موسوعة الفرق

المَبحَثُ الثَّاني: من فِرَق الخَوارِجِ: الأزارِقةُ


زعيمُ هذه الفِرقةِ هو نافِعُ بنُ الأزرَقِ المشهورُ بمساءَلةِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما.
قال ابنُ كثير: (قال مجاهِدٌ، وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ، وغيرُهما، عن ابنِ عَبَّاسٍ وغيرِه: كان الهُدهُدُ مُهَندِسًا يدُلُّ سليمانَ عليه السَّلامُ على الماءِ، إذا كان بأرضٍ فَلاةٍ طَلَبه فنَظَر له الماءَ في تُخومِ الأرضِ، كما يرى الإنسانُ الشَّيءَ الظَّاهِرَ على وجهِ الأرضِ، ويَعرِفُ كم مساحةُ بُعدِه من وجهِ الأرضِ، فإذا دَلَّهم عليه أمَر سُلَيمانُ عليه السَّلامُ الجانَّ فحَفَروا له ذلك المكانَ، حتَّى يُستنبَطَ الماءُ من قرارِه، فنزل سليمانُ عليه السَّلامُ يومًا بفَلاةٍ من الأرضِ، فتفَقَّد الطَّيرَ ليرى الهُدْهُدَ، فلم يَرَه، فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ [النمل: 20] .
حدَّث يومًا عبدُ اللهِ بنُ عَبَّاسٍ بنحوِ هذا، وفي القومِ رجُلٌ من الخَوارِجِ، يقالُ له: نافِعُ بنُ الأزرَقِ، وكان كثيرَ الاعتراضِ على ابن عبَّاسٍ، فقال له: قِفْ يا بن عبَّاسٍ، غُلِبتَ اليومَ! قال: ولمَ؟ قال: إنَّك تخبِرُ عن الهُدهُدِ أنَّه يرى الماءَ في تُخومِ الأرضِ، وإنَّ الصَّبيَّ لَيَضَعُ له الحبَّةَ في الفَخِّ، ويحثو على الفَخِّ تُرابًا، فيَجيءُ الهُدهُدُ ليأخُذَها، فيَقَعُ في الفَخِّ، فيصيدُه الصَّبيُّ! فقال ابنُ عبَّاسٍ: لولا أن يذهَبَ هذا فيقولَ: ردَدْتُ على ابنِ عبَّاسٍ لَمَا أجَبْتُه! فقال له: وَيْحَك! إنَّه إذا نزَلَ القَدَرُ عَمِيَ البَصَرُ، وذَهَب الحَذَرُ! فقال له نافِعٌ: واللهِ لا أجادِلُك في شيءٍ من القرآنِ أبدًا) [97] ((تفسير ابن كثير)) (6/ 184). .
وقال السُّيوطيُّ: (من المعلومِ في كُتُبِ الحديثِ والتَّاريخِ ما قاساه ابنُ عبَّاسٍ من نافِعِ بنِ الأزرَقِ، وما أسمَعَه من الأذى وما تعَنَّتَه به من الأسئلةِ، وأسئلةُ نافِعِ بنِ الأزرَقِ لابنِ عبَّاسٍ مشهورةٌ مرويَّةٌ لنا بالإسنادِ المتَّصِلِ، مدوَّنةٌ في ثلاثِ كراريسَ، وقد سُقْتُ غالبَها في الإتقانِ، وقولَ نافعٍ لرفيقِه لَمَّا أراد تعنُّتَ ابنِ عبَّاسٍ: قُمْ بنا إلى هذا الذي نَصَب نَفْسَه لتفسيرِ القُرآنِ بغيرِ عِلمٍ حتَّى نسألَه! ورَدَّ ابنِ عبَّاسٍ عليه بأبلَغِ رَدٍّ) [98] ((الحاوي للفتاوي)) (2/ 361). .
وقد ذكره بهذا الاسمِ: "نافِعِ بنِ الأزرَقِ" كُلُّ مَن كَتَب في التَّاريخِ والفِرَقِ، إلَّا من شَذَّ، وكُنيتُه أبو راشِدٍ، وهو مِن بني حَنيفةَ، ومن الذين أخطَؤوا في اسمِه المَلَطيُّ؛ فقد سمَّاه عبدَ اللهِ بنَ الأزرَقِ خِلافًا لتسميةِ الجُمهورِ له [99] يُنظر: ((التنبيه والرد)) (ص: 54). .
وممَّا يُذكَرُ عن ابتداءِ ظُهورِ نافِعِ بنِ الأزرَقِ أنَّه اجتمع بالخَوارِجِ الذين يرون رأيَه وطلب إليهم أن ينضَمُّوا إلى ابنِ الزُّبَيرِ رَضيَ اللهُ عنهما؛ لِمُقاتلةِ جُيوشِ أهلِ الشَّامِ الذين حاصروا مكَّةَ، قائلًا لهم من خُطبةٍ له: (وقد جرَّد فيكم السُّيوفَ أهلُ الظُّلمِ وأُولو العَداءِ والغَشْمِ، وهذا مَن ثار بمكَّةَ فاخرجوا بنا نأتِ البَيتَ ونَلْقَ هذا الرَّجُلَ، فإن يكُنْ على رأيِنا جاهَدْنا معه العَدُوَّ، وإن يكُنْ على غيرِ رأيِنا دافَعْنا عن البيتِ ما استطَعْنا ونظَرْنا بَعدَ ذلك في أمورِنا)، فأطاعوه وخرجوا إلى مكَّةَ، وبعد أن امتَحَنوا ابنَ الزُّبَيرِ وتبَيَّن لهم خِلافُه لرأيِهم خرجوا عنه سنةَ 64هـ، فخرجوا من مكَّةَ إلى جِهَتَينِ: جِهةٌ إلى البصرةِ، وهم نافِعُ بنُ الأزرَقِ، وعبدُ اللهِ بنُ الصَّفَّارِ السَّعديُّ، وعبدُ اللهِ بنُ إباضيٍّ، وحَنظَلةُ بنُ بَيْهَسٍ، وغيرُهم، وجِهةٌ إلى اليمامةِ، وهم أبو طالوتَ، وعبدُ اللهِ بنُ ثَورٍ أبو فُدَيكٍ، وعطيَّةُ الأسوَدُ اليَشكُريُّ.
فأمَّا أهلُ اليمامةِ فوَلَّوا عليهم أبا طالوتَ، ثُمَّ خلعوه ووَلَّوا عليهم نَجدةَ بنَ عامرٍ، وأمَّا أهلُ البَصرةِ فقد أمَّروا عليهم نافِعَ بنَ الأزرَقِ، وأقام بالبصرةِ إلى أن خَشِيَ من أهلِها، فخرج إلى الأهوازِ وتبعه أتباعُه إلى هناك، وقد استقَرَّ الأمرُ بنافعٍ ومَن معه في الأهوازِ (فغَلَبوا عليها وعلى كُوَرِها وما وراءَها من بُلدانِ فارِسَ وكَرْمانَ في أيَّامِ عبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيرِ، وقتَلوا عُمَّالَه بهذه النَّواحي) [100] ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/118). ، إلى أن قُتِل نافِعٌ في سنةِ خَمسٍ وستِّينَ في شَهرِ جُمادى الآخِرةِ عِندَما اشتدَّت المعركةُ بَينَه وبَينَ جيشِ أهلِ البصرةِ بقيادةِ مُسلِمِ بنِ عُبَيسِ بنِ كُرَيزِ بنِ ربيعةَ في ناحيةِ الأهوازِ، الذي جَهَّزه عامِلُ البصرةِ من قِبَلِ عبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيرِ: عبدُ اللهِ بنُ الحارِثِ الخُزاعيُّ، وبَعدَ قَتلِ نافعٍ في هذه المعركةِ وَلَّى الخَوارِجُ أمْرَهم قَطَريُّ بنُ الفُجاءةِ، الذي انشقَّت عليه الأزارِقةُ فيما بَعدُ [101] يُنظر: ((تاريخ الرسل والملوك)) للطبري (5/613، 564، 567)، ((الكامل)) لابن الأثير (4/195)، ((الكامل)) للمبرد (2/181). .
وقد تابَع حَربَ الأزارقةِ المُهَلَّبُ بنُ أبي صُفرةَ الذي عيَّنه ابنُ الزُّبَيرِ لحَربِهم، فأثخَنَ فيهم وأوهَنَ قوَّتَهم على ما تميَّزوا به من قوَّةٍ وكثرةٍ.
قال البَغداديُّ: (لم يكُنْ للخَوارِج قطُّ فِرقةٌ أكثَرُ عَدَدًا ولا أشَدُّ منهم شَوكةً) [102] ((الفرق بين الفرق)) (ص: 83). ؛ ولهذا فقد كان النَّاسُ منهم على وَجَلٍ وفِتنةٍ؛ لأنَّهم كانوا يتابِعون عليهم الغاراتِ في كُلِّ مكانٍ، فلا يَعرِفون معهم الهُدوءَ ولا السِّلمَ.
وذكر ابنُ حَزمٍ أنَّهم (إنَّما كانوا أهلَ عَسكَرٍ واحدٍ أوَّلُهم نافِعُ بنُ الأزرَقِ، وآخِرُهم عُبَيدةُ بنُ هلالٍ العَسكريُّ، واتَّصل أمرُهم بِضعًا وعِشرين سنةً) [103] ((الفصل)) (4/189، 190). ، والمشهورُ في هذا الاسمِ الذي ذكره ابنُ حزمٍ أنَّه عُبَيدةُ بنُ هِلالٍ اليَشكُريُّ، وليس العَسكريَّ كما قال.
وتُعتَبَرُ فِرقةُ الأزارقةِ أُمَّ الفِرَقِ بَعدَ المُحَكِّمةِ؛ إذ إنَّ النَّجَداتِ انشقَّت عن النَّجَداتِ العَطَويَّةِ، وانشَقَّت عن العَطَويَّةِ العَجاردةِ، وهكذا. ويُعَدُّ نافِعُ بنُ الأزرَقِ من مشاهيرِ الخَوارِجِ؛ فقد كان هو وفِرقتُه السَّبَبَ في تشعُّبِ آراءِ الخَوارِجِ على هذا النَّحوِ، فهو أوَّلُ من فتَح أبوابَ الخلافِ بَينَ الخَوارِجِ بتلك الأحداثِ التي بيَّنها صاحِبُ كتابِ (الأديان) بقولِه: (لم يزالوا على ذلك -أي: على الاتِّفاقِ- إلى أن مَرَق عليهم نافِعُ بنُ الأزرَقِ، فشَتَّت كَلِمتَهم وفَرَّق جماعتَهم وخالَف أمرَهم وحاد عن اعتقادِهم، أحدث أمورًا خالف فيها المُسلِمين وأهلَ الاستقامةِ في الدِّينِ -يعني بهم الإباضيَّةَ- وتتابعت الخَوارِجُ وافترقَت إلى سِتَّ عَشرةَ فِرقةً بفِرقةِ أهلِ الاستقامةِ)، وقال عن مخالَفةِ نافعٍ لِما عُرِف عن الخَوارِجِ من اعتقادٍ: إنَّه (أوَّلُ من خالف اعتقادَ أهلِ الاستقامةِ، وشَقَّ عصا المُسلِمين، وفَرَّق جماعتَهم؛ انتحَل الهِجرةَ وسَبى أهلَ القبلةِ، وغَنِم أموالَهم، وسبى ذراريَّهم، وسَنَّ تشريكَ أهلِ القبلةِ، وتبرَّأ من القاعِدِ، ولو كان عارفًا لأمرِه تابعًا لمذهبِه، واستحَلَّ استعراضَ النَّاسِ بالسَّيفِ، وانتحل المُهَجِّرةَ، وحرَّم مُناكَحتَهم وذبائحَهم ومُوارثتَهم، وابتدعَ اعتقاداتٍ فاسدةً وآراءً حائدةً، خالف فيها المُسلِمين وأهلَ الاستقامةِ في الدّينِ، وخرَج من البصرةِ إلى الأهوازِ، فغَلَب عليها وعلى ما والاها من بلادِ فارِسَ وكَرْمانَ وسِجِسْتانَ ومَكْرانَ) [104] ((الأديان)) (ص: 97). .

انظر أيضا: