الموسوعة الفقهية

المَبحَثُ الأوَّلُ: بَيعُ الثِّمارِ قبْلَ بُدوِّ صَلاحِها بُدوُّ الصَّلاحِ في الثِّمارِ: هو أنْ يَطِيبَ ويَصلُحَ للأكلِ، وبُدوُّه يَختلِفُ باختلافِ أجناسِه؛ فمِنها ما يكونُ بتَغيُّرِ طَعمِه، ومنها ما يكونُ بتغيُّرِ لَونِه كالثَّمرِ، قال العَدويُّ: ("قولُه: بأنْ يَحمَرَّ أو يَصفَرَّ" ويقومُ مَقامَ ذلك ظُهورُ الحلاوةِ في البلَحِ الخضراويِّ، وأمَّا بُدوُّه في نحْوِ العنبِ، والتِّين، والمِشمِش؛ فظهورُ الحلاوةِ، وفي المَوزِ بالتَّهيُّؤِ للنُّضجِ، وفي ذِي النَّورِ بانفتاحِه، كالورْدِ والياسمينِ، وفي البُقولِ، واللِّفتِ، والجزَرِ، والفُجلِ، والبَصلِ؛ بإطعامِها واستقلالِ وَرقِها إلى حالةٍ يَعرِفونها تَصلُحُ للقطعِ، وأمَّا البِطِّيخُ المعروفُ بالعَبْدِلَّاويِّ، والقاوونِ؛ فقِيل: بالاصفرارِ، وقيل: بالتَّهيُّؤِ له، وأمَّا الأخضرُ فبتَلوُّنِ لُبِّه بالسَّوادِ والحُمرةِ، وقصَبُ السُّكرِ فبُظهورِ حَلاوتِه، وأمَّا الجَوزُ واللَّوزُ فبأخْذِه في اليُبسِ، وأمَّا القُرْطم والبِرسيمُ فإذا بلَغَ أنْ يُرْعى دونَ فسادٍ، وأمَّا الفَقُّوسُ والخيارُ ونحوُهما فبانعقادِه)، ((حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني)) (2/168) ويُنظر: ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (4/466)، ((الإقناع)) للحجاوي (2/129، 130)


لا يجوزُ بَيعُ الثِّمارِ قبْلَ بُدوِّ صَلاحِها الحِكمةُ مِن النَّهيِ عن بَيعِ الثَّمرِ قبْلَ بُدوِّ صَلاحِه، هي خوْفُ تلَفِ الثَّمرةِ وحُدوثِ العاهةِ عليها قبْلَ أخْذِها. يُنظر: ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (4/461)، ((كشاف القناع)) للبُهُوتي (3/281). بشَرطِ التَّبقيةِ كأنْ يَشترِيَ شخصٌ مِن آخَرَ ثمرًا في نخْلِه لم يَبْدُ صَلاحُه، ويَشترِطَ المشتري على البائعِ أنْ يَبقى الثَّمرُ على النَّخلِ إلى أنْ يَبدُوَ صَلاحُه بأن يَحمَرَّ أو يَصفَرَّ. ، ويجوزُ بشَرطِ القطعِ كأنْ يَشترِيَ شَخصٌ مِن آخَرَ ثمرًا في نخْلِه لم يَبْدُ صَلاحُه، بشَرطِ أنْ يُقطَعَ الثَّمرُ مِن النَّخلِ بعْدَ شِرائه فورًا. إذا كان يُنتفَعُ بها بَيعُ الثَّمرِ قبْلَ بُدوِّ صَلاحِه بشَرطِ قطْعِه يجوزُ فيما إذا كان يُنتفَعُ بالمقطوعِ منه، كاللَّوزِ والبلَحِ والمِشمِش، وأمَّا ما لا مَنفعةَ فيه -كالجَوزِ والكُمَّثْرى- فلا يَصِحُّ بيعُه بشَرطِ القطعِ. يُنظر: ((المبسوط)) للسَّرَخْسي (12/167)، ((شرح الزرقاني على مختصر خليل)) (5/334)، ((روضة الطالبين)) للنَّوَوي (3/655)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (3/281). ، وذلك باتِّفاقِ المذاهبِ الفِقهيَّةِ الأربعةِ: الحنَفيَّةِ ((المبسوط)) للسَّرَخْسي (12/167)، ((البحر الرائق)) لابن نُجيم (5/325،324)، ((شرح مختصر الطحاوي)) للجَصَّاص (3/ 50)، ((الدر المختار وحاشية ابن عابدين)) (4/555). ، والمالكيَّةِ أجاز المالكيَّةُ إذا كان بشَرطِ القطعِ بثَلاثةِ شُروطٍ: أنْ يكونَ مُنتفَعًا به، وأنْ يَحتاجَ له المتبايعانِ أو أحدُهما، وألَّا يَتمالأَ أكثرُ أهلِ البلدِ على قطْعِه. ((شرح الزرقاني على مختصر خليل)) (5/335،334)، ((الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي)) (3/176)، ((منح الجليل)) لعُلَيش (5/289). ، والشَّافعيَّةِ ((فتح العزيز)) للرَّافعي (9/58، 59)، ((روضة الطالبين)) للنَّوَوي (3/655)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (8/88، 89). ، والحنابِلةِ ((الإنصاف)) للمرداوي (5/53)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (3/281). ، وحُكِي الإجماعُ على ذلك قال ابنُ العرَبيِّ: (أمَّا أنْ يكونَ بشَرطِ التَّبقيةِ، فهو باطلٌ إجماعًا، مَبنيًّا على قاعدةِ الغرَرِ والجهالةِ) ((المسالك في شرح موطأ مالك)) (6/73). وقال ابنُ قُدامةَ: (إنِ اشتَراها على القطعِ، جاز. لا يَخلُو بيعُ الثَّمرةِ قبْلَ بُدوِّ صَلاحِها مِن ثلاثةِ أقسامٍ؛ أحدُها: أنْ يَشترِيَها بشَرطِ التَّبقيةِ، فلا يَصِحُّ البيعُ إجماعًا... القسمُ الثَّاني: أنْ يَبيعَها بشَرطِ القطعِ في الحالِ، فيَصِحُّ بالإجماعِ) ((المغني)) (4/63). وقال النَّوويُّ: (إنْ باعَها بشَرطِ التَّبقيةِ فالبيعُ باطلٌ بالإجماعِ) ((شرح صحيح مسلم)) (10/181) وقال أيضًا: (لا يجوزُ بيعُ الثِّمارِ مُطلَقًا، ولا بشَرطِ الإبقاءِ، ويجوزُ بشَرطِ القطعِ بالإجماعِ) ((روضة الطالبين)) (3/553). وقال ابنُ تَيميَّةَ: (بيعُ الزَّرعِ بشَرطِ التَّبقيةِ لا يجوزُ باتِّفاقِ العُلماءِ) ((مجموع الفتاوى)) (29/477). وحُكي في ذلك خِلافٌ عن بعضِ العُلماء؛ قال ابنُ عبْدِ البرِّ: (رُوِي عن الثَّوريِّ وابنِ أبي لَيْلى أنَّه لا يجوزُ بَيعُ الثِّمارِ قبْلَ بُدوِّ صَلاحِها على كلِّ حالٍ مِن الأحوالِ، اشتُرِطَ قطْعُها أو لم يُشترَطْ، والأوَّلُ أشهَرُ عنْهما؛ أنَّه جائزٌ بَيعُها على القطْعِ) ((الاستذكار)) (6/310). وقال ابنُ رُشدٍ: (أمَّا بيعُها قبْلَ الزَّهوِ بشَرطِ التَّبقيةِ، فلا خلافَ في أنَّه لا يجوزُ إلَّا ما ذكَرَه اللَّخْميُّ مِن جَوازِه، تَخريجًا على المذهَبِ) ((بداية المجتهد)) (3/168). وقال ابنُ حَجرٍ: (اختُلِفَ في ذلك على أقوالٍ؛ فقِيل: يَبطُلُ مُطلَقًا، وهو قولُ ابنِ أبي لَيلى والثَّوريِّ، ووَهِمَ مَن نقَلَ الإجماعَ على البُطلانِ، وقيل: يَجوزُ مُطلَقًا ولو شرَطَ التَّبقيةَ، وهو قولُ يَزيدَ بنِ أبي حَبيبٍ، ووَهِمَ مَن نقَلَ الإجماعَ فيه أيضًا، وقيل: إنْ شرَطَ القطعَ لم يَبطُلْ، وإلَّا بَطَل، وهو قولُ الشَّافعيِّ وأحمدَ والجُمهورِ، وروايةٌ عن مالكٍ) ((فتح الباري)) (4/394). ويُنظر: ((المحلى)) لابن حزم (7/338).
الأدلَّةُ:
أولًا: مِن السُّنَّةِ
عن أنسٍ رَضِي الله عنه قال: ((إنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَهى عن بَيعِ الثَّمرةِ حتَّى تُزْهِيَ. قالوا: وما تُزْهِي؟ قال: تَحمَرُّ. فقال: إذا مَنَع اللهُ الثَّمرةَ، فبِمَ تَستحِلُّ مالَ أخيكَ؟! )) أخرجه البخاري (2208) باختلاف يسير، ومسلم (1555) واللفظ له.
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّهيَ عن بَيعِ الثَّمرةِ حتَّى تَزْهُوَ إنَّما هو خَوفًا مِن تَلَفِ الثَّمرةِ، وحُدوثِ العاهةِ عليها قبْلَ أخْذِها؛ وهذا مَأمونٌ فيما يُقطَعُ، فصَحَّ بَيعُه كما لو بَدا صَلاحُه يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (4/63).
ثانيًا: لأنَّه إذا اشتَرَط التَّبقيةَ ربَّما تَلِفَت الثَّمرةُ قبْلَ إدراكِها، فيكونُ البائعُ قدْ أكَلَ مالَ أخيهِ بالباطلِ، كما جاءت به الأحاديثُ، وأمَّا إذا شَرَطَ القطعَ فقدِ انتَفى هذا الضَّررُ يُنظر: ((شرح صحيح مسلم)) للنَّوَوي (10/181).
ثالثًا: لأنَّ البيعَ بشَرطِ التَّبقيةِ شَغْلٌ لملْكِ البائعِ؛ لأنَّه لا يَتمكَّنُ مِن ترْكِ الثَّمرِ إلَّا بإعارةِ الشَّجرةِ والأرضِ، وهما ملْكُ البائعِ يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (5/173).

انظر أيضا: