الموسوعة الفقهية

المَطْلَبُ الثَّاني: حُكْمُ بَيْعِ الاستِجرارِ


يَجوزُ بَيْعُ الاستِجرارِ وله صُوَرٌ عِدَّةٌ؛ فصُوَرُه عندَ الحَنفيَّةِ كالآتي: الأُولى: أنْ يَأخُذَ الإنسانُ مِن البيَّاعِ ما يَحتاجُ إليه شَيئًا فشَيئًا ممَّا يَستهْلِكُ عادةً، مع جَهالةِ الثَّمنِ وقْتَ الأخْذِ، ثمَّ يُحاسِبَه بعْدَ ذلك، وهذا خِلافُ القياسِ، لكنَّه جائزٌ عِندَهم. الثَّانيةُ: أنْ يَأخُذَ ما يَحتاجُ إليه شَيئًا فشَيئًا، مع العِلمِ بالثَّمنِ وقْتَ الأخذِ، ثمَّ يُحاسِبَه بعْدَ ذلك، وهذا أيضًا جائزٌ عندهم. الثَّالثةُ: أنْ يَدفَعَ الإنسانُ إلى البيَّاعِ مَبلَغًا مِن المالِ، ويقولَ له: اشْتَريْتُ منكَ مائةَ رِطلٍ مِن خُبزٍ -مَثلًا-، ثمَّ يَأخُذَ كُلَّ يومٍ خَمْسةَ أرطالٍ. وهذا البَيْعُ فاسدٌ عندهم، وما أُكِلَ فهو مَكروهٌ؛ وذلك لجَهالةِ المَبيعِ. الرَّابعةُ: أنْ يَدفَعَ الإنسانُ الدَّراهمَ للبيَّاعِ دونَ أنْ يقولَ له: اشتَرَيْتُ، ثمَّ يَأخُذَ كُلَّ يومٍ خَمسةَ أرطالٍ ولا يَعلَمُ ثَمَنَها. فهذا لا يَنعقِدُ عِندهم بَيعًا بالتَّعاطي؛ لجَهالةِ الثَّمنِ. يُنظر: ((حاشية ابن عابدين)) (4/516)، ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (9/44). وصُوَرُه عندَ المالكيَّةِ كالآتي: الأُولى: أنْ يَضَعَ الرَّجلُ عندَ البيَّاعِ مَبلَغًا مِن المالِ، ثمَّ يَأخُذَ منه بجُزءٍ مَعلومٍ مِن المبْلغِ سِلْعةً مَعلومةً؛ فهذا جائزٌ عندهم. الثَّانيةُ: أنْ يَضَعَ الرَّجلُ عندَ البيَّاعِ مَبلَغًا مِن المالِ، ويقولَ له: آخُذُ به منكَ كذا وكذا مِن التَّمرِ، أو كذا وكذا مِن اللَّبَنِ، أو غيرَ ذلك، يُقدِّرُ معه فيه سِلْعةً، ويُقدِّرُ ثَمَنَها قَدْرًا ما، ويَترُكُ ذلك حالًّا يَأخُذُه مَتى شاءَ أو يُؤقِّتُ له وقتًا ما، وهذا أيضًا جائزٌ عندهم. الثَّالثةُ: أنْ يَترُكَ عِنده في سِلْعةٍ مُعيَّنةٍ أو غيْرِ مُعيَّنةٍ، على أنْ يَأخُذَ منها في كُلِّ يومٍ بسِعرِه عقْدًا على ذلك يَبِيعُها؛ فإنَّ ذلك غيرُ جائزٍ عِندهم؛ لأنَّ ما عَقَدا عليه مِن الثَّمنِ مَجهولٌ. يُنظر: ((المنتقى شرح الموطأ)) للباجي (5/15)، ((مواهب الجليل)) للحطَّاب (6/516)، ((مِنَح الجليل)) لعُلَيش (5/384). وعندَ الشَّافعيَّةِ له صُورتانِ: الأُولى: أنْ يقولَ الإنسانُ للبيَّاعِ: أعْطِني بكذا لَحْمًا أو خُبزًا -مثلًا-، فيَدفَعَ إليه مَطلوبَه فيَقبِضَه ويَرضى به، ثمَّ بعْدَ مُدَّةٍ يُحاسِبُه ويُؤدِّي ما اجتَمَعَ عليه، فهذا يَصِحُّ عندَ مَن يُجوِّزُ بَيْعَ المعاطاةِ كالغَزاليِّ. الثَّانيةُ: أنْ يَأخُذَ الإنسانُ مِن البيَّاعِ ما يَحتاجُه شَيئًا فشَيئًا، ولا يُعطِيَه شيئًا، ولا يَتلفَّظَا ببَيعٍ، بلْ نَوَيَا أخْذَه بثَمنِه المُعتادِ، ويُحاسِبه بعْدَ مُدَّةٍ ويُعْطِيه، كما يَفعَلُ كَثيرٌ مِن النَّاسِ، وهذا البَيْعُ باطلٌ عندَ الشَّافعيَّةِ، وأجازهُ الغَزاليُّ. يُنظر: ((حاشية الشَّرواني على تحفة المحتاج لابن حجر)) (4/217)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (3/375)، ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (9/44). ، نصَّ عليه الحَنَفيَّةُ   ((حاشية ابن عابدين)) (4/516). ، والغَزاليُّ مِن الشَّافِعيَّةِ ((حاشية الشرواني على تحفة المحتاج)) (4/217)، ((نهاية المحتاج للرملي وحاشية الشَّبراملَّسي)) (3/375). ، ودلَّ عليه كَلامُ المالِكيَّةِ ويُسمَّى عندَ المالكيَّةِ: بَيْعةَ أهلِ المدينةِ. ((مواهب الجليل)) للحطاب (6/516)، ((مِنَح الجليل)) لعُلَيش (5/384). ، وهو رِوايةٌ عن أحمَدَ هذه المسألةُ مَبنيَّةٌ عندَ الحنابِلةِ على البَيْعِ بسِعرِ السُّوقِ. ((الإنصاف)) للمرداوي (4/224)، وينظر: ((مسائل الكَوْسَج)) (1909)، ((مسائل أبي داود)) (1269)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (4/103). ، واخْتارَه ابنُ تَيمِيَّةَ نَسَب ابنُ القيِّمِ والمَرْداويُّ هذا القولَ لابنِ تَيميَّةَ. يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (4/5)، ((الإنصاف)) للمرداوي (4/224). ، وابنُ القَيِّمِ قال ابنُ القيِّمِ: (اختَلَف الفُقهاءُ في جَوازِ البَيْعِ بما يَنقطِعُ به السِّعرُ مِن غيرِ تَقديرِ الثَّمَنِ وقْتَ العقْدِ، وصُورتُها: البَيْعُ ممَّن يُعامِلُه مِن خبَّازٍ، أو لَحَّامٍ، أو سَمَّانٍ، أو غيرِهم؛ يَأخُذُ منه كُلَّ يومٍ شَيئًا مَعلومًا، ثمَّ يُحاسِبُه عندَ رأْسِ الشَّهرِ أو السَّنةِ على الجميعِ، ويُعطِيه ثَمَنَه؛ فمَنَعَه الأكثرونَ، وجَعَلوا القبْضَ به غيرَ ناقلٍ للمِلكِ، وهو قبْضٌ فاسدٌ يَجْري مَجْرى المقبوضِ بالغصْبِ؛ لأنَّه مَقبوضٌ بعقْدٍ فاسدٍ. هذا وكلُّهم -إلَّا مَن شَدَّد على نفْسِه- يَفعَلُ ذلك، ولا يَجِدُ منه بُدًّا، وهو يُفْتي ببُطلانِه، وأنَّه باقٍ على مِلكِ البائعِ، ولا يُمكِنُه التَّخلُّصُ مِن ذلك إلَّا بمُساوَمتِه له عندَ كُلِّ حاجةٍ يَأخُذُها، قلَّ ثَمَنُها أو كثُرَ، وإنْ كان ممَّن شرَطَ الإيجابَ والقبولَ لَفظًا؛ فلا بُدَّ مع المساوَمةِ أنْ يَقرِنَ بها الإيجابَ والقَبولَ لفْظًا. والقولُ الثَّاني -وهو الصَّوابُ المقطوعُ به، وهو عمَلُ النَّاسِ في كُلِّ عصْرٍ ومِصرٍ-: جَوازُ البَيْعِ بما يَنقطِعُ به السِّعرُ، وهو مَنصوصُ الإمامِ أحمَدَ، واختارَه شَيخُنا، وسَمِعتُه يقولُ: هو أطيَبُ لقلْبِ المشْتري مِن المساوَمةِ؛ يقولُ: لي أُسوةٌ بالنَّاسِ، آخَذُ بما يَأخُذُ به غيَري، قال: والَّذين يَمنَعون مِن ذلك لا يُمكِنُهم تَرْكُه، بلْ هم واقِعون فيه، وليْس في كِتابِ اللهِ، ولا سُنَّةِ رَسولِه، ولا إجماعِ الأُمَّةِ، ولا قولِ صاحبٍ، ولا قياسٍ صَحيحٍ؛ ما يُحرِّمُه، وقدْ أجْمَعَت الأُمَّةُ على صِحَّةِ النِّكاحِ بمَهرِ المِثلِ) ((إعلام الموقعين)) (4/5).
وذلك للآتي:
أوَّلًا: لأنَّ غالبَ النَّاسِ يَعُدُّونه بَيعًا، والغالبُ أنْ يكونَ قدْرُ ثَمَنِ الحاجةِ مَعلومًا لهما عندَ الأخْذِ والعَطاءِ، وإنْ لم يَتعرَّضا له لَفْظًا يُنظر: ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (4/217).
ثانيًا: أنَّه ليْس في كِتابِ اللهِ، ولا سُنَّةِ رَسولِه، ولا إجماعِ الأُمَّةِ، ولا قَولِ صاحبٍ، ولا قِياسٍ صَحيحٍ؛ ما يُحرِّمُه يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (4/5).
ثالِثًا: قِياسًا على صِحَّةِ النِّكاحِ بمَهرِ المِثلِ، وهو مُجمَعٌ عليه يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (4/5).
رابعًا: غايةُ البَيْعِ بذلك أنْ يكونَ بَيعُه بثَمَنِ المِثلِ، فيَجوزُ كما تَجوزُ المعاوَضةُ بثَمَنِ المِثلِ يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (4/5).

انظر أيضا: