موسوعة الفرق

الفَرعُ الأوَّلُ: أدِلَّة الخَوارِجِ من القرآنِ على تكفيرِ مُرتَكِبي الكبائِرِ والرَّدُّ عليها


استدلَّ الخَوارِجُ على مَذهَبِهم القائِلِ بتكفيرِ مُرتَكِبي الكبائرِ بعِدَّةِ آياتٍ قرآنيَّةٍ؛ منها:
أوَّلًا: قَولُ اللهِ تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة: 44] .
وَجهُ استِدلالِهم:
ادَّعى الخَوارِجُ شمولَ هذه الآيةِ للفُسَّاقِ؛ لأنَّ الفاسِقَ لم يحكُمْ بما أنزل اللهُ، فيجِبُ أن يكونَ كافِرًا كما هو ظاهِرُ الآيةِ، وكُلُّ مُرتَكِبٍ للذُّنوبِ لا بُدَّ أنَّه قد حَكَم بغيرِ ما أنزل اللهُ، فهو داخِلٌ تحتَ هذا الخِطابِ.
الرَّدُّ عليهم:
إما أن يكونَ الشَّخصُ مُستحِلًّا للحُكمِ بغيرِ ما أنزل اللهُ ولم يجعَلْه له دستورًا ولم يرجِعْ إليه بالكُليَّةِ؛ فهذا لا شَكَّ في كُفرِه ولا خِلافَ حينئذٍ، وإمَّا أن يكونَ الشَّخصُ غيرَ مُستحِلٍّ للحُكمِ بغيرِ ما أنزل اللهُ ويعتَرِفُ بأنَّ القرآنَ هو المرجِعُ الوحيدُ للأحكامِ، ولكِنَّه يحكُمُ في بعضِ أمورِه بغيرِ ما أنزل اللهُ، فهذا لا يخرُجُ عن دائرةِ الإيمانِ ما دام أنَّه غيرُ مُستَحِلٍّ لمُخالِفتِه الكِتابَ والسُّنَّةَ، بل يدَّعي أنَّه مُسلِمٌ، وأنَّه يُطَبِّقُ حُكمَ اللهِ، ولكِنَّه يخرُجُ عنه أحيانًا.
أورد الطَّبريُّ في تفسيرِه لهذه الآيةِ أربعةَ أقوالٍ في المرادِ بهذه الصِّفةِ، ونسَب كُلَّ قولٍ إلى مَن قال به من السَّلَفِ. وهذه الأقوالُ هي بإيجازٍ كما يلي:
القَولُ الأوَّلُ: أنَّ الكُفرَ في هذا الموضِعِ يرادُ به اليهودُ بخصوصِهم؛ لجَحدِهم الكثيرَ من الأحكامِ التي كانت في التَّوراةِ، كحُكمِهم في الزَّانِيَينِ المُحصَنَينِ، وكِتمانِهم الرَّجمَ، وقضائِهم في بعضِ قتلاهم بدِيَةٍ كاملةٍ، وفي بعضٍ بنِصفِ الدِّيَةِ على حَسَبِ هَواهم، وكحُكمِهم في الأشرافِ بالقِصاصِ، وفي الأدنياءِ بالدِّيَةِ.
القَولُ الثَّاني: أنَّ اللهَ عنى بالكافِرين أهلَ الإسلامِ، وبالظَّالِمين اليهودَ، وبالفاسِقين النَّصارى.
القَولُ الثَّالثُ: أنَّ هذه الآياتِ نازلةٌ أساسًا في اليهودِ، ثُمَّ معناها بَعدُ عامٌّ لجميعِ النَّاسِ مُسلِمين وغيرَهم.
القَولُ الرَّابعُ: أنَّ الحُكمَ بالكُفرِ على مَن لم يحكُمْ بما أنزل اللهُ جاحِدًا به، فأمَّا الظُّلمُ والفِسقُ فهو للمُقِرِّ به [540] يُنظر: ((جامع البيان)) (6/252-257). .
ثانيًا: استدلَّ الخَوارِجُ على ما اعتقدوه مِن كُفرِ مُرتَكِبِ الذُّنوبِ بقولِ اللهِ تعالى: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [الليل: 14-16] .
وَجهُ استِدلالِهم:
أنَّ اللهَ تعالى قد أخبَرَ بأنَّ هذه النَّارَ التي تتلَظَّى هي لشَقيٍّ مُكَذِّبٍ متوَلٍّ عن أمرِ اللهِ تعالى، فهو فاسِقٌ، والفاسِقُ في النَّارِ، وقد بَيَّنَ اللهُ تعالى أنَّ النَّارَ أُعِدَّت للكافِرين، وصاحِبُ الكبيرةِ الفاسِقُ من أهلِ النَّارِ، وإذا كان من أهلِ النَّارِ فهو كافِرٌ؛ لأنَّها أُعِدَّت لهم لا للمُؤمِنين.
الرَّدُّ عليهم:
أنَّ اللهَ تعالى وصَف هذا الذي يَصْلَى تلك النَّارَ بأنَّه مُكَذِّبٌ ومُتوَلٍّ عن أمرِ اللهِ ونَهْيِه، ولا شكَّ أنَّ مَن كانت هذه صِفَتَه فهو كافِرٌ، ولكِنَّ هذه الصِّفةَ لا تنطَبِقُ على فاسِقٍ مُصَدِّقٍ بآياتِ اللهِ.
قال الطَّبَريُّ في معنى قولِ اللهِ تعالى: لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [الليل: 15-16] : (أي: الذي كذَّب بآياتِ اللهِ، وأعرَضَ عنها ولم يُصَدِّقْ بها) [541] ((جامع البيان)) (3/226). .
وعلى هذا فإنَّ الفاسِقَ ليس ممَّن كذَّب بآياتِ رَبِّه وأعرض عنها ولم يُصَدِّقْ بها؛ فإنَّ هذا كافِرٌ، وهو ما وردت الآيةُ فيه، بخِلافِ الفاسِقِ؛ فإنَّه ما زال تحتَ كَلِمةِ الإسلامِ وتحتَ مشيئةِ اللهِ تعالى.
والعُصاةُ وإن دخلوا النَّارَ بذُنوبِهم فإنَّ دُخولَهم ليس بلازمٍ لهم على جهةِ التَّأبيدِ.
قال الشَّوكانيُّ في معنى قولِه تعالى: لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى: (أي: لا يَصْلاها صِلِيًّا لازِمًا على جِهةِ الخلودِ إلَّا الأشقى، وهو الكافِرُ، وإنْ صَلِيَها غيرُه من العُصاةِ فليس صِلِيُّه كصِلِيِّه) [542] ((فتح القدير)) (5/453). .
ثالثًا: استدلَّ الخَوارِجُ بقولِ اللهِ تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [آل عمران: 106] .
وَجهُ استِدلالِهم:
أنَّ مُسْوَدِّي الوُجوهِ هم الكَفَرةُ، والفُسَّاقُ ليسوا ممَّن ابيَضَّت وُجوهُهم، فيَلحَقون بمن اسوَدَّت وجوهُهم، وهم الكَفَرةُ، بدليلِ أنَّ اللهَ قَسَّم المكَلَّفِين إلى قِسمَينِ: قِسمٌ ابيَضَّت وجوهُهم فهم مُؤمِنون في الجنَّةِ، وقِسمٌ اسوَدَّت وُجوهُهم فهم كُفَّارٌ في النَّارِ، خُصوصًا وأنَّ اللهَ قد نَصَّ على كُفرِهم، وهذا ما يُثبِتُ أنَّ الفاسِقَ كافِرٌ.
والحقيقةُ أنَّ هذه الآيةَ لا تدُلُّ على الحَصرِ المانِعِ من وجودِ قِسمٍ آخَرَ، وذلك لما يأتي:
1- أنَّ ذِكرَ فريقَينِ بخُصوصِهما لا يدُلُّ على الحَصرِ ونَفيِ ما عداهما كما يشهَدُ لهذا آياتٌ من القرآنِ الكريمِ، كقَولِه تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [النور: 45] ، فالآيةُ لا تدُلُّ على حَصرِ جميعِ المخلوقاتِ فيها، بل قد ثبَت بالمشاهَدةِ أنَّ فيه دوابَّ تمشي على أكثَرَ من أربعٍ، فتخصيصُ الآيةِ بذِكرِ هذينِ الفريقَينِ لا ينفي وجودَ فريقٍ ثالثٍ، وهم العصاةُ من المُؤمِنين، ويكونُ عذابُهم غيرَ عذابِ الكُفَّارِ الأصليِّينَ أو المرتَدِّين المخَلَّدين في النَّارِ.
2- أنَّ اللهَ تعالى ذَكَر في هذه الآيةِ المرتَدِّين بَعدَ إيمانِهم، ولم يَذكُرْ بقيَّةَ أصنافِ الكُفَّارِ من يهودٍ ونصارى ووثنيِّينَ وغيرِ هؤلاء من أصنافِ الكُفَّارِ، فهي ليست حاصِرةً لأصنافِ الكُفَّارِ، فضلًا عن أن تكونَ حاصِرةً لأصنافِ النَّاسِ بصفةٍ عامَّةٍ في المُؤمِنين والكافِرين فقط [543] يُنظر: ((إبانة المناهج)) لجعفر (ص: 164، 165). .
رابعًا: استدلَّ الخَوارِجُ بقولِ اللهِ تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران: 97] .
وَجهُ استِدلالِهم:
أنَّ اللهَ تعالى قد نَصَّ على أنَّ تارِكَ الحَجِّ كافِرٌ.
الرَّدُّ عليهم:
هذا الاستدلالُ لا يُسَلَّمُ لهم؛ لأنَّ الآيةَ مجمَلةٌ؛ ففيها احتمالُ أنَّ المرادَ تارِكُ الحَجِّ، وفيها احتمالُ أنَّ المرادَ تارِكُ اعتقادِ وُجوبِه؛ لأنَّ اللهَ تعالى لم يَذكُرِ التَّركَ، فلم يقُلْ: (وللهِ على النَّاسِ حِجُّ البيتِ، ومَن تَرَكه فقد كَفَر)، أو يكونُ المرادُ به تَرْكَ الحَجِّ مُستحِلًّا لتركِه فهو كافِرٌ، وهذا لا شَكَّ في كُفرِه. وهذا ما أجاب به كثيرٌ من العُلَماءِ عن هذه الشُّبهةِ [544] يُنظر: ((جامع البيان)) للطبري (4/19)، ((إبانة المناهج)) لجعفر (ص: 166)، ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (ص: 722)، ((شرح نهج البلاغة)) لابن أبي حديد (8/114). .

انظر أيضا: