موسوعة الفرق

المَبحَثُ الثَّالثُ: النَّجَداتُ


تنتَسِبُ النَّجَداتُ إلى زعيمِهم الأوَّلِ نَجْدةَ بنِ عامِرِ بنِ عبدِ اللهِ الحَنَفيُّ، أو الثَّقَفيُّ، كما يقولُ بعضُهم.
وقد سُمِّيَ أتباعُه بالنَّجَداتِ العاذريَّةِ لعُذرِهم أهلَ الخطَأِ في الاجتهادِ إذا كانوا جاهِلين بوجهِ الصَّوابِ فيه، وقد كان نَجْدةُ مع نافعٍ يدًا واحدةً إلى أن نَقَم عليه أشياءَ رأى نَجْدةُ أنَّها من البِدَعِ المُضِلَّةِ، ففارق نافعًا واستقَلَّ عنه بمَن تَبِعه من أصحابِه.
واختُلِف في تحديدِ مكانِ خُروجِه؛ فالمشهورُ أنَّه خرج من اليمامةِ، ومنها انتشر أمرُه إلى بقيَّةِ البُلدانِ [105] يُنظر: ((الكامل)) لابن الأثير (4/201)، ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/122)، ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/174)، ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (ص: 95)، ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي (ص: 87)، ((الأديان)) لمؤلف إباضي مجهول (ص: 101). ، وقيل: إنَّه خرج من جِبالِ عُمانَ [106] يُنظر: ((التنبيه والرد)) للمَلَطي (ص: 55). .
ووُصِف نَجْدةُ بأنَّه كان شجاعًا يتابِعُ الغاراتِ على مَن حولَه حتَّى بلَغَ مُلكُه صنعاءَ والبَحْرينِ والقُطَينَ، أي: إنَّه أخذ مساحاتٍ واسعةً من الدَّولةِ الإسلاميَّةِ، ولم يَزَلْ في قوَّتِه إلى أن اختَلَف عليه أصحابُه، وكان أشَدَّهم عليه أبو فُدَيكٍ، وكان نَجْدةُ قد عَلِم بتآمُرِه ومَن معه على قَتلِه، فاستخفى في قريةٍ من قُرى حَجْرٍ [107] حَجْرٌ: هي مدينةُ اليمامةِ وأمُّ قُراها. يُنظر: ((معجم البلدان)) للحموي (2/ 221). ، إلَّا أنَّه اكتُشِف أمرُه، فاستخفى عِندَ أخوالِه من بني تميمٍ، وعندَها عزم على المسيرِ إلى عَبدِ المَلِكِ بنِ مَروانَ، فأتى بيتَه ليَعهَدَ إلى زوجتِه بما يَلزَمُ، ولكِنَّ الفُدَيكيَّةَ غَشُوه فقَتَلوه، وذلك في سَنةِ 72ه.
وقد تعدَّدت الأسبابُ التي ثار من أجلِها أصحابُ نَجْدةَ عليه، وهي أسبابٌ وقعت مُتفَرِّقةً، إلَّا أنَّ الحِقدَ الذي امتلأت به قلوبُ الخارِجين عليه ساعد على تجميعِها وتضخيمِها حتَّى صارت بحيثُ لم يُطِقِ الفُدَيكيُّون الصَّبرَ على طاعةِ نَجْدةَ، فدَبَّروا قَتْلَه.
ومن هذه الأسبابِ ما يلي:
1- أنَّ أبا سِنانٍ -ويُسَمَّى حَيَّ بنَ وائلٍ- أشار على نَجْدةَ بأن يَقتُلَ كُلَّ من أجابه تقيَّةً بَعدَ أخذِهم، ولكِنَّ نَجْدةَ قابله بعُنفٍ وشتَمَه قائلًا له: كلَّف اللهُ أحدًا عِلمَ الغيبِ؟ قال: لا، قال: فإنَّما علينا أن نَحكُمَ بالظَّاهِرِ.
2- أنَّ نَجْدةَ سَيَّر سَريَّتينِ؛ الأولى منهما بحرًا، والثَّانيةُ بَرًّا، وعند القِسمةِ فَضَّل سَريَّةَ البحرِ على سَريَّةِ البَرِّ، فأغضب ذلك عطيَّةَ بنَ الأسوَدِ أحدَ أتباعِه، وغَضِب نَجْدةُ أيضًا عليه وشتَمَه، فأخذ هذا يُحَرِّضُ النَّاسَ على الخُروجِ عن طاعةِ نَجْدةَ وعِصيانِه.
3- نَقَم عليه أصحابُه بأنَّه عَطَّل حَدَّ الخمرِ، وكان سَبَبُ ذلك أنَّ رجُلًا من عَسكَرِه كان يشرَبُ الخَمرَ، فبلَّغوا أمرَه إلى نَجْدةَ، فقال لهم: (إنَّه رجلٌ شديدُ النِّكايةِ على العَدُوِّ، وقد استَنصَرَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالمُشرِكين)، ولكِنَّ هذا الجوابَ كان غيرَ مُقنِعٍ لهم.
4- أنَّه حينَ أغار على مدينةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وقعت جاريةٌ من بناتِ عُثمانَ بنِ عفَّانَ رَضيَ اللهُ عنه في يَدِ أحَدِ جُنودِه، فاشتراها منه ورَدَّها إلى عبدِ المَلِكِ بنِ مَرْوانَ، فأغضَبَ هذا أتباعَه، وقالوا له: إنَّك (رَدَدْتَ جاريةً لنا على عَدُوِّنا).
5- أنَّه قد جَرَت بَينَه وبَينَ عَبدِ المَلِكِ بنِ مَرْوانَ مُكاتباتٌ، فكان عبدُ المَلِكِ يَطلُبُ منه الدُّخولَ في طاعتِه، وأن يُوَلِّيَه اليمامةَ ويُهدِرَ له كُلَّ ما أصاب من مالٍ أو دماءٍ، فقال عطيَّةُ بنُ الأسوَدِ: ما كاتَبَه عبدُ المَلِكِ إلَّا وهو يَعرِفُ أنَّه مُداهِنٌ في الدِّينِ.
6- أنَّ بَعضَ قَومِه فارقوه وشرَطوا لعودتِهم أن يتوبَ علينا فَفَعل ذلك، ولكِنَّهم عادوا فقالوا: إنَّه لا ينبغي لنا أن نَستتيبَه وهو الإمامُ، وطلبوا منه أن يتوبَ من توبتِه تلك، فوقع بَينَهم الاختلافُ!
7- أنَّه حَكَم بالشَّفاعةِ، وذلك حينما كَلَّمه أصحابُه في رَجُلٍ فأعطاه فَرَسًا.
8- نَقَموا عليه إعطاءَه مالِكَ بنَ مِسمَعٍ ما يُقَدَّرُ بعَشَرةِ آلافِ دِرهَمٍ حينَ أمَر عامِلَه هِميانَ بنَ عَدِيٍّ السَّدوسيَّ بذلك [108] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/175)، ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي (ص: 88)، ((الكامل)) لابن الأثير (4/205)، ((البحرين في صدر الإسلام)) للعاني (ص: 132). .
وهكذا ألقت تلك الأسبابُ الظَّاهرةُ وغَيرُها جوًّا من العَداءِ المُستحكِمِ لنَجْدةَ، وهي في ظاهِرِها حُجَجٌ واضِحةٌ إن صَحَّت نسبتُها إليه، ولكنْ لعلَّ تلك الأسبابَ كان لها ما يُغَذِّيها، وهو التَّعصُّبُ القبَليُّ بَينَ بني حنيفةَ وبني قَيسِ بنِ ثَعلَبةَ الذي ينتَسِبُ إليهم أبو فُدَيْكٍ؛ حيثُ أراد هؤلاء نَقْلَ السُّلطةِ من يدِ بني حنيفةَ إليهم هم، وفِعلًا تمَّ لهم ما أرادوا، وذلك بَعدَ توليةِ أبي فُدَيكٍ مكانَ نَجْدةَ الحَنَفيِّ. ثُمَّ نَقَل أبو فُدَيكٍ عاصِمةَ الحُكمِ من اليمامةِ إلى البَحرينِ مَقَرِّ قبيلتِه قَيسِ بنِ ثَعلبةَ، وبَعدَ قَتلِ نَجْدةَ أصبح النَّجَداتُ على ثلاثِ فِرَقٍ؛ فريقٌ ما زال على تأييدِه له، وفريقٌ مع أبي ثَورٍ، وفريقٌ مع عطيَّةَ بنِ الأسوَدِ الحَنَفيِّ.
أمَّا أبو فُدَيكٍ فقد قُتِل سنةَ 73هـ حينَ أرسل له عبدُ المَلِكِ بنُ مَروانَ عُمَرَ بنَ عُبَيدِ اللهِ بنِ مَعمَرٍ في عَشَرةِ آلافِ مُقاتِلٍ، فساروا حتَّى التَقَوا بأبي فُدَيكٍ في البَحْرينِ فدارت بَينَهم معركةٌ أسفَرت عن قَتلِ أبي فُدَيكٍ، ونزل أصحابُه على حُكمِ عُمَرَ بنِ عُبَيدِ اللهِ، وقد قَتَل منهم نحوَ ستَّةِ آلافٍ، وأسَر ثمانِمائةٍ [109] يُنظر: ((الكامل)) لابن الأثير (4/362). . وانتهى أمرُ أبي فُدَيكٍ.
أمَّا عطيَّةُ فقد لاحقَتْه جُيوشُ المُهَلَّبِ بنِ أبي صُفرةَ وهو يَفِرُّ من قُطرٍ إلى آخَرَ، حتَّى لحقَتْه بالسِّنْدِ، فقُتِل هناك وانتهى أمرُه.
ولقد كانت فِرقةُ النَّجَداتِ من الفِرَقِ المشهورةِ، كالأزارقةِ، وحينما يذكُرُ العُلَماءُ سِيرتَهم يختَلِفون؛ فبينما هم عِندَ المَلَطيِّ ومن يرى رأيَه خرجوا يقتُلون الأطفالَ، ويَسْبون النِّساءَ، ويُهرِقون الدِّماءَ، ويَستَحِلُّون الفُروجَ والأموالَ، وإذا هم عِندَ آخَرين من الرُّحماءِ يُجَوِّزون التَّقيَّةَ، ويَرَونَ رَدَّ الأماناتِ إلى أهلِها وُجوبًا، ولم يَقبَلوا بقَتلِ الأطفالِ، ويَرَون المُقامَ بَينَ مخالِفيهم لا بأسَ به، وأنَّهم يمثِّلون الاتِّجاهَ المعتَدِلَ الذي يُقَرِّبُهم إلى آراءِ عامَّةِ المُسلِمين.
وهذا نموذَجٌ لتضارُبِ أقوالِ العُلَماءِ عنهم؛ فمنهم من اشتدَّ عليهم حتَّى حَكَم عليهم بالكُفرِ الصَّريحِ، ومنهم من قال عنهم غيرَ ذلك. ومن الذين وقفوا منهم موقِفَ التَّشدُّدِ ونسبوا إليهم الأفعالَ القبيحةَ التي تخرِجُ الشَّخصَ من الإسلامِ، غيرِ المَلَطيِّ: صاحِبُ كتابِ (الأديان)، والدِّبسيُّ [110] يُنظر: ((التنبيه والرد)) (ص: 55)، ((رسالة الدبسي)) (ص: 26)، ((كتاب الأديان)) لمؤلف إباضي مجهول (ص: 101). .
ومن الذين قالوا عنهم خيرًا ونسبوا إليهم الاعتدالَ واللِّينَ في مسامحةِ مخالِفيهم من المُسلِمين: الأشعَريُّ، وابنُ الجَوزيِّ، والبغداديُّ، والشَّهْرَسْتانيُّ، وغيرُهم [111] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) (1/175)، ((تلبيس إبليس)) (ص: 95)، ((الفرق بين الفرق)) (ص: 89)، ((الملل والنحل)) (1/123)، ((البحرين في صدر الإسلام)) للعاني (ص: 128). .

انظر أيضا: