موسوعة الفرق

المَطلَبُ الثَّاني: مِن مَضارِّ الفُرقةِ وآثارِها على المُجتمَعِ المُسلِمِ: وُقوعُ العَداوةِ والبَغضاءِ، وذَهابُ المحبَّةِ والأُلفةِ


إنَّ مِن أصولِ الدِّينِ العظيمةِ، وقواعِدِه المُهمَّةِ التي هي مِن جِماعِ الدِّينِ: ما وصَّى اللهُ تعالى به مِن تأليفِ القُلوبِ، واجتِماعِ الكلمةِ، وصلاحِ ذاتِ البَينِ [276] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/51). .
ولكنَّ أهلَ الفُرقةِ والبِدعةِ يأبَونَ ذلك، فما يزالونَ يَهدِمونَ الدِّينَ، ويُفرِّقونَ قُلوبَ المُسلِمينَ، ويوقِعونَ بَينَهم العَداوةَ والبَغضاءَ بما يفعلونَه مِن تفريقِ المُسلِمينَ شِيَعًا وأحزابًا.
قال اللهُ تعالى: وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم: 31 -32] .
قال السَّعديُّ: (يتوعَّدُ تعالى الذين فرَّقوا دينَهم، أي: شتَّتوه وتفرَّقوا فيه، وكُلٌّ أخَذ لنَفسِه نَصيبًا مِن الأسماءِ التي لا تُفيدُ الإنسانَ في دينِه شيئًا، كاليهوديَّةِ والنَّصرانيَّةِ والمجوسيَّةِ، أو لا يَكمُلُ بها إيمانُه؛ بأن يأخُذَ مِن الشَّريعةِ شيئًا، ويجعلَه دينَه، ويدَعَ مِثلَه، أو ما هو أَولى منه، كما هو حالُ أهلِ الفُرقةِ مِن أهلِ البِدَعِ والضَّلالِ والمُفرِّقينَ للأمَّةِ، ودلَّت الآيةُ الكريمةُ أنَّ الدِّينَ يأمُرُ بالاجتِماعِ والائتِلافِ، وينهى عن التَّفرُّقِ والاختِلافِ في أهلِ الدِّينِ، وفي سائِرِ مسائِلِه الأصوليَّةِ والفُروعيَّةِ، وأمَره أن يتبرَّأَ ممَّن فرَّقوا دينَهم، فقال: لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ، أي: لسْتَ منهم وليسوا منك؛ لأنَّهم خالَفوك وعانَدوك، إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ يُرَدُّونَ إليه، فيُجازيهم بأعمالِهم) [277] ((تفسير السعدي)) (ص: 282). .
ولقد أخبَر اللهُ عزَّ وجلَّ عن حالِ أهلِ الفُرقةِ والاختِلافِ مِن التَّنازُعِ والشِّقاقِ الواقِعِ بَينَهم، والذي هو مَظِنَّةُ إلقاءِ العَداوةِ والبَغضاءِ، فقال اللهُ تعالى: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة: 137] .
قال ابنُ كثيرٍ: (يقولُ تعالى: فَإِنْ آمَنُوا أي: الكُفَّارُ مِن أهلِ الكتابِ وغَيرِهم، بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ أيُّها المُؤمِنونَ، مِن الإيمانِ بجميعِ كُتبِ اللهِ ورُسلِه، ولم يُفرِّقوا بَينَ أحدٍ منهم، فَقَدِ اهتَدَوا أي: فقد أصابوا الحقَّ، وأُرشِدوا إليه، وَإِنْ تَوَلَّوْا أي: عن الحقِّ إلى الباطِلِ، بَعدَ قيامِ الحُجَّةِ عليهم، فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ، أي: فسينصُرُك عليهم ويُظفِرُك بهم) [278] ((تفسير ابن كثير)) (1/ 450). .
وقال اللهُ سبحانَه: وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة: 14] .
قال ابنُ تيميَّةَ: (متى ترَك النَّاسُ بعضَ ما أمَرهم اللهُ به وقَعَت بَينَهم العَداوةُ والبَغضاءُ، وإذا تفرَّق القومُ فسَدوا وهلَكوا، وإذا اجتمَعوا صلَحوا وملَكوا؛ فإنَّ الجماعةَ رحمةٌ، والفُرقةَ عذابٌ) [279] ((مجموع الفتاوى)) (3/259) (13/227). .
وعن أبي الدَّرداءِ رضِي اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ألَا أُخبِرُكم بأفضَلَ مِن دَرجةِ الصِّيامِ والصَّلاةِ والصَّدقةِ؟، قالوا: بلى، قال: صلاحُ ذاتِ البَينِ؛ فإنَّ فسادَ ذاتِ البَينِ هي الحالِقةُ )) [280] أخرجه أبو داود (4919)، والترمذي (2509) واللَّفظُ له، وأحمد (27508). صحَّحه الترمذي، وابن حبان في ((صحيحه)) (5092)، وابن عساكر في ((معجم الشيوخ)) (2/1146). .
قال الشَّاطِبيُّ: (قد بيَّن عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنَّ فسادَ ذاتِ البَينِ هي الحالِقةُ، وأنَّها تحلِقُ الدِّينَ، هذه الشَّواهِدُ تدُلُّ على وُقوعِ الافتِراقِ والعَداوةِ عندَ وُقوعِ الابتِداعِ، وأوَّلُ شاهِدٍ عليه في الواقِعِ قصَّةُ الخوارِجِ؛ إذ عادَوا أهلَ الإسلامِ حتَّى صاروا يقتلونَهم، ويدَعونَ الكُفَّارَ كما أخبَر عنه الحديثُ الصَّحيحُ، ثُمَّ يليهم كُلُّ مَن كان له صَولةٌ منهم بقُربِ المُلوكِ؛ فإنَّهم تناوَلوا أهلَ السُّنَّةِ بكُلِّ نَكالٍ وعذابٍ وقَتلٍ أيضًا، حسَبَما بيَّنه جميعُ أهلِ الأخبارِ.
ثُمَّ يليهم كُلُّ مَن ابتدَع بِدعةً؛ فإنَّ مِن شأنِهم أن يُثبِّطوا النَّاسَ عن اتِّباعِ الشَّريعةِ، ويذُمُّونَهم ويزعُمونَ أنَّهم الأرجاسُ الأنجاسُ المُكبِّينَ على الدُّنيا، ويضعونَ عليهم شواهِدَ الآياتِ في ذمِّ الدُّنيا وذمِّ المُكبِّينَ عليها...، أهلُ الضَّلالِ يسبُّونَ السَّلفَ الصَّالِحَ لعلَّ بِضاعتَهم تَنفُقُ، يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة: 32] ، وأصلُ هذا الفسادِ مِن قِبَلِ الخوارِجِ؛ فهُم أوَّلُ مَن لعَن السَّلفَ الصَّالِحَ، وكفَّر الصَّحابةَ رضِي اللهُ عن الصَّحابةِ، ومِثلُ هذا كُلِّه يورِثُ العَداوةَ والبَغضاءَ) [281] ((الاعتصام)) (ص: 95) باختصارٍ يسيرٍ. .

انظر أيضا: