موسوعة الفرق

الفَصلُ الثَّالثُ: حَرَكاتُ الخَوارِجِ الثَّوريَّةُ على الحُكمِ العبَّاسيِّ


أخذ الخَوارِجُ مُنذُ أن فارقوا عَليَّ بنَ أبي طالبٍ رَضيَ اللهُ عنه في تضخيمِ السَّخَطِ على مُخالِفيهم، والحَثِّ الشَّديدِ على محاربتِهم، وتضخيمِ خطاياهم، وفي كُلِّ مسألةٍ ينادون بأعلى أصواتِهم: "لا حُكمَ إلَّا للهِ، لا لعليٍّ، ولا لبني أُمَيَّةَ ولا لبني العبَّاسِ، ولا لأحدٍ، الحَربَ، الحربَ"؛ لهذا فقلَّما يجتَمِعُ منهم جماعةٌ إلَّا وسارعوا وأعلنوها حربًا شَعواءَ لا يمكِنُ أن تنتهيَ إلَّا بمنتَصِرٍ ومهزومٍ.
فاستمَرَّ الخَوارِجُ طَوالَ عَهدِ الدَّولةِ الأُمَويَّةِ في صراعٍ حادٍّ معها، فأوهنوا قوَّتَها وأوهَنَت قوَّتَهم، وكانوا كالشَّجَا في حَلقِ كُلِّ خليفةٍ، لا يخِفُّ ألمُه إلَّا ليبدَأَ من جديدٍ، وهكذا إلى أنْ غيَّرَ اللهُ الحالَ وانتهت الدَّولةُ الأُمَويَّةُ برأسِها وخلَفَتْها الدَّولةُ العبَّاسيَّةُ، وما زال مِرجَلُ الخَوارِجِ يَغلي.
وأوَّلُ الخارِجين على الدَّولةِ العبَّاسيَّةِ: هو الجُلَنْدَى الذي خرج على السَّفَّاحِ، ويُسَمَّى الجُلَنْدَى بنَ مسعودِ بنِ جَيفَرٍ الأزْديَّ، فقد أراد هو وأصحابُه من أهلِ عُمانَ صَدَّ جيشِ الخلافةِ عن دخولِ بلادِهم، وكان قائِدُ جيشِ الخليفةِ أبي العبَّاسِ السَّفاحِ رجلًا يُسَمَّى خازِمَ بنَ خُزَيمةَ فالتَقوا في الصَّحراءِ واقتتلوا قتالًا شديدًا يومًا كاملًا، ثُمَّ استأنفوا القتالَ في اليومِ الثَّاني في معركةٍ لا تَقِلُّ عن اليومِ الأوَّلِ، ثُمَّ هدأت الأمورُ قليلًا، ولكِنَّهم استأنفوها على أشُدِّها.
وقد فكَّر جيشُ خازمٍ في حيلةٍ أشيرَ بها عليهم، وهي أن يجعَلَ كُلُّ جُنديٍّ على طَرَفِ سِنانِه مُشاقَةً -وهي ما خَلَص من القُطنِ والكَتَّانِ والشَّعرِ- ويَرْووها بالنِّفطِ، ثُمَّ يُشعِلوا فيها النِّيرانَ، ثُمَّ يَقذِفوها على بُيوتِ الجُلَنْدَى وأصحابِه، وتمَّت هذه الفكرةُ بنجاحٍ، فاشتعَلَت النَّارُ في البيوتِ، وكانت من خشَبٍ فاشتغَلَ أصحابُ الجُلَنْدَى بإخراجِ أهلِهم وأموالِهم عن النَّارِ، وعِندَها مال عليهم جيشُ خازمٍ يقتلونَهم كيف شاؤوا، وانتهت المعركةُ بقَتلِ عَشَرةِ آلافٍ منهم، ثُمَّ أُخِذت رؤوسُهم وبُعِث بها إلى البصرةِ، فمكثت أيامًا، ثُمَّ بُعِث بها إلى الكوفةِ إلى أبي العبَّاسٍ [228] يُنظر: ((تاريخ الرسل والملوك)) للطبري (7/463). ويُنظر: ((البداية والنهاية)) لابن كثير (10/57). .
وخرج بَعدَ ذلك مُلَبَّدُ بنُ حَرمَلةَ الشَّيبانيُّ على أبي جعفرٍ المنصورِ بناحيةِ الجزيرةِ بالعِراقِ، وكان فيه شَجاعةُ شَبيبٍ ودَهاؤه وخِبرتُه بالحَربِ وأنواعِها.
خرج إليه في أوَّلِ الأمرِ ألفُ فارسٍ من المُرابِطين في الجزيرةِ، فهَزَمهم، ثُمَّ تتابعت الجيوشُ بَعدَ ذلك على حَربِه، فسارت إليه روابِطُ المَوصِلِ فهزمهم، ثُمَّ سار إليه يزيدُ بنُ حاتمٍ المُهَلَّبيُّ، فهزمه، وعجَز النَّاسُ عنه، فبعث إليه أبو جَعفرٍ المنصورُ مولاه المُهَلهِلَ بنَ صَفوانَ في ألفينِ من نُخبةِ الجُندِ فهزمهم، ثُمَّ وجَّه إليه آخَرَ خُراسانيًّا يُسَمَّى نِزارًا فهزمهم، ثُمَّ وجَّه إليه صالحَ بنَ مُشْكانَ فهزمهم، ثُمَّ وجَّه إليه صالحَ بنَ صُبَيحٍ فانهزم أيضًا، ثُمَّ سار إليه حُمَيدُ بنُ قَحْطبةَ فهزمه أيضًا، فأرهب النَّاسَ وأهمَّهم أمرُه، ثُمَّ وجَّه إليه أبو جَعفَرٍ عبدَ العزيزِ بنَ عبدِ الرَّحمنِ، وضَمَّ إليه زيادَ بنَ مُشْكانَ فانهزما أيضًا، فبعث إليه المنصورُ خازِمَ بنَ خُزَيمةَ في ثمانيةِ آلافٍ، فدارت بَينَهم معركةٌ قُتِل في نهايتِها مُلَبَّدٌ وأكثَرُ جَيشِه، وهرب من بَقِي منهم متسَلِّلين بأنفُسِهم [229] يُنظر: ((تاريخ الرسل والملوك)) للطبري (7/495- 498). .
وقد خرج على المنصورِ أيضًا أهلُ المغرِبِ بقيادةِ أبي حاتمٍ الإباضيِّ، ويُسَمَّى يعقوبَ بنَ حبيبٍ، وكان عامِلُ تلك الجهةِ -وهي طَرابُلُسُ- يُسَمَّى الجُنَيدَ بنَ بَشَّارٍ، فكتب إلى عُمَرَ بنِ حَفصٍ القائِدِ العامِّ لإفريقيَّةَ يَستَمِدُّه، فأمَدَّه بعَسكَرٍ التَقى مع الإباضيَّةِ في معركةٍ، فانهزموا أمامَ أبي حاتمٍ إلى قابِسٍ، فلَحِقَهم وحاصَرهم فيها، ثُمَّ حاصَرَ القَيروانَ، وكَثُر أتباعُه، وضَيَّق عليها الحِصارَ مُدَّةَ ثمانيةِ أشهُرٍ حتَّى أكلوا دوابَّهم وكِلابَهم!
وفي هذه الأثناءِ جاءهم الخَبَرُ بوصولِ عُمَرَ بنِ حَفصٍ، فاستبشروا، وجاء عُمَرُ حتَّى نزل مكانًا يُسَمَّى الهَريشَ، فلمَّا عَلِم أبو حاتمٍ تَرَك حِصارَ القيروانِ وحَوَّل جمْعَه لملاقاةِ عُمَرَ، فلمَّا عَلِم بهم عُمَرُ-وكان في سَبعِمائةِ فارسٍ- ذهب إلى تونُسَ، فتَبِعه البربَرُ فعاد إلى القيروانِ مُسرِعًا وأدخل إليها كُلَّ ما يلزَمُ من دوابَّ وطعامٍ وغيرِ ذلك، فجاء أبو حاتمٍ إلى القيروانِ وحاصَرَها كحصارِ المرَّةِ الأولى حتَّى أجهَدَها، وكانوا في أثناءِ الحِصارِ تحصُلُ بَينَهم مُناوشاتٌ غيرُ مُجْديةٍ، وهنا عزَم عُمَرُ على مُنازلتِهم كيفما كانت النَّتيجةُ، ثُمَّ التَحم معهم في معركةٍ قُتِل فيها، فقام بالأمرِ بَعدَه أخوه لأمِّه حُمَيدُ بنُ صَخرٍ، فوادع الثَّائرينَ ريثما يجيءُ مَدَدُ الخليفةِ المكَوَّنُ من ستِّين ألفًا على رأسِهم يزيدُ بنُ حاتمِ بنِ قُتَيبةَ بنِ المُهَلَّبِ، ثُمَّ حصَلَت حروبٌ عِدَّةٌ قُضِي فيها على تلك الحرَكَاتِ جميعِها في معارِكَ بلَغَت 375 معركةً فيما قيل [230] يُنظر: ((الكامل)) لابن الأثير (5/599- 601). .
ثمَّ خرج الصَّحصَحُ بالجزيرةِ على هارونَ الرَّشيدِ، وكان عامِلُه على الجزيرةِ يُسَمَّى أبا هُرَيرةَ محمَّدَ بنَ فَرُّوخٍ، فوَجَّه إليه الصَّحصَحُ جَيشًا، ولكِنَّه انهزم، ثُمَّ توسَّع الصَّحصَحُ وخرج إلى المَوصِلِ فلَقِيه عَسكَرُها واقتتلوا، فقَتل منهم كثيرًا، ثُمَّ رجع إلى الجزيرةِ فسَيَّر إليه الرَّشيدُ جيشًا التَقوا به في دَورَينَ [231] موضع ‌خلف ‌جسر ‌الكوفة. يُنظر: ((معجم البلدان)) للحموي (2/480). في معركةٍ قُتِل فيها الصَّحصَحُ وأصحابُه [232] يُنظر: ((الكامل)) لابن الأثير (6/112). .
ثمَّ خرج على الرَّشيدِ أيضًا الوليدُ بنُ طَريفٍ التَّغلِبيُّ بالجزيرةِ واستولى عليها وعلى نَصيبِينَ ووصَل إلى أَرمِينيَةَ وأَذْرَبِيجانَ وحُلوانَ وأراضي السَّوادِ، فوجَّه إليه الرَّشيدُ يزيدَ بنَ مَزْيَدٍ الشَّيبانيَّ وقد أراد يزيدُ أن يُطاوِلَه ليُضعِفَه ويَمكُرَ به، إلَّا أنَّ البرامِكةَ كانت في نفوسِهم حَزازةٌ عليه فقالوا للرَّشيدِ: إنَّما يتجافى يزيدُ عن الوليدِ للرَّحِمِ؛ لأنَّ كليهما من وائِلٍ، وأخذوا يُهَوِّنون أمرَ الوليدِ، فكتب إليه الرَّشيدُ كِتابَ مُغضَبٍ وقال له: (لو وجَّهْتُ أحَدَ الخَدَمِ لقام بأكثَرَ ممَّا تقومُ به، ولكِنَّك مُداهِنٌ مُتعَصِّبٌ، وأقسِمُ باللهِ إن أخَّرْتَ مُناجَزَتَه لأوجِّهَنَّ إليك من يحمِلُ رأسَك)، فقام يحَرِّضُ أصحابَه قائلًا لهم: (فِداكم أبي وأمِّي، إنَّما هي الخَوارِجُ ولهم حَملةٌ فاثْبُتوا، فإذا انقَضَت حَمْلَتُهم فاحمِلوا عليهم فإنَّهم إذا انهَزَموا لم يَرجِعوا)، ثُمَّ نشَبَت المعركةُ فقُتِل الوليدُ [233] يُنظر: ((الكامل)) لابن الأثير (6/141 - 143). .
ثمَّ خرج عبدُ السَّلامِ بنُ هِشامٍ اليَشكُريُّ بالجَزيرةِ أيضًا وكَثُر أتباعُه بها، وذلك في زَمَنِ المَهديِّ، فبَعَث إليه المهديُّ الجيشَ تِلوَ الجيشِ، وهو يَهزِمُهم أوَّلًا بأوَّلٍ، فأرسَلَ المهديُّ إلى القائِدِ الذي بحيالِهم -ويُسَمَّى شَبيبَ بنَ واجٍ- ألْفَ فارسٍ، وكان المهديُّ قد قوَّى نفوسَهم، فجَعَل لكُلِّ جنديٍّ ألفَ دِرهَمٍ وألحقَهم بشَبيبٍ، فلمَّا وصلوا إليه خرج بهم في طلَبِ عبدِ السَّلامِ، فانهزم منهم عبدُ السَّلامِ، فاتَّبَعوه حتَّى أتى قِنَّسْرينَ، فأُحيطَ به وقُتِل هناك [234] يُنظر: ((تاريخ الرسل والملوك)) للطبري (8/130، 142). .
ثمَّ كان خُروجُ يوسُفَ بنِ إبراهيمَ البَرْمِ على المَهْديِّ بخُراسانَ ناقِمًا على المَهديِّ سِيرتَه، فتَبِعه خَلقٌ كثيرٌ في تلك النَّواحي، فبعَث إليه المَهْديُّ يزيدَ بنَ مَزْيدٍ الشَّيبانيَّ، فالتَقوا في معركةٍ أُسِر فيها البَرْمُ، فوَجَّه به يزيدُ إلى المهديِّ ومعه وجوهُ أصحابِه، فلمَّا وَصَلوا إلى المَهديِّ أمرَ بقَطعِ يَدَيْ يوسُفَ ورِجْلَيه، وضَرْبِ عُنُقِه وعُنُقِ أصحابِه الذين معه [235] يُنظر: ((تاريخ الرسل والملوك)) للطبري (8/124). .
وكان آخِرَ الخارِجين على المَهديِّ يس التَّميميُّ، وكان خُروجُه بالمَوصِلِ مُحَكمًا، وكان على رأيِ صالحِ بنِ مُسَرَّحٍ، واجتمع له خَلقٌ كثيرٌ، وأخذ في التَّوسُّعِ، فأخذ أكثَرَ ربيعةَ والجزيرةِ، فخَرج لقتالِه عَسكَرُ المَوصِلِ، ولكِنَّه هزَمَهم، فوجَّه المهديُّ قائدَينِ أحَدُهما أبو هُرَيرةَ محمَّدُ بنُ فرُّوخٍ، والآخَرُ هَرثَمةُ بنُ أَعْيَنَ، فدارت بَينَهما معارِكُ انتهت بقَتلِه، وانهزم من بَقِي من أتباعِه [236] يُنظر: ((الكامل)) لابن الأثير (8/124). .
وبانهزامِه انتهت حركاتُ الخَوارِجِ ضِدَّ الدَّولةِ العبَّاسيَّةِ في المَشرِقِ والمَغرِبِ، وإن أصبحَت للإباضيَّةِ منهم دولةٌ في عُمانَ والمغرِبِ.

انظر أيضا: