موسوعة الفرق

المَبحثُ الثَّاني: مَذهَبُ الجَهْميَّةِ في صفاتِ اللهِ عزَّ وجلَّ


الجَهْميَّةُ ينفونَ جميعَ الصِّفاتِ، ولا يَصِفونَ اللهَ إلَّا بالصِّفاتِ السَّلبيَّةِ على وَجهِ التَّفصيلِ. ولا يُثبِتون له إلَّا وُجودًا مُطلقًا لا حقيقةَ له عِندَ التَّحصيلِ، وإنَّما يرجِعُ إلى وُجودٍ في الأذهانِ، يمتنِعُ تحقُّقُه في الموجوداتِ والأعيانِ.
قال ابنُ تيميَّةَ: (قَولُهم يستلزمُ غايةَ التَّعطيلِ وغايةَ التَّمثيلِ؛ فإنَّهم يمثِّلونَه بالمُمتَنِعاتِ والمعدوماتِ والجَماداتِ، ويُعطِّلون الأسماءَ والصِّفاتِ تعطيلًا يستلزِمُ نَفيَ الذَّاتِ. فغُلاتُهم يَسلُبون عنه النَّقيضَينِ، فيقولونَ: لا موجودٌ ولا معدومٌ، ولا حيٌّ ولا ميِّتٌ، ولا عالمٌ ولا جاهِلٌ؛ لأنَّهم يزعُمونَ أنَّهم إذا وصَفوه بالإثباتِ شَبَّهوه بالموجوداتِ، وإذا وصَفوه بالنَّفيِ شَبَّهوه بالمعدوماتِ؛ فسلَبوا النَّقيضَينِ، وهذا ممتنِعٌ في بداهةِ العقولِ، وحرَّفوا ما أنزل اللهُ من الكِتابِ وما جاء به الرَّسولُ، فوقَعوا في شَرٍّ ممَّا فرُّوا منه؛ فإنَّهم شبَّهوه بالمُمتَنِعاتِ؛ إذ سَلبُ النَّقيضَينِ كجمعِ النَّقيضينِ، كلاهما من المُمتَنِعاتِ) [137] ((مجموع الفتاوى)) (3/ 7). .
ونقل ابنُ تيميَّةَ عن الجَهْمِ وأبي الهُذَيلِ العَلَّافِ قَولَهما: (الدَّليلُ قد دَلَّ على أنَّ دوامَ الحوادثِ ممتنعٌ، وأنَّه يجِبُ أن يكونَ للحوادثِ مبدأٌ؛ لامتناعِ حوادِثَ لا أوَّلَ لها... قالوا: فإذا كان الأمرُ كذلك وجب أن يكونَ كُلُّ ما تقارِنُه الحوادثُ مُحدَثًا، فيمتَنعُ أن يكونَ البارئُ لم يَزَلْ فاعلًا مُتكلِّمًا بمشيئتِه وقُدرتِه، بل يمتنعُ أن يكونَ لم يَزَلْ قادرًا على ذلك؛ لأنَّ القدرةَ على الممتنِعِ ممتَنِعةٌ، فيمتَنعُ أن يكونَ قادِرًا على دوامِ الفِعلِ، والكلامِ بمشيئتِه وقُدرتِه) [138] ((منهاج السنة النبوية)) (1/ 157). .
قال ابنُ تيميَّةَ: (أنكَروا أن يُقالَ: لم يَزَلْ مُتكلِّمًا إذا شاء؛ إذ ذلك يقتضي تسلسُلَ الحوادِثِ وتعاقُبَها، وهذا هو الدَّليلُ الذي استدلُّوا به على حُدوثِ أجسامِ العالِم) [139] ((درء تعارض العقل والنقل)) (2/ 306). .
وبيَّن صالح آلُ الشَّيخِ مَذهَبَ الجَهْميَّةِ في هذه المسألةِ، فقال: (للنَّاسِ في التَّسلسُلِ المتعَلِّقِ بصفاتِ الرَّبِّ عزَّ وجلَّ مذاهِبُ: المَذهَبُ الأوَّلُ: من قال إنَّ الرَّبَّ عزَّ وجلَّ يمتنعُ تسلسُلُ صفاتِه في الماضي، ويمتنعُ تسلسُلُ صفاتِه في المُستقبَلِ؛ فلا بدَّ من أمَدٍ يكونُ قد ابتدأَ في صفاتِه أو قد ابتدأَت صفاتُه، ولا بُدَّ أيضًا من زمَنٍ تنتهي إليه صفاتُه، وهذا هو قَولُ الجَهْميَّةِ -والعياذُ باللهِ- وقَولُ طائفةٍ من المُعتَزِلةِ كأبي الهُذَيلِ العَلَّافِ وجماعةٍ منهم) [140] ((شرح العقيدة الطحاوية)) (1/ 144). .
و‌الجَهْميَّةُ نَفَوا الأسماءَ والصِّفاتِ لمزاعِمَ أهمُّها:
أنَّ وَصْفَ اللهِ تعالى بتلك الصِّفاتِ التي ذُكِرَت في كِتابِه الكريمِ أو في سُنَّةِ نبيِّه العظيمِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقتضي مُشابهةَ اللهِ بخَلقِه، فينبغي نفيُ كُلِّ صفةٍ نُسِبَت إلى اللهِ تعالى وتوجَدُ كذلك في المخلوقاتِ؛ لئلَّا يؤدِّيَ إلى تشبيهِ اللهِ -بزَعمِهم- بمخلوقاتِه التي تحمِلُ اسمَ تلك الصِّفاتِ [141] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (6/ 35)، ((منهاج السنة النبوية)) (2/ 584)، ((درء تعارض العقل والنقل)) (5/ 251) جميعها لابن تيمية، ((فتح الباري)) لابن حجر (13/ 344). .
ويضافُ إلى ذلك شُبهةُ التَّجسيمِ والجِسميَّةِ [142] يُنظر: ((بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية)) لابن تيمية (3/ 115). .
قال ابنُ تيميَّةَ: (إنَّ فُحولَ النُّظَّارِ بَيَّنوا فسادَ طُرُقِ من ‌نفى ‌الصِّفاتِ أو العُلُوَّ بناءً على نَفيِ ‌التَّجسيمِ، وكذلك فُحولُ الفلاسفةِ، كابنِ سينا، وأبي البركاتِ، وابنِ رُشدٍ، وغَيرِهم، بيَّنوا فسادَ أهلِ الكلامِ من ‌الجَهْميَّةِ والمُعتَزِلةِ والأشعَريَّةِ، التي نفَوا بها ‌التَّجسيمَ) [143] ((درء تعارض العقل والنقل)) (4/ 282). .
قال ابنُ القيِّمِ:
يا وَيحَ جَهْمٍ وابنِ دِرهَمٍ والأُلى
قالوا بقَولِهما من الخَورانِ
بَقِيَت من التَّشبيهِ فيه بَقِيَّةٌ
نقَضَت قواعِدَه من الأركانِ
ينفي الصِّفاتِ مخافةَ التَّجسيمِ لا
يلوي على خَبَرٍ ولا قُرآنِ [144] ((الكافية الشافية)) (1/ 176).

انظر أيضا: