موسوعة الفرق

المَبحثُ الأوَّلُ: التَّأثيرُ الإجماليُّ المُشتَرَكُ على بقيَّةِ الفِرَقِ


كان للجَهْميَّةِ أثَرٌ كبيرٌ مُشتَرَكٌ على بقيَّةِ الفِرَقِ، وهذا القَدْرُ المشتَرَكُ متفاوِتٌ، فمُقِلٌّ ومُكثِرٌ.
ومن أهَمِّ الأصولِ المُشترَكةِ التي تسرَّبت إلى الفِرَقِ، وإليها يُعزى أكثَرُ أسبابِ انحرافاتِهم العَقَديَّةِ: مُعارَضةُ الوَحيِ، وإلغاءُ النُّصوصِ، وتقديمُ الآراءِ والعُقولِ عليها.
فقد كان جَهْمُ بنُ صَفوانَ كغيرِه من أهلِ البِدَعِ لم يُعطِ الكِتابَ والسُّنَّةَ حَقَّهما، بل استدلَّ بآياتٍ مُتشابِهاتٍ، وأوَّلَ القُرآنَ على غيرِ تأويلِه، وحرَّفه عن مواضِعِه، ولا غَرْوَ في ذلك؛ فإنَّه كان يزعُمُ أنَّ القُرآنَ مخلوقٌ، وهو قَولٌ يتوصَّلُ به إلى إنكارِ الوَحيِ، والحَطِّ من عُلُوِّ مرتبةِ القرآنِ وهيبتِه في النُّفوسِ [336] يُنظر: ((مقالات الجهم بن صفوان وأثرها في الفرق الإسلامية)) لياسر قاضي (1/ 135). .
قال ابنُ القيِّمِ: (لمَّا كَثُرت الجَهْميَّةُ في أواخِرِ عَصرِ التَّابعينَ كانوا هم أوَّلَ من عارضَ الوَحيَ بالرَّأيِ، ومع هذا كانوا قليلينَ أوَّلًا مقموعينَ مذمومينَ عِندَ الأئمَّةِ، وأوَّلُهم شيخُهم الجَعْدُ بنُ دِرهَمٍ، وإنَّما نفَقَ عِندَ النَّاسِ بعضَ الشَّيءِ؛ لأنَّه كان مُعلِّمَ مَروانَ بنِ مُحمَّدٍ وشيخَه، ولهذا كان يُسمَّى مَروانَ الجَعْديَّ، وعلى رأسِه سَلَب اللهُ بني أميَّةَ المُلْكَ والخِلافةَ وشَتَّتهم في البلادِ ومزَّقهم كُلَّ مُمَزَّقٍ ببركةِ شَيخِ المُعطِّلةِ النُّفاةِ، فلمَّا اشتهَرَ أمرُه في المُسلِمينَ طلَبَه خالِدُ بنُ عبدِ اللهِ القَسْريُّ -وكان أميرًا على العراقِ- حتَّى ظَفِر به فخَطَب النَّاسَ في يومِ الأضحى، وكان آخِرَ ما قال في خُطبتِه: "أيُّها النَّاسُ ضَحُّوا، تقبَّل اللهُ ضحاياكم، فإنِّي مُضَحٍّ بالجَعْدِ بنِ دِرهَمٍ؛ فإنَّه زعَم أنَّ اللهَ لم يُكلِّمْ موسى تكليمًا، ولم يتَّخِذْ إبراهيمَ خليلًا، تعالى اللهُ عمَّا يقولُ الجَعْدُ عُلُوًّا كبيرًا"، ثُمَّ نزل فذبحَه في أصلِ المِنبَرِ، فكان أُضحيَّةً.
ثُمَّ طَفِئَت تلك البِدعةُ، فكانت كأنَّها حصاةٌ رُمِيَ بها، والنَّاسُ إذ ذاك عُنُقٌ واحِدٌ، أنَّ اللهَ فَوقَ سمواتِه على عَرشِه، بائِنٌ مِن خَلقِه، موصوفٌ بصفاتِ الكمالِ ونُعوتِ الجلالِ، وأنَّه كلَّم عَبدَه ورَسولَه موسى تكليمًا، وتجلَّى للجبَلِ فجَعَله دَكًّا هشيمًا.
إلى أن جاء أوَّلُ المائةِ الثَّالثةِ ووَلِيَ على النَّاسِ عبدُ اللهِ المأمونُ، وكان يحِبُّ أنواعَ العُلومِ، وكان مجلِسُه عامِرًا بأنواعِ المُتكلِّمينَ في العُلومِ، فغَلَب عليه حُبُّ المعقولاتِ، فأمَرَ بتعريبِ كُتُبِ يونانَ، وأقدَمَ لها المُترجِمينَ من البلادِ، فعُرِّبَت له واشتغل بها النَّاسُ، والمَلِكُ سُوقٌ ما سُوِّقَ فيه جُلِب إليه، فغلب على مجلِسِه جماعةٌ من الجَهْميَّةِ ممَّن كان أبوه الرَّشيدُ قد أقصاهم وتبِعَهم بالحَبسِ والقَتلِ فحَشَوا بِدعةَ التجَهُّمِ في أذُنِه وقَلبِه، فقَبِلَها واستحسَنها ودعا النَّاسَ إليها، وعاقبهم عليها، فلم تَطُلْ مُدَّتُه، فصار الأمرُ بَعدَه إلى المُعتَصِمِ، وهو الذي ضرَبَ الإمامَ أحمَدَ بنَ حَنبَلٍ، فقام بالدَّعوةِ بَعدَه والجَهْميَّةُ تُصوِّبُ فِعلَه وتدعوه إليه وتخبرُه أنَّ ذلك هو تنزيهُ الرَّبِّ عن التَّشبيهِ والتَّمثيلِ والتَّجسيمِ، وهم الذين قد غلَبوا على قُربِه ومجلِسِه، والقُضاةُ والوُلاةُ منهم؛ فإنَّهم تَبَعٌ لملوكِهم، ومع هذا فلم يكونوا يتجاسَرونَ على إلغاءِ النُّصوصِ، وتقديمِ الآراءِ والعُقولِ عليها) [337] ((الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة)) (3/ 1070- 1073). .

انظر أيضا: