موسوعة الفرق

المَبحثُ الثَّاني: الرَّدُّ على مَذهَبِ الجَهْميَّةِ في عُلُوِّ اللهِ تعالى


اعتمَد الجَهْميَّةُ على بعضِ ما يظنُّونَه أدِلَّةً على نفيِ صفةِ العُلُوِّ وغيرِها من الصِّفاتِ، وهي في حقيقتِها حُجَجٌ عَقليَّةٌ مزعومةٌ ومُبتدَعةٌ، بناها الجَهْميَّةُ على أصولٍ فلسفيَّةٍ كانوا قد تأثَّروا بها، وليس لهؤلاء المُعطِّلةِ في نَفيِهم هذا أساسٌ من كِتابِ اللهِ أو سُنَّةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإذا وجدوا نصًّا قد يُوظَّفُ لصالحِ مقالتِهم البِدعيَّةِ فعلوا ذلك، وهم إنَّما استدلُّوا بعقولِهم لا بالوَحيِ.
قال ابنُ تيميَّةَ: (جميعُ أهلِ البِدَعِ قد يتمسَّكون بنُصوصٍ، كالخوارجِ والشِّيعةِ، والقَدَريَّةِ والمُرجِئةِ وغَيرِهم، إلَّا الجَهْميَّةَ؛ فإنَّهم ليس معهم عن الأنبياءِ كَلِمةٌ واحدةٌ تُوافِقُ ما يقولونَه في النَّفيِ) [162] ((مجموع الفتاوى)) (5/122). .
ومن وُجوهِ الرَّدِّ عليهم:
1- أنَّ نَفيَ كَونِ اللهِ تعالى في جِهةِ العُلُوِّ مُخالِفٌ للفِطرةِ والضَّرورةِ التي يجِدُها النَّاسُ في قُلوبِهم
قال يزيدُ بنُ هارُونَ الواسِطيُّ: (من زعَم أنَّ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى على خِلافِ ما يَقِرُّ في قُلوبِ العامَّةِ، فهو جَهْميٌّ) [163] يُنظر: ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (2/ 482)، ((العرش)) للذهبي (2/ 261). .
وقال القَعْنبيُّ كما قال الواسِطيُّ: (‌مَن ‌لا ‌يُوقِنُ ‌أنَّ الرَّحمنَ ‌على ‌العَرشِ ‌استوى ‌كما ‌يَقِرُّ في قُلوبِ العامَّةِ، فهو جَهْميٌّ) [164] يُنظر: ((العلو للعلي الغفار)) للذهبي (ص: 166). .
وقال عبدُ اللهِ بنُ سَعيدِ بنِ كُلَّابٍ: (لو لم يشهَدْ لصِحَّةِ مَذهَبِ الجماعةِ في هذا الفَنِّ خاصَّةً إلَّا ما ذكَرْتُ من هذه الأمورِ، لكان فيه ما يكفي، كيف وقد غُرِس في بنيةِ الفِطرةِ وتعارُفِ الآدميِّينَ من ذلك ما لا شَيءَ أبيَنُ منه ولا أوكَدُ؟ بل لا تسأَلُ أحدًا من النَّاسِ عنه؛ عربيًّا ولا عَجَميًّا ولا مُؤمِنًا ولا كافِرًا، فتقولُ: أين ربُّك؟ إلَّا قال: في السَّماءِ، إن أفصَحَ، أو أومأَ بيَدِه أو أشارَ بطَرْفِه إن كان لا يُفصِحُ، لا يشيرُ إلى غيرِ ذلك من أرضٍ ولا سَهلٍ ولا جَبَلٍ، ولا رأينا أحدًا داعيًا له إلَّا رافعًا يَدَيه إلى السَّماءِ، ولا وجَدْنا أحدًا غيرَ الجَهْميَّةِ يُسألُ عن رَبِّه فيقولُ: في كُلِّ مكانٍ كما يقولونَ! وهم يَدَّعون أنَّهم أفضَلُ النَّاسِ كُلِّهم، فتاهت العُقولُ، وسقَطت الأخبارُ، واهتدى (جَهْمٌ) وَحدَه وخمسونَ رجُلًا معه! نعوذُ باللهِ من مُضِلَّاتِ الفِتَنِ) [165] يُنظر: ((كتاب الصفات)) لابن فورك، بواسطة: ((بيان تلبيس الجهمية)) لابن تيمية (1/ 91). .
وممَّا توارَدَ ذِكرُه في كتُبِ العقائِدِ والسِّيَرِ قِصَّةُ أبي المعالي الجُوَينيِّ مع أبي جَعفرٍ الهَمذانيِّ، التي تكشِفُ عن كونِ عُلُوِّ اللهِ تعالى مركوزًا في الفِطَرِ.
قال أبو جَعفرٍ ‌الهَمذانيُّ الحافِظُ: (سَمِعتُ أبا المعالي الجُوَينيَّ، وقد سُئِلَ عن قَولِه تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5] ، فقال: "كان اللهُ ولا عَرْشَ"، وجعل يتخبَّطُ في الكلامِ، فقُلتُ: قد عَلِمْنا ما أشَرْتَ عليه، فهل عِندَك للضَّروراتِ من حيلةٍ؟ فقال: ما تريدُ بهذا القَولِ، وما تعني بهذه الإشاراتِ؟
فقُلتُ: ما قال عارِفٌ قَطُّ: يا ربَّاه، إلَّا قَبلَ أن يتحرَّكَ لِسانُه قام من باطِنه قَصدٌ، لا يلتَفِتُ يَمْنَةً ولا يَسْرةً، يقصِدُ الفَوقَ. فهل لهذا القَصدِ الضَّروريِّ عِندَك من حيلةٍ؟ فنبِّئْنا نتخلَّصْ من الفَوقِ والتَّحتِ. وبكَيتُ وبكى الخَلقُ، فضَرَب بكُمِّه على السَّريرِ، وصاح بالحَيرةِ. وخَرَق ما كان عليه، وصارت قيامةٌ في المسجِدِ، ونَزَل ولم يُجِبْني إلَّا بـ: يا حبيبي، الحَيرةُ الحَيرةُ، والدَّهشةُ الدَّهشةُ الدَّهشةُ! فسَمِعتُ بَعدَ ذلك أصحابَه يقولونَ: سمِعْناه يقولُ: ‌حيَّرني ‌الهَمذانيُّ!) [166] رواها الذهبي بإسناده في ((تاريخ الإسلام)) (32/ 238). ويُنظر: ((الانتصار لأهل الأثر))، (ص: 66)، ((منهاج السنة النبوية)) (2/ 642)، ((بيان تلبيس الجهمية)) (1/ 50- 54)، (4/ 518)، كلها لابن تيمية، ((طبقات الشافعية)) لابن السبكي (5/ 190). .
2- عُلُوُّ اللهِ تعالى قد تواترت نصوصُ الكِتابِ والسُّنَّةِ في إثباتِه
وردت أدِلَّةٌ كثيرةٌ تفيدُ عُلُوَّ اللهِ تعالى، وهي أعظَمُ رَدٍّ على سائرِ أصنافِ الجَهْميَّةِ ومن تأثَّر بهم.
قال ابنُ أبي العِزِّ: (النُّصوصُ الواردةُ المتنوِّعةُ المُحكَمةُ على عُلُوِّ اللهِ على خَلقِه، وكونِه فوقَ عبادِه، التي تَقرُبُ من عِشرينَ نوعًا:
أحدُها: التصريحُ بالفوقيَّةِ مقرونًا بأداةِ «مِن» المُعيِّنةِ للفوقيَّةِ بالذَّاتِ، كقَولِه تعالى: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل: 50] .
الثَّاني: ذِكرُها مُجرَّدةً عن الأداةِ، كقَولِه: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام: 18] .
الثَّالثُ: التصريحُ بالعُروجِ إليه نحوُ: تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج: 4] ، وقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((فيَعرُجُ الذين باتوا فيكم فيَسألُهم )) [167] أخرجه البخاري (555)، ومسلم (632) باختلاف يسير من حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ بلفظ: ((ثم يعرُجُ الذين باتوا فيكم، فيسألُهم)). .
الرَّابعُ: التصريحُ بالصُّعودِ إليه، كقولِه تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر: 10] .
الخامِسُ: التصريحُ برفعِه بعضَ المخلوقاتِ إليه، كقولِه تعالى: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء: 158] ، وقَولِه: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران: 55] .
السَّادسُ: التصريحُ بالعُلُوِّ المُطلَقِ الدَّالِّ على جميعِ مراتِبِ العُلُوِّ ذاتًا وقَدرًا وشَرفًا، كقولِه تعالى: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة: 255] ، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ: 23] ، إنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى: 51] .
السَّابعُ: التصريحُ بتنزيلِ الكِتابِ منه، كقولِه تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الزمر: 1] .
الثَّامنُ: التصريحُ باختصاصِ بعضِ المخلوقاتِ بأنَّها عِندَه، وأنَّ بعضَها أقرَبُ إليه من بعضٍ، كقولِه: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ [الأعراف: 206] ، وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ... [الأنبياء: 19] .
التَّاسعُ: التصريحُ بأنَّه تعالى في السَّماءِ، وهذا عِندَ المفسِّرينَ من أهلِ السُّنَّةِ على أحَدِ وَجهَينِ: إمَّا أن تكونَ «في» بمعنى «على»، وإمَّا أن يرادَ بالسَّماءِ العُلُوُّ، لا يختَلِفون في ذلك، ولا يجوزُ الحَملُ على غيرِه.
العاشِرُ: التصريحُ بالاستواءِ مقرونًا بأداةِ «على» مختصًّا بالعرشِ، الذي هو أعلى المخلوقاتِ، مصاحِبًا في الأكثَرِ لأداةِ «ثمَّ» الدَّالَّةِ على الترتيبِ والمُهلةِ.
الحادي عَشَرَ: التصريحُ برَفعِ الأيدي إلى اللهِ تعالى؛ فعن سَلْمانَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: «إنَّ اللهَ ليستحِي أن يبسُطَ العَبدُ إليه يَدَيه يسألُه فيهما خيرًا، فيَرُدَّهما خائبَتَينِ» [168] أخرجه أحمد (23714) واللفظ له، وابن أبي شيبة (30171)، والحاكم (1830). صحَّح إسنادَه الحاكمُ، وقال: على شرط الشيخين، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (23714). .
الثَّاني عَشَرَ: التصريحُ بنُزولِه كُلَّ ليلةٍ إلى سماءِ الدُّنيا [169] أخرجه البخاري (1145)، ومسلم (758) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، بلفظ: ((ينزِلُ ربُّنا تبارك وتعالى كُلَّ ليلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنيا)). ، والنُّزولُ المعقولُ عِندَ جميعِ الأمَمِ إنما يكونُ من عُلُوٍّ إلى سُفلٍ.
الثَّالثَ عَشَرَ: الإشارةُ إليه حِسًّا إلى العُلُوِّ، كما أشار إليه مَن هو أعلَمُ بربِّه وبما يجِبُ له ويمتنِعُ عليه من جميعِ البشَرِ، لَمَّا كان بالمجمَعِ الأعظَمِ الذي لم يجتمِعْ لأحدٍ مِثلُه، في اليومِ الأعظَمِ، في المكانِ الأعظَمِ، قال لهم: أنتم مسؤولون عني، فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهَدُ أنَّك قد بلَّغتَ وأدَّيتَ ونصحْتَ، فرفع أُصبُعَه الكريمةَ إلى السَّماءِ رافعًا لها إلى مَن هو فَوقَها وفَوقَ كُلِّ شيءٍ، قائلًا: اللَّهُمَّ اشهَدْ [170] أخرجه مسلم (1218) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، بلفظ: (قالوا: نشهَدُ أنَّك قد بلَّغتَ وأدَّيتَ ونصحتَ. فقال بإصبَعِه السَّبابةِ، يرفَعُها إلى السَّماءِ، وينكُتُها إلى النَّاسِ: اللَّهمَّ اشهَدْ، اللَّهمَّ اشهَدْ، ثلاثَ مرَّاتٍ). . فكأنَّا نشاهِدُ تلك الأُصبُعَ الكريمةَ وهي مرفوعةٌ إلى اللهِ، وذلك اللِّسانَ الكريمَ وهو يقولُ لمن رفع أُصبُعَه إليه: اللَّهُمَّ اشهَدْ، ونشهَدُ أنَّه بلَّغ البلاغَ المُبِينَ، وأدَّى رسالةَ ربِّه كما أمَر، ونصَح أمَّتَه غايةَ النَّصيحةِ، فلا يحتاجُ مع بيانِه وتبليغِه وكَشفِه وإيضاحِه إلى تنطُّعِ المُتنطِّعينَ، وحَذلقةِ المُتحَذلِقينَ! والحمدُ للهِ ربِّ العالَمينَ.
الرَّابعَ عَشَرَ: التصريحُ بلفظِ «الأَينِ»، كقَولِ أعلَمِ الخَلقِ به، وأنصَحِهم لأمَّتِه، وأفصَحِهم بيانًا عن المعنى الصَّحيحِ، بلَفظٍ لا يُوهِمُ باطلًا بوَجهٍ: «أينَ اللهُ؟» [171] أخرجه مسلم (537) من حديث معاوية بن الحكَمِ السُّلَمي رضي الله عنه في غيرِ موضِعٍ.
الخامِسَ عَشَرَ: شهادتُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِمَن قال: إنَّ ربَّه في السَّماءِ، بالإيمانِ [172] أخرجه مسلم (537) من حديث معاوية بن الحكَمِ السُّلميِّ رضي الله عنه بلفظ: (... فأتيتُه بها فقال لها: أين اللهُ؟ قالت: في السَّماءِ. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسولُ الله. قال: أعتِقْها؛ فإنَّها مؤمنةٌ). .
السَّادِسَ عَشَرَ: إخبارُه تعالى عن فِرعَونَ أنَّه رامَ الصُّعودَ إلى السَّماءِ ليطَّلِعَ إلى إلهِ موسى، فيُكَذِّبُه فيما أخبره من أنَّه سُبحانَه فوقَ السَّمَواتِ، فقال: يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا [غافر: 36-37] ، فمَن نفى العُلُوَّ من الجَهْميَّةِ فهو فِرعَونيٌّ، ومن أثبَتَه فهو مُوسَويٌّ مُحمَّديٌّ.
السَّابعَ عَشَرَ: إخبارُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه تردَّد بَينَ موسى عليه السَّلامُ وبَينَ ربِّه ليلةَ المعراجِ بسَبَبِ تخفيفِ الصَّلاةِ، فيصعَدُ إلى ربِّه ثُمَّ يعودُ إلى موسى عِدَّةَ مِرارٍ [173] أخرجه البخاري (3887)، ومسلم (164) من حديث مالكِ بن صعصعةَ رضي الله عنه، ولفظ البخاري: ((ثمَّ فُرِضَت عليَّ الصلواتُ خمسين صلاةً كلَّ يومٍ، فرجعتُ فمررتُ على موسى، فقال: بما أُمرتَ؟ قال: أُمرتُ بخمسين صلاةً كلَّ يومٍ. قال: إنَّ أمَّتك لا تستطيعُ خمسين صلاةً كلَّ يومٍ ... فارجع إلى ربِّك فاسألْه التخفيفَ لأمَّتِك. فرجعْتُ، فوَضَع عني عشرًا، فرجعتُ إلى موسى، فقال مِثلَه، فرجعتُ فوضع عني عشرًا، فرجعتُ إلى موسى، فقال مِثلَه، فرجعتُ، فوضع عني عشرًا، فرجعتُ إلى موسى، فقال مِثلَه، فرجعتُ، فأُمِرتُ بعشرِ صلواتٍ كلَّ يومٍ، فرجعتُ فقال مثلَه، فرجعتُ، فأُمِرتُ بخمسِ صلواتٍ كلَّ يومٍ، فرجعتُ إلى موسى، فقال: بما أُمِرتَ؟ قلتُ: أُمِرتُ بخمسِ صلواتٍ كُلَّ يومٍ. قال: إنَّ أمَّتك لا تستطيعُ خمسَ صلواتٍ كلَّ يومٍ ... فارجِعْ إلى ربِّك فاسأله التخفيفَ لأمَّتك، قال: سألتُ ربي حتى استحييتُ، ولكنْ أرضى وأسلِّمُ، قال: فلمَّا جاوزتُ نادى منادٍ: أمضيتُ فريضتي، وخفَّفتُ عن عبادي)). .
الثَّامِنَ عَشَرَ: النُّصوصُ الدَّالَّةُ على رؤيةِ أهلِ الجنَّةِ له تعالى من الكِتابِ والسُّنَّةِ، وإخبارُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّهم يَرَونَه كرُؤيةِ الشَّمسِ والقَمَرِ ليلةَ البَدرِ ليس دونَه سَحابٌ [174] أخرجه البخاري (6573)، ومسلم (182) من حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه، ولفظُ البخاريِّ: ((قال أناسٌ: يا رسولَ اللهِ، هل نرى ربَّنا يومَ القيامةِ؟ فقال: ((هل تضارُّونَ في الشَّمسِ ليس دونَها سحابٌ؟ قالوا: لا يا رسولَ اللهِ. قال: هل تضارُّونَ في القَمَرِ ليلةَ البدرِ ليس دونه سحابٌ؟ قالوا: لا يا رسولَ اللهِ. قال: فإنَّكم ترونَه يومَ القيامةِ كذلك)). . فلا يرَونَه إلَّا مِن فَوقِهم... ولا يتِمُّ إنكارُ الفوقيَّةِ إلَّا بإنكارِ الرُّؤيةِ؛ ولهذا طرَد الجَهْميَّةُ النَّفيَينِ، وصَدَّق أهلُ السُّنَّةِ بالأمرَينِ معًا، وأقرُّوا بهما، وصار مَن أثبَت الرُّؤيةَ ونفى العُلُوَّ مُذبذَبًا بَينَ ذلك، لا إلى هؤلاءِ ولا إلى هؤلاءِ!
وهذه الأنواعُ من الأدِلَّةِ لو بُسِطَت أفرادُها لبلَغَت نحوَ ألفِ دليلٍ؛ فعلى المتأوِّلِ أن يُجيبَ عن ذلك كُلِّه! وهيهاتَ له بجوابٍ صحيحٍ عن بعضِ ذلك!) [175] ((شرح الطحاوية)) (2/ 380- 386). .
3- قَولُهم: إنَّ القَولَ بالعُلُوِّ من بقايا الجاهِليَّةِ
يقالُ لهم: إنَّ إيمانَ المُشرِكينَ العَرَبِ بأنَّ اللهَ تعالى فَوقَ السَّماءِ هو من القضايا المركوزةِ في الفِطرةِ؛ فليس للعَرَبِ الجاهليِّينَ اختصاصٌ بذلك، وذلك ما هو إلَّا كإقرارِهم بباقي مُقَتضياتِ ربوبيَّتِه سُبحانَه، كالخَلقِ، والإحياءِ، والإماتةِ، والتَّدبيرِ، ونحوِ ذلك ممَّا جاء في مثل قَولِ اللهِ تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [العنكبوت: 61] [176] يُنظر: ((المعارضات الفكرية المعاصرة لأحاديث الصحيحين)) لزريوح (2/ 793). . فهل قال عالمٌ قَطُّ: إنَّ الإيمانَ بالرُّبوبيَّةِ من بقايا الجاهليَّةِ؛ لأنَّهم كانوا ينصُّون على ربوبيَّةِ اللهِ تعالى؟!
قال أبو الحسَنِ الأشعَريُّ: (رأينا المُسلِمين جميعًا يرفعونَ أيديَهم إذا دعَوا نحوَ السَّماءِ؛ لأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ مستَوٍ على العَرشِ الذي هو فَوقَ السَّمَواتِ، فلولا أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ على العَرشِ لم يرفَعوا أيديَهم نحوَ العَرشِ) [177] ((الإبانة عن أصول الديانة)) (ص: 107). .
وقال ابنُ عبدِ البَرِّ: (من الحُجَّةِ أيضًا في أنَّه عزَّ وجلَّ على العرشِ فَوقَ السَّمَواتِ السَّبعِ أنَّ الموحِّدينَ ‌أجمعينَ ‌من ‌العَرَبِ والعَجَمِ إذا كرَبَهم أمرٌ أو نزلت بهم شِدَّةٌ رفعوا وجوهَهم إلى السَّماءِ يستغيثونَ ربَّهم تبارك وتعالى، وهذا أشهَرُ وأعرَفُ عِندَ الخاصَّةِ والعامَّةِ من أن يُحتاجَ فيه إلى أكثَرَ من حكايتِه؛ لأنَّه اضطرارٌ لم يؤنِّبْهم عليه أحَدٌ، ولا أنكره عليهم مُسلِمٌ) [178] ((التمهيد)) (7/ 134). .
4- قَولُهم: إنَّ رَفعَ الأيدي إلى السَّماءِ وتوجُّهَ القُلوبِ إلى جهةِ العُلُوِّ إنما كان من أجلِ أنَّ السَّماءَ قِبلةُ الدُّعاءِ، كما أنَّ الكعبةَ قِبلةُ الصَّلاةِ، لا لأنَّ اللهَ في السَّماءِ
وهذا يجابُ عنه بأمورٍ [179] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (2/ 392- 394)، ((حيرني الهمذاني وفطرية الاستدلال على علو الله تعالى)) للعيسوي (ص: 14)، ((منهج الشيخ عبد الرزاق عفيفي وجهوده في تقرير العقيدة)) للزاملي (ص: 116- 119). :
أولًا: مَنعُ أن تكونَ السَّماءُ قِبلةَ الدُّعاءِ، فإنَّ كَونَ الشَّيءِ قِبلةً لا يُعرَفُ إلَّا من طريقِ الشَّرعِ، ولم يَثبُتْ في جَعلِ السَّماءِ قِبلةً للدُّعاءِ كِتابٌ ولا سُنَّةٌ، ولا قال به أحدٌ مِن سلَفِ الأمَّةِ، وهم لا يخفى عليهم مِثلُ هذه الأمورِ.
ثانيًا: ثبت أنَّ الكعبةَ قِبلةُ الدُّعاءِ كما أنَّها قبلةُ الصَّلاةِ، فقد كان النَّبيُّ r يستقبِلُ الكعبةَ في دعائِه في مواطِنَ كثيرةٍ [180] أخرجه البخاري (3960)، ومسلم (1794) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، ولفظ البخاري: ((استقبل النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الكعبةَ، فدعا على نَفَرٍ من قُرَيشٍ ...)). ، فمن ادَّعى أنَّ للدُّعاءِ قِبلةً سوى الكعبةِ أو ادَّعى أنَّ السَّماءَ قبلتُه كما أنَّ الكعبةَ قِبلةٌ؛ فقد ابتدَع في الدِّينِ وخالف جماعةَ المُسلِمينَ.
ثالثًا: أنَّ القِبلةَ ما يستقبِلُه العابِدُ بوَجهِه كما يستقبلُ الكعبةَ للصَّلاةِ والدُّعاءِ، والذِّكرِ والذَّبحِ، ودَفنِ الميِّتِ ونحوِ ذلك ممَّا يُطلَبُ فيه استقبالُ القِبلةِ؛ ولذا سمِّيَت القِبلةُ وِجهةً لاستقبالِها الوَجهَ، فلو كانت السَّماءُ قِبلةَ الدُّعاءِ لكان المشروعُ أن يوجِّهَ الدَّاعي وَجهَه إليها لكِنَّه لم يُشرَعْ، بل نُهيَ عنه [181] جاء النهيُ عن رفع البصَرِ إلى السَّماءِ عند الدعاءِ في الصلاةِ. عن أبي هريرة أن رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لينتهيَنَّ أقوامٌ عن رفعِهم أبصارَهم عند الدعاءِ في الصلاةِ إلى السماءِ أو لتُخطَفَنَّ أبصارُهم)). أخرجه مسلم (429). ، وإنَّما شُرِع رَفعُ اليدَينِ [182] ورد رفعُ اليدينِ في الدعاءِ في الصَّلاةِ وخارجَها، ومنها: ما أخرجه البخاري (4339) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، بلفظ: (... فرفع النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَدَه، فقال: اللهمَّ إني أبرأُ إليك ممَّا صنع خالدٌ). وما أخرجه البخاري (933)، ومسلم (897) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، ولفظ مسلم: (أنَّ رجلًا دخل المسجدَ يومَ جمعةٍ ... فاستقبل رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قائمًا، ثمَّ قال: يا رسولَ اللهِ، هلكَتِ الأموالُ وانقطَعَت السُّبُلُ، فادعُ اللهَ يُغِثْنا. قال: فرفع رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يديه، ثمَّ قال: (اللَّهُمَّ أغِثْنا، اللَّهُمَّ أغِثْنا، اللَّهُمَّ أغِثْنا). وما أخرجه مسلم (1015) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، بلفظ: ((ثمَّ ذَكَر الرَّجُلَ يطيلُ السَّفَرَ، أشعثَ أغبرَ، يمدُّ يديه إلى السَّماءِ يا رَبِّ يا ربِّ، ومَطعَمُه حرامٌ، ومَشرَبُه حرامٌ، ومَلبَسُه حرامٌ، وغُذِيَ بالحرامِ، فأنَّى يُستجابُ لذلك)). ، ورَفعُ اليدينِ إلى السَّماءِ حينَ الدُّعاءِ لا يُسمَّى استقبالًا لها شَرعًا ولا لُغةً، ولا حقيقةً ولا مجازًا.
رابعًا: أنَّ الأمرَ باستقبالِ القِبلةِ ممَّا يَقبَلُ النَّسخَ والتحويلَ، كالأمرِ باستقبالِ بيتِ المقدِسِ في الصَّلاةِ، نُسِخَ بالأمرِ باستقبالِ الكعبةِ [183] أخرجه البخاري (403)، ومسلم (526) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، ولفظ مسلم: ((بينما الناسُ في صلاةِ الصُّبحِ بقباءٍ إذ جاءهم آتٍ، فقال: إنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد أُنزل عليه الليلةَ، وقد أُمِر أن يستقبِلَ الكعبةَ فاستقبَلوها، وكانت وجوهُهم إلى الشَّامِ فاستداروا إلى الكعبةِ)). وأخرجه البخاري (4486)، ومسلم (525) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، ولفظ البخاري: ((أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صلَّى إلى بيت المقدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهرًا أو سبعةَ عَشَرَ شَهرًا، وكان يعجِبُه أن تكونَ قِبلتُه قِبَلَ البيتِ، وإنَّه صلَّى أو صلَّاها صلاةَ العَصرِ، وصلَّى معه قومٌ، فخرج رجلٌ ممَّن كان صلَّى معه، فمَرَّ على أهلِ المسجدِ وهم راكعون، قال: أشهَدُ بالله لقد صلَّيتُ مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قِبَلَ مكَّةَ، فداروا كما هم قِبَلَ البيتِ)). ، ورَفعُ الأيدي إلى السَّماءِ في الدُّعاءِ والتوجُّهُ بالقَلبِ إلى جهةِ العُلُوِّ أمرٌ فِطريٌّ مركوزٌ في طبائعِ النَّاسِ لم يتغيَّرْ في جاهليَّةٍ ولا إسلامٍ، يُضطَرُّ إليه الداعي عِندَ الشِّدَّةِ والكربِ مُسلِمًا كان أم كافرًا.
خامسًا: أنَّ من استقبَل الكعبةَ لا يقَعُ في قلبِه أنَّ اللهَ هناك جِهةَ الكعبةِ، بخلافِ الدَّاعي فإنَّه يرفَعُ يديه إلى ربِّه وخالقِه ووَليِّ نعمتِه، يرجو أن تَنزِلَ عليه الرَّحماتُ مِن عِندِه.
وأمَّا نقضُهم الاستدلالَ بالفطرةِ على أنَّ اللهَ فَوقَ خَلقِه بما ذكَروه من السُّجودِ ووَضعِ الجَبهةِ على الأرضِ، فهو حُجَّةٌ باطلةٌ؛ لأنَّ واضِعَ الجبهةِ على الأرضِ في السُّجودِ إنَّما قَصدُه الخُضوعُ للهِ، وإعلانُ كمالِ ذُلِّ العبوديَّةِ من السَّاجِدِ لرَبِّه ومالِكِ أمرِه، لا لأنَّه يعتقِدُ أنَّه تحتَه فيهوي إليه ساجِدًا؛ فإنَّ هذا لا يخطُرُ للسَّاجِدِ ببالٍ، بل تنَزَّه رَبُّه عن ذلك؛ ولهذا شُرِع له أن يقولَ في سُجودِه: (سُبحانَ رَبِّيَ الأعلى) [184] أخرجه مسلم (772) مطولًا من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه .
5- ما ورد عن السَّلَفِ من فسادِ هذا القَولِ والإغلاظِ على قائِليه
قال رجلٌ لعبدِ اللهِ بنِ المبارَكِ: (يا أبا عبدِ الرَّحمنِ، قد خِفتُ اللهَ عزَّ وجلَّ من كثرةِ ما أدعو على الجَهْميَّةِ، قال: لا تخَفْ؛ فإنَّهم يزعُمونَ أنَّ ‌إلهَك ‌الذي ‌في السَّماءِ ليس بشيءٍ!) [185] يُنظر: ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (1/ 112)، ((الإبانة الكبرى)) لابن بطة (6/ 95). .
وقال جريرُ بنُ عبدِ الحميدِ: (كلامُ الجَهْميَّةِ أوَّلُه شَهدٌ وآخِرُه سُمٌّ، وإنَّما يحاوِلونَ أن يقولوا ليس في السَّماءِ إلهٌ) [186] يُنظر: ((بيان تلبيس الجهمية)) لابن تيمية (1/ 200)، ((العلو للعلي الغفار)) للذهبي (ص: 149). .
وعن عبدِ الرَّحمنِ بنِ مَهديٍّ قال: (إنَّ الجَهْميَّةَ أرادوا أن ينفوا أن يكونَ اللهُ كلَّم موسى بنَ عِمرانَ، وأن يكونَ على العَرشِ، أرى أن يُستَتابوا، فإن تابوا وإلَّا ضُرِبَت أعناقُهم) [187] يُنظر: ((شرح السنة)) للبغوي (1/ 187)، ((العلو للعلي الغفار)) للذهبي (ص: 159). .
وقال سعيدُ بنُ عامرٍ الضَّبعيُّ -وذُكِر عِندَه الجَهْميَّةُ- فقال: (هم شَرٌّ قولًا من اليهودِ والنَّصارى، قد أجمع أهلُ الأديانِ مع المُسلِمينَ أنَّ اللهَ على العرشِ، وقالوا هم: ليس على شيءٍ) [188] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (5/ 184)، ((العلو للعلي الغفار)) للذهبي (ص: 158). .
وقال يحيى بنُ عثمانَ في رسالتِه: (لا نقولُ كما قالت الجَهْميَّةُ: إنَّه مُدَاخِلُ الأمكنةِ ومُمازجُ كلِّ شيءٍ، ولا نعلَمُ أين هو! بل نقولُ: هو بذاتِه على عَرشِه، وعِلمُه محيطٌ بكُلِّ شيءٍ، وسَمعُه وبصَرُه وقُدرتُه مُدرِكةٌ لكُلِّ شيءٍ، وهو معنى قَولِه: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ [الحديد: 4] ) [189] هذه الرسالة فيها وصية كتبها أبو زكريا يحيى بن عمار السجستاني، وقد تناقل أهل العلم بعضًا منها: يُنظر: ((مجموعة الرسائل والمسائل)) (1/214)، ((بيان تلبيس الجهمية)) (1/ 200) كلاهما لابن تيمية، ((العرش)) للذهبي (2/445- 447). وفي مطلع الرسالة قال: (أحببتُ أن أوصيَ أصحابي بوصيَّةٍ من السُّنةِ، وأجمعَ ما كان عليه أهلُ الحديثِ وأهلُ المعرفةِ والتصَوُّفِ من المتقدِّمينَ والمتأخِّرينَ). يُنظر: ((العرش)) للذهبي (2/ 447). .

انظر أيضا: