موسوعة الفرق

المَطلَبُ الثَّاني: الرَّدُّ على الجَهْميَّةِ في إنكارِهم الصِّراطَ


ردَّ العُلَماءُ مقالةَ الجَهْميَّةِ في إنكارِهم الصِّراطَ في الآخِرةِ، وأقاموا البُرهانَ على فسادِها، ومن الوُجوهِ التي ذكَروها:
الوَجهُ الأوَّلُ: مُخالَفةُ رأيِهم لنُصوصِ الكِتابِ والسُّنَّةِ
1- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ويُضرَبُ جِسرُ جهنَّمَ. قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: فأكونُ أوَّلَ من يجيزُ، ودعاءُ الرُّسُلِ يومَئذٍ: اللَّهمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، وبه كلاليبُ مِثلُ شَوكِ السَّعدانِ، أمَا رأيتُم شَوكَ السَّعدانِ؟ قالوا: بلى يا رسولَ اللهِ. قال: فإنَّها مِثلُ شَوكِ السَّعدانِ، غَيرَ أنَّها لا يَعلَمُ قَدْرَ عِظَمِها إلَّا اللهُ. فتَخطَفُ النَّاسَ بأعمالِهم؛ منهم المُوبَقُ بعَمَلِه، ومنهم المُخَردَلُ ثُمَّ ينجو )) [264] أخرجه البخاري (6573) واللفظ له، ومسلم (182). .
2- عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ قال: قُلْنا: يا رسولَ اللهِ، هل نرى ربَّنا يومَ القيامةِ؟.. الحديثَ، وفيه: ((ثُمَّ يؤتى بالجِسرِ، فيُجعَلُ بَينَ ظَهْرَي جَهنَّمَ. قُلْنا: يا رسولَ اللهِ، وما الجِسرُ؟ قال: مَدحَضةٌ مَزَلَّةٌ، عليه خطاطيفُ وكلاليبُ وحَسَكةٌ مُفلَطحةٌ لها شوكةٌ عُقَيفاءُ تكونُ بنَجدٍ، يقالُ لها السَّعدانُ، المُؤمِنُ عليها كالطَّرْفِ، وكالبَرقِ، وكالرِّيحِ، وكأجاويدِ الخَيلِ والرِّكابِ؛ فناجٍ مُسلَّمٌ، وناجٍ مخدوشٌ، ومكدوسٌ في نارِ جهنَّمَ، حتى يمرَّ آخِرُهم يُسحَبُ سَحبًا)) [265] أخرجه البخاري (7439) واللفظ له، ومسلم (183). .
وعن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (بلغَني أنَّ الِجسرَ أدَقُّ من الشَّعرةِ، وأحَدُّ من السَّيفِ) [266] أخرجه مسلم (183). .
الوَجهُ الثَّاني: مُخالَفةُ إجماعِ سلَفِ الأمَّةِ
أجمَع العُلَماءُ على إثباتِ الصِّراطِ، وجعَلوا ذلك من جملةِ عقائِدِهم.
وقد نقَل الإجماعَ بعضُ العُلَماءِ:
1- قال أبو الحسَنِ الأشعَريُّ: (أجمَعوا على أنَّ الصِّراطَ ‌جِسرٌ ممدودٌ على جهنَّمَ، يجوزُ عليه العبادُ بقَدْرِ أعمالِهم، وأنَّهم يتفاوتونَ في السُّرعةِ والإبطاءِ على قَدْرِ ذلك) [267] ((رسالة إلى أهل الثغر)) (ص: 163). .
2- قال النَّوويُّ: (مَذهَبُ أهلِ الحقِّ إثباتُه، وقد ‌أجمع ‌السَّلَفُ ‌على ‌إثباتِه، ‌وهو ‌جِسرٌ على مَتنِ جَهنَّمَ يمُرُّ عليه النَّاسُ كُلُّهم؛ فالمُؤمِنونَ يَنجُونَ على حسَبِ حالِهم، أي: منازِلِهم، والآخَرونَ يَسقُطونَ فيها، أعاذنا اللهُ الكَريمُ منها) [268] ((شرح مسلم)) (3/ 20). .
الوَجهُ الثَّالِثُ: أنَّ إنكارَ الجَهْميَّةِ وغيرِهم للصِّراطِ ليس لهم ما يتمسَّكونَ به إلَّا شُبُهاتٌ باطلةٌ واستبعادٌ له، ظانِّينَ أنَّ استبعادَه في عُقولِهم يَصِحُّ أن يكونَ دليلًا على إنكارِه
فيقالُ لهم: إنَّكم تردُّونَ أقوالَ نبيِّكم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بمَحضِ الهوى والشُّبُهاتِ، وليس لكم أيُّ دليلٍ، ومَن رَدَّ أقوالَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَعدَ صِحَّةِ ثُبوتِها، فلا رَيبَ في خُسرانِه ومُفارقتِه طريقَ المُؤمِنينَ [269] يُنظر: ((فرق معاصرة)) لعواجي (3/1149- 1151)، وللتوسع في مناقشة شبهاتهم: ((دفع دعوى المعارض العقلي عن الأحاديث المتعلقة بمسائل الاعتقاد)) للنُّعمي (ص: 573- 580). .
ومِن شُبُهاتِهم: دعوى استحالةِ الجَمعِ بَينَ كونِ الصِّراطِ أدَقَّ من الشَّعرِ، وأحَدَّ من السَّيفِ، وبَينَ ما ورد من وُقوفِ الملائكةِ على جَنَبتيِ الصِّراطِ، وكونِ العبادِ يمُرُّونَ على هذا الصِّراطِ مع صِفتِه المذكورةِ.
فالجوابُ أنَّه ليس فيما ورَدَت به الدَّلائِلُ من خَبَرِ الصِّراطِ ما يُحيلُه العقلُ، وأمَّا كونُ الحِسِّ والعادةِ يقضيانِ بامتناعِ ذلك، فهذا قد يُسلَّمُ، لكِنْ ما ينبغي ملاحظتُه هنا أنَّ موجِبَ خطأِ المُنكِرينَ لهذه الدَّلائِلِ أمرانِ:
الأمرُ الأوَّلُ: عدمُ تحقيقِهم الإيمانَ بكمالِ قُدرةِ الرَّبِّ تبارك وتعالى، وأنَّه على كُلِّ شيءٍ قديرٌ، وقد عاب اللهُ على الكافرينَ شكَّهم في ذلك، فقال سُبحانَه: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر: 67] ، وإلَّا فمَن استقرَّ في قلبِه ذلك وأيقَن به، فإنَّه من المُحالِ أن يقَعَ لديه تشكيكٌ لما دلَّت عليه تلك الأخبارُ الصَّحيحةُ؛ فإنَّ القادِرَ على إمساكِ الطَّيرِ في الهواءِ قادِرٌ على أن يمسِكَ عليه المُؤمِنَ فيُجريَه أو يُمشيَه.
الأمرُ الثَّاني: أنَّ ممَّا أوقع هؤلاء في الغَلَطِ أنَّهم جعلوا كلَّ ما يغيبُ عن الحِسِّ يلزَمُ منه استحالةُ ذلك عقلًا، فالقاعدةُ عِندَ هؤلاءِ: أنَّ كُلَّ ما لا يُدرَكُ بالِحسِّ فليس بمعقولٍ، وكُلَّ ما خرج عن المعهودِ المُشاهَدِ عِندَ المُنكِرِ فلا بدَّ أن يكونَ مستحيلًا، ولا شكَّ أنَّ هذه القاعدةَ هي أصلُ ضلالِ من ضَلَّ وأنكر هذه الأحاديثَ، وهذا الخَلطُ من أعظَمِ الدَّلائلِ على بُعدِ المُنكِرينَ عن موارِدِ العِلمِ والعَقلِ [270] يُنظر: ((دفع دعوى المعارض العقلي)) للنُّعمي (ص: 577). .

انظر أيضا: