِ فهو لا يخرُجُ عن رأيِ عامَّةِ الخَوارِجِ في عَدَمِ اشتراطِ هذا الشَّرطِ، وعَدَمِ ارتباطِها بجِنسٍ أو لَونٍ أو أُسرةٍ أو قبيلةٍ، بل المدارُ فيمَن يَصلُحُ لها أن يكونَ كُفْئًا في دينِه وخُلُقِه وعِلمِه وعَقلِه، فإذا وُجِد عَدَدٌ من النَّاسِ فيهم هذه الكفاءةُ أمكن حينَئذٍ النَّظَرُ إلى ناحيةِ الجِنسِ وغيرِه من أسبابِ المفاضَلةِ.
وهذا ما يقولُه علي مَعمَر، ومِثلُه الحارثيُّ الإباضيُّ عن الخلافةِ: إنَّها لا يمكِنُ أن تخضَعَ لنظامٍ وراثيٍّ، ولا أن ترتَبِطَ بجِنسٍ أو قبيلةٍ أو أُسرةٍ أو لونٍ، إنَّما يجِبُ أن يُشتَرَطَ فيها الكفاءةُ المُطلَقةُ: الكفاءةُ الدِّينيَّةُ، والكفاءةُ الخُلُقيَّةُ، والكفاءةُ العِلميَّةُ، والكفاءةُ العقليَّةُ، فإذا تساوت هذه الكفاءاتُ في مجموعةٍ من النَّاسِ أمكن أن تُجعَلَ الهاشميَّةُ أو القُرَشيَّةُ أو العُروبةُ من أسبابِ المُفاضَلةِ، أو من وسائِلِ التَّرجيحِ، أمَّا في غيرِ ذلك فليس لها حِسابٌ [623] يُنظر: ((الإباضية في موكب التاريخ)) لمعمر (ص: 63). ويُنظر: ((عمان تاريخ يتكلم)) للسالمي (ص: 129)، ويُنظر: ((العقود الفضية)) للحارثي (ص: 290). .
وقال علي مَعمَر: (لم يكُنِ الإباضيَّةُ أو الخَوارِجُ هم أوَّلَ من قال بهذا، وإنَّما سبقَتْهم إليه كبارُ الصَّحابةِ عِندَما ناقَشوا أوَّلَ خليفةٍ في الإسلامِ)، واستدلَّ المؤلِّفُ على هذا بالأدِلَّةِ الآتيةِ:
1- قَولُ الأنصارِ يومَ السَّقيفةِ: (منَّا أميرٌ ومنكم أميرٌ) [624] أخرجه البخاري (6830) مطولًا من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عباس رَضِيَ اللهُ عنهما . ولكِنَّ هذا الدَّليلَ يتطَرَّقُ إليه ضِدُّه، وهو احتمالُ أن يكونوا قالوا هذا القولَ قَبلَ أن يَعرِفوا النَّصَّ الذي يُثبِتُ الخلافةَ في قُرَيشٍ؛ ولهذا فقد رجَعوا إلى رُشدِهم حينَ بَيَّنَ لهم أبو بكرٍ رَضيَ اللهُ عنه هذه المسألةَ.
2- قولُ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه: (لو كان سالمٌ مولى حُذيفةَ حيًّا لبايَعْتُه) [625] أخرجه ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (58/404) بلفظ: (ولو كان سالمٌ مولى أبي حُذيفةَ حَيًّا لاستخلَفْتُه). وذكر ابنُ عساكر أنَّ فيه: شَهْرَ بنَ حَوشَبٍ لم يُدرِكْ عُمَرَ. وأخرجه الطبري في ((التاريخ)) (4/ 227) من روايةِ أبي مِخنَفٍ، وهو إخباريٌّ تالفٌ. فالأثَرُ لا يصِحُّ. ؛ فلو كان غيرُ القُرَشيِّ لا يَصِحُّ أن يتولَّى لَمَا قال ذلك، وقد أجيب عن هذا وما في معناه ممَّا ورد على لسانِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه باحتمالينِ ذَكَرهما ابنُ حَجَر، وهما:
- إمَّا أن يكونَ الإجماعُ انعقد بَعدَ عُمَرَ على اشتراطِ أن يكونَ الخليفةُ قُرَشيًّا.
- وإمَّا أن يكونَ اجتهادُ عُمَرَ في ذلك قد تغَيَّرَ [626] يُنظر: ((فتح الباري)) (13/ 119). .
3- استَنْتَجوا من قولِ أبي بكرٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ العَرَبَ لا تَدِينُ إلَّا لهذا الحَيِّ من قُرَيشٍ [627] وردت هذه اللَّفظةُ في قولِ أبي بكرٍ: (ما ذكَرْتُم فيكم من خيرٍ فأنتم له أهلٌ، ولن يُعرَفَ هذا الأمرُ إلَّا لهذا الحيِّ من قُرَيشٍ، هم أوسَطُ العَرَبِ نَسَبًا ودارًا، وقد رَضِيتُ لكم أحَدَ هذينِ الرَّجُلَينِ، فبايِعوا أيَّهما شِئتُم). أخرجه البخاري (6830) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. بأنَّ هذا تعليلٌ لطاعةِ العَرَبِ لهم، فإذا تغيَّر الحالُ تغيَّر موضِعُ الاختيارِ [628] يُنظر: ((الإباضية بين الفرق)) (ص: 464). ، وهكذا علَّلوه مع أنَّه ظاهِرٌ في أحقيَّةِ قُرَيشٍ بالخلافةِ، وهذا ما فهِمَه منه الصَّحابةُ المُهاجِرون منهم والأنصارُ بدليلِ تسليمِهم بالطَّاعةِ لأبي بكرٍ رَضيَ اللهُ عنه حينما بَيَّنَ لهم هذا الدَّليلَ.
ولا يخفى أنَّ دعوى الخَوارِجِ استِحقاقَ الخلافةِ لِمن كان أهلًا لها من أيِّ طبقةٍ كان قد اجتَذَبت بعضَ الموالي والعَجَمِ مُتطَلِّعين إلى الخلافةِ، ومن الدَّلائِلِ على ذلك أنَّه لَمَّا اشتدَّ النِّزاعُ بَينَ الخَوارِجِ انفصل قسمٌ كبيرٌ منهم عن قَطَرِيٍّ ووَلَّوا عليهم عبدَ رَبِّه الصَّغيرَ، وكان أكثَرُهم من الموالي والعَجَمِ [629] يُنظر: ((الكامل)) للمبرد (2/ 237). .
والواقِعُ أنَّ الخَوارِجَ وإن نادَوا بتلك الشِّعاراتِ البرَّاقةِ كانوا في غايةِ العَصَبيَّةِ للعُروبةِ، وكان أكثَرُهم من ربيعةَ، وكانت تلك العَصَبيَّةُ ظاهِرةً فيهم، فإن تولَّى أحدُ الموالي ولايةً، فإنَّما هي حالةٌ طارئةٌ أملَتْها الظُّروفُ رَيثَما ينتَخِبون عربيًّا مكانَه، ومن الموالي: (أبو طالوتَ سالِمُ بنُ مطَرٍ الذي قاد الحرَكةَ في مراحِلِها الأُولى في اليمامةِ، وثابتٌ التَّمَّارُ الذي اختاره الخَوارِجُ رئيسًا لهم بَعدَ عَزلِ نَجْدةَ، ولكِنَّه خُلِع بسُرعةٍ) [630] ((البحرين في صدر الإسلام)) للعاني (ص: 133). . وأرجَعَ البعضُ هذه السُّرعةَ في عَزلِه إلى العَصَبيَّةِ التي كانت مُستَعِرةً بَينَ عَرَبِ الخَوارِجِ [631] يُنظر: ((البحرين في صدر الإسلام)) للعاني (ص: 137). .
وقد ردَّ كثيرٌ من العُلَماءِ على الخَوارِجِ رأيَهم في جوازِ تولِّي الإمامةِ من غيرِ قُرَيشٍ بناءً على الأحاديثِ الواردةِ في أحقيَّةِ قُرَيشٍ بالخلافةِ، وهذه الأحاديثُ منها ما جاء خَبَرًا مُطلَقًا عن الخلافةِ أنَّها في قُرَيشٍ، ومنها ما جاء مقيَّدًا بشَرطٍ.
أمَّا الأحاديثُ المُطلَقةُ فمنها:
1- عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يزالُ هذا الأمرُ في قُرَيشٍ ما بَقِيَ منهم اثنانِ )) [632] رواه البخاري (3501) واللَّفظُ له، ومُسلِم (1820). .
2- عن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((النَّاسُ تَبَعٌ لقُرَيشٍ في هذا الشَّأنِ؛ مُسلِمُهم تَبَعٌ لمُسلِمهم، وكافِرُهم تَبَعٌ لكافِرِهم )) [633] رواه البخاري (3495)، ومُسلِم (1818). .
3- عن جابِرٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((النَّاسُ تَبَعٌ لقُرَيشٍ في الخَيرِ والشَّرِّ)) [634] رواه مُسلِم (1819). .
فهذه أحاديثُ عامَّةٌ، وقد ورد ما يُقَيِّدُ عُمومَها باستقامةِ قُرَيشٍ على الدِّينِ والمحافظةِ عليه، كما جاء في حديثِ مُعاويةَ بنِ أبي سُفيانَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه قال: إنِّي سَمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((إنَّ هذا الأمرَ في قُرَيشٍ لا يُعاديهم أحَدٌ إلَّا كَبَّه اللهُ على وَجهِه ما أقاموا الدِّينَ )) [635] رواه البخاري (3500). .
وقد أورد ابنُ حَجَرٍ رواياتٍ عِدَّةً في حَصرِ الخلافةِ في قُرَيشٍ، ثُمَّ استشهد بكلامِ العُلَماءِ في هذا البابِ: ومنه قولُ القُرطَبيِّ عن حديثِ: ((... ما بَقِيَ منهم اثنانِ)): (هذا الحديثُ خَبَرٌ عن المشروعيَّةِ، أي: لا تنعَقِدُ الإمامةُ الكُبرى إلَّا لقُرَيشٍ مهما وُجِد منهم أحَدٌ).
وقال عِياضٌ: (اشتراطُ كونِ الإمامِ قُرَشيًّا مَذهَبُ العُلَماءِ كافَّةً، وقد عدُّوها في مسائِلِ الإجماعِ، ولم يُنقَلْ عن أحدٍ من السَّلَفِ فيها خلافٌ، وكذلك مَن بَعدَهم في جميعِ الأمصارِ).
ولكِنْ ذَكرَ ابنُ حَجَرٍ أنَّه لا يَتِمُّ القولُ بالإجماعِ إلَّا بتأويلِ ما ورد عن عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه في إرادتِه جَعْلَ الخلافةِ في معاذِ بنِ جَبَلٍ وهو أنصاريٌّ ليس من قُرَيشٍ، وذلك في قولِه: (إن أدرَكَني أجَلي وأبو عُبَيدةَ حيٌّ استخلَفْتَه... فإن أدرَكَني أجلي وقد مات أبو عُبَيدةَ استخلَفْتُ معاذَ بنَ جَبَلٍ) [636] أخرجه أحمد (108)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (25/460). حسنه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (108). فأجاب ابنُ حَجَرٍ عن الإجماعِ الذي ذكَره عياضٌ بأنَّه: (لعلَّ الإجماعَ انعقد بَعدَ عُمَرَ على اشتراطِ أن يكونَ الخليفةُ قُرَشيًّا، أو تغيَّر اجتهادُ عُمَرَ في ذلك) [637] ((فتح الباري)) (13/ 119). .
وقد ذكَر الإجماعَ على حَصرِ الخلافةِ في قُرَيشٍ النَّوَويُّ أيضًا، فقال بَعدَ ذِكرِه للأحاديثِ الدَّالَّةِ على ذلك: (هذه الأحاديثُ وأشباهُها دليلٌ ظاهِرٌ أنَّ الخِلافةَ مختَصَّةٌ بقُرَيشٍ لا يجوزُ عَقدُها لأحَدٍ من غيرِهم، وعلى هذا انعقد الإجماعُ في زمَنِ الصَّحابةِ فكذلك بَعدَهم، ومَن خالف فيه من أهلِ البِدَعِ أو عَرَض بخِلافٍ مِن غَيرِهم فهو محجوجٌ بإجماعِ الصَّحابةِ والتَّابعين فمَن بَعدَهم بالأحاديثِ الصَّحيحةِ) [638] ((شرح مُسلِم)) للنووي (12/ 200). .
وقال أيضًا: (لا اعتدادَ بقولِ النَّظَّامِ ومن وافَقه من الخَوارِجِ وأهلِ البِدَعِ أنَّه يجوزُ كَونُه من غيرِ قُرَيشٍ) [639] ((شرح مُسلِم)) للنووي (12/ 200). .
وذكَر البَغداديُّ أنَّ من أصولِ السَّلَفِ أنَّهم (قالوا: مِن شَرطِ الإمامةِ النَّسَبُ مِن قُرَيشٍ) [640] ((الفَرْق بين الفِرَق)) (ص: 349). .
وأكَّد هذا المعنى أيضًا ابنُ حَزمٍ، فقَرَّر عن عدَدٍ من الفِرَقِ الإسلاميَّةِ أنَّهم يرَون وُجوبَ جَعْلِ الإمامةِ في قُرَيش في وَلَدِ فِهرِ بنِ مالِكٍ، وأنَّ مِن هذه الفِرَقِ فِرقةَ أهلِ السُّنَّةِ، فقال: (اختلف القائِلون بوُجوبِ الإمامةِ على قُرَيشٍ؛ فذهب أهلُ السُّنَّةِ وجميعُ الشِّيعةِ وبَعضُ المُعتَزِلةِ وجمهورُ المُرجِئةِ إلى أنَّ الإمامةَ لا تجوزُ إلَّا في قُرَيشٍ، خاصَّةً من كان وَلَدَ فِهرِ بنِ مالِكٍ) [641] ((الفصل)) (4/ 89). .
ثمَّ قال: (فصَحَّ أنَّه ليس يجوزُ البتَّةَ أن يُوقَعَ اسمُ الإمامةِ مُطلَقًا ولا اسمُ أميرِ المُؤمِنين إلَّا على القُرَشيِّ لجميعِ أُمورِ المُؤمِنين كُلِّهم، أو الواجِبِ له ذلك وإن عصاه كثيرٌ من المُؤمِنين... وكذلك اسمُ الخلافةِ بإطلاقٍ لا يجوزُ أيضًا إلَّا لِمَن هذه صِفتُه) [642] ((الفصل)) (ص: 90). .
ومع ما ورد من الأحاديثِ في هذا المقامِ وأقوالِ العُلَماءِ، فإنَّ الخَوارِجَ لم يأخُذوا بذلك وتمسَّكوا ببِدعتِهم [643] يُنظر: ((البدعة)) لعزت عطية (ص: 409). .
ولا شكَّ أنَّ الخَوارِجَ أو بعضَهم قد سمِعَ ما قيل في يومِ السَّقيفةِ؛ إذ إنَّ هذا الموقِفَ كان معروفًا في ذِهنِ كُلِّ واحدٍ، فإنَّه ما زال طريًّا في مسامِعِ النَّاسِ حينَ خرج الخَوارِجُ على عليٍّ، فيَبعُدُ ألَّا يَسمَعَ أحدٌ منهم بما رُوِيَ هناك من أنَّ الأئمَّةَ في قُرَيشٍ.
وقال ابنُ حَجَرٍ مُبطِلًا احتجاجَ من احتَجَّ بتوليةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لعبدِ اللهِ بنِ رَواحةَ وزيدِ بنِ حارِثةَ وأسامةَ وغَيرِهم على أنَّ الخلافةَ غيرُ لازمةٍ في قُرَيشٍ بقَولِه: (وأمَّا ما احتجَّ به مَن لم يُعَيِّنِ الخلافةَ في قُرَيشٍ من تأميرِ عبدِ اللهِ بنِ رواحةَ وزيدِ بنِ حارِثةَ وأسامةَ وغيرِهم في الحُروبِ، فليس من الإمامةِ العُظمى في شيءٍ، بل فيه أنَّه يجوزُ للخليفةِ استنابةُ غيرِ القُرَشيِّ في حياتِه) [644] ((فتح الباري)) (13/ 119). .
وفي الجُملةِ فإنَّ المدارَ الذي تجتمِعُ عليه الأحاديثُ أنَّ قُرَيشًا أَولى بالإمامةِ من غيرِهم إذا كانوا صالِحين، وإن كان في المجتَمَعِ غَيرُهم من أهلِ الصَّلاحِ، وأمَّا إذا لم يكونوا كذلك فوجب توليةُ الصَّالحِ حيثُ لم يأمُرْنا الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بتوليةِ غيرِ الصَّالحين من قُرَيشٍ أو من غيرِهم.
والأمرُ بَيِّنٌ في هذا لولا أنَّ الخَوارِجَ غَلَب عليهم الحِقدُ واتِّباعُ ما تهوى أنفُسُهم، فأَنِفوا من الرُّجوعِ إلى ما تقتَضيه الأحاديثُ من أولويَّةِ قُرَيشٍ إذا كانوا صالحين، وحَكَموا بالأولويَّةِ لغيرِ قُرَيشٍ.
ولا ينبغي جَحدُ فَضلِ قُرَيشٍ ومِيزتُهم على غيرِهم عِندَ صلاحِهم، فقد وردت أحاديثُ كثيرةٌ في بيانِ ذلك، ويكفيهم فضلًا اختيارُ اللهِ لرَسولِه منهم.

انظر أيضا: