موسوعة الفرق

المَطلَبُ الأوَّلُ: حُكمُ الإمامةِ عِندَ الخَوارِجِ


الإمامةُ مَنصِبٌ خطيرٌ لا بُدَّ من إقامتِه؛ إذ لا يمكِنُ أن ينعَمَ النَّاسُ بالحياةِ ويَسودَ الأمنُ بَينَهم وتَنتَظِمَ الأمورُ إلَّا بحاكِمٍ يكونُ المرجِعَ في تطبيقِ الشَّرعِ وحمايةِ الأمَّةِ وإقامةِ العَدلِ بَينَ أفرادِها.
وقد أطبَق على هذا جميعُ العُقلاءِ، فماذا كان موقِفُ الخَوارِجِ إزاءَ هذه المسألةِ؟
الجوابُ أنَّهم انقَسَموا في هذه المسألةِ إلى فريقَينِ:
الفَريقُ الأوَّلُ: وهم عامَّةُ الخَوارِجِ، وهؤلاء يُوجِبون نَصْبَ الإمامِ والانضواءَ تحتَ رايتِه والقِتالَ معه ما دام على الطَّريقِ الأمثَلِ الذي ارتأَوه له.
الفريقُ الثَّاني: وهم المُحَكِّمةُ والنَّجَداتُ، وهؤلاء يَرَونَ أنَّه قد يُستغنى عن الإمامِ ولا تعودُ إليه حاجةٌ إذا عَرَف كُلُّ واحدٍ الحَقَّ الذي عليه للآخَرِ فوفَّاه حَقَّه، ولم يتعَدَّ أحَدٌ على أحدٍ بظُلمٍ أو أذًى، ولكِنَّهم يقولون: إنِ احتيجَ إليه فمِن أي جِنسٍ كان ما دام كُفْئًا لتَوَلِّي الإمامةِ، وهو ما تقولُ به عامَّةُ الخَوارِجِ.
قال ابنُ حزمٍ: (اتَّفق جميعُ أهلِ السُّنَّةِ وجميعُ المُرجِئةِ وجميعُ الشِّيعةِ وجميعُ الخَوارِجِ على وُجوبِ الإمامةِ، وأنَّ الأمَّةَ واجِبٌ عليها الانقيادُ لإمامٍ عادِلٍ يقيمُ فيهم أحكامَ اللهِ ويَسوسُهم بأحكامِ الشَّريعةِ التي أتى بها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، حاشا النَّجَداتِ من الخَوارِجِ؛ فإنَّهم قالوا: لا يلزَمُ النَّاسَ فَرضُ الإمامةِ، وإنَّما عليهم أن يتعاطَوا الحَقَّ بَينَهم) [593] ((الفصل)) (4/ 87). .
وقال المسعوديُّ: (إنَّ النَّجَداتِ يقولون: إنَّ الإمامةَ غيرُ واجِبٍ نَصبُها) [594] ((مروج الذهب)) (3/ 236). .
وقال الأشعَريُّ: (حكى زُرقانُ عن النَّجَداتِ أنَّهم يقولون: إنَّهم لا يحتاجون إلى إمامٍ، وإنَّما عليهم أن يُعمِلوا كتابَ اللهِ فيما بَينَهم) [595] ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 205). .
وقال الشَّهْرَسْتانيُّ عن النَّجَداتِ حاكيًا عن الكعبيِّ: (أجمعت النَّجَداتُ على أنَّه لا حاجةَ للنَّاسِ إلى إمامٍ قطُّ، وإنَّما عليهم أن يتناصَفوا فيما بَينَهم، فإنْ هم رأوا أنَّ ذلك لا يتِمُّ إلَّا بإمامٍ يحمِلُه عليه فأقاموه جاز) [596] ((المِلَل والنِّحَل)) (1/ 124)، ويُنظر: ((تاريخ الفكر العربي)) لفروخ (ص: 207). .
فالأمرُ إذًا عِندَهم راجِعٌ إلى المصلحةِ وما تقتضيه لا إلى أنَّه واجِبٌ وُجوبًا شَرعيًّا يتحتَّمُ عليهم إنفاذُه.
أمَّا المُحَكِّمةُ فقال الشَّهْرَسْتانيُّ عن رأيِهم في الاستغناءِ عن نصبِ الإمامِ: (جوَّزوا أنَّه لا يكونُ في العالَمِ إمامٌ أصلًا) [597] ((المِلَل والنِّحَل)) (1/ 116). ، فهم كما ذَكَر كانوا أسبَقَ إلى القولِ بالاستغناءِ عن الإمامِ من النَّجَداتِ، ولكِنْ لم يشتَهِرْ هذا القولُ على ألسِنةِ العُلَماءِ كما اشتَهَر عن النَّجَداتِ، إلَّا ما ذكَره الشَّهْرَسْتانيُّ عنهم.
وربَّما كان ذلك منهم في أوَّلِ أمرِهم؛ حيثُ نادوا: (لا حُكمَ إلَّا للهِ) وفَهِم الإمامُ على أنَّ مِن شِعارِهم هذا قولَهم بعدَمِ الحاجةِ إلى أميرٍ؛ ولهذا ردَّ عليهم قائلًا: (كَلِمةُ حَقٍّ يرادُ بها باطِلٌ، نعَمْ، إنَّه لا حُكمَ إلَّا للهِ، ولكِنْ هؤلاء يقولون: لا إمرةَ. وإنَّه لا بُدَّ للنَّاسِ من أميرٍ بَرٍّ أو فاجرٍ يعمَلُ في إمرتِه المُؤمِنُ، ويستمتِعُ فيها الكافِرُ، ويبلُغُ اللهُ فيها الأجَلَ، ويُجمَعُ به الفيءُ، ويُقاتَلُ به العَدُوُّ، وتأمَنُ به السُّبُلُ، ويؤخَذُ به للضَّعيفِ من القويِّ؛ حتَّى يستريحَ بَرٌّ، ويُستراحَ من فاجِرٍ) [598] ((شرح نهج البلاغة)) لابن أبي حديد (2/ 307). .
ولكِنَّ المُحَكِّمةَ لم يَبْقَوا على هذا الرَّأيِ فيما بعدُ، بل كان أوَّلُ ما عَمِلوه بَعدَ انفصالِهم عن عَليٍّ رَضيَ اللهُ عنه هو توليَّةَ عبدِ اللهِ بنِ وَهبٍ الرَّاسبيِّ؛ ولهذا قال ابنُ أبي الحديدِ مجيبًا عن قولِ عَليٍّ رَضيَ اللهُ عنه في الخَوارِجِ: إنَّهم يقولون: لا إمرةَ: (قيل: إنَّهم كانوا في بَدءِ أمرِهم يقولون ذلك ويذهَبون إلى أنَّه لا حاجةَ إلى الإمامِ، ثُمَّ رجَعوا عن ذلك القولِ لَمَّا أمَّروا عليهم عبدَ اللهِ بنَ وَهبٍ الرَّاسبيَّ) [599] ((شرح نهج البلاغة)) (2/ 308). .
أمَّا ما قيل عن الإباضيَّةِ من أنَّ رأيَهم هو القولُ بالاستغناءِ عن نَصبِ الإمامِ فقد ذهب إليه المؤرِّخُ البريطانيُّ لُورِيمَرُ، وفي ذلك قال: (يختَلِفُ الإباضيُّون الأُوَلُ عن كُلٍّ من السُّنَّةِ والشِّيعةِ في رفضِهم الرَّأيَ القائِلَ بأنَّ الإسلامَ في حاجةٍ إلى رئيسٍ ظاهرٍ دائمٍ). وقال أيضًا: (وفي حينِ سمَحوا بتعيينِ إمامٍ أو زعيمٍ رُوحيٍّ تعيينًا قانونيًّا إذا ما اقتضت الظُّروفُ، أصَرُّوا بشكلٍ خاصٍّ على أن يكونَ منتَخَبًا في كُلِّ حالةٍ، وألَّا تكونَ الخلافةُ أو الإمامةُ وراثيَّةً) [600] ((دليل الخليج)) (6/ 3303، 3404). .
ولكِنَّ الإباضيِّينَ يَنْفون هذا القولَ عنهم ويَعُدُّونه من مزاعِمِ خُصومِهم وأنَّها إشاعةٌ من الإشاعاتِ المُغِرضةِ، وأنَّ من يزعُمُ أنَّ الإباضيَّةَ يُجيزون أن تبقى الأمَّةُ المُسلِمةُ بدونِ دَولةٍ مخطئٌ وجاهِلٌ بالمَذهَبِ الإباضيِّ وقواعِدِه. كما قال علي يحيى مَعمَر. ويُنقَلُ في هذا عن السَّالِميِّ في شرحِه على مُسنَدِ الرَّبيعِ بنِ حبيبٍ قولُه: (الإمامةُ فرضٌ بالكِتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ والاستِدلالِ) [601] يُنظر: ((الإباضية بين الفرق)) (ص: 289- 290). .
وقال السَّالِميُّ:
إنَّ الإمامةَ فَرضٌ حينما وَجَبَت
شرُوطُها لا تكُنْ عن رَفْضِها غَفِلَا
وباطِلٌ سيرةٌ فيها الإمامةُ في اثنينِ
لو بلَغَا في المجْدِ ما كَمَلَا [602] ((غايَة المراد)) (ص: 18). .
وقال شارحُ "غايةُ المرادِ": (الإمامُ هو واسِطةُ عِقدِ المُسلِمين، ونظامُ الإمامةِ شُرِعَ في الإسلامِ من أجْلِ جمعِ الشَّتاتِ وتأليفِ القُلوبِ وتقريبِ القاصي) [603] ((شرح غاية المراد)) للخليلي (ص: 305). .
وبهذا يتبيَّنُ مَوقِفُ الإباضيَّةِ من الإمامةِ، وينتهي القولُ إلى أنَّهم يوجِبون نَصْبَ الإمامِ كغَيرِهم من النَّاسِ.
وما ذهب إليه النَّجَداتُ في هذا المقامِ يُعتَبَرُ خُروجًا على إجماعِ عامَّةِ الخَوارِجِ الذين يَرَون ضرورةَ نَصبِ الإمامِ.
والواقِعُ أنَّه لا يَشُكُّ إنسانٌ عاقِلٌ في أنَّ بقاءَ الأمَّةِ من دونِ إمامٍ يؤدِّي بالحياةِ إلى الفوضى والظُّلمِ، وتَشتيتِ الكَلِمةِ وإثارةِ الحُروبِ المُدَمِّرةِ؛ فالقَولُ بالاستغناءِ عن الإمامِ قَولٌ في غايةِ البُعدِ والسُّقوطِ.
قال النَّوَويُّ: (أجمعوا -أي المُسلِمون- على أنَّه يجِبُ على المُسلِمين نَصبُ خليفةٍ، ووجوبُه بالشَّرعِ لا بالعقلِ) [604] ((شرح مُسلِم)) (12/ 205). .
وهو رأيٌ واضِحٌ لا حاجةَ إلى الإطالةِ فيه، ولكِنَّ النَّجَداتِ لم تلتَفِتْ إلى النَّاحيةِ الشَّرعيَّةِ بل التفَتَت إلى العقلِ، ورأت أنَّه لا يمنَعُ أن يتناصَفَ النَّاسُ فيما بَينَهم إذا وُجِدت الأُلفةُ والمحبَّةُ، وهذا أقرَبُ إلى الخيالِ! فيريدُ النَّجَداتُ بزَعمِهم هذا أن ينشَأَ مجتَمَعٌ مثاليٌّ يعرِفُ فيه كُلُّ شيءٍ واجِبَه تِجاهَ مجتَمَعِه، فيَقِفُ عِندَ حَقِّه، تحجُزُه أخلاقُه عن ارتكابِ أيِّ ضَرَرٍ بالغيرِ، كُلُّ شخصٍ قد جَعَل القرآنَ إمامَه وحاكِمَه يَعرِفُ فيه واجِبَه نحوَ غَيرِه، ثُمَّ إنَّ النَّجَداتِ لم يُطَبِّقوا هذا القولَ ولم يستَغْنوا عن نَصبِ أميرٍ منهم؛ فأميرُهم نَجْدةُ بنُ عامِرٍ نفسُه -وهو أوَّلُ زعيمٍ لهم- لم يُطبِّقْ هذا الرَّأيَ، بل كان هو الحاكِمَ على فرقتِه بَعدَ إزاحتِه لأبي طالوتَ، ولقد كان يُرسِلُ وُلاتَه على المناطِقِ التي تحتَ سيطرتِه، ثُمَّ كان لا يُرسِلُ سريَّةً أو جيشًا إلَّا اختار لهم أميرًا، كما أرسَل ابنَه إلى القَطيفِ أميرًا على سَريَّةٍ، ومن هنا يَشُكُّ الطَّالبيُّ في صِحَّةِ ما نُسِب إلى نَجْدةَ، وأنَّه كما قال: (يمكِنُ أن يكونَ أصحابُه هم الذين أحدَثوه مِن بَعدُ، ولعَلَّهم أوَّلوا قولَ المُحَكِّمةِ الأُولى: لا حُكمَ إلَّا للهِ، وفَهِموا منه أنَّه لا حاجةَ إلى إمامٍ ولا إلى حاكمٍ)، ولكِنَّه عاد فاعتذَر لهم عن هذا الرَّأيِ الذي يُنسَبُ إليهم بأنَّه ناتِجٌ عن حياتِهم القَبَليَّةِ، وذلك في قولِه: (ومِن وِجهاتِ النَّظَرِ التي أبداها هؤلاء مُبَرِّرٌ -يبدو أنَّه من طبيعةِ الحياةِ العَرَبيَّةِ القَبَليَّةِ- وهو أنَّ النَّاسَ مُتساوون كأسنانِ المُشطِ، فكيف تجِبُ طاعةُ أحَدِهم لِمَن هو نِدٌّ له؟! ونظيرُ هذا بالنِّسبةِ لعامَّةِ النَّاسِ كذلك القولُ بالنِّسبةِ للمُجتَهِدين، فإذا تساوَوا في الفَضلِ والتَّدَيُّنِ والاجتهادِ والمعارِفِ، فكيف نستطيعُ أن نُلزِمَهم بطاعةِ أحَدِهم؟!) [605] ((آراء الخوارج)) (ص: 125). .
ونُضيفُ إلى التَّبريرِ السَّابِقِ الذي قدَّمه الطَّالبيُّ لمبدأِ النَّجَداتِ عوامِلَ أُخرى يرجِعُ إليها بعضُ الدَّارِسين الإباضيِّين، هذا المبدأُ الذي يجيزُ النَّجَداتُ فيه الاستغناءَ عن الإمامةِ، فيَذكُرُ السَّالِميُّ عن نَظَرِ النَّجَداتِ في هذه المسألةِ ما حاصِلُه:
1- أنَّ النَّظَريَّةَ الأساسيَّةَ التي ارتكَزَت عليها فِكرةُ الخَوارِجِ -وخُصوصًا الأزارِقةَ والصُّفْريَّةَ والنَّجَداتِ- كانت المبدَأَ القائِلَ: لا حُكمَ إلَّا للهِ، والمعنى الحرفيُّ لهذا المبدأِ يشيرُ صراحةً إلى أنَّه لا ضَرورةَ لوُجودِ الحُكومةِ مُطلَقًا.
2- أنَّ الحُكمَ (ليس من اختصاصِ البَشَرِ، بل تهيمِنُ عليه قوَّةٌ عُلويَّةٌ).
3- أنَّ الضَّروريَّ هو تطبيقُ أحكامِ الشَّرعِ والتَّمَشِّي بموجِبِ القرآنِ الكريمِ والسُّنَّةِ، وإذا استطاع المُسلِمون تطبيقَ هذه الأحكامِ والتَّمشِّيَ حسَبَ ما جاء به الإسلامُ؛ فإنَّه لا ضرورةَ مُطلَقًا لوجودِ خليفةٍ أو إمامٍ، وعلى هذا فالإمامةُ ليست التِزامًا دينيًّا يجِبُ تنفيذُه.
4- أنَّ وُجودَ الخليفةِ أو الإمامِ لا يكونُ مفيدًا في الأوقاتِ كُلِّها؛ لأنَّه ربَّما يكونُ بسَبَبٍ من الأسبابِ عاجِزًا عن الاتِّصالِ بجميعِ أتباعِه، وينحَصِرُ في بِطانةٍ قليلةٍ من الأفرادِ، وينعَزِلُ عن الأغلبيَّةِ، ومن ثمَّ يكونُ أبعَدَ ما يكونُ عن التَّفَهُّم لمشاكِلِ المُسلِمين.
5- على الخليفةِ أن يتمَتَّعَ بكفاءاتٍ مُعَيَّنةٍ خاصَّةٍ تجعَلُه جديرًا بتولِّي أمورِ المُسلِمين، ومن المحتَمَلِ ألَّا يكونَ هذا الرَّجُلُ الذي يحمِلُ تلك الكفاءاتِ مُتوَفِّرًا في جميعِ الأوقاتِ، ويَنتِجُ عن القَولِ بضرورةِ وُجودِ الخليفةِ أن نقَعَ في مسألتينِ محذورتَينِ:
- انتخابُ خليفةٍ لا تتوفَّرُ فيه الكفاءاتُ المطلوبةُ، وبذلك نخالِفُ النُّصوصَ والمَنطِقَ.
- أو ألَّا نُعَيِّنَ إمامًا، وبذلك نخالِفُ الافتراضَ القائِلَ بضرورةِ وُجودِ الخليفةِ.
6- أنَّ انتخابَ الإمامِ قد يكونُ سببًا في إيجادِ حَربٍ أهليَّةٍ بَينَ المُسلِمين أنفُسِهم.
7- أنَّ كِتابَ اللهِ لم يُبَيِّنْ حتميَّةَ وُجودِ إمامٍ، وإنَّما أبان وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى: 38] .
8- أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يُشِرْ صراحةً أو وَضَع شُروطًا لوجودِ خُلَفاءَ مِن بَعدِه [606] يُنظر: ((عمان تاريخ يتكلم)) للسالمي (ص: 123). .
ولا شَكَّ أنَّ كُلَّ تلك المُبَرِّراتِ التي قِيلَت عن رأيِ النَّجَداتِ كُلُّها اعتذاراتٌ غيرُ مُفيدةٍ في تبريرِ رأيِهم هذا في مقابلِ إجماعِ السَّلَفِ وعامَّةِ الأمَّةِ، ومنهم الخَوارِجُ، على وجوبِ نَصبِ الإمامِ، وما استَنَد إليه هذا الوُجوبُ من أدِلَّةٍ شرعيَّةٍ وضروراتٍ اجتماعيَّةٍ.
قال ابنُ حزمٍ بَعدَ أن ذَكَر أنَّ القَولَ بوُجوبِ الإمامةِ قد أجمعت عليه جميعُ أهلِ السُّنَّةِ وجميعُ المُرجِئةِ وجميعُ الشِّيعةِ وجميعُ الخَوارِجِ: (وقولُ هذه الفِرقةِ (يعني النَّجَداتِ) ساقِطٌ يكفي من الرَّدِّ عليه وإبطالِه إجماعُ كُلِّ مَن ذَكَرْنا على بُطلانِه) [607] ((الفصل)) (4/ 87). .
والواقِعُ أنَّ تلك المُبَرِّراتِ التي ذُكِرَت لرأيِ النَّجَداتِ مُبَرِّراتٌ غيرُ صحيحةٍ؛ فليس النَّاسُ سواءً، بل هم متفاوِتون في الكمالِ، بحيث يمكِنُ اختيارُ أفضَلِهم لإمامةِ المُسلِمين، والتِزامُ النَّاسِ بالأحكامِ الشَّرعيَّةِ يمنَعُ من وقوعِ الحَربِ الأهليَّةِ بَينَهم بسَبَبِ اختيارِ الإمامِ كما يُقالُ.
وأمَّا القولُ بعَدَمِ وُجودِ الإنسانِ الكامِلِ فإنَّه لا يمنَعُ مِن نَصبِ الإمامِ؛ حيثُ يُختارُ لهذا المَنصِبِ أفضَلُ الموجودين، ومن التَّصوُّرِ السَّاذَجِ القَولُ بتناصُفِ النَّاسِ فيما بَينَهم وقيامِهم بواجباتِهم وحِفظِهم لحقوقِ الآخَرينَ دونَ وجودِ قيادةٍ حاكِمةٍ يرجِعُ إليها النَّاسُ في كُلِّ ذلك طوعًا أو كَرهًا حتَّى تستقيمَ أُمورُ الأمَّةِ، ومدارُ الأمرِ بَعدَ ذلك على التِزامِ الإمامِ بواجباتِه الشَّرعيَّةِ، فلا يَجعَلُ بَينَه وبَينَ الأمَّةِ من الحُجُبِ ما يحولُ بَينَه وبَينَ رعايةِ مَصالِحِهم؛ فذلك مَناطُ الحُكمِ بضرورةِ الإمامِ شَرعًا وعَقلًا.

انظر أيضا: