موسوعة الفرق

المَبحَثُ العَاشرُ: تعريفٌ ببعضِ تيَّاراتِ وأعلامِ المَدرَسةِ العقلانيَّةِ الاعتِزاليَّةِ المُعاصِرةِ


نذكُرُ في هذا المَطلَبِ بَعضًا من أعلامِ المَدرَسةِ العقلانيَّةِ المُعاصِرةِ، سواءٌ أكان من أتباعِ المَدرَسةِ الاعتِزاليَّةِ، أو المتأثِّرين ببعضِ أصولِها ومبادِئِها، أو ممَّن احتفى بها واستفاد من مبادِئِها للوصولِ إلى نتائِجَ عقلانيَّةٍ يزعُمُها.
أوَّلًا: جمالُ الدِّينِ الأفغانيِّ
هو جمالُ الدِّينِ بنُ صَفدَرَ. وصَفْدَرُ: لفظٌ فارِسيٌّ من ألقابِ الإمامِ عَليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه عِندَ الشِّيعةِ، ومعناه: مقتَحِمُ الصَّفِّ، وقد حَرَّف هذا الاسمَ مَن كَتَبوا ترجمتَه بالعربيَّةِ، فقالوا: "صَفْتَر" [1865] يُنظر: ((مجلة العروة الوثقى)) -في ترجمته للأفغاني- لعبدالرازق (ص: 17). .
زعم تلميذُه محمَّد عَبدُه أنَّ نسَبَه ينتمي إلى علي التِّرمِذيِّ، ويرتقي إلى الحُسَينِ بنِ عَليِّ بنِ أبي طالِبٍ [1866] يُنظر: ((تاريخ الأستاذ الإمام محمد عبده)) لرضا (1/27). ، وقال بهذا الزَّعمِ أيضًا مصطفى عبد الرَّازِق [1867] يُنظر: ((مجلة العروة الوثقى)) -في ترجمته للأفغاني- (ص: 17). ، وعبدُ الرَّحمنِ الرَّافعيُّ [1868] يُنظر: ((جمال الدين الأفغاني)) (ص: 5). ، وقال به أيضًا تلميذُه محمَّدٌ المخزوميُّ [1869] يُنظر: ((خاطرات جمال الدين الأفغاني)) (ص: 7). وغيرُهم.
وقد كتَب أبو الهدى الصَّياديُّ من الأستانةِ إلى رشيد رضا قائلًا: (إنِي أرى جريدتَك طافِحةً بشقاشِقِ المُتَأفْغِن جمالِ الدِّينِ المُلفَّقة، وقد تدرَّجْتَ به إلى الحُسَينيَّةِ التي كان يزعُمُها زُورًا، وقد ثَبَت في دوائِرِ الدَّولةِ رسميًّا أنَّه مازَنْدَارنيٌّ من أجلافِ الشِّيعةِ) [1870] ((تاريخ الأستاذ الإمام محمد عبده)) (1/90). .
وقد وُلِد سَنةَ 1254ه - 1838م، وأوَّلُ ما يصادِفُه المؤرِّخُ لحياةِ هذا الرَّجُلِ من غموضٍ الخلافُ في مكانِ مَولِدِه: هل وُلِد في أسعَد آباد قريةٍ من قُرى كير من أعمالِ كابُل في أفغانِستانَ، أو في أسَد آباد قُربَ هَمَدانَ إحدى مقاطَعاتِ إيرانَ؟ فيكونُ إيرانيًّا لا أفغانيًّا، وإنَّما آثَرَ أن ينسُبَ نَفسَه -كما قال بُروكْلمان- إلى أفغانِستانَ لأسبابٍ سياسيَّةٍ [1871] يُنظر: ((تاريخ الشعوب الإسلامية)) (4/103). ، أو أنَّ والِدَه ضابِطٌ إيرانيٌّ أوفدَتْه حكومتُه إلى بلادِ أفغانَ، فتزوَّجَ هناك [1872] يُنظر: ((مجلة العروة الوثقى)) -ترجمة الأفغاني- لمصطفى عبدالرازق (ص: 17). .
ولا نحسَبُ أنَّ للبَحثِ عن أصلِ الرَّجُلِ -أيِّ رجُلٍ- أهميَّةً إذا ما حَسُنَت عقيدتُه وصَفَت سريرتُه واستقامت سيرتُه، ولكِنْ قد يلزَمُ البحثُ عن هذا إذا كان ذلك الرَّجُلُ هو الذي أراد تعميةَ أصلِه ونِسبةَ نفسِه إلى غيرِه، مع غموضٍ في اتِّصالاتِه وعلاقاتِه وأنشِطتِه، فيَجِبُ على الباحِثِ التَّحرِّي لمعرفةِ السَّبَبِ الدَّافِعِ له إلى هذه التَّعميةِ؛ فقد يكون وراءَ الأكَمَةِ ما وراءَها!
ولا يوجَدُ مَصدَرٌ لتاريخِ نشأةِ الرَّجُلِ إلَّا ما تحدَّث به عن نفسِه إلى تلاميذِه، فقالوا: إنَّه لَمَّا بلغ الثَّامنةَ من عُمُرِه أجلسه والِدُه لطَلَبِ العلمِ وعُني بتربيتِه، فأيَّد العنايةَ به إشراقٌ في قريحتِه، وذَكاءٌ في مَدركتِه، فتلقَّى عُلومًا جمَّةً برع في جميعِها؛ فمنها العلومُ العربيَّةُ، وعلومُ الشَّريعةِ، وعلومٌ عقليَّةٌ من مَنطِقٍ وفلسفةٍ، وعلومٍ رياضيَّةٍ ونَظَريَّاتِ الطِّبِّ والتَّشريحِ [1873] يُنظر: ((تاريخ الأستاذ الإمام)) لرضا (1/27-28). .
واستكمل الغايةَ من دروسِه في الثَّامنةَ عَشرةَ من عُمُرِه، ثمَّ سافر إلى الهندِ فأقام بها سنةً تعلَّم في خلالِها شيئًا من العُلومِ الأوروبيَّةِ وأساليبِها [1874] يُنظر: ((العروة الوثقى)) لعبدالرازق (ص: 19). .
وكانت نشاطاتُه مُنصَبَّةً على اتِّجاهينِ:
1- اجتماعيَّةٌ علميَّةٌ.
2- سياسيَّةٌ [1875] يُنظر: ((تاريخ الأستاذ الإمام)) لرضا (1/74). .
وكان الغالِبُ على نشاطِه الثَّانيةَ منهما، أمَّا تلاميذُه فانشَطَروا إلى شَطرينِ، فذهبَت طائفةٌ إلى الأخذِ بالنَّشاطِ العِلميِّ، وعلى رأس هذا الفريقِ محمَّد عَبدُه. وذهبت طائفةٌ أُخرى إلى الأخذِ بآرائِه السِّياسيَّةِ، وعلى رأسِهم مصطفى كامل، وفريد، ثمَّ سعد زغلول [1876] يُنظر: ((زعماء الإصلاح في العصر الحديث)) لأمين (ص: 115- 116). ، وغيرُهم.
وبدأ الأفغانيُّ نشاطَه العِلميَّ في أفغانستانَ وواصَل دراستَه في الهندِ. هذا من ناحيةِ التَّلقِّي، أمَّا من ناحيةِ التَّعليمِ فقد بدأ أوَّلَ ما بدأ في الهندِ عِندَ خروجِه في المرَّةِ الثَّانيةِ؛ حيث ألقى بعضَ الدُّروسِ ولم تكُنْ تلك الفترةُ من الكفايةِ بحيثُ يَظهَرُ أثَرُها واضحًا؛ إذ لم يلبَثْ سِوى شهرٍ واحدٍ غادر بعدها إلى مِصرَ حيثُ وفَد عليه بعضُ طَلَبةِ العِلمِ في الأزهَرِ من السُّوريِّين، فشَرَح لهم كتابَ (الإظهار)، وهو كتابٌ في النَّحوِ، وكانت تلك الفَترةُ كسابقتِها، حيثُ غادر إلى الأستانة، ثمَّ عاد إلى مصرَ مرَّةً ثانيَّة، حيث ازداد نشاطُه العِلميُّ وبلغ أَوْجَهُ، فبدأ التَّدريسَ في الأزهَرِ، وقد كان يُلقي فيه من الدُّروسِ ما أحفَظَ عليه بعضَ عُلَماءِ الأزهَرِ، فناظَره أحَدُهم مناظرةً أفضت إلى المنافَرةِ، فترك الأزهَرَ وانقطَع للتَّدريسِ في منزِلِه [1877] يُنظر: ((تاريخ الأستاذ الإمام)) لرضا (1/40). ، فقرأ من الكتُبِ العاليةِ في فُنونِ الكلامِ الأعلى، والحِكمةِ النَّظريَّةِ طبيعيَّةً وعقليَّةً، وفي عِلمِ الهيئةِ الفَلَكيَّةِ، وعِلمِ التَّصوُّفِ، وعِلمِ أُصولِ الفِقهِ الإسلاميِّ [1878] يُنظر: ((تاريخ الأستاذ الإمام)) لرضا (1/32). .
وقد وصف محمَّد عَبدُه شيخَه جمالَ الدِّينِ، فقال: (أمَّا مَنزِلتُه من العِلمِ وغَزارةِ المعارِفِ فليس يحُدُّها قلمي إلَّا بنوعٍ من الإشارةِ إليها. لهذا الرَّجُلِ سُلطةٌ على دقائِقِ المعاني وتحَدِّيها وإبرازِها في صُوَرِها اللَّائقةِ بها، كأنَّ كُلَّ معنًى قد خُلِق له، وله قُوَّةٌ في حَلِّ ما يَعضُلُ منها كأنَّه سُلطانٌ شديدُ البَطشِ، فنَظرةٌ منه تُفَكِّكُ عُقَدَها)! ثمَّ يقولُ: (وله لسانٌ في الجدلِ وحِذقٌ في صناعةِ الحُجَّةِ لا يَلحَقُه فيها أحدٌ) [1879] ((تاريخ الأستاذ الإمام)) لرضا (1/34). .
ولم يكُنْ له اهتمامٌ كبيرٌ في التَّأليفِ، بل كان هَمُّه أن يُلقيَ كَلِماتِه وخُطَبَه على تلاميذِه إلقاءً، فيبادِرَ بعضُهم إلى تسجيلِها وتدوينِها، بل ذكَر بعضُ تلاميذِه أنَّه قضى ولم يُدَوِّنْ إلَّا رسالةً في إبطالِ مَذهَبِ الدَّهريِّينَ [1880] يُنظر: ((خاطرات جمال الدين الأفغاني)) محمد المخزومي (ص: 43). .
وقال عنه أديب بِكْ إسحاق: (ولكِنَّه لم يُتِمَّ عَمَلًا ولا ألَّف كتابًا غيرَ تلك الرِّسالةِ) [1881] ((خاطرات جمال الدين الأفغاني)) محمد المخزومي (ص: 44). .
والحقيقةُ أنَّه دوَّن غيرَ رسالتِه (الرَّدُّ على الدَّهريِّينَ) التي ألَّفها بالفارسيَّةِ في حَيدَر آباد؛ فقد دوَّن رسالةً صغيرةً له أسماها (تَتِمَّةُ البيان في تاريخِ الأفغان)، وقد طُبِعت في مِصرَ، وما عدا هاتينِ الرِّسالتينِ فمقالاتٌ نشرها في الصُّحُفِ والمجلَّاتِ، طُبِع بعضُها مستقِلًّا، وكان لاشتراكِ محمَّد عَبدُه معه في مجلَّة (العُروة الوثقى) وعَدَمِ تسميةِ صاحِبِ كُلِّ مقالٍ فيها، كان له أثرٌ كبيرٌ في الخَلطِ في نسبتِه إلى صاحِبِه، فبَحثُ (التعَصُّب) نُشِر باسم محمَّد عَبدُه، مع أنَّه من إنشاءِ جمالِ الدِّينِ، وهناك كتابٌ أكثَرُ شُهرةً، وهو (الإسلامُ دينُ العِلمِ والمَدَنيَّةِ) من بَينِ فُصولِه "الإسلامُ والنَّصرانيَّةُ"، وهو من تأليفِ الأفغانيِّ [1882] يُنظر: ((الأعمال الكاملة لجمال الدين الأفغاني)) جمع محمد عمارة (ص: 118-119). ، و "خاطِراتُ جمالِ الدِّينِ الأفغانيِّ" للمخزوميِّ، وقد ضَمَّ المخزوميُّ في "الخاطرات" هذين المقالينِ على "خاطرات جمالِ الدِّينِ" الذي دوَّن فيه آراءَ وأفكارَ الأفغانيِّ، وقد طُبِعت بعضُ مقالاتِه طِباعةً مُستَقِلَّةً، مِثلُ: (الوَحدةُ الإسلاميَّةُ) و(القضاءُ والقَدَرُ).
بالإضافةِ إلى كتابِ (خاطراتُ جمالِ الدِّينِ الأفغانيِّ) لتلميذِه محمَّد المخزوميِّ و (الأعمالُ الكاملةُ لجمال الدِّينِ الأفغانيِّ) لمحمَّد عمارة و (العُروة الوثقى)، وهناك من كتاباتِه في بعضِ المجلَّاتِ ما لم يُدَوَّنْ، مِثلُ ما كتَبه في الصُّحُفِ الرُّوسيَّةِ.
والغالِبُ على نشاطِ الأفغانيِّ هو النَّشاطُ السِّياسيُّ، وأنَّه إنَّما يتناوَلُ ما يتناوَلُ من العِلمِ في دروسِه ما يدفَعُ به عَجَلةَ السِّياسةِ خُطوةً نحوَ أغراضِه وأهدافِه، وقد تَعرِضُ له في أثناءِ حديثِه آيةٌ قرآنيَّةٌ يستَشهِدُ بها لتقويةِ رأيِه، ثمَّ يذهَبُ في تفسيرِها تفسيرًا يقتَصِرُ فيه على الجانِبِ الذي يتكلَّمُ فيه من غيرِ استقصاءٍ لمعانيها.
ومِن ثَمَّ فلم يكُنْ له تفسيرٌ مُستَقِلٌّ، وإنَّما كان تفسيرُه آيةً هنا وآيةً هناك بَينَ ثنايا مقالاتِه. وهو مع حَثِّه على التَّفسيرِ ودعوتِه إلى تنقيحِه ممَّا عَلِق به مُقِلٌّ فيه، فلا يتناوَلُ من الآياتِ إلَّا ما قَلَّ، ولا يُفَسِّرُه إلَّا من جانِبِ ما يؤيِّدُ به قولَه، من غيرِ بيانٍ للجوانِبِ الأخرى.
وقد صدَّر جمالُ الدِّينِ سَبعَ عَشرةَ مقالةً من خمسٍ وعشرينَ مقالةً في (العُروة الوثقى) بآيةٍ أو آيتينِ من القرآنِ الكريمِ، اعتقَدها بعضُهم شرحًا وتفسيرًا، وليس كذلك؛ فقَلَّ أن يَعرِضَ في المقالةِ للآيةِ المصَدَّرةِ.
والأفغانيُّ قَدَّم في 22 ربيع الثَّاني 1292ه طلبًا للانضمامِ إلى المَحفِلِ الماسونيِّ هذا نصُّه:
(يقولُ مُدرِّسُ العُلومِ الفلسفيَّةِ بمصرَ المحروسةِ جمالُ الدِّينِ الكابليُّ الذي مضى من عمُرِه سبعةٌ وثلاثون سنةً بأنِّي أرجو من إخوانِ الصَّفا وأستدعي من خِلَّانِ الوفاءِ، أعني أربابَ المجمَعِ المُقدَّسِ الماسونِ الذي هو عن الخَلَلِ والزَّلَلِ مَصونٌ، أن يمُنُّوا عليَّ ويتفَضَّلوا عليَّ بقَبولي في ذلك المجمَعِ المُطَهَّرِ، وبإدخالي في سِلكِ المُنخَرِطين في ذلك المنتدى المُفتَخَرِ، ولكم الفضلُ.
ربيع الثَّاني يوم الخميس - 22 سنة 1292ه- التَّوقيع).
وكان من الأعضاءِ البارزين ذوي النَّشاطِ فيه؛ ولذا تمَّ اختيارُه بَعدَ سنواتٍ ثلاثٍ رئيسًا للوج كوكَبِ الشَّرقِ بتاريخِ 7 مايو 1878م بأغلبيَّةِ الآراءِ، ووُجِّهَت له دعوةٌ بهذا التَّاريخِ لاستلامِ القادومِ بَعدَ إتمامِ ما يجبُ من التَّكريزِ الاعتياديِّ والحُضورِ بالزِّيِّ الرَّسميِّ الماسونيِّ الأسوَدِ ورِباطِ الرَّقَبةِ والكُفوفِ البيضاءِ.
ولم يكتَفِ الأفغانيُّ بذلك بل ازداد نشاطُه في مَيدانِ الماسونيَّةِ، فاعتزل هذا المحفِلَ الأُسكُتْلَنديَّ وأنشأ محفِلًا وطنيًّا تابعًا للشَّرَفِ الفَرْنَساويِّ، وفي بُرهةٍ وجيزةٍ بلغ عدَدُ أعضائِه العاملينَ أكثَرَ من ثلاثمائةٍ [1883] يُنظر: ((خاطرات جمال الدين الأفغاني)) للمخزومي (ص: 20). .
ولم يَزَلْ يَبذُلُ جُهودَه في هذا المَيدانِ حتَّى صدَر الأمرُ بنفيِه في 6 رمضان سنة 1296ه 24 أغسطس 1879م، وجاء في القرارِ (أنَّه رئيسُ جمعيَّةٍ سِريَّةٍ من الشُّبَّانِ ذوي الطَّيشِ، مجتَمِعةٍ على فسادِ الدِّينِ والدُّنيا) [1884] ((جمال الدين الأفغاني)) للرافعي (ص: 46). . وكَتَب إلى بعضِ الشَّخصيَّاتِ من غيرِ أن يذكُرَ اسمًا، يستنجِدُ بها ممَّا حَلَّ به، ويزعُمُ أنَّه مظلومٌ فيما نُسِب إليه.
ونُفِيَ مِن بَعدِه تلميذُه وأحدُ أعضاءِ مَحفِلِه محمَّد عَبدُه، ووُجِد في منزلِه كتابُ (الماسون) بخَطِّ الأفغانيِّ، كما اعتَرَف بهذا محمَّد عَبدُه نفسُه في خطابٍ منه إلى أستاذِه الأفغانيِّ.
ولم ينقَطِعْ نشاطُ الأفغانيِّ الماسونيُّ بَعدَ نفيِه من مصرَ؛ ففي جُمادى الأولى سنةَ 1303ه سافر إلى البلادِ الإيرانيَّةِ بدعوةٍ من الشَّاهِ ناصِرِ الدِّينِ، فنال مكانةً ساميةً، وتزاحَم حولَه الأمَراءُ والمجتَهِدون والكُبَراء، وتمكَّن من نَظمِ كثيرٍ منهم في سِلكِ الماسونيَّةِ.
وإذا ثبَت بما لا يَقبَلُ الشَّكَّ انتماءُ الأفغانيِّ للماسونيَّةِ، وثبت أنَّ الماسونيَّةَ وليدةُ الصِّهيونيَّةِ العالميَّةِ، وسبيلٌ من سُبُلِها لتحقيقِ أهدافِها في هدمِ الأديانِ والسَّيطرةِ على العالَمِ؛ فإنَّ الواجِبَ تَقصِّي الحقائِقِ في سيرةِ الرَّجُلِ الأفغانيِّ، والبحثُ عن حقيقةِ أهدافِه.
وأيُّ شيءٍ أراد الأستاذُ محمَّدٌ المخزوميُّ تلميذُ الأفغانيِّ أن يخفيَه عنه حينَ قال: (أمَّا انخراطُ جمالِ الدِّينِ في الماسونيَّةِ.. فنختَصِرُه على قَدْرِ ما تَسمَحُ به الطَّريقةُ الماسونيَّةُ) [1885] ((خاطرات جمال الدين الأفغاني)) (ص: 17-18). ؟
وبعدَ دخولِ الأفغانيِّ إلى المحفِلِ الماسونيِّ تغَيَّرت ثَمَّ لهجتُه في أحاديثِه، وأخذ يُقَرِّبُ منه العوامَّ [1886] يُنظر: ((تاريخ الأستاذ الإمام)) لرضا (1/46). ، وممَّا قاله لهم: (إنَّكم -معاشِرَ المِصريِّين- قد نشأتُم في الاستعبادِ ورُبِّيتُم بحَجْرِ الاستبدادِ، وتوالتْ عليكم قرونٌ منذُ زمَنِ الملوكِ والرُّعاةِ حتى اليومِ، وأنتم تحمِلون عِبءَ نِيرِ الفاتحينَ، وتُعانون لوَطأةِ الغُزاةِ الظَّالِمين) [1887] ((تاريخ الأستاذ الإمام)) لرضا (1/46-47)، ((زعماء الإصلاح في العصر الحديث)) لأمين (ص: 78-79). إلى أن قال: (تناوَبَتْكم أيدي الرُّعاةِ ثمَّ اليونانِ والرُّومانِ والفُرسِ، ثمَّ العَرَبِ والأكرادِ والمماليكِ، ثمَّ الفَرَنْسيسِ والمماليكِ والعَلَويِّين، وكُلُّهم يَشُقُّ جُلودَكم بمِبضَعِ نَهَمِه، ويَهيضُ عِظامَكم بأداةٍ عَسِفةٍ، وأنتم كالصَّخرةِ المُلقاةِ في الفَلاةِ لا حِسَّ لكم ولا صَوتَ) [1888] ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/ 46-47)، ((زعماء الإصلاح في العصر الحديث)) لأمين (ص: 78-79). .
فعَدَّ الأفغانيُّ الفتحَ الإسلاميَّ لمصرَ دُخولَ العَرَبِ، وعَدَّ دُخولَ العَرَبِ -على حَدِّ تعبيرِه- استعبادًا واستبدادًا، وقرَنَه باستعبادِ اليونانِ والرُّومانِ والفُرسِ والفَرَنْسيسِ واستبدادِهم، ثمَّ يسترسِلُ في حديثِه فيقولُ: (انظُروا أهرامَ مِصرَ، وهياكِلَ مَنفيسَ، وآثارَ طِيبةَ، ومشاهِدَ سِيوةَ، وحُصونَ دِمياطٍ، شاهدةً بَمنَعةِ آبائِكم وعِزَّةِ أجدادِكم. وتَشَبَّهوا إن لم تكونوا مِثلَهم إنَّ التَّشبُّهَ بالرَّشيدِ فَلاحُ) [1889] ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/46-47)، ((زعماء الإصلاح في العصر الحديث)) لأمين (ص: 78-79).
ومكَث جمالُ الدِّينِ في تُركيا زُهاءَ أربعةِ أعوامٍ حتى دهَمَه السَّرَطانُ في فَكِّه الأسفَلِ، وعُمِلت له ثلاثُ عَمَليَّاتٍ جراحيَّةٍ بيَدِ أشهَرِ الأطبَّاءِ ولم تنجَحْ، فمات في 7 شوال 1314ه الموافق 9 مارس 1897م ودُفِن في نشان طاش في مَقبرةِ "شيخلر مزارلغي" أي: مقبرةِ المشائِخِ [1890] يُنظر: ((تاريخ الأستاذ الإمام)) لرضا (1/92). .
وقال طبيبُه الخاصُّ: (إنَّ شِدَّةَ وَلَعِ جمالِ الدِّينِ بالسِّيجارِ الإفرِنجيِّ، وكثرةَ شُربِه للشَّايِ وتناوُلِه الطَّعامَ مالِحًا؛ كان من مُسَبِّباتِ السَّرَطانِ) [1891] ((خاطرات جمال الدين الأفغاني)) لمخزومي (ص: 39-41).
ومع أنَّه كان يدعو إلى تنقيةِ الدِّينِ الإسلاميِّ ممَّا عَلِق به من الخُرافاتِ؛ كتَقديسِ الأمواتِ، والتَّبرُّكِ بهم ونحوِ ذلك، إلا أنَّه استغَلَّ هذه النُّقطةَ أبشَعَ استِغلالٍ، فلجأ إلى مقامِ عبدِ العظيمِ خوفًا من ناصِرِ الدِّينِ شاه، وأثار فيهم الحَميَّةَ لهذا المُعتَقَدِ الباطِلِ بالانتقامِ من ناصِرِ الدِّينِ شاه، فيقولُ: (وأمَّا قِصَّتي وما فعله هذا الكَنودُ الظَّلومُ معي، فمِمَّا يُفَتِّتُ أكبادَ أهلِ الإيمانِ ويقطَعُ قُلوبَ ذوي الإيقانِ، ويقضي بالدَّهشةِ على أهلِ الكُفرِ وعُبَّادِ الأوثانِ، أنَّ ذلك اللَّئيمَ أمَرَ بسَجْني وأنا متحَصِّنٌ بحَضرةِ عبدِ العظيمِ عبدِ السَّلامِ) [1892] ((نابغة الشرق السيد جمال الدين الأفغاني)) لعبد المجيد سعيد (ص: 77). ويَصِفُ هذا المقامَ بأنَّه (حَرَمٌ مَن دخَلَه كان آمِنًا) [1893] ((تاريخ الأستاذ الإمام)) لرضا (1/55). !
بل ويحاوِلُ أن يَظهَرَ بالقَداسةِ أمامَ العوامِّ ولو كان بالكَذِبِ والخِداعِ، حكى عنه سعد زغلول أنَّه ذكَرَ لهم أنَّه كان في سفينةٍ خِيفَ عليها الغَرَقُ، فرأى في الرُّكابِ خوفًا فأكَّد لهم أنَّ السَّفينةَ لن تَغرَقَ، ثمَّ قال: (لو غَرِقَت السَّفينةُ لم أجِدْ منهم أحدًا يُكَذِّبُني، وإن سَلِمَت ظهَرتُ بالقَداسةِ من أقرَبِ سَبيلٍ) [1894] ((نابغة الشرق جمال الدين الأفغاني)) لعبد المجيد سعيد (ص: 91-92)، ((جمال الدين الأفغاني)) للمغربي (ص: 50-51). !
وقد نَسَب إليه بعضُهم القولَ بنظريَّةِ دارْوُين، وقيل: إنَّه لم يقُلْ بذلك، بل رَدَّ عليها بما يُبطِلُها [1895] يُنظر: ((خاطرات جمال الدين الأفغاني)) للمخزومي (ص: 114-118). ، مع تعاطُفِه مع مَن أيَّدَها وحَمْدِه لهم الجَهرَ بمعتَقَدِهم ولو خالف الجُمهورَ [1896] يُنظر: ((خاطرات جمال الدين الأفغاني)) للمخزومي (ص: 116). .
وقيل عن الأفغانيِّ: إنَّه (بَرَز في عِلمِ الأديانِ حتَّى أفضى به ذلك إلى الإلحادِ والقَولِ بقِدَميَّة العالمِ، زاعمًا أنَّ الجراثيمَ الحيويَّةَ المنتَشِرةَ في الفَضاءِ هي المكَوِّنةُ بتَرَقٍّ وتحريرٍ طبيعيَّينِ ما نراه من الأجرامِ التي تشغَلُ الفَلَكَ ويتجاذَبُها الجَوُّ، وأنَّ القولَ بوُجودِ محَرِّكٍ أوَّليٍّ حكيمٍ وَهْمٌ نشأ عن ترَقِّي الإنسانِ في تعظيمِ المعبودِ على حسَبِ ترقِّيه في المعقولاتِ) [1897] ((تاريخ الأستاذ الإمام)) لرضا (1/43).
وممَّا يُثيرُ الرِّيبةَ والشُّكوكَ في الأفغانيِّ هذا الخليطُ من اليهودِ والنَّصارى الذي يحيطُ به: سليم نقَّاش من نصارى الشَّامِ، وهو ماسونيٌّ ووضَع كتابًا تبدو فيه أهدافُ الماسونيَّةِ بارزةً في عنُوانِه (مِصرُ للمِصريِّين) وهو يُذَكِّرُنا بدعوةِ الأفغانيِّ للمِصريِّين بالنَّظَرِ ليس إلى الآثارِ الإسلاميَّةِ، بل إلى الآثارِ الفِرعَونيَّةِ المصريَّةِ، وفي هذا فَصلٌ لمصرَ عن المُسلِمين والإسلامِ.
وأديب إسحاق من أكثَرِ الدُّعاةِ إلى الماسونيَّةِ حماسًا وقَف نشاطَه الصَّحَفيَّ على هذا، وهو أيضًا من نصارى الشَّامِ، انتَظَم في سِلكِ الماسونيَّةِ سَنةَ 1873م في مَحفِلٍ أنشأه الماسونُ في بيروتَ ذلك العامَ، ثمَّ وقَف نشاطَه على الدَّعوةِ إلى الماسونيَّةِ في بَعضِ الصُّحُفِ، ولم يكتَفِ بهذا بل قام بطَبعِ مقالاتِه تلك في كتابٍ ضَخمٍ [1898] يُنظر: ((الماسونية بلا قناع)) لأبي صادق (ص: 233-234). ، ومع هذا فقد كان الأفغانيُّ لآخِرِ نَسَمةٍ من حياتِه - كما يقولُ تلميذُه المخزوميُّ- عِندَ ذِكرِ أديب بِكْ إسحاق يسترجِعُ يقولُ: (كان طِرازَ العَرَبِ وزَهرةَ الأدَبِ، قضى نَحْبَه في شَرخِ الشُّبوبةِ وعُنفوانِ الفُتُوَّةِ، وتَرَك لنا قُلوبًا آسِفةً وشُجونًا فائِضةً، إنَّا لله وإنَّا إليه راجِعونَ) [1899] ((خاطرات جمال الدين الأفغاني)) للمخزومي (هامش ص: 22). .
ومع هذا أيضًا فقد أسنَد الأفغانيُّ إدارةَ أوَّلِ صحيفةٍ أنشَأَها (مصر الأُسْبوعيَّة) سَنَةَ 1877م إلى أديب إسحاق هذا! ثمَّ ساهم في إنشاءِ جَريدةِ (التِّجارة) وتولَّى رئاستَها أديب إسحاق، وسليم نقَّاش، وكان الأفغانيُّ يُساهِمُ بالكتابةِ فيها، ويوصي تلاميذَه بخِدمةِ هاتينِ الصَّحيفتَينِ قَلَمًا وسَعيًا [1900] يُنظر: ((تاريخ الأستاذ الإمام)) لرضا (1/45). .
وهكذا مكَّن الأفغانيُّ النَّصارى من أجهزةِ الإعلامِ، وصَرَفَ النُّقودَ، وفَتَح المطابِعَ، وحَصَل على الامتيازاتِ وسَلَّمها لهم.
وكان من المحيطين به من النَّصارى: جورج كوتجي، وطبيبُه الخاصُّ هارون يهوديٌّ [1901] يُنظر: ((الإسلام والحضارة الغربية)) لحسين (ص: 69). . ولم يحضُرْ وفاتَه إلَّا كوتجي النَّصرانيُّ، وهارون اليهوديُّ، وعِندَ قُدومِه إلى مِصرَ يَسكُنُ في حارةِ اليهودِ [1902] يُنظر: ((تاريخ الأستاذ الإمام)) لرضا (1/44). .
ومن المآخِذِ على الأفغانيِّ أنَّ السُّلطانَ عبدَ الحميدِ استشاره في إرسالِ بَعثةٍ من العُلَماءِ لنَشرِ الإسلامِ في اليابانِ حَسَبَ طَلَبِ إمبراطورِ اليابانِ، فأرجَعَه عن عَزمِه، وقال له: (إنَّ العُلَماءَ نَفَّروا المُسلِمين من الإسلامِ، فأجدَرُ أن يُنَفِّروا الكافِرينَ) [1903] ((نابغة الشرق جمال الدين الأفغاني)) لعبدالمجيد سعيد (ص: 116)، ((جمال الدين الأفغاني)) للمغربي (ص: 32). .
ومنها تعليلُه عَدَمَ زواجِه بخشيتِه عَدَمَ العَدلِ، ومنها قَسَمُه الذي يُقسِمُ به: وعِزِّ الحَقِّ وسِرِّ العَدلِ، ومنها أنَّه يَشرَبُ (قليلًا من الكُونْياك) [1904] ((تاريخ الأستاذ الإمام)) لرضا (1/49). .
ثانيًا: محمَّد عَبدُه
لَئِن كان جمالُ الدِّينِ الأفغانيُّ هو المؤسِّسَ لهذه المَدرَسةِ العقلانيَّةِ إنَّ محمَّد عَبدُه هو الذي أقام صُروحَها ودعا إليها ونشَرَها بَينَ النَّاسِ، فكان بحَقٍّ هو صاحِبَها وهو أستاذَها وإمامَها الأوَّلَ، فكان له من الأثرِ فيها ما لم يكُنْ لأستاذِه جمالِ الدِّينِ، ولعَلَّ شُهرةَ محمَّد عَبدُه توجِبُ الاقتصارَ في ترجمتِه على بعضِ معالمِ حياتِه التي نستَشِفُّ من ورائِها اتِّجاهَه الفِكريَّ ليس إلَّا.
واسمُه: هو محمَّدُ بنُ عَبده بنِ حَسَنِ بنِ خَيرِ اللهِ. وقد حدَّث عن نفسِه فقال: (كنتُ أسمعُ المزَّاحين من أهلِ بلدتِنا يُلَقِّبون بيتَنا ببيتِ التُّرْكُمانِ، فسألتُ والدي عن ذلك فأخبَرَني أنَّ نَسَبَنا ينتهي على جَدٍّ تُركُمانيٍّ جاء من بلادِ التُّرْكُمانِ) [1905] ((تاريخ الأستاذ الإمام)) لرضا (1/16). . وقال أيضًا: (أمَّا بيتُ والِدتي فيقالُ: إنَّه عَرَبيٌّ قُرَشيٌّ، وإنَّه يتَّصِلُ في النَّسَبِ بعُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه، ولكِنَّ ذلك كُلَّه رواياتٌ مُتوارَثةٌ، لا يمكِنُ إقامةُ الدَّليلِ عليها) [1906] ((تاريخ الأستاذ الإمام)) لرضا (1/16). .
ظهر تأثيرُ الأفغانيِّ على الأستاذِ سريعًا، فبدأ في الكتابةِ والتَّأليفِ، واتَّفق مع بعضِ الطُّلابِ على أن يقرَأَ لهم بعضَ الكُتُبِ في المنطِقِ وعِلمِ الكلامِ ممَّا لم يكُنْ يُقرَأُ مِثلُها في الأزهَرِ، فكَثُر سوادُ المجتَمِعين عليه. حتى اشتَهَر أمرُه ممَّا أحفَظَ عليه قَلبَ الشَّيخِ محمَّد عليش الذي بلَغه أنَّ محمَّد عَبدُه يقرأُ كُتُبَ المُعتَزِلةِ والمُتكَلِّمين في الأزهَرِ، ويرجِّحُ مَذهَبَهم، وإنَّ الشَّيخَ عليش -كما يقولُ العَقَّادُ- كان رجلًا صالحًا عفيفًا عن المطامِعِ الدُّنيويَّةِ التي كانت تستهوي طُلَّابَ المظاهِرِ من عُلَماءِ عَصرِه، وكان مخلِصًا صادِقَ النِّيَّةِ في كراهةِ البِدَعِ التي يُخشى منها على الدِّينِ [1907] يُنظر: ((الإمام محمد عبده)) للعقاد (ص: 140). ، وكَبُر عليه أن يقرأَ أحدٌ مِثلَ تلك الكتُبِ في الأزهَرِ، فأرسل إلى محمَّد عَبدُه وناقشَه نقاشًا أفضى إلى نزاعٍ وخصومةٍ، قيل: إنَّه ترك التَّدريسَ على إثرِها في الأزهَرِ، وقيل: إنَّه لم يترُكْه.
وعرَض نَفسَه على لجنةِ الامتحانِ في الأزهَرِ لنَيلِ شَهادةِ العالميَّةِ في سَنةِ 1294ه، فحصل عليها ولم يكُنْ نَيلُه لها بالمانِعِ له من الاستِمرارِ في طَلَبِ العِلمِ [1908] يُنظر: ((تاريخ الأستاذ الإمام)) لرضا (1/ 103-104). .
أهمُّ أهدافِه في الإصلاحِ التَّعليميِّ تُلخِّصُها اللَّائحتانِ اللَّتانِ قَدَّمهما:
1- إلى الأستانةِ لإصلاحِ التَّعليمِ في سوريا.
2- إلى اللُّوردِ كرُومَر لإصلاحِ التَّعليمِ في القاهِرةِ بَعدَ عودتِه من منفاه.
ونهَج محمَّد عَبدُه بَعدَ عودتِه سبَيلَ الإصلاحِ التَّعليميِّ، وازدادت كراهتُه للسِّياسةِ شِدَّةً، وغَمَز في طريقةِ أستاذِه بتخطئتِه أذكياءَ المُسلِمين الذين يريدون خِدمةَ الإسلامِ من طريقِ السِّياسةِ [1909] يُنظر: ((تاريخ الأستاذ الإمام)) لرضا (1/ 425). ، وبلغ كُرهُه للسِّياسةِ أَوْجَهُ حينَ قال: (أعوذُ باللهِ من السِّياسةِ، ومن لَفظِ السِّياسةِ، ومن معنى السِّياسةِ، ومن كُلِّ حَرفٍ يُلفَظُ من كَلِمةِ السِّياسةِ، ومن كُلِّ خيالٍ ببالي من السِّياسةِ، ومن كُلِّ أرضٍ تُذكَرُ فيها السِّياسةِ، ومن كُلِّ شَخصٍ يتكَلَّمُ أو يتعَلَّمُ أو يُجَنُّ أو يَعقِلُ في السِّياسةِ، ومن ساس ويَسوسُ، وسائِسٍ ومَسوسٍ) [1910] ((الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية)) لعبده (ص: 111). .
بَقِيَ أن يُقالَ: إنَّه ترك السِّياسةَ ولكِنَّها لم تترُكْه، بل استغلَّتْه واتخَذَتْه مَطِيَّةً لها وخَدَّامًا للإنجليزِ من حيثُ يدري أو مِن حيثُ لا يدري؛ حيثُ قال اللُّورْد كرُومَر: (إنَّ أهمِّيَّتَه السِّياسيَّةَ ترجِعُ إلى أنَّه يقومُ بتقريبِ الهُوَّةِ التي تفصِلُ بَينَ الغَربِ وبَينَ المُسلِمين، وأنَّه هو وتلاميذَ مَدرَستِه خليقون بأن يُقَدِّمَ لهم كُلَّ ما يمكِنُ من العونِ والتَّشجيعِ؛ فهم الحُلَفاءُ الطَّبيعيُّون للمُصلِحِ الأوربِّيِّ) [1911] ((Modern Egypt)) Cromer (p: 180). .
ولَمَّا قَدِمت الدَّعوةُ الماسونيَّةُ بشِعاراتِها البَرَّاقةِ انخَدَع بها بعضُ رِجالِ المَدرَسةِ العقليَّةِ الحديثةِ بزَعامةِ أستاذِهم محمَّد عَبدُه، فبَعدَ أن توقَّفَت (العُروة الوُثقى) وعاد محمَّد عَبدُه إلى بيروتَ، أنشأ فيها جمعيَّةً سياسيَّةً دينيَّةً سِرِّيَّةً هَدَفُها التَّقريبُ بَينَ الأديانِ الثَّلاثةِ: "الإسلامِ والمسيحيَّةِ واليهوديَّةِ" واشترك معه في تأسيسِها مِيرزا باقر، وبيرزداه، وعارف أبي تراب، وجمال بِكْ نجل رامِزْ بِك التُّركي قاضي بيروتَ، ثمَّ انضَمَّ إليها مُؤَيَّدُ المُلْكِ أحَدُ وزراءِ إيرانَ، وحَسَن خان مستشارُ السِّفارةِ الإيرانيَّةِ بالأسَتانةِ، والقَسُّ إسحاق طِيلَر، وجي دبْلِيو لِينْتَر، وشَمْعون مُويال، وبعضُ الإنجليزِ واليهودِ، وكان الإمامُ صاحِبَ الرَّأيِ الأوَّلِ في موضوعِها ونظامِها، ومِيرزا باقر هو النَّاموسَ "السِّكِرْتيرَ" العامَّ لها [1912] يُنظر: ((تاريخ الأستاذ الإمام)) لرضا (1/819، 820، 828). ، وهو إيرانيٌّ تنصَّرَ وصار مبشِّرًا نصرانيًّا، وتسَمَّى بمِيرزا يوحنَّا، ثمَّ عاد إلى الإسلامِ.
ودعا أعضاؤُها إلى فِكرتِهم في صُحُفِهم ورسائِلِهم، وهذا محمَّد عَبدُه يكتُبُ رسالةً إلى القَسِّ إسحاق طِيلَر يقولُ فيها: (كتابي إلى المُلهَمِ بالحَقِّ، النَّاطِقِ بالصِّدقِ، حَضرةِ القَسِّ المحتَرَمِ إسحاق طِيلَر -أيَّدَه اللهُ في مَقصَدِه، ووفَّاه المذخورَ من مَوعِدِه-... ونستبشِرُ بقُربِ الوقتِ الذي يسطَعُ فيه نورُ العِرفانِ الكامِلُ، فتُهزَمُ له ظُلُماتُ الغفلةِ، فتُصبِحُ المِلَّتانِ العُظمَيانِ المسيحيَّةُ والإسلامُ وقد تعرَّفَت كُلٌّ منهما إلى الأخرى، وتصافَحَتا مصافَحةَ الوِدادِ، وتعانَقَتا مُعانقةَ الأُلفةِ، فتُغمَدُ عِندَ ذلك سُيوفُ الحربِ التي طالما انزعَجَت لها أرواحُ المِلَّتينِ) [1913] ((الأعمال الكاملة لمحمد عبده)) لعمارة (2/363-364). !!
ويقولُ: (وإنَّا نرى التَّوراةَ والإنجيلَ والقرآنَ ستُصبِحُ كُتُبًا مُتوافِقةً، وصُحُفًا مُتصادِقةً يَدرُسُها أبناءُ المِلَّتينِ، ويُوَقِّرُها أربابُ الدِّينَينِ، فيَتِمُّ نورُ اللهِ في أرضِه، ويَظهَرُ دينُه الحَقُّ على الدِّينِ كُلِّه) [1914] ((الأعمال الكاملة لمحمد عبده)) لعمارة (2/363-364). !!
وبينما يردِّدُ محمَّد عَبدُه هذا القولَ وأمثالَه يَنشُرُ صاحِبُه جي دَبلِيُولينْتَر مقالَ (الإسلامُ والمدارِسُ المحمَّديَّةُ) في الدِّيلي تِلِغْراف اللَّنْدنيَّةِ، جاء فيه (وإحسانُ المُسلِمين لمواليهم، وإشفاقُهم على البهائِمِ التي ترجِعُ أيضًا إلى الرَّبِّ، وإنفاقُهم في سبيلِ الخيرِ، والسَّذاجةُ التي هي من خِصالِ المؤمِنين الصَّادِقين: أحرى بأن تُميلَنا إليهم من أن نَصيحَ على النَّبيِّ الكاذبِ) [1915] ((تاريخ الأستاذ الإمام)) لرضا (1/820-822). ، وقال أيضًا: (وإن كُنَّا نريدُ أن نُلصِقَ المُسلِمين بالدَّولةِ الإنجليزيَّةِ فيَجِبُ علينا أن نَهَبَ لهم الدِّينَ والدُّنيا) [1916] ((تاريخ الأستاذ الإمام)) لرضا (1/820-822). ، وقال: (ومن جملةِ المساعي التي أؤكِّدُ الشُّروعَ فيها إدخالُ الشُّبَّانِ المُسلِمين... في مدارسِنا الحربيَّةِ) [1917] ((تاريخ الأستاذ الإمام)) لرضا (1/820-822). .
ويقولُ صاحِبُه الآخَرُ القَسُّ إسحاق طِيلَر: (إنَّ المُسلِمين قد آمَنوا بالمسيحِ عليه السَّلامُ.. فهم عندنا مسيحيُّون نُصَلِّي لهم كُلَّ يومِ أحَدٍ، ونسألُ اللهَ أن يَهدِيَهم وإيَّانا إلى الحَقِّ وإلى طريقٍ مُستقيمٍ) [1918] ((تاريخ الأستاذ الإمام)) لرضا (1/ 826). !
فأيُّ تقريبٍ هذا؟! والأوَّلُ يَضَعُ نُصبَ عينَيه خِدمةَ دولتِه الإنجليزيَّةِ، فيُصَوِّرُ حالةَ المُسلِمين كما فَهِمَها ويُرشِدُها إلى ألطَفِ المداخِلِ لإلصاقِ المُسلِمين بها ويَنصَحُها بالمزاوجةِ بَينَ الدِّينِ والدُّنيا في حُكمِها ويشيرُ عليها بتدريبِ الشُّبَّانِ المُسلِمين في مدارسِها الحربيَّةِ؛ ليكونوا أعوانًا لهم في تحقيقِ مساعيهم. أين التَّوفيقُ والتَّقريبُ؟! اللَّهُمَّ إلَّا أن يكونَ إخضاعُ المُسلِمين للإنجليزِ وإيقاعُهم في حبائِلِهم يعني توفيقًا [1919] يُنظر: ((الفكر الإسلامي المعاصر)) لغازي التوبة (ص: 21). !
أمَّا الثَّاني فيَكشِفُ عن مرادِه بالمُسلِمين "فهم عندَنا مسيحيُّون"، ويُصَلِّي لهم كُلَّ يومِ أحدٍ، ويسألُ اللهَ لهم الهدايةَ!
ولعَلَّ أوَّلَ ثَمَرةٍ يجنيها أولئك القومُ في سعيِهم إلى التَّقريبِ بَينَ الأديانِ القضاءُ على فكرةِ الجهادِ في الإسلامِ، فما دامت الأديانُ الثَّلاثةُ كُلُّها حقٌّ وليس بينها من فَرقٍ، فليس هناك من داعٍ لحملِ السَّيفِ وإعلانِ الجهادِ ضِدَّ النَّصارى مثلًا، وهو الأمرُ الذي أقلق بريطانيا كثيرًا، وهي دولةٌ نصرانيَّةٌ؛ فسعَت بشَتَّى السُّبُلِ للقضاءِ على هذه العقيدةِ الإسلاميَّةِ، فأنشأت القاديانيَّةَ التي حرَّمت قتالَ الإنجليزِ، والبهائيَّةَ كذلك، وأيَّدت حركةَ أحمد خان الذي أعلَن أنَّ قتالَ الإنجليزِ كُفرٌ، وأنَّ مُساعدتَهم واجبةٌ!
ومن أثَرِ هذه الدَّعوةِ ما نراه بارزًا في حديثِ رجالِ المَدرَسةِ العقليَّةِ الحديثةِ من تقليلِ شأنِ الجهادِ في نشرِ الإسلامِ، وأنَّه قام على الدَّعوةِ باللِّسانِ، وعَلَّلوا كُلَّ حَرَكةٍ من حرَكَاتِه بأنَّها للدِّفاعِ بمعناه الاصطلاحيِّ الحاضِرِ الضَّيِّقِ. وقد زعم رشيد رضا (أنَّ حروبَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للكُفَّارِ كانت كُلُّها دِفاعًا) [1920] ((الوحي المحمدي)) (ص: 272). .
لذلك فلا عَجَبَ أن تؤيِّدَ إنجلترا تلك الجمعيَّةَ وذلك الاتِّجاهَ، ما دام فيه تحقيقٌ لهدَفٍ طالما سعَت إليه وبذَلَت فيه الغاليَ والنَّفيسَ، وهو إبطالُ الجهادِ.
ومحمَّد رشيد رضا رثى في جريدته (المنار) "خريستو غورس جباره" الذي وَصَل في الكنيسةِ الأرْثُوذكسيَّةِ إلى رُتبةِ الأرشمندريت، بقَولِه: (كان الفقيدُ مُوَحِّدًا يؤمِنُ باللهِ وملائكتِه وكُتُبِه ورَسولِه واليومِ الآخِرِ، والقُرآنِ ورسالةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويخالِفُ المُسلِمين في مسألةِ الصَّلبِ)، يؤمِنُ بالقرآنِ ويعتَقِدُ بالصَّلبِ!! ويؤمِنُ بمحمَّدٍ ولا يتَّبِعُه!! ويؤمِنُ بالقرآنِ ولا يمتَثِلُ أوامِرَه!! ثمَّ يُفَوِّضُ رشيد رضا أمْرَه في الآخرةِ إلى العليمِ الرَّحيمِ إلَّا أنَّه يندَمُ على هذا فيَستدرِكُ في "تاريخ الأستاذ الإمام" ويقولُ: (وأنا أعتَقِدُ أنَّه مؤمِنٌ ناجٍ عِندَ اللهِ إذا كان قد مات على ما عرَفْتُه منه، وهو في مسألةِ الصَّلبِ متأوِّلٌ معذورٌ) [1921] ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/ 827-828). !!
وكان من أهدافِ محمَّد عَبدُه: تنقيةُ تفسيرِ القرآنِ ممَّا عَلِق به من الإسرائيليَّاتِ والأحاديثِ الموضوعةِ والخُرافاتِ، والاستطراداتِ النَّحويَّةِ ونُكَتِ المعاني ومُصطَلَحاتِ البيانِ، وجَدَلِ المُتكَلِّمين وتخريجاتِ الأصوليِّينَ، واستنباطاتِ الفُقَهاءِ المُقَلِّدين، وتأويلاتِ المتصَوِّفينَ، وتعَصُّبِ الفِرَقِ، وكثرةِ الرِّواياتِ، والعُلومِ الرِّياضيَّةِ والطّبيعيَّةِ [1922] يُنظر: ((تفسير المنار)) لرضا (1/7). .
وينبغي لنا أن نذكُرَ هنا بيتًا قاله في مَرَضِ موتِه ضِمنَ أبياتٍ:
ويخرُجُ وَحيُ اللهِ للنَّاسِ عاريًا
عن الرَّأيِ والتَّأويلِ يَهدي ويُلْهِمُ
وعَلَّق عليه تلميذُه رشيد رضا بأنَّه: (آخِرُ نَصٍّ صريحٍ من الأستاذِ الإمامِ في اتِّباعِ مَذهَبِ السَّلَفِ في تفسيرِ القرآنِ.. ومرادُه بالرَّأيِ الذي ينهى عنه اتِّباعُ الهوى.. وبالتَّأويلِ: الخروجُ في تفسيرِه عن مدلولِ النَّظْمِ العَربيِّ البليغِ، وما يخالِفُ المُحكَمَ الذي هو أمُّ الكتابِ، أو ما أجمع عليه أهلُ الصَّدرِ الأوَّلِ) [1923] ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/ 1027). فهل هو رجوعٌ منه إلى مَنهَجِ السَّلَفِ عِندَ وفاتِه؟!
ومن مؤلَّفاتِه:
1- (الواردات): أوَّلُ تأليفِه في الكلامِ أو التَّوحيدِ على الطَّريقةِ الصُّوفيَّةِ وأسلوبِهم.
2- (رسالةٌ في وَحدةِ الوجودِ).
3- (تاريخُ إسماعيل باشا).
4- (نظامُ التَّربيةِ والتَّعليمِ بمِصرَ).
5- (رسالةُ التَّوحيدِ) وهي أهمُّ مؤلَّفاتِه وأشهَرُها على الإطلاقِ.
6- (تقريرُ المحاكِمِ الشَّرعيَّةِ).
7- (الإسلامُ والنَّصرانيَّةُ مع العِلمِ والمدنيَّةِ).
وقد سبَق القولُ في مؤَلَّفاتِ الأفغانيِّ أنَّه قد وقَع الخلطُ في بعضِ الرَّسائِلِ المطبوعةِ بَينَ ما للأفغانيِّ وما لمحمَّد عَبدُه؛ كبَحثِ (التعَصُّب) مثلًا، و(القَضاءِ والقَدَرِ)، و(الوَحدةِ الإسلاميَّةِ)، وهي مقالاتٌ نُشِرَت في (العُروة الوُثقى).
صِلةُ العقلِ عِندَ محمَّد عَبدُه بالدِّينِ:
 صِلةُ العقلِ عِندَ محمَّد عَبدُه بالدِّينِ وثيقةٌ (إنَّ العَقلَ وَحدَه لا يستَقِلُّ بالوصولِ إلى ما فيه سعادةُ الأُمَمِ بدونِ مُرشِدٍ إلهيٍّ) [1924] ((رسالة التوحيد)) (ص: 128-129). .
وقد أكرم الإسلامُ العقلَ (ورفَع القرآنُ من شأنِ العقلِ ووَضَعه في مكانِه بحيث ينتهي إليه أمرُ السَّعادةِ والتَّمييزِ بَينَ الحَقِّ والباطِلِ والضَّارِّ والنَّافِعِ) [1925] ((رسالة التوحيد)) (ص: 19). .
بل إنَّ الإسلامَ عِندَه يعتَمِدُ على الدَّليلِ العقليِّ، ويحتَجُّ به لا بالمُعجِزاتِ: (فالإسلامُ في هذه الدَّعوةِ والمطالبةِ بالإيمانِ باللهِ ووحدانيَّتِه لا يعتَمِدُ على شَيءٍ سوى الدَّليلِ العقليِّ والفِكرِ الإنسانيِّ الذي يجري على نظامِه الفِطريِّ، فلا يُدهِشُك بخارِقٍ للعادةِ، ولا يغشى بصَرَك بأطوارٍ غيرِ مُعتادةٍ، ولا يُخرِسُ لسانَك بقارِعةٍ سماويَّةٍ، ولا يقطَعُ حركةَ فِكْرِك بصيحةٍ إلهيَّةٍ) [1926] ((الإسلام والنصرانية)) (ص: 54- 55). .
أمَّا إذا تعارَض العقلُ والنَّقلُ عِندَه فقد (اتَّفَق أهلُ المِلَّةِ الإسلاميَّةِ -إلَّا قليلًا ممَّن لا يُنظَرُ إليه- على أنَّه إذا تعارَض العَقلُ والنَّقلُ، أُخِذ بما دلَّ عليه العقلُ) [1927] ((الإسلام والنصرانية)) (ص: 59). .
وتولَّد من رأيِه هذا في صلةِ العقلِ بالدِّينِ أن دعا إلى الاجتهادِ ونَبذِ التَّقليدِ واطِّراحِه، فقد (أنحى الإسلامُ على التَّقليدِ وحَمَل عليه حملةً لم يَرُدَّها عنه القَدَرُ، فبَدَّدت فيالِقَه المتغَلِّبةَ على النُّفوسِ) [1928] ((رسالة التوحيد)) (ص: 157- 158). و(علا صوتُ الإسلامِ على وَساوِسِ الطَّغامِ، وجَهَر بأنَّ الإنسانَ لم يُخلَقْ ليُقادَ بالزِّمامِ، ولكِنَّه فُطِر على أن يهتديَ بالعِلمِ والأعلامِ -أعلامِ الكونِ ودلائِلِ الحوادِثِ-، وإنَّما المعلِّمون مُنَبِّهون ومُرشِدون، وإلى طريقِ البحثِ هادون) [1929] ((رسالة التوحيد)) (ص: 157- 158). وأنَّ الإسلامَ )صرَفَ القُلوبَ عن التَّعلُّقِ بما كان عليه الآباءُ وما توارَثه عنهم الأبناءُ، وسجَّل الحُمقَ والسَّفاهةَ على الآخِذِ بأقوالِ السَّابِقين) [1930] ((رسالة التوحيد)) (ص: 157- 158). .
والشَّيخُ محمَّد عَبدُه هو الذي صاغ برنامَجَ الحِزبِ الوَطَنيِّ المِصريِّ، وجاء فيه في المادَّةِ الخامِسةِ منه (الحِزبُ الوَطَنيُّ حِزبٌ سِياسيٌّ لا دينيٌّ؛ فإنَّه مؤلَّفٌ من رجالٍ مختَلِفي العقيدةِ والمذهَبِ، وجميعِ النَّصارى واليَهودِ، وكُلُّ من يحرُثُ أرضَ مِصرَ ويتكَلَّمُ لُغتَها مُنضَمٌّ إليها) [1931] ((الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده)) لعمارة (1 /107). .
وكتَبَ مرَّةً مدافِعًا عن إسحاق طِيلَر قائلًا: (إنَّ السِّرَّ في غَضَبِ السُّلطانِ عبدِ الحميدِ من نشاطِ القَسِّ الإنجليزيِّ إسحاق تيلور في الدَّعوةِ لتوحيدِ الأديانِ، وموافَقَتي وميرزا باقِر وعُلَماءِ دِمَشقَ له، ومراسَلتُنا إيَّاه: أنَّه خَشِيَ أن يعتَنِقَ الإنجليزُ الإسلامَ، ثمَّ يَطلُبوا أن يكونوا أصحابَ الدَّولةِ في الإسلامِ، وتكونَ المَلِكةُ فيكتوريا مَلِكةَ المُسلِمين.. ويذهَبَ السُّلطانُ من السُّلطانِ.. وسُبحانَ مُدَبِّرِ العُقولِ) [1932] ((الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده)) لعمارة (1/735). !!
فانظُرْ إلى أيِّ مَدًى وصَل دفاعُه عن قَسٍّ إنجليزيٍّ يقولُ: (إنَّ المُسلِمين قد آمَنوا بالمسيحِ عليه السَّلامُ.. فهم عِندَنا مَسيحيُّونَ نُصَلِّي لهم كُلَّ يومِ أحَدٍ، نسألُ اللهَ أن يَهديَهم وإيَّانا إلى الحَقِّ وإلى طريقٍ مستقيمٍ) [1933] ((تاريخ الأستاذ الإمام)) لرضا (1 /826. .
ثمَّ انظُرْ إلى هذا الاتِّهامِ السَّخيفِ من عَبدُه إلى السُّلطانِ عبد الحميدِ؟! ولا ندري هل قال محمَّد عَبدُه هذا عن اعتقادٍ صحيحٍ أو خِداعٍ للقارِئِ!
وورَد في كتابِه الذي أرسَله من السِّجنِ إلى أحَدِ مُريديه: (... ودارت الأفلاكُ دورةَ العَكسِ ذاهِبةً بنَيِّراتِها إلى عوالِمَ غيرِ عالَمِنا هذا، فولَّى معها آلهةُ الخيرِ أجمعينَ، وتمخَّضَت السُّلطةُ لآلهةِ الشَّرِّ) [1934] ((تاريخ الأستاذ الإمام)) لرضا (1/267). !
ولا يَصِحُّ تخريجُ تلميذِه رشيد لهذا بأنَّه على الحكايةِ لخُرافاتِ اليونانيِّينَ، وهو إن كان قال هذا عن اعتقادٍ فلا شَكَّ في كُفرِه إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ [الصافات: 4] .
ومن ذلك ما كتبه إلى أستاذِه الأفغانيِّ قائلًا: (ليتَني كنتُ أعلَمُ ماذا أكتُبُ إليك، وأنت تعلَمُ ما في نفسي كما تعلَمُ ما في نَفسِك، صنَعْتَنا بيَدَيك وأفَضْت على موادِّنا صُوَرَها الكماليَّةَ وأنشَأْتَنا في أحسَنِ تقويمٍ فيك، عَرَفْنا أنفُسَنا، وبك عرَفْناك، وبك عَرَفْنا العالَمَ أجمعين، فعِلْمُك بنا كما لا يخفاك عِلمٌ من طريقِ الموجَبِ، وهو عِلمُك بذاتِك وثِقتِك بقُدرتِك وإرادتِك، فعنك صدَرْنا وإليك إليك المآبُ!
أوتيتُ من لَدُنْك حِكمةً أُقَلِّبُ بها القُلوبَ وأعقِلُ العقولَ، وأتصَرَّفُ بها في خواطرِ النُّفوسِ، ومُنِحْتُ منك عَزمةً أُتعتِعُ بها الثَّوابِتَ، وأُذِلُّ بها شوامِخَ الصِّعابِ، وأصدَعُ بها حَلَّ المشاكلِ، وأثبُتُ بها في الحَقِّ للحَقِّ حتى يرضى الحَقُّ، وكُنتُ أظنُّ قدرتي بقدرتِك غيرَ محدودةٍ، ومُكْنَتي لا مبتوتةً ولا مقدورةً، فإذا أنا من الأيامِ كُلَّ يومٍ في شأنٍ جديدٍ)، ويقولُ: (فصُورتُك الظَّاهرةُ تجَلَّت في قُوَّتي الخياليَّةِ، وامتَدَّ سُلطانُها على حِسِّي المُشرِكِ، وهي رَسمُ الشَّهامةِ، وشَبَحُ الحِكمةِ، وهيكَلُ الكَمالِ؛ فإليها رُدَّت جميعُ محسوساتي، وفيها فَنِيَت مجامِعُ مَشهوداتي، ورُوحُ حِكمتِك التي أحيَيتَ بها مَواتَنا، وأنَرْتَ بها عُقولَنا، ولطَّفْتَ بها نفوسَنا التي بَطَنْتَ بها فينا، فظَهَرْتَ في أشخاصِنا، فكُنَّا أعدادَك وأنت الواحِدُ، وغَيبَك وأنت الشَّاهِدُ، ورَسْمَك الفُوتوغرافيَّ الذي أقَمْتَه في قِبلةِ صَلاتي رقيبًا على ما أُقَدِّمُ من أعمالي، ومُسيطرًا عليَّ، ولا انثنَيتُ عن نهايةٍ حتى تطابَقَ في عَمَلي أحكامُ أرواحِك، وهي ثلاثةٌ، فمَضَيتُ على حُكمِها سعيًا في الخيرِ وإعلاءً لكلمةِ الحَقِّ، وتأييدًا لشَوكةِ الحِكمةِ وسُلطانِ الفضيلةِ، ولستَ في ذلك إلَّا إلهًا لتنفيذِ الرَّأيِ المثَلَّثِ، ومالي من ذاتي إرادةٌ حتى ينقَلِبَ مُرَبَّعًا، غيرَ أنَّ قواي العاليةَ تخَلَّت عني في مكاتَبَتي إليك، وخَلَت بيني وبَينَ نفسي التِزامًا لحُكمِ أنَّ المعلولَ لا يعودُ على عِلَّتِه بالتَّأثيرِ، على أنَّ ما يكونُ إلى المولى من رقائِمِ عَبدِه ليس إلَّا نوعًا من التَّضرُّعِ والابتهالِ لا أحسَبُ فيه ما يكشِفُ خَفاءً أو يزيدُ جَلاءً، ومع ذلك فإنِّي لا أتوسَّلُ إليك في العَفوِ عمَّا تجِدُه من قَلَقِ العبارةِ وما تراه ممَّا يخالِفُ سَنَنَ البلاغةِ بشَفيعٍ أقوى من عَجزِ العَقلِ عن أحداقِ نَظَرِه إليك، وإطراقِ الفِكرِ خشيةً منك بَينَ يديك، وأيُّ شفيعٍ أقوى من رحمتِك بالضُّعفاءِ، وحُنُوِّك لمغلوبي الحياءِ)، ويقولُ أيضًا: (أمَّا ما يتعلَّقُ بنا فإنِّي على بيِّنةٍ من أمرِ مولاي، وإن كان في قُوَّةِ بيانه ما يُشَكِّكُ الملائكةَ في معبودِهم، والأنبياءَ في وَحيِهم! ولكِنْ ليس في استطاعتِه أن يُشَكِّكَ نفسَه في نفسِه، ولا أن يُقنِعَ عَقلَه الأعلى بالمحالاتِ، وإن كان في طَوعِه أن يُقنِعَ بها من أراد من الشَّرقيِّينَ والغَربيِّينَ).
هذا بَعضُ ما ورد في خطابِ محمَّد عَبدُه إلى أستاذِه الأفغانيِّ بتاريخِ 5 جمادى الأُولى سَنةَ 1300ه، وهي عباراتٌ -ولا شَكَّ- خطيرةٌ، تُوجِبُ إعادةَ النَّظَرِ في عقيدةِ الرَّجُلِ عِندَ من لا تخدَعُه الأسماءُ. وقد استغرب رشيد رضا نفسُه هذه الرِّسالةَ من أستاذِه؛ حيثُ قال عِندَ سياقِه لها: (ومن كتابٍ له إلى السَّيِّد جمالِ الدِّينِ عَقِبَ النَّفيِ من مصرَ إلى بيروتَ، وهو أغرَبُ كُتُبِه، بل هو الشَّاذُّ فيما يَصِفُ به أستاذَه السَّيِّدَ ممَّا يُشبِهُ كلامَ صوفيَّةِ الحقائِقِ والقائِلينَ بوَحدةِ الوُجودِ التي كان يُنكِرُها عليهم بالمعنى المشهورِ عنهم، وفيه من الإغراقِ والغُلُوِّ في السَّيِّدِ ما يُستغرَبُ صُدورُه عنه، وإن كان من قَبيلِ الشِّعريَّاتِ، وكذا ما يَصِفُ به نَفسَه بالتَّبَعِ لأستاذِه من الدَّعوى التي لم تُعهَدْ منه البتَّةَ) [1935] يُنظر: ((تاريخ الأستاذ الإمام)) لرضا (2/599). .
ثمَّ ساق نصَّ الخطابِ، ولم يلتَزِمْ رشيد رضا الدِّقَّةَ كُلَّها في نقلِ الرِّسالةِ، فتراه يحذِفُ بعضَ العباراتِ الخطيرةِ ويضَعُ نُقَطًا، وأحيانًا لا يَضَعُ حتَّى النُّقَطَ، ويحاوِلُ حينًا أن يُلَطِّفَ من شِدَّةِ انحرافِ بعضِ العباراتِ بتأويلاتٍ مُتكَلَّفةٍ.
ولمَّا نَشَر محمَّد أحمد خلف الله كتابَه (الفَنُّ القَصَصيُّ في القُرآنِ الكريمِ) زَعَم فيه أنَّ ورودَ الخبَرِ في القرآنِ لا يقتَضي وقوعَه، وأنَّه يذكُرُ أشياءَ وهي لم تقَعْ، ويخشى على القرآنِ من مقارنةِ أخبارِه بحقائِقِ التَّاريخِ، وقال: (إنَّا لا نتحَرَّجُ من القولِ بأنَّ القرآنَ أساطيرُ) [1936] ((الفن القصصي في القرآن الكريم)) (ص: 180). !
وعندما رفَضَت جامعةُ فؤاد هذه الرِّسالةَ دافَع عنها أمين الخولي المُشرِفُ على الرِّسالةِ قائلًا: (إنَّها ترفُضُ اليومَ ما كان يُقَرِّرُه الشَّيخُ محمَّد عَبدُه بَينَ جُدرانِ الأزهَرِ منذُ اثنَينِ وأربعينَ عامًا) [1937] ((الفن القصصي في القرآن الكريم)) لخلف الله، تقديم أمين الخولي. .
ونَشَر قاسِم أمين كتابَه (تحريرُ المرأةِ)، وفيه دعوةٌ إلى نبذِ الحِجابِ واطِّراحِه، وإلى خروجِ المرأةِ إلى العَمَلِ في كُلِّ المجالاتِ، ودراسةِ كُلِّ العُلومِ، وزَعَموا أنَّ هذا تحريرُ المرأةِ.
وقِصَّةُ الكتابِ تبدَأُ حينما نَشَر أحدُ الكُتَّابِ الفَرَنسيِّين مقالًا هاجم فيه حِجابَ المرأةِ المِصريَّةِ، فكتب قاسِم أمين دِفاعًا عن الحِجابِ أغضَبَ اللُّورْد كرُومَر الذي جاء إلى مِصرَ -كما قال- ليمحُوَ ثلاثًا: القُرآنُ، والكعبةُ، والأزهرُ [1938] يُنظر: ((الخنجر المسموم الذي طُعن به المسلمون)) للجندي (ص: 29). ، فأمَرَ بوَضعِ كِتابِ (تحريرُ المرأةِ)، وقيل: إنَّ الذي أمَرَ بوَضعِه الأميرةُ نازلي حفيدةُ إبراهيم باشا؛ لأنَّها غَضِبَت من دفاعِ قاسِم أمين عن الحِجابِ (والذين نَسَبوا الأمرَ إلى اللُّورْدِ كرُومَر والذين نَسَبوه إلى "نازلي" يتَّفِقون أنَّ الأمرَ قد صَدَر إلى الشَّيخِ محمَّد عَبدُه، وأنَّه قد قام بدورٍ كبيرٍ في تأليفِ الكتابِ... بل يرى بعضُهم أنَّه هو الذي ألَّفه، ثمَّ وَضَع على غلافِه اسمَ قاسِم أمين تجنُبًا للحَرَجِ والعاصِفةِ التي كانت ستَهُبُّ عليه مباشَرةً إذا ما وضَع اسمَه عليه، وهو الشَّيخُ الأزهريُّ ذو المناصِبِ الدِّينيَّةِ الكبرى، ومنها مَنصِبُ مُفتي الدِّيارِ المِصريَّةِ) [1939] ((الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده)) لعمارة (1/247-248). .
قال محمَّد عمارة الذي جمَع مُؤَلَّفاتِ ومقالاتِ محمَّد عَبدُه في كتابِ (الأعمالُ الكاملةُ للإمامِ محمَّد عَبدُه) في سِتَّةِ مجلَّداتٍ بَعدَ تحقيقٍ دقيقٍ لنِسبتِها إلى محمَّد عَبدُه: (الرَّأيُ الذي أؤمِنُ به والذي نبع من الدِّراسةِ لهذه القضيَّةِ هو أنَّ هذا الكتابَ إنَّما جاء ثَمَرةً لعَمَلٍ مُشتَرَكٍ بَينَ كُلٍّ من الشّيخِ محمَّد عَبدُه وقاسِم أمين.. وأنَّ في هذا الكتابِ عِدَّةَ فُصولٍ قد كتبها الأستاذُ الإمامُ وَحْدَه، وعِدَّةَ فُصولٍ أُخرى كتَبَها قاسِم أمين ثمَّ صاغ الأستاذُ الإمامُ الكتابَ صياغتَه النِّهائيَّةَ، بحيث جاء أُسلوبُه على نمطٍ واحدٍ هو أقرَبُ إلى أسلوبِ محمَّد عَبدُه منه إلى أُسلوبِ قاسِم أمين) [1940] ((الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده)) (1/252). ، ثمَّ ذكَر بَعدَ هذا مجموعةً كبيرةً من الأدِلَّةِ على ذلك قدَّم بَينَ يديها عدَدًا من القرائِنِ.
منها: مَوقِفُ الأستاذِ الإمامِ من الكِتابِ بَعدَ صُدورِه؛ فلقد أيَّده ودافَع عنه بطريقةٍ غيرِ مُباشِرةٍ، وامتنع عن التَّعليقِ عليه أو المُشارَكةِ بشَكلٍ مُباشِرٍ في المعاركِ التي دارت من حولِه، وبالذَّاتِ عندما أراد خصومُه إحراجَه، وطلَبوا منه أن يُفتيَ في الموضوعِ.
أمَّا دفاعُه غيرُ المباشِرِ فيتمَثَّلُ في وقوفِ رشيد رضا ومجلَّة (المنار) إلى جانِبِ الكِتابِ؛ فلقد تناوَلت (المنار) الكتابَ بالمدحِ والتَّقريظِ في أكثَرَ مِن مَرَّةٍ، واعتبرَتْه مع (رسالة التَّوحيد) للأستاذِ الإمامِ و(سِرُّ تقَدُّمِ الإنجليزِ السَّكسونيِّينَ) الذي ترجمه فتحي زغلول؛ أهَمَّ الأعمالِ الفِكريَّةِ في ذلك العَصرِ "المناصر 1 يوليو 1899م، (كما تناولَتْه بالثَّناءِ في عدَدَيْ 15 يوليو 26 أغسطس من العامِ نَفسِه) [1941] ((الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده)) لعمارة (1/255). .
ووصف رشيد رضا قاسِم أمين بأنَّه العالِمُ البارِعُ في علومِ الأخلاقِ والاجتِماعِ [1942] يُنظر: ((تاريخ الأستاذ الإمام)) (1/1051). .
ومن روَّادِ مَدرَسةِ الأفغانيِّ ومحمَّد عَبدُه:
- محمَّد رشيد رضا:
الذي بدأ يتحَوَّلُ تدريجيًّا من مَنهَجِ المَدرَسةِ العقليَّةِ إلى مَنهَجِ السَّلَفِ، ولعَلَّ بدايةَ التَّحوُّلِ أعقَبَت وفاةَ أستاذِه محمَّد عَبدُه؛ فقد صار يهتَمُّ بطَبعِ كُتُبِ السَّلَفِ في مطبعةِ المنار، مِثلُ كُتُبِ ابنِ تيميَّةَ، وابنِ القَيِّمِ، وابنِ عبدِ الوَهَّابِ، ونحوِهم.
- محمَّد مصطفى المراغي: شيخُ الجامِعِ الأزهَرِ، وكان من أكبَرِ تلاميذِ الإمامِ محمَّد عَبدُه.
- محمود شَلتوت، وأحمد المَراغي، وعبدُ العزيزِ جاوِيش، ومحمَّد فريد وجدي، وغيرُهم.
واجتهاداتُ الشَّيخِ وكِبارِ تلاميذِه أدَّت إلى ظُهورِ طَبَقةٍ من تلامِذةِ الشَّيخِ كان لها انحرافاتٌ حادَّةٌ في مجالِ الأُسرةِ: مِثلُ قاسِم أمين في كتابِه (المرأةُ الجديدةُ) و(تحريرُ المرأةِ)، وعلي عبد الرَّازِق في (السِّياسة الشَّرعيَّة)؛ إذ دعا إلى فَصلِ الدِّينِ عن الدَّولةِ على غرارِ النَّصارى [1943] يُنظر: ((مفهوم تجديد الدين)) لسعيد (ص: 143- 146) و (ص: 147- 150). .
ثالثًا: محمَّد عِمارة:
هو محمَّد عِمارة مصطفى عِمارة [1944] يُنظر في ترجمته: ((محمد عمارة في ميزان أهل السنة والجماعة)) للخراشي (ص: 12- 22). ، وُلِد بمركَزِ قَلِّين بمُحافظةِ كَفرِ الشَّيخِ بمصرَ، سنةَ 1931م، بدأ رِحلةَ التَّعلُّمِ في الكتاتيبِ بقريتِه التي وُلِد بها، ثمَّ انتقل إلى الأزهَرِ، والتَحق بَعدَ الثَّانويَّةِ بكليَّةِ دارِ العُلومِ، وحَصَل على الماجِستيرِ حَولَ مُشكِلةِ الحُرِّيَّةِ عِندَ المُعتَزِلةِ سَنةَ 1970م، ثمَّ الدُّكتوراه حولَ نظريَّةِ الإمامةِ وفَلسَفةِ الحُكمِ عِندَ المُعتَزِلةِ سَنةَ 1975م. وفي سُؤالٍ عن اهتمامِه بالآراءِ الثَّوريَّةِ في الإسلامِ قال عِمارةُ: (إنَّ قِراءتي للعُروةِ الوُثقى وكتاباتِ الأفغانيِّ ومحمَّد عَبدُه مُبَكِّرًا كانت هي السَّبَبَ المباشِرَ في ذلك...).
ومن كُتُبِه: الأعمالُ الكامِلةُ لرُوَّادِ عَصرِ النَّهضةِ- الطَّهطاويُّ، والأفغانيُّ، ومحمَّد عَبدُه، والكواكبيُّ، الإسلامُ والوَحدةُ الوَطَنيَّةُ، وقاسِم أمين وتحريرُ المرأةِ، محمَّد عَبدُه مجدِّدُ الإسلامِ، والأفغانيُّ موقِظُ الشَّرقِ وفَيلَسوفُ الإسلامِ، والمُعتَزِلةُ وأُصولُ الحُكمِ.. وغيرُها كثيرٌ.
وقد توفِّي عِمارةُ في مساءِ يومِ الجُمُعةِ يومَ 28 فبراير عام 2020م.
عِمارةُ والمُعتَزِلةُ:
لم يَصِلِ الدُّكتورُ عِمارةُ في تعظيمِه للعَقلِ إلَّا بَعدَ أن تشَرَّبَ مبادئَ المُعتَزِلةِ، وأُعجِب بعقولِهم، ويمكِنُ أن يُعكَسَ هذا فيُقالَ: إنَّ محبَّةَ عِمارةَ للعَقلِ وإيمانَه بقُدرتِه على قيادةِ الإنسانِ للهُدى ساقه إلى تعظيمِ المُعتَزِلةِ، وإطرائِهم وصَرفِ أبصارِ قُرَّائِه إليهم؛ لأنَّه وجد فيهم بُغيتَه، وهكذا يقالُ في التَّيَّارِ العَقلانيِّ الأفغانيِّ، وسوف ننقُلُ هنا بعضَ نُصوصِه التي تُبرِزُ هذه القضيَّةَ [1945] يُنظر: ((محمد عمارة في ميزان أهل السنة والجماعة)) للخراشي (ص: 261- 262). .
فمن ذلك قَولُه: (كان التَّوحيدُ بمعناه النَّقيِّ المبرَّأِ من الشُّبُهاتِ هو الذي دعا المُعتَزِلةَ لنَفيِ القِدَمِ عن القرآنِ؛ لأنَّهم ينفون الصِّفاتِ عن الذَّاتِ العَلِيَّةِ حتَّى لا يكونَ هناك إقرارٌ بقِدَمِ هذه الصِّفاتِ، فيكونَ مع القديمِ قَديمٌ آخَرُ) [1946] ((نظرة جديدة إلى التراث)) (ص: ??). .
ويخصِّصُ الدُّكتورُ عِمارةُ كتابًا كامِلًا هو (المُعتَزِلةُ ومُشكِلةُ الحُرِّيَّةِ الإنسانيَّةِ) لنُصرةِ قَولِهم بالقَدَرِ.
وكتَبَ فَصلًا كامِلًا بعُنوانِ (المَنزِلةُ بَينَ المنزِلَتينِ) في آخِرِ كِتابِ "الإسلامُ والمُستقبَلُ "؛ لينصُرَ قَولَهم بهذه البِدعةِ [1947] يُنظر: ((الإسلام والمستقبل)) (ص: ???). .
أمَّا رِجالُ المُعتَزِلةِ (والقَدَريَّةِ قَبلَهم) فإنَّ الدُّكتورَ محمَّد عِمارة يُثني عليهم ثناءً حارًّا، وعلى مواقِفِهم، ويعتَبِرُهم من أفذاذِ رِجالِ الإسلامِ، وأصحابِ الفِكرِ المُستنيرِ في تراثِنا.
قال عن غَيلانَ الدِّمَشقيِّ: (كانت حياةُ غَيلانَ نَموذجًا فريدًا يُجَسِّدُ الموقِفَ الثَّوريَّ من سَلبيَّاتِ مجتَمَعِه، كذلك كان مماتُه نموذجًا فريدًا يُجسِّدُ سلبيَّاتِ هذا المجتَمَعِ، ويَدينُ هذه السَّلبيَّاتِ) [1948] ((مسلمون ثوار)) (ص: 149). .
وقال عن عَمرِو بنِ عُبَيدٍ أحَدِ رُؤوسِ المُعتَزِلةِ: إنَّه (علامةٌ بارزةٌ على طريقِ تطَوُّرِ العَقلِ العربيِّ المُسلِمِ، وعَلَمٌ من الأعلامِ الذين صنَعوا النَّشأةَ الأُولى للتَّيَّارِ العَقلانيِّ في تُراثِنا...) [1949] ((مسلمون ثوار)) (ص: 161). .
وقال عن ابنِ جِنِّي: (الرَّائِدُ العِملاقُ) [1950] ((نظرة جديدة إلى التراث)) (ص: 68). .
وقال عن الجاحظِ: (من أبرَزِ العُلَماءِ والمُتكَلِّمين والأُدَباءِ ومُفَكِّري السِّياسةِ والاجتِماعِ في عُمُرِه) [1951] ((التراث في ضوء العقل)) (ص: 262). . وغيرُ هؤلاءِ من رجالِ المُعتَزِلةِ؛ لهذا فإنَّه يُعَدُّ رجُلًا من رجالِهم في العَصرِ الحاضِرِ.
عِمارةُ والتَّيَّارُ العَقلانيُّ الأفغانيُّ:
كان الدُّكتورُ محمَّد عِمارة من بَينِ هؤلاء الرِّجالِ الذين اعتَنَقوا فِكرَ هذا التَّيَّارِ العَقلانيِّ بعُنفٍ، وسوف نُلقي الضَّوءَ على هذه النُّقطةِ مِن فِكرِه [1952] يُنظر: ((محمد عمارة في ميزان أهل السنة والجماعة)) للخراشي (ص: 317- 318). .
إنَّه لم يحْظَ بمُشاهدةِ رجالِه الأوائِلِ، أي: إنَّه من تابِعِيه لا من صَحابتِه؛ فالدُّكتورُ عِمارةُ تولَّع قَلبُه بحُبِّ هذا التَّيَّارِ ورِجالِه، وأصبح يَلهَجُ بذِكرِهم في كُلِّ مَحفِلٍ وفي كُلِّ فُرصةٍ تَسنَحُ له، ومن تتَبَّع كتُبَه ومقالاتِه عَلِم أنَّه لا يحيدُ قِيدَ شَعرةٍ عمَّا قَرَّروه في شتَّى المسائِلِ: القوميَّةِ، الوطنيَّةِ، الاشتراكيَّةِ، العقلانيَّةِ... إلخ.
فتيَّارُهم عِندَه هو التَّيَّارُ العقلانيُّ المستنيرُ، وهو (الذي كان أبرَزَ تيَّاراتِ التَّجديدِ في حركةِ اليَقَظةِ العربيَّةِ في العَصرِ الحديثِ) [1953] ((العرب والتحدي)) (ص: ???). .
وفي كتابِه (تيَّاراتُ الفِكرِ) انحيازٌ واضِحٌ لمَنهَجِ هؤلاء العقلانيِّينَ، لا سِيَّما وهو القائِمُ على إصدارِ أعمالِهم كامِلةً بَعدَ جمعِها من مظانِّها، وهو مجهودٌ لا يفعَلُه إلَّا مُحِبٌّ وَلهانُ، ويدعو الدُّكتورُ الأمَّةَ الإسلاميَّةَ ويستَحِثُّها على السَّيرِ في رِكابِ هذا التَّيَّارِ قائلًا: (الموقِفُ المتمَيِّزُ لمَدرَسةِ التَّجديدِ الدِّينيِّ هذه يستطيعُ إذا نحن التَزَمْناه واعِينَ ومُطَوِّرينَ له أن يقودَ هذه الأمَّةَ إلى نهضةٍ تَصِلُ غَدَها الذي نريدُه مُشرِقًا بماضيها المُشرِقِ، وعَقلانيَّةٍ مُعاصِرةٍ تكونُ الامتدادَ المتطَوِّرَ للعقلانيَّةِ التي صنَعَها أسلافُنا (يعني بهم المُعتَزِلةَ)، والتي أضاءَت أرجاءَ الأرضِ مُنذُ قُرونٍ ولعِدَّةِ قُرونٍ، وعَدلًا اجتماعيًّا (يعني الاشتراكيَّةَ) يكونُ الصُّورةَ العصريَّةَ الملائِمةَ لحُلمِ الإنسانِ العَرَبيِّ المُسلِمِ بالعَدلِ على امتدادِ تاريخِه الطَّويلِ، ووحدةً وطنيَّةً وقوميَّةً راسِخةً مُؤسَّسةً على قواعِدِ تُراثِنا الدِّينيِّ والحضاريِّ.. وليس على أنقاضِ هذا التُّراثِ... إلى هذه النَّهضةِ وإلى هذه الغاياتِ السَّاميةِ تدعونا وتقودُنا مَدرَسةُ التَّجديدِ الدِّينيِّ، فهل نُجيبُ ونستجيبُ؟ أم نظَلُّ ممزَّقين بَينَ التَّغريبِ وفَقرِ الفِكرِ وانحِطاطِ التَّصوُّراتِ لدى أنصارِ عَصرِ المماليكِ والعُثمانيِّين؟) [1954] ((التراث في ضوء العقل)) (ص: 195). .
وقال: (أنا قد حقَّقتُ من تُراثِنا القديمِ نُصوصًا في الفِكرِ العَقلانيِّ للمُعتَزِلةِ وابنِ رُشدٍ مَثَلًا، ومن تُراثِنا الحديثِ الأعمالَ الفِكريَّةَ لأبرَزِ الأعلامِ الذي صنَعوا عَصرَ اليقظةِ والتَّنويرِ والإحياءِ لأمَّتِنا العربيَّةِ في عَصرِها الحديثِ، وهذا الاختيارُ ينطَبِقُ عليه ما قاله أسلافُنا القُدَماءُ من أنَّ اختيارَ المرءِ قِطعةٌ من عَقلِه... فأنا أريدُ أن أقولَ بهذا الاختيارِ إنَّ حاضِرَنا ومُستقبَلَنا حضاريًّا يجِبُ أن يكونَ الامتدادَ المتطَوِّرَ العَصريَّ للصَّفَحاتِ التي مَثَّلَت إبداعَ أمَّتِنا وعطاءَها الخَلَّاقَ في عَصرِ ازدهارِها الحضاريِّ... وإنَّ قِسمةَ العقلانيَّةِ والعُروبةِ هي من أهَمِّ القِسماتِ التي يجِبُ أن نحرِصَ على تميُّزِ فِكرِنا بها وانطِباعِ حَضارتِنا بطابَعِها) [1955] ((التراث في ضوء العقل)) (ص: 282). .
رابعًا: محمَّد العَوَّا
هو محمَّد سِليم العَوَّا، باحِثٌ ومُفَكِّرٌ مِصريٌّ مُعاصِرٌ، ينتمي إلى الاتِّجاهِ "العَصْرانيِّ"، متخَرِّجُ من جامِعةِ الإسكَندَريَّةِ، ومن المختَصِّينَ بالدِّراساتِ القانونيَّةِ الجِنائيَّةِ، وعَمِل أستاذًا لفِقهِ العُقوباتِ بجامعةِ المَلِكِ سُعودٍ.
ومن مُؤَلَّفاتِه: (في أصولِ النِّظامِ الجِنائيِّ للإسلامِ)، (في النِّظامِ السِّياسيِّ للدَّولةِ الإسلاميَّةِ)، (الحَقُّ في التَّعبيرِ)، (أزمةُ المُؤَسَّسةِ الدِّينيَّةِ)، (الأقباطُ والإسلامُ)، (الفِقهُ الإسلاميُّ في طريقِ التَّجديدِ).
أبرَزُ أفكارِه العقلانيَّةِ العَصرانيَّةِ:
يُعتَبَرُ العَوَّا أحَدَ رُموزِ التَّيَّارِ العَصرانيِّ في زمانِنا؛ حيثُ يجتَمِعُ معهم في الدَّعوةِ إلى أفكارِهم وأصولِهم، وهذا ما سنُبَيِّنُه في هذا الموضِعِ من خلالِ كتاباتِه [1956] يُنظر: يُنظر: ((نظرات شرعية في فكر منحرف)) للخراشي (6/109- 118)، ((الموقف المعاصر من المنهج السلفي في البلاد العربية)) للقوسي (ص: 256 - 259). ويُنظر أيضًا: ((العصريون معتزلة اليوم)) لكمال (ص: 45، 46، 53، 54، 57). .
فالدُّكتورُ العَوَّا أحَدُ رُوَّادِ ما يُسَمَّى باليَسارِ الإسلاميِّ، وممَّن قدَّم العديدَ من الطُّروحاتِ التَّحديثيَّةِ، والتي من أهمِّها ما يلي:
1- ادَّعى أنَّ تصَرُّفاتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في القَضاءِ والإمامةِ ليست من السُّنَّةِ التَّشريعيَّةِ المُلزِمةِ، محتجًّا بتقسيمِ الإمامِ القَرافيِّ لتصَرُّفاتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى أربعةِ أنواعٍ: تصَرُّفاتٌ بالرِّسالةِ، وأُخرى بالفُتيا، وثالِثةٌ بالحُكمِ (القَضاءِ)، ورابعةٌ بالإمامةِ [1957]  ((السنة التشريعية وغير التشريعية))، مجلة (المسلم المعاصر)، العدد الافتتاحي - شوال 1394ه/ نوفمبر 1974م (ص: 34- 37). .
2- دعا إلى أنَّه يجِبُ أن يَتبَعَ الحُكمُ الشَّرعيُّ المصلحةَ ويَدورَ معها، فما حَقَّق المصلحةَ أجرَيناه، وما عارَضَها أو ألغاها توَقَّفْنا عن إجرائِه، وإلَّا كُنَّا مخالِفينَ للأمرِ الرَّبَّانيِّ بطاعةِ رَسولِ اللهِ [1958]  ((السنة التشريعية وغير التشريعية))، مجلة (المسلم المعاصر)، العدد الافتتاحي - شوال 1394ه/ نوفمبر 1974م (ص: 37). .
وضَرَب العَوَّا لذلك مثالينِ من الأحكامِ الشَّرعيَّةِ التي يجِبُ -في نَظَرِه- أن تدورَ مع المصلحةِ فِعلًا وتَركًا، فقال:
(من أمثلةِ هذه السُّنَنِ التي بُنِيت على المصلحةِ القائِمةِ في زَمَنِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قولُه في شأنِ الزِّيِّ: ((خالِفوا المُشرِكين أَوفِروا اللِّحَى وأحْفُوا الشَّوارِبَ )) [1959] أخرجه البخاريُّ (5892) ومسلم (259) بلفظٍ مقارِبٍ من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما. في صيغةِ النَّصِّ ما يفيدُ ارتباطَ الحُكمِ أو الأمرِ بزِيِّ المُشرِكين وعاداتِهم في توفيرِ اللِّحيةِ والشَّارِبِ معًا، وأزياءُ النَّاسِ وزينَتُهم أمورٌ لا استقرارَ لها، فهو لذلك تشريعٌ زَمَنيٌّ رُوعِيَت فيه البيئةُ التي كان يعيشُ فيها الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا يَبعُدُ هنا أن يُقالَ: إنَّ الأمرَ في توفيرِ اللِّحى للنَّدبِ، يثابُ فاعِلُه ولا يُلامُ فَضلًا عن أن يعاقَبَ تارِكُه. ومِثلُه قولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اليهودَ والنَّصارى لا يَصبُغون فخالِفوهم )) [1960] أخرجه البخاريُّ (3462)، ومسلم (2103) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ، أي: لا يَصبُغون الشَّعرَ حِينَ يَشيبُ؛ فذلك أيضًا مُرتَبِطٌ بعاداتِ اليهودِ والنَّصارى، أفنُخالِفُهم إن تغَيَّرَت العادةُ لديهم إدارةً مِنَّا للحُكمِ مع عِلَّتِه وسَبَبِه؟ أم نبقى على تنفيذِ الأمرِ الوارِدِ في هذا الحديثِ حتَّى ولو فات بذلك تحقيُق مقصودِه؟ لا شَكَّ أنَّ الأوَّلَ أَولى بنا وأوفَقُ) [1961] ((السنة التشريعية وغير التشريعية)) (ص: 38). .
ويحتَجُّ العَوَّا لضرورةِ متابعةِ الحُكمِ الشَّرعيِّ للمصلحةِ بفِعلِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه في أرضِ العِراقِ حينَ فتَحَها اللهُ على المُسلِمين عَنوةً؛ حيث راعى -آنذاك- مصلحةَ الأمَّةِ فلم يَقسِمْها بَينَ المُسلِمين قِسمةَ الغنائِمِ، كما فعل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَمَّا فَتَح اللهُ عليه أرضَ خَيبَرَ عَنوةً [1962] ((السنة التشريعية وغير التشريعية)) (ص: 41). .
3- ذهب (إلى أنَّ العقوبةَ التي شرَعها الإسلامُ لجريمةِ شُربِ الخمرِ هي عُقوبةٌ تعزيريَّةٌ المقصودُ بها رَدعُ الجاني عن العودةِ لارتكابِ الجريمةِ، ومَنعُ غيرِه من أفرادِ المجتَمَعِ من ارتكابِها، ومن ثَمَّ فإنَّ هذه العقوبةَ يمكِنُ أن تتغَيَّرَ بتغيُّرِ الأحوالِ والظُّروفِ الفَرديَّةِ والاجتِماعيَّةِ) [1963] ((في أصول النظام الجنائي الإسلامي)) (ص: 137). .
4- ذَهَب إلى (أنَّ عُقوبةَ الرِّدَّةِ عُقوبةٌ تعزيريَّةٌ مُفَوَّضةٌ إلى السُّلطةِ المُختَصَّةِ في الدَّولةِ الإسلاميَّةِ تُقَرِّرُ بشأنِها ما تراه ملائمًا من أنواعِ العقابِ ومقاديرِه، ويجوزُ أن تكونَ العُقوبةُ التي تُقَرِّرُها الدَّولةُ هي الإعدامَ) [1964] ((في أصول النظام الجنائي الإسلامي)) (ص: 155). .
وفي هذا مخالَفةٌ صريحةٌ للأحاديثِ الصَّحيحةِ الواردةِ في وجوبِ قَتلِ المرتَدِّ، وعلى هذا أجمعت الأمَّةُ [1965] قال ابن قدامة في ((المغني)) (8/ 123): (وأجمع أهلُ العِلمِ على وجوبِ قَتلِ المرتَدِّ). وقال ابنُ عبدِ البَرِّ في ((التمهيد)) (5/ 318) بعد أن ساق الأحاديثَ في وجوبِ قَتلِ المرتَدِّ: (فالقتلُ بالرِّدَّةِ -على ما ذكَرْنا- لا خِلافَ بين المُسلِمين فيه). .
وقد أكَّد العَوَّا رأيَه هذا عندما أُثيرت قَضيَّةُ الحُكمِ بالرِّدَّةِ على الكاتِبِ المِصريِّ "نَصْر حامِد أبو زيد" من بعضِ العُلَماءِ؛ حيثُ قام بتأليفِ كِتابِه "الحقُّ في التَّعبيرِ"! وقف فيه كما يقولُ: (ضِدَّ محاكَمةِ نَصر أبو زيد، وضِدَّ طَلَبِ التَّفريقِ بَينَه وبَينَ زوجتِه) مؤكِّدًا فيه رأيَه السَّابِقَ المخالِفَ للأحاديثِ الصَّحيحةِ بوُجوبِ قَتلِ المرتَدِّ، والاكتفاءِ بتعزيرِه [1966] ((الحق في التعبير)) (ص: 67 - 69). ويُنظر: للرد عليه في هذه المسألة: ((حقوق الإنسان في الفكر السياسي الغربي والشرع الإسلامي)) لمفتي، والوكيل (ص: 89 – 93). !
5- عَدَمُ تفريقِه بَينَ إرادةِ اللهِ الكونيَّةِ وإرادتِه الشَّرعيَّةِ؛ فاللهُ عزَّ وجَلَّ قضى "كونًا" أن يختَلِفَ النَّاسُ ما بَينَ مُسلِمين مُؤمِنين وكُفَّارٍ جاحِدين، وما بَينَ أهلِ حَقٍّ وأهلِ باطِلٍ؛ قال تعالى: وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ [هود: 118-119] ، وقال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [التغابن: 2] ، ولكِنَّه في المقابِلِ أراد شرعًا أن يؤمِنَ النَّاسُ ويستقيموا على صِراطِه يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ [البقرة: 21] ، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]؛ ولهذا بعث الرُّسُلَ وأنزَل الكُتُبَ.
فلا ينبغي الخَلطُ بَينَ الإرادتَينِ، بل الواجِبُ اتِّباعُ الحَقِّ عِندَ اختلافِ النَّاسِ، ونُصحُ المخالِفِ والرَّدُّ عليه.
أمَّا العَصرانيُّون -ومِن ضِمْنِهم العَوَّا- فإنَّهم لم يُفَرِّقوا بَينَ الإرادتَينِ، وظنُّوا أنَّ كُلَّ ما قضاه اللهُ وأراده "كونًا" من اختلافِ بني الإنسانِ فقد رَضِيَه وأراده "شرعًا"؛ ولهذا فقد ارتَضَوه بل تفاخَروا به ودعَوا إليه!
وقد ألَّف العَوَّا كتابَه "التعَدُّديَّةُ في الإسلامِ"؛ لإقرارِ اختلافِ المُسلِمين ما بَينَ أهلِ سُنَّةٍ وغَيرِهم من أهلِ البِدَعِ المتنَوِّعةِ، راضيًا ومُطالِبًا ببقاءِ هذا الاختلافِ أو "التعَدُّدِ" كما يقولُ [1967] يُنظر: ((التعددية في الإسلام)) (ص: 9 - 10). !
6- العَوَّا والكُفَّارُ:
-الكُفَّارُ مُساوون للمُسلِمينَ عِندَه!
قال العَوَّا: (المساوةُ بَينَ النَّاسِ أصلُها بالخِلقةِ وليس بالدِّينِ) [1968] يُنظر: مقابلة مع مجلة المنطلق، العدد (116). .
-إلغاءُ عَقدِ "الذِّمَّةِ" واستبدالُه بالمُواطَنةِ!
قال العَوَّا: (إنَّ عَقدَ الذِّمَّةِ الذي بسَبَبِه تثورُ جميعُ المشاكِلِ انتهى، انتهى العَقدُ وانقضى بموتِ أطرافِه. الدَّولةُ الإسلاميَّةُ احتُلَّت وانهدَمَت، ولم يَعُدْ هناك دولةٌ إسلاميَّةٌ، والأطرافُ الذين أبرَموا هذا العقدَ لم يعودوا موجودين، والعقدُ هذا هو كأيِّ عَقدٍ في الدُّنيا إذا مات أطرافُه وقَضَوا انقضى، الآن أصبح الجميعُ في وَضعٍ جديدٍ، هو وَضعُ المواطَنةِ) [1969] يُنظر: مقابلة مع مجلة المنطلق، العدد (116). .
-ألَّف العَوَّا كتابًا بعنوانِ "الأقباطُ والإسلامُ": يقدِّمُ فيه تنازُلاتٍ عديدةً ويحرِّفُ نُصوصًا شرعيَّةً كثيرةً، وكأنَّ هؤلاء النَّصارى لم يعيشوا أكثَرَ من ألفِ عامٍ تحتَ وِلايةِ الدَّولةِ الإسلاميَّةِ آمِنين مُطمَئِنِّين، لم تُصِبْهم نَكَباتٌ أو اضطِهاداتٌ، وإن وقع ظُلمٌ عليهم من بَعضِ الجَهَلةِ فهو كالظُّلمِ الذي يقَعُ بَينَ المُسلِمين أنفُسِهم؛ لا يُقِرُّه الإسلامُ ولا يرضى به.
وكشَأنِ أسلافِه العَصْرانيِّين فإنَّ العَوَّا يمجِّدُ الدِّيمُقراطيَّةَ الغربيَّةَ، ويرى أنَّها الحَلُّ الأمثَلُ للمُسلِمين! ويدَّعي أنَّها لا تختَلِفُ عن مبدأِ الشُّورى في الإسلامِ! وقد صَرَّح بهذا في بحثِه المُعَنْون بـ "العَرَبُ والشُّورى بَعدَ أزمةِ الخليجِ" [1970] ((العرب والشورى بعد أزمة الخليج)) (ص: 68 - 69)، منشور في كتاب ((أزمة الخليج وتداعياتها على الوطن العربي)) إصدار مركز دراسات الوحدة العربية. .
خامسًا: أمين نايف ذياب
يُعَدُّ أمين نايف حُسَين ذياب "أبو ياسِر" الأبَ الرُّوحيَّ والمُنظِّرَ للفِكرِ المُعتَزِليِّ المُعاصِرِ، بل يُسَمُّونه "أميرَ المُعتَزِلةِ"، وهو مولودٌ عامَ 1931م في حَيْفا بفِلَسْطين، وقد عايَش احتلالَ الصَّهايِنةِ للأراضي العربيَّةِ قُبَيلَ نكبةِ 1948م، بل يَذكُرُ عن نفسِه -كما في الموقِعِ الرَّسميِّ- أنَّ والِدَه كانت له عَلاقةٌ قويَّةٌ بثُوَّارِ حَيْفا الذين كانوا يُهاجِمون المُستَوطَناتِ اليهوديَّةِ، ومن ثَمَّ انتقل إلى الأردُنِّ بَعدَ النَّكبةِ، وانتَسَب لحزبِ التَّحريرِ الإسلاميِّ.
وله عِدَّةُ مُؤَلَّفاتٍ ضِمنَ مَوسوعةِ جَدَلِ الأفكارِ، وتتناوَلُ العديدَ من الأفكارِ وَفقَ رؤيةِ المُعتَزِلةِ الجُدُدِ؛ كالقَضاءِ والقَدَرِ، والمسيحيَّةِ، والسَّلفيَّةِ، والعَقلِ والصِّحافةِ، والقضيَّةِ العِراقيَّةِ، والمرأةِ، والقوميَّةِ العربيَّةِ، والأشعريَّةِ، والخِطابِ النَّقديِّ عِندَ المُعتَزِلةِ، والدِّيمُقراطيَّةِ، واللِّيبراليَّةِ الغَربيَّةِ، وموقِفِه من الوثائِقِ الأمريكيَّةِ السِّياسيَّةِ، وواجباتِ الدَّعوةِ، وغيرِها من الكُتُبِ والمقالاتِ والمُؤَلَّفاتِ التي يتبلوَرُ من خلالِها موقِفُ المُعتَزِلةِ الجُدُدِ من قضايا الأمَّةِ، وما يدورُ في ساحتِها من أحداثٍ.
وشارك أمين نايف حسين ذياب في العديدِ من المُنتَدَياتِ والمُؤتَمَراتِ والوِرَشِ العِلميَّةِ، وتُوفِّيَ عامَ 2006م، وتَرَك وراءَه العَشَراتِ والمئاتِ من الشَّبابِ الذين يَتبَنَّون فِكرَه الاعتِزاليَّ، ويُعَدُّ باعِثَ المُعتَزِلةِ الجُدُدِ.
وفي هذا يقولُ: (لقد كان لحالِ التَّردِّي والسُّقوطِ التي عليها الأمَّةُ دعوةٌ إلى ظُهورِ حَرَكةِ المُعتَزِلةِ بَعدَ عَشَرةِ قرونٍ مِن اندِثارِ المُعتَزِلةِ، ظَهَرت في الأردُنِّ عامَ 1990م، ثمَّ توَسَّعَت في غيرِ الأردُنِّ، ولا تزالُ الحَرَكةُ دائبةَ الحركةِ، تُناضِلُ وتكافِحُ من أجلِ تَصحيحِ ذاكِرةِ الحرَكَةِ؛ للعودةِ مرَّةً أخرى لتتبَنَّى مَنهَجَ المُعتَزِلةِ في فَهمِ الإسلامِ، بنَشرِ الفِكرِ والجَدَلِ الحَيِّ فيه، وعَرْضِه ليكونَ دَعوةً لاستئنافِ الحياةِ الإسلاميَّةِ).
وانطِلاقًا من التَّبريرِ الذي قدَّمه المُعتَزِلةُ الجُدُدُ لظُهورِهم، وهو النُّهوضُ بالأمَّةِ عن طريقِ تفعيلِ دَورِ العقلِ، من المُمكِنِ نَقضُ هذا الكلامِ، وذلك أنَّ مُشكِلةَ الأمَّةِ ليست بإهمالِ العَقلِ وَحدَه، بل إنَّها تقومُ على شيئَينِ:
1- إهمالُ العقلِ: الذي هو أداةُ التَّفكيرِ ومَناطُ التَّكليفِ، وهو ما يعتَمِدُه المُعتَزِلةُ الجُدُدُ للقيامِ بالأمَّةِ الإسلاميَّةِ مِن سُباتِها.
2- إهمالُ النَّقلِ: وهو ما أهمَله المُعتَزِلةُ قديمًا وحديثًا، بل إنَّ من أهمِّ أسبابِ اندثارِ المُعتَزِلةِ قديمًا إهمالَهم لعلومِ القرآنِ والسُّنَّةِ، وتحكيمَ العَقلِ على النَّقلِ؛ ممَّا أدَّى إلى التَّصادُمِ بَينَهما.
ولا يمكِنُ أن تنهَضَ الأمَّةُ اليومَ إلَّا بما نهَضَت به أوَّلًا في زَمَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والخلفاءِ الرَّاشِدينَ رَضِيَ اللهُ عنهم، وما تلاها من عُصورِ سيادةٍ للأُمَّةِ على بقيَّةِ الأُمَمِ، ولا شَكَّ أنَّ الأمَّةَ سادت بالقُرآنِ والسُّنَّةِ أوَّلًا، ثمَّ بالعقلِ الذي حثَّ النَّقلُ على تعزيزِه من خلالِ نُصوصٍ كثيرةٍ تحُثُّ على التَّفكُّرِ والنَّظَرِ والاستدلالِ.
سادسًا: مُحمَّد عابِد الجابِري
هو [1971] يُنظر: ((نظرات شرعية في فكر منحرف)) للخراشي (3/ 38- 70)، ((المنهج السلفي والموقف المعاصر منه في البلاد العربية)) للقوسي (2/ 561 - 569). محمَّد عابِد الجابِري، كاتِبٌ مُفكِّرٌ مَغربيٌّ مُعاصِرٌ. وُلِد بالمَغرِبِ عامَ 1936م، وحَصَل على دُبلومِ الدِّراساتِ العُليا في الفَلسَفةِ عامَ 1967، وعلى دُكتوراه الدَّولةِ في الفَلسَفةِ عامَ 1970م من كليَّةِ الآدابِ بالرِّباطِ، وعَمِلَ أستاذًا للفَلسَفةِ والفِكرِ العَرَبيِّ الإسلاميِّ في كليَّةِ الآدابِ بجامِعةِ محمَّدٍ الخامِسِ بالرِّباطِ. وكرَّمَته اليُونِسْكو لكونِه أحَدَ أكبَرِ المتخَصِّصين في ابنِ رُشدٍ. وله مجموعةُ مُؤَلَّفاتٍ، ومُشاركاتٌ في الصُّحُفِ والمجلَّاتِ، وقد توفِّيَ بالدَّارِ البيضاءِ بَعدَ معاناةٍ مع المرَضِ، سَنةَ 2010م.
ومن مُؤَلَّفاتِه: (تكوينُ العَقلِ العَرَبيِّ)، (إشكاليَّاتُ الفِكرِ العَرَبيِّ المُعاصِرِ)، (التُّراثُ والحَداثةُ)، (بِنيةُ العقلِ العَرَبيِّ) و(العَقلُ السِّياسيُّ العَرَبيُّ) و (العَقلُ الأخلاقيُّ العَرَبيُّ).
الجابري ومَشروعُ عَقْلنةِ العَقلِ العَرَبيِّ:
كان الجابِري أبرَزَ الدُّعاةِ لعَقْلنةِ الفِكرِ العَرَبيِّ، وهو من المُبَشِّرين بما يُسَمَّى بالمذهَبِ الانتقاليِّ، الذين يزعُمون أنَّ العِلمَ شَيءٌ، والعقيدةَ شَيءٌ آخَرُ.
لقد كان عَمَلُ الجابِري في هذا البَحثِ (نَقدُ العَقلِ العَرَبيِّ) محاوَلةً للكَشفِ عن هذا التَّصنيفِ الجديدِ، ومحاوَلةً لدراسةِ البِنيةِ الدَّاخليَّةِ للفِكرِ الإسلاميِّ، وإعادةِ التَّصنيفِ على أساسٍ لا يُؤخَذُ فيه بعينِ الاعتبارِ سِوى البِنيةِ الدَّاخليَّةِ للمَعرِفةِ: آليَّاتِها ووسائِلِها ومفاهيمِها الأساسيَّةِ.
أمَّا عن الانحيازِ للعَقلانيَّةِ: فقد قال الجابِري: (نحن نَصدُرُ عن موقِفٍ نَقديٍّ يَنشُدُ التَّغييرَ من التَّحرُّكِ من موقِعٍ أَيديُولوجيٍّ واعٍ، أي: لا بُدَّ من الصُّدورِ عن موقِفٍ تاريخانيٍّ؛ موقِفٍ يَطمَحُ ليس فقط في اكتسابِ معرفةٍ صَحيحةٍ بما كان، بل أيضًا إلى المساهمةِ في صُنعِ ما يتبقَّى أن يكونَ، وهو بالنِّسبةِ للمَجالِ الذي نتحَرَّكُ فيه: الدَّفعُ بالفِكرِ العَرَبيِّ في اتِّجاهِ العَقلنةِ؛ اتِّجاهِ تصفيةِ الحِسابِ مع رُكامٍ -ولا نقولُ: رواسِب- اللَّامعقولِ في بِنيتِه) [1972] ((تكوين العقل العربي)) (ص: 52). . (لأنَّ مَوضوعَنا هو العَقلُ، ولأنَّ قَضيَّتَنا التي ننحازُ لها هي العَقلانيَّةُ) [1973] ((تكوين العقل العربي)) (ص: 7). .
تَبَنِّي العَقلانيَّةِ، والدِّفاعُ عنها، والتَّنويهُ برُموِزها؛ كان هَدَفَ الجابِري الذي لا يُخفيه في عامَّةِ دراساتِه التي أصدَرَها، لكِنِ العَقلانيَّةُ بأيِّ مَعنًى...؟! إنَّه لا يُوجَدُ صراحةً من يُعلِنُ الحَربَ على العَقلِ والعَقلانيَّةِ، لكِنَّ الاختلافَ يَظهَرُ عِندَما يتحَدَّدُ المقصودُ بالعَقلانيَّةِ.. فما هي يا تُرى العقلانيَّةُ التي يدعو إليها الباحِثُ، ويُنافِحُ عنها؟ من خِلالِ الرُّموزِ الذين دافَع عنهم الجابِري يمكِنُ تلمُّسُ ملامِحِ تلك العَقلانيَّةِ، وسماتِها الأساسيَّةِ.
لقد عَرَض الجابري فِكرَ أَرِسْطو في (بِنيةِ العَقلِ العَرَبيِّ) [1974] (بنية العقل العربي) (ص 384). دونَ أن يتحَفَّظَ على شيءٍ ممَّا جاء فيه، كما اعتَبَرَ الفارابيَّ الذي يُسَمَّى (المُعَلِّمَ الثَّانيَ)، اعتَبَرَه هو الذي أعاد تأسيسَ العَقلانيَّةِ في الإسلامِ.
الجابِري ومشروعُ تَطويعِ الشَّريعةِ لتَكونَ مُوافِقةً لظُروفِ العَصرِ:
قدَّم الجابِري في كُتُبِه ما يمكِنُ أن يُسمَّى مشروعًا تحديثيًّا لتجديدِ الشَّريعةِ؛ كي تبدوَ مُوافِقةً للتَّطَوُّرِ ومُوائِمةً لظُروفِ العَصرِ، والتَّجديدُ الذي يدعو إليه ليس هو التَّجديدَ بمفهومِه السَّلَفيِّ الضَّيِّقِ -على حَدِّ تعبيرِه- بل تجديدٌ بمفهومٍ عَصريٍّ واسعٍ يقومُ على العقلِ وَحدَه، فنراه يقولُ: (والتَّجديدُ بالنِّسبةِ للرُّؤيةِ الإسلاميَّةِ جُزءٌ من الحياةِ نَفسِها، بدليلِ الحديثِ النَّبَويِّ المشهورِ: (إنَّ اللهَ يَبعَثُ لهذه الأمَّةِ على رأسِ كُلِّ مائةِ سَنَةٍ من يجَدِّدُ لها دينَها) [1975] أخرجه أبو داود (4291)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (6527) واللَّفظُ لهما، والحاكم (8592) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4291)، وصحَّح إسنادَه السَّخاويُّ في ((المقاصد الحسنة)) (149)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4291). ، وبما أنَّ الإسلامَ لا يَفصِلُ بَينَ الدِّينِ والدُّنيا، بل بالعَكسِ من ذلك يَربِطُ صلاحَ أمورِ الدِّينِ بصَلاحِ أمورِ الدُّنيا؛ فإنَّ تجديدَ أمورِ الدِّينِ يعني في ذاتِ الوَقتِ تجديدَ أمورِ الدُّنيا. وبما أنَّ أمورَ الدُّنيا تتغَيَّرُ من زمانٍ إلى آخَرَ، فإنَّ مفهومَ التَّجديدِ ومُتطَلَّباتِه لا بُدَّ أن يتغيَّرَ حَسَبَ الظُّروفِ والأعصارِ، وهكذا فإذا كان بعضُ الفُقهاءِ القُدامى قد فسَّروا "التَّجديدَ" على أنَّه كَسرٌ للبِدعةِ والعودةُ بالمُسلِمين إلى سِيرةِ السَّلَفِ الصَّالِحِ، فينبغي ألَّا نَقِفَ عِندَ حدودِ هذا المعنى تقليدًا لهم وتقيُّدًا بالتَّعريفِ الذي أعطَوه للبِدعةِ، والذي استمَدُّوه من ظُروفِ عَصرِهم ومُعطَياتِ واقِعِهم) [1976] ((وجهة نظر نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر)) (ص: 40 – 41))، ويُنظر: (التراث والحداثة)) (ص: 10 – 11). .
ويقولُ كذلك محَدِّدًا (التجديدَ) الذي يحتاجُ إليه المُسلِمون اليومَ: (والحَقُّ أنَّ ما يحتاجُ إليه المُسلِمون اليومَ هو "التَّجديدُ" وليس مجرَّدَ "الصَّحوةِ"، إنَّ التَّحَدِّياتِ التي تواجِهُ العالَمَ العَرَبيَّ والعالَمَ الإسلاميَّ تتطَلَّبُ ليس فقط ردَّ الفِعلِ بل الفِعلَ، والفِعلُ في العَصرِ الحاضِرِ هو أوَّلًا وأخيرًا فِعلُ العقلِ... لأنَّ العَصرَ يقومُ كُلُّ شيءٍ فيه على الفِعلِ العَقلانيِّ) [1977] ((وجهة نظر)) (ص: 40). .
مشروعُ الجابِري التَّجديديُّ العَقلانيُّ للشَّريعةِ يقومُ على عِدَّةِ أمُورٍ:
1- إعادةُ تأصيلِ الأصولِ ولا سِيَّما أصولِ الفِقهِ، وإعادةُ بناءِ مَنهَجيَّةِ التَّفكيرِ في الشَّريعةِ، وفي هذا يقولُ: (إنَّ المطلوبَ اليومَ هو إعادةُ بناءِ مَنهَجيَّةِ التَّفكيرِ في الشَّريعةِ انطِلاقًا من مُقَدِّماتٍ جديدةٍ ومقاصِدَ مُعاصِرةٍ، وبعبارةٍ أُخرى: المطلوبُ اليومَ تجديدٌ ينطَلِقُ لا مِن مجَرَّدِ استئنافِ الاجتهادِ في الفُروعِ، بل مِن إعادةِ تأصيلِ الأصولِ؛ من إعادةِ بِنائِها) [1978] ((وجهة نظر)) (ص: 57). ويُنظر: ((التراث والحداثة)) (ص: 10 – 11). .
2- تأسيسُ معقوليَّةِ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ، وذلك باتِّخاذِ المقاصِدِ والمصالِحِ أساسًا للتَّشريعِ، ورَبْطِ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ بأسبابِ نُزولِها.
قال الجابري: (عَمَليَّةُ تأسيسِ معقوليَّةِ الأحكامِ هي العمليَّةُ التي بدونِها لا يمكِنُ تطبيقُ الشَّريعةِ على المُستجَدَّاتِ، ولا على الظُّروفِ والأحوالِ المُختَلِفةِ المُتبايِنةِ، ولَمَّا كان مَقصَدُ الشَّارِعِ الأوَّلُ والأخيرُ هو مصلحةَ النَّاسِ، فاللهُ غَنيٌّ عن العالَمينَ؛ فإنَّ اعتبارَ المصلحةِ هو الذي يُؤسِّسُ معقوليَّةَ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ، وبالتَّالي فهو أصلُ الأصولِ كُلِّها، وواضِحٌ أنَّ هذه الطَّريقةَ تتحَرَّكُ في دائرةٍ واسِعةٍ لا حُدودَ لها؛ دائرةِ المصلحةِ، وبالتَّالي فهي تجعَلُ الاجتهادَ مُمكِنًا ولدى كُلِّ حالةٍ) [1979] ((وجهة نظر)) (ص: 58). .
وقال: (بناءُ معقوليَّةِ الحُكمِ الشَّرعيِّ على (أسبابِ النُّزولِ) في إطارِ اعتبارِ المصلَحةِ، يُفسِحُ المجالَ لبناءِ معقوليَّاتٍ أُخرى عندَما يتعَلَّقُ الأمرُ بـ (أسبابِ نُزولٍ) أُخرى، أي: بوضعيَّاتٍ جديدةٍ، وبذلك تتجَدَّدُ الحياةُ في الفِقهِ، وتتجَدَّدُ الرُّوحُ في الاجتهادِ، وتصبِحُ الشَّريعةُ مُسايِرةً للتَّطوُّرِ، قابلةً للتَّطبيقِ في كُلِّ زمانٍ ومكانٍ) [1980] ((وجهة نظر)) (ص: 61). .
3- التَّوسُّعُ في تحديدِ مقاصِدِ الشَّريعةِ، وعَدَمُ الاقتصارِ فيها على ما ذَكَره فُقَهاءُ الأمَّةِ واتَّفَقوا عليه، فيما يدخُلُ ضِمنَ الضَّروريَّاتِ، والحاجِيَّاتِ، والتَّحسينيَّاتِ؛ حيثُ يقولُ: (إنَّ الأمورَ الخَمسةَ التي حصَر فيها فُقهاؤنا القُدامى (الضَّروريَّاتِ) كانت وما تزالُ وستبقى أمورًا ضروريَّةً بالفِعلِ، أي: مقاصِدَ أساسيَّةً لكُلِّ تشريعٍ يَستَهدِفُ فِعلًا خِدمةَ (مصالحِ العبادِ)، غيرَ أنَّ (مَصالِحَ العبادِ) اليومَ لم تَعُدْ مَقصورةً على حِفظِ الدِّينِ والنَّفسِ والعَقلِ والنَّسلِ والمالِ، بل إنَّها تشمَلُ بالإضافةِ إلى الأمورِ الخَمسةِ المذكورةِ أمورًا أُخرى نعتَقِدُ أنَّه لا بُدَّ من أن نُدرِجَ فيها: الحَقَّ في حُرِّيَّةِ التَّعبيرِ، وحُرِّيَّةِ الانتِماءِ السِّياسيِّ، والحَقَّ في انتِخابِ الحاكِمينَ وتغييرِهم، والحَقَّ في الشُّغلِ والخُبزِ والمَسكَنِ والمَلبَسِ، والحَقَّ في التَّعليمِ والعِلاجِ.. إلى غيرِ ذلك من الحُقوقِ الأساسيَّةِ للمُواطِنِ في المجتَمَعِ المُعاصِر، أمَّا الحاجِيَّاتُ فبالإضافةِ إلى ما ذكَره فُقَهاؤُنا القُدامى؛ هناك حاجِيَّاتٌ جديدةٌ؛ مِثلُ الحاجةِ إلى توفيرِ الصِّحَّةِ والوِقايةِ من الأمراضِ بإعدادِ ما يكفي من مُستَشفياتٍ وغَيرِها، والحاجةِ إلى ما لا بُدَّ منه لتنشيطِ الإبداعِ الفِكريِّ في مختَلِفِ المجالاتِ العِلميَّةِ والفنيَّةِ والنَّظريَّةِ، والحاجةِ إلى ما لا بُدَّ منه لاكتِسابِ مَعرِفةٍ صحيحةٍ بالواقعِ والأحداثِ... أمَّا التَّحسينيَّاتُ التي يتطَلَّبُها عَصرُنا فحَدِّثْ ولا حَرَجَ) [1981] ((وجهة نظر)) (ص: 67). .
4- إسقاطُ الحَدِّ في جرائِمِ السَّرِقةِ والزِّنا وشُربِ الخَمرِ والقَذفِ، والاكتِفاءُ فيها بالسَّجنِ؛ لأنَّ الحُدودَ -في نَظَرِه- ليست غايةً في ذاتِها، وإنَّما هي وسيلةٌ لرَدعِ وزَجرِ النَّوازِعِ الذَّاتيَّةِ الفرديَّةِ الهدَّامةِ، أي: التي تَمَسُّ مَصلَحةَ الجماعةِ أو الأُمَّةِ.
ويرى الجابِري أنَّ "السَّلَفيَّةَ" التي تَعني -كما يقولُ- استقامةَ السُّلوكِ، والتَّجديدَ في الدِّينِ، والعَمَلَ من أجلِ المُستقبَلِ مِن خلالِ الدَّعوةِ إلى الرُّجوعِ إلى سِيرةِ السَّلَفِ الصَّالحِ: لا تناسِبُ الأمَّةَ الإسلاميَّةَ في العصرِ الحاضِرِ للحِفاظِ على وُجودِها واستِمراريَّتِها؛ لأنَّ "السَّلَفيَّةَ" -في رأيِه- نوعٌ من المقاوَمةِ الذَّاتيَّةِ لأمراضٍ داخليَّةٍ ذاتيَّةِ المنشَأِ، وقد كانت كافيةً وناجِعةً عِندَما كانت الحضارةُ العربيَّةُ الإسلاميَّةُ هي حضارةَ العالَمِ لعَصرِها، أعني: غيرَ مُزاحَمةٍ ولا مُهَدَّدةٍ بحَضارةٍ مُعاصِرةٍ لها على صَعيدِ الزَّمَنِ) [1982] ((وجهة نظر)) (ص: 45). .
ويرفُضُ نموذَجَ السَّلَفِ، ويرى أنَّ النَّموذَجَ الذي يجِبُ استِلْهامُه من أجلِ إعادةِ بِناءِ الذَّاتِ تَجرِبتانِ: أُولاهما: جِماعُ التَّجربةِ التَّاريخيَّةِ لأمَّتِنا بغَضِّ النَّظَرِ عمنَّ صدَرت عنهم هذه التَّجرِبةُ، وعن مُوافَقَتِها للحَقِّ والصَّوابِ مِن عَدَمِه. والثَّانيةُ: التَّجرِبةُ التَّاريخيَّةُ لمُختَلِفِ الأُمَمِ الأُخرى [1983] يُنظر: ((وجهة نظر)) (ص: 45 – 46). .
هؤلاء هم بَعضُ رُوَّادِ المَدرَسةِ العقليَّةِ الحديثةِ، وغَيرُهم كثيرٌ، ولهذه المَدرَسةِ ثلاثةُ أبعادٍ في التَّكوينِ الأساسيِّ لها [1984] يُنظر: ((منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير)) للرومي (ص: 809). ، وهي:
أوَّلًا: هذه المَدرَسةُ أعطت العَقلَ أكثَرَ مِن حَقِّه، وكلَّفَتْه ما لا يُطيقُ، ورَفَعت من قيمتِه، وضَخَّمت حَجمَه حتى ساوَتْه بالوَحيِ، بل قدَّمَتْه عليه، وقدَّمَت ما زعمَتْه من أحكامِه على أحكامِ الوَحيِ، وسَعَت في هذا السَّبيلِ لأجلِ "تضييقِ" حَيِّزِ الغيبيَّاتِ في مسائلِ العقيدةِ الإسلاميَّةِ.
ثانيًا: قامت هذه المَدرَسةُ بتأويلِ حقائِقِ العقائِدِ الإسلاميَّةِ بما يتماشى مع الأحكامِ العقليَّةِ من جِهةٍ، ومُكتَشَفاتِ الحَضارةِ الغربيَّةِ والنَّظريَّاتِ العِلميَّةِ الغربيَّةِ من جِهةٍ أُخرى.
وفي سَبيلِ ذلك أيضًا قامت بتأويلِ المُعجِزاتِ والخوارِقِ، وإنكارِ بَعضِها إذا لم يمكِنْ قَلبُ حقيقتِه بما يتماشى مع هذا البُعدِ الفِكريِّ.
ثالثًا: تبريرُ تناوُلِ الحضارةِ الغربيَّةِ، ومجاراتُها في مَدَنيَّتِها الزَّائفةِ، والتَّحويرُ من الدَّاخِلِ لإعطاءِ السَّنَدِ الفِكريِّ والدَّعمِ الدِّينيِّ لمُعطَياتِ الحضارةِ الغربيَّةِ، وتقريبِ الهُوَّةِ التي تفصِلُ بَينَ الغربِ وبَينَ المُسلِمين تقريبًا كان على حِسابِ كثيرٍ من الجوانِبِ الإسلاميَّةِ التي تقومُ عليها العقيدةُ الإسلاميَّةُ.
تِلْكُم هي الخطوطُ العريضةُ والأبعادُ الرَّاسِخةُ في مَنهَجِ المَدرَسةِ العقليَّةِ الحديثةِ.
ومِن هذا العَرضِ للمَدرَسةِ العقليَّةِ الحديثةِ تتَّضِحُ الآثارُ السَّلبيَّةُ الوَخيمةُ التي ابتُلِيت بها الأمَّةُ؛ فمن ذلك:
أوَّلًا: إحياءُ الفِكرِ الاعتِزاليِّ، الذي أدَّى إلى:
1- تحكيمِ العقلِ والرُّجوعِ إلى أحكامِه، ورَفعِه إلى مرتبةِ الوَحيِ.
2- إنكارِ المُعجِزاتِ أو تأويلِها.
3- إنكارِ كَثيرٍ من الغَيبيَّاتِ؛ كالملائِكةِ، والجِنِّ، والسِّحرِ، وغَيرِه.
4- الطَّعنِ في الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم، وعَدَمِ عدالتِهم كُلِّهم، بل تجاوَز بَعضُهم إلى سَبِّهم رِضوانُ اللهِ عليهم.
ثانيًا: لا يكفي القَولُ بأنَّهم مُعتَزِلةٌ؛ لأنهَّم يَزيدون عليهم في التَّقريبِ بَينَهم وبَينَ الكُفَّارِ "اليهودِ والنَّصارى"، وتبريرِ تناوُلِ الحضارةِ الغربيَّةِ ومجاراتِها في مَدَنيَّتِها الزَّائفةِ. بل هم أخطَرُ من المُعتَزِلةِ؛ لأنَّهم يَسعَون بكُلِّ ما وَسِعَهم لتغييرِ المفهومِ الإسلاميِّ في مُعاملةِ الكُفَّارِ، وإلغاءِ الفاصِلِ والحاجزِ بَينَ الفِكرِ الحَقِّ والفِكرِ الضَّالِّ أو المُنحَرِفِ، وإذا ما أُلغِيَ جانبُ العقيدةِ في ميزانِ التَّفاضُلِ فإنَّ الِكفَّةَ سترجَحُ حتمًا، وسيُصبِحُ الكُفَّارُ آنذاك هم الأفضَلَ والأقوى؛ ومِن ثَمَّ تكونُ لهم السَّيطرةُ، وتكونُ لهم الدَّولةُ، وحيَنئذٍ تكونُ خَسارتُنا للدِّينِ والدُّنيا.
ثالثًا: الكثيرُ من مفاهيمِهم ومبادِئِهم هي السَّائِدةُ في الفِكرِ الإسلاميِّ المُعاصِرِ، وما ذاك إلَّا أثَرٌ من آثارِ فَرضِ الاستِعمارِ آراءَه على النَّاسِ، وترويجِها لهم وتمجيدِ المُستَشرِقينَ لها، حتَّى إذا ما سار ذلك بَينَ النَّاسِ أخذوا يتبَنَّونه بأنفُسِهم، ويُعلِنونَه في مُؤلَّفاتِهم، ويُدافِعون عنه، حتَّى أصبح -أو كاد- من المُسلَّماتِ.
وأصبح رِجالُ المَدرَسةِ العقليَّةِ عِندَهم من الرِّجالِ الذين لا يُقبَلُ فيهم نَقدٌ، أو يَصِلُ إليهم قَدحٌ.
رابعًا: مَهَّدوا السَّبيلَ لسيطرةِ الفِكرِ الغَربيِّ واتخاذِ الأعداءِ لهم مَطيَّةً يَعمَلونَ من خلالِها على زَلزَلةِ عقيدةِ المُسلِمين، وتشكيكِهم بها، ومحارَبةِ الإسلامِ في عُقرِ دارِه، ليس عن طريقِ نَشرِ المؤلَّفاتِ فحَسْبُ، بل عن طريقِ الصِّحافةِ، وطَريقِ السِّينِما والتَّليفِزيونِ والإذاعةِ، وكُلِّ وسائِلِ الإعلامِ الأُخرى.
خامسًا: كثيرٌ من الدُّوَلِ نَبَذت الفِقهَ والفُقَهاءَ الإسلاميِّينَ، واستبدلت القوانينَ الوضعيَّةَ بالفِقهِ الإسلاميِّ، واستمَدَّت جُلَّ دُستورِها من القوانينِ الأوروبيَّةِ الحديثةِ.



انظر أيضا: