موسوعة الفرق

المَطلَبُ الثَّاني: الرَّدُّ على الجَهْميَّةِ في إنكارِهم رؤيةَ اللهِ تعالى في الآخِرةِ


ردَّ أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ ضلالاتِ الجَهْميَّةِ ومن قال بقَولِهم بنَفيِ رؤيةِ اللهِ تعالى في الآخرةِ، وأثبَتوا ما أثبَته اللهُ عزَّ وجلَّ ورَسولُه r، وذلك من عدَّةِ أوجُهٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّ نفيَ الرُّؤيةِ مُخالِفٌ للكِتابِ والسُّنَّةِ والعَقلِ
ومن الأدِلَّةِ التي خالفَها الجَهْميَّةُ ومن قال بقولِهم:
1- قَولُ اللهِ تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين: 15] .
قال الزَّجَّاجُ: (في هذه الآيةِ دليلٌ على أنَّ اللهَ ‌يُرَى ‌في الآخرةِ، لولا ذلك لما كان في هذه الآيةِ فائدةٌ، ولا خسَّت منزلةُ الكُفَّارِ بأنَّهم يُحجَبونَ عن اللهِ عزَّ وجلَّ، وقال تعالى في المُؤمِنينَ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 22-23] ، فأعلم اللَّهُ عزَّ وجلَّ أنَّ المُؤمِنينَ ينظُرونَ إلى اللهِ، وأنَّ الكُفَّارَ يُحجَبونَ عنه) [253] ((معاني القرآن وإعرابه)) (5/ 299). .
وقال السَّمعانيُّ: (في الآيةِ دليلٌ على أنَّ المُؤمِنينَ يَرَونَ اللهَ تعالى، وقد نُقِل هذا الدَّليلُ عن مالِكٍ والشَّافعيِّ رحمةُ اللهِ عليهما، قال مالِكٌ: لمَّا حَجَب اللهُ الفُجَّارَ عن رؤيتِه دلَّ أنَّه ليتجَلَّى للمُؤمِنينَ حتى يَرَوه. ومِثلُ هذا رواه الرَّبيعُ بنُ سُلَيمانَ عن الشَّافعيِّ؛ قال الرَّبيعُ: قُلتُ للشَّافعيِّ: أيُرى اللهُ بهذا؟ فقال: لو لم أوقِنْ أنَّ اللهَ ‌يُرى ‌في الجنَّةِ لم أعبُدْه في الدُّنيا.
وقد رُوِيَ هذا الدَّليلُ عن أحمدَ بنِ يحيى بنِ ثَعلَبٍ الشَّيبانيِّ...
وعن الحسَنِ البَصريِّ قال: لو عَرَف المُؤمِنون أنَّهم لا يَرَونَ اللهَ في الآخِرةِ لانزهَقَت أرواحُهم في الدُّنيا!) [254] ((تفسير القرآن)) (6/ 181). .
2- حديثُ ‌جريرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كُنَّا جلوسًا عِندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذْ نظَر إلى القَمَرِ ليلةَ البدرِ، قال: إنَّكم ستَرَونَ ربَّكم كما تَرَونَ هذا القَمَرَ، لا تُضامُونَ في رؤيتِه، فإن استطعتُم ألَّا تُغلَبوا على صلاةٍ قَبلَ طُلوعِ الشَّمسِ، وصلاةٍ قَبلَ غُروبِ الشَّمسِ، فافعَلوا )) [255] أخرجه البخاري (7434) واللفظ له، ومسلم (633). . وفي روايةٍ: ((إنَّكم ‌ستَرَونَ ‌ربَّكم عِيانًا)) [256] أخرجها البخاري (7435). .
وقد ذكَر عُثمانُ بنُ سعيدٍ الدَّارميُّ جملةً من أدلَّةِ إثباتِ رُؤيةِ اللهِ تعالى، ثُمَّ قال: (فهذه الأحاديثُ كُلُّها وأكثَرُ منها قد رُوِيت في الرُّؤيةِ، على تصديقِها والإيمانِ بها أدرَكْنا أهلَ الفِقهِ والبَصَرِ مِن مشايخِنا، ولم يَزَلِ المُسلِمونَ قديمًا وحديثًا يَروونَها ويؤمِنونَ بها، لا يَستنكِرونَها ولا يُنكِرونَها، ومن أنكَرها من أهلِ الزَّيغِ نسَبوه إلى الضَّلالِ، بل كان من أكبرِ رجائِهم وأجزَلِ ثوابِ اللهِ في أنفُسِهم النَّظَرُ إلى وَجهِ خالِقِهم، حتى ما يَعدِلونَ به شيئًا من نعيمِ الجنَّةِ) [257] ((الرد على الجهمية)) (ص: 122). .
وقال أبو الحسَنِ الأشعَريُّ: (نَدينُ بأنَّ اللهَ ‌يُرى ‌في الآخرةِ بالأبصارِ، كما يُرى القَمَرُ ليلةَ البَدرِ، يراه المُؤمِنونَ كما جاءت الرِّواياتُ عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. ونقولُ: إنَّ الكافِرينَ محجوبونَ عنه إذا رآه المُؤمِنونَ في الجنَّةِ) [258] ((الإبانة عن أصول الديانة)) (ص: 25). .
وذكر ابنُ تيميَّةَ أنَّ مقالةَ نَفيِ الرُّؤيةِ مُخالِفةٌ للنُّصوصِ ولمُقتَضى العَقلِ، فقال: (قد ثبَت بالكِتابِ والسُّنَّةِ واتِّفاقِ سلَفِ الأمَّةِ وأئمَّتِها، بل وبصرائِحِ العَقلِ- بُطلانُ هذا المَذهَبِ) [259] ((بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية)) (1/ 228). .
الوَجهُ الثَّاني: أنَّ احتِجاجَهم ببعضِ الأدِلَّةِ ليس صحيحًا
ومن ذلك محاولتُهم الاستدلالَ بقَولِ اللهِ تعالى: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ [الأنعام: 103] على نفيِ رُؤيتِه سُبحانَه.
قال ابنُ تيميَّةَ: (الآيةُ حُجَّةٌ عليهم لا لهم؛ لأنَّ الإدراكَ إمَّا أن يرادَ به مُطلَقُ الرُّؤيةِ، أو الرُّؤيةُ المقيَّدةُ بالإحاطةِ. والأوَّلُ باطِلٌ؛ لأنَّه ليس كُلُّ من رأى شيئًا يقالُ: إنَّه أدركَه، كما لا يقالُ: أحاط به ... ومَن رأى جوانِبَ الجيشِ أو الجبَلِ أو البُستانِ أو المدينةِ، لا يقالُ: إنَّه أدركَها، وإنَّما يقالُ أدركَها إذا أحاط بها رُؤيةً، ونحن في هذا المقامِ ليس علينا بيانُ ذلك، وإنَّما ذكَرْنا هذا بيانًا لسنَدِ المنعِ، بل المستدِلُّ بالآيةِ عليه أن يُبيِّنَ أنَّ الإدراكَ في لغةِ العربِ مرادِفٌ للرُّؤيةِ، وأنَّ كُلَّ من رأى شيئًا يقالُ في لغتِهم: إنَّه أدركَه، وهذا لا سبيلَ إليه، كيف وبينَ لفظِ الرُّؤيةِ ولفظِ الإدراكِ عُمومٌ وخُصوصٌ أو اشتراكٌ لفظيٌّ؟ فقد تقعُ رؤيةٌ بلا إدراكٍ، وقد يقعُ إدراكٌ بلا رؤيةٍ؛ فإنَّ الإدراكَ يُستعمَلُ في إدراكِ العِلمِ وإدراكِ القُدرةِ، فقد يُدرَكُ الشَّيءُ بالقُدرةِ وإن لم يشاهَدْ، كالأعمى الذي طلب رجلًا هاربًا منه فأدركَه ولم يَرَه، وقد قال تعالى: فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء: 61-62] ، فنفى موسى الإدراكَ مع إثباتِ التَّرائي، فعُلِم أنَّه قد يكونُ رؤيةٌ بلا إدراكٍ، والإدراكُ هنا هو إدراكُ القُدرةِ، أي: مُلحَقونَ مُحاطٌ بنا، وإذا انتفى هذا الإدراكُ فقد تنتفي إحاطةُ البصَرِ أيضًا.
وممَّا يُبيِّنُ ذلك أنَّ اللهَ تعالى ذكَر هذه الآيةَ يمدَحُ بها نفسَه سُبحانَه وتعالى، ومعلومٌ أنَّ كونَ الشَّيءِ لا يُرى ليس صفةَ مَدحٍ؛ لأنَّ النَّفيَ المحضَ لا يكونُ مدحًا إن لم يتضمَّنْ أمرًا ثُبوتيًّا، ولأنَّ المعدومَ أيضًا لا يُرى، والمعدومُ لا يُمدَحُ، فعُلِم أنَّ مجرَّدَ نفيِ الرُّؤيةِ لا مَدْحَ فيه، وهذا أصلٌ مُستمِرٌّ، وهو أنَّ العدَمَ المحْضَ الذي لا يتضَمَّنُ ثُبوتًا لا مَدْحَ فيه ولا كمالَ، فلا يَمدَحُ الرَّبُّ نفسَه به، بل ولا يُصِفُ نفسَه به، وإنَّما يِصُفها بالنَّفيِ المتضَمِّنِ معنى ثُبوتٍ... فعُلِم أنَّ نفيَ الرُّؤيةِ عَدَمٌ محْضٌ، ولا يقالُ في العَدَمِ المحْضِ: لا يُدرَكُ، وإنَّما يقالُ هذا فيما لا يُدرَكُ لعظمتِه لا لعَدَمِه. وإذا كان المنفيُّ هو الإدراكَ فهو سُبحانَه وتعالى لا يحاطُ به رُؤيةً كما لا يُحاطُ به عِلمًا، ولا يلزَمُ من نفيِ إحاطةِ العِلمِ والرُّؤيةِ نَفيُ العِلمِ والرُّؤيةِ، بل يكونُ ذلك دليلًا على أنَّه يُرى ولا يحاطُ به، كما يُعلَمُ ولا يحاطُ به؛ فإنَّ تخصيصَ الإحاطةِ بالنَّفيِ يقتضي أنَّ مُدرَكَ الرُّؤيةِ ليس بمَنفيٍّ، وهذا الجوابُ قَولُ أكثَرِ العُلَماءِ من السَّلَفِ وغيرِهم) [260] ((دقائق التفسير)) (2/ 126). .

انظر أيضا: