الموسوعة الفقهية

الفَصلُ السَّابعُ: بَيعُ الطَّعامِ المُشْتَرى بالكَيلِ أوِ الوَزنِ وهي المسألةُ المشهورةُ ببَيعِ الطَّعامِ حتَّى يَجريَ فيه الصَّاعانِ قال ابنُ عُثَيمينَ: (الطَّعامُ الذي يَجْري فيه الكيلُ: البُرُّ، والشَّعيرُ، والتَّمرُ، والزَّبيبُ، والأقِطُ، والرُّزُ، والذُّرةُ، وما أشبَهَ ذلك، المُهمُّ الذي يُؤكَلُ ويُكالُ، إذا اشتَرَيْتَه فلا تَبِعْه حتَّى تَكْتالَه، مثالُ ذلك: اشتريْتُ من صاحبِ المزرعةِ هذه الكَوْمةَ منَ الحَبِّ، كلُّ صاعٍ بدِرهمٍ، فجاءَني شخصٌ وقال: بِعْ علَيَّ هذا البُرَّ الذي اشتَرَيْتَه مِن فلانٍ، هل يَجوزُ؟ لا، حتَّى أكْتالَه أوَّلًا، ثمَّ أبيعَه، بِعتُه عليه، فإذا قال: بِعْه علَيَّ وأكْتالُه أنا بالوَكالةِ عنكَ، نقولُ: لا يصِحُّ، ولا يمكِنُ أنْ أبيعَه، أوكِّلُكَ في قَبضِه لا بأْسَ، اذهَبْ واكْتَلْه نيابةً عنِّي، ثمَّ إذا اكْتَلْتَه، وتمَّ اكْتيالُه [سلِّمْه لي]، وأبيعُ عليكَ وهنا نَسألُ: هل يُقاسُ عليه غيرُه، مثلُ: أنْ يَبيعَ شيئًا يُوزَنُ، فنقولَ: لا تَبِعْه حتَّى تَزِنَه؟ الجوابُ: نعمْ، نقولُ: إذا باع الإنْسانُ شيئًا يُوزَنُ، فلا يَبِعْه حتَّى يَزِنَه؛ لأنَّ العلَّةَ واحدةٌ، وهي احتمالُ الزِّيادةِ والنَّقصِ، ولأنَّ مُتعلِّقاتِ البيعِ الأوَّلِ لم تَتِمَّ بعْدُ فيَبيعَه، وقد تَعلَّقَ به شَيءٌ مِن تَمامِ العقدِ الأوَّلِ، وهو الكَيلُ أوِ الوَزنُ هل يُقاسُ على ذلك ما يُباعُ بالعددِ، مثلُ أنْ أقولَ: بِعتُكَ هذا التُّفَّاحَ، كلُّ واحدةٍ بكذا وكذا، أو هذا البيضَ، كلُّ واحدةٍ بكذا وكذا، وأنا قدِ اشتَرَيْتُها مِن فلانٍ عددًا؟ الجوابُ: نعمْ؛ لأنَّ العلَّةَ واحدةٌ وهل يُقاسُ على ذلك ما بِيعَ بالذَّرعِ، مثلُ أنْ أبِيعَكَ هذه الطَّيَّةَ منَ الحبالِ، كلُّ مترٍ بكذا وكذا؟ الجوابُ: نعمْ؛ لأنَّه يَحتاجُ إلى ذَرعٍ) ((فتح ذي الجلال والإكرام)) (3/545)


مَنِ اشْتَرى طَعامًا بالكَيلِ أو بالوَزنِ، لا يَجوزُ له أنْ يَبيعَه لآخَرَ حتَّى يَكيلَه مرَّةً أُخْرى أو يَزِنَه، وذلك باتِّفاقِ المذاهِبِ الفقهيَّةِ الأرْبَعةِ قال ابنُ حجرٍ: (مَنِ اشْتَرى مُكايَلةً وقبَضَه، ثم باعَه لغيرِه؛ لم يجُزْ تَسليمُه بالكيلِ الأوَّلِ حتَّى يَكيلَه على مَنِ اشْتَراه ثانيًا، وبذلك كلِّه قال الجمهورُ) ((فتح الباري)) (4/351). : الحَنفيَّةِ ((تبيين الحقائق)) للزَّيلَعي (4/81)، ((البناية)) للعَيْني (8/359، 360). ، والمالِكيَّةِ إذا اشْتَراه كَيلًا لم يجُزْ بيعُه كَيلًا ولا جِزافًا حتَّى يُكالَ، وإذا اشْتَراه جِزافًا جاز له بَيعُه بمُجرَّدِ العقدِ. ((حاشية الدُّسوقي على الشرح الكبير)) (3/153)، ((منح الجليل)) لعُلَيْش (5/250)، ((الفواكه الدواني)) للنَّفَراوي (2/78). ، والشَّافعيَّةِ ((فتح العزيز)) للرافعي (8/190، 450)، ((روضة الطالبين)) للنَّوَوي (3/397)، ((مغني المحتاج)) للشِّربيني (2/74). ، والحَنابِلةِ المكيلُ، والموزونُ، والمذروعُ، والمعدودُ؛ لا يجوزُ التَّصرُّفُ فيه قبْلَ قبضِه، والقبضُ عندَهم يكونُ بالكيْلِ في المكيلِ، والوزنِ في الموزونِ، وهكذا. ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (4/15). ، وهو قَولُ بعضِ السَّلفِ قال ابنُ المنذِرِ: (واختلَفَ أهلُ العلمِ فيمَنِ ابْتاعَ طعامًا كَيلًا، فاكْتالَه، ثمَّ باعَه كيْلًا بالكيلِ الذي قبضَه؛ فقالت طائفةٌ: لا يَجوزُ ذلك حتَّى يَجريَ فيه الصَّاعانِ؛ صاعُ البائعِ وصاعُ المُشْتَري. هذا قولُ الحسنِ البَصريِّ، ومحمَّدِ بنِ سيرينَ، والشَّعبيِّ، وعطاءٍ...) ((الأوسط)) (10/151). وقال الخَطَّابيُّ: (ممَّن قال: إنَّه لا يَجوزُ بيعُه بالكيلِ الأوَّلِ حتَّى يُكالَ ثانيًا، أبو حنيفةَ وأصْحابُه، والشَّافعيُّ، وأحمدُ بنُ حَنبلٍ، وإسْحاقُ، وهو مَذهَبُ الحسنِ البَصريِّ، ومحمَّدِ بنِ سيرينَ، والشَّعبيِّ، وقال مالكٌ: إذا باعَه نَسيئةً فهو المكروهُ، فأمَّا إذا باعَه نَقدًا فلا بأْسَ أنْ يَبيعَه بالكيلِ الأوَّلِ) ((معالم السنن)) (3/137)، ويُنظَر: ((بداية المجتهد)) لابن رشد (3/224).
الأدلَّةُ:
أوَّلًا: منَ السُّنَّةِ
1- عن عُثمانَ رَضيَ اللهُ عنه قال: ((كنتُ أبْتاعُ التَّمرَ مِن بَطنٍ منَ اليَهودِ يُقالُ لهم: بَنو قَيْنُقاعَ، وأَبيعُه برِبحٍ، فبلَغَ ذلك النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقال: يا عُثمانُ، إذا ابتَعْتَ فاكْتَلْ، وإذا بِعْتَ فكِ لْ)) أخرَجَه البُخاريُّ مُعلَّقًا بصِيغةِ التَّضْعيفِ قبلَ حديثِ (2126) المرفوعِ منه، وأخرَجَه من طرُقٍ مَوْصولًا ابنُ ماجهْ (2230) بنحوِه، وأحمدُ (444) واللَّفظُ له. صحَّحَه الألبانيُّ في ((صحيح سنن ابن ماجهْ)) (2230)، وحسَّنَه شُعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (444)، وصحَّحَ إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (1/220)، وحسَّنَه الهَيْثَمي في ((مجمع الزوائد)) (4/101). وقال ابنُ حجرٍ في ((تغليق التعليق)) (3/240): بمَجموعِ هذه الطُّرُقِ يُعرَفُ أنَّ للحديثِ أصْلًا.
2- عن طاوسٍ، عنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((مَنِ ابْتاعَ طَعامًا فلا يَبِعْه حتَّى يَكْتالَه ...)) أخرَجَه مسلمٌ (1525).
وَجهُ الدَّلالةِ منَ الحَديثَينِ:
الحَديثانِ فيهما دَلالةٌ على أنَّ مَنِ اشْتَرى طَعامًا بالكَيلِ أو بالوَزنِ، لا يجوزُ له أنْ يَبيعَه لآخَرَ حتَّى يَكيلَه مرَّةً أُخْرى، أو يَزِنَه يُنظر: ((السيل الجرَّار)) للشَّوْكاني (ص: 503)، ((فتح ذي الجلال والإكرام)) لابن عُثيمين (3/545).
ثانيًا: لأنَّ الإقْباضَ مُتعدِّدٌ في البَيعَينِ، ومِن شَرطِ صحَّتِه الكَيلُ؛ فلزِمَ تَعدُّدُ الكَيلِ يُنظر: ((مغني المحتاج)) للشربيني (2/74).
ثالثًا: لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما يَستحِقُّ على مَن له عليه الحقُّ قَبْضَه بالكَيلِ، والكَيْلانِ قدْ يقَعُ بيْنهما تَفاوُتٌ، فلم يجُزِ الاقْتصارُ على الكَيلِ الأوَّلِ يُنظر: ((مغني المحتاج)) للشربيني (2/74).
رابعًا: لاحْتِمالِ الغَلَطِ في الكَيلِ الأوَّلِ؛ إذ ربَّما يَنقُصُ أو يَزيدُ، فيَصيرُ التَّصرُّفُ في مالِ الغيرِ حرامًا يُنظر: ((مجمع الأنْهُر)) (2/80).

انظر أيضا: