الموسوعة الفقهية

المَبْحَثُ الرَّابعُ: اشتِراطُ مَنفَعةٍ لأحَدِ البائِعَينِ في البَيعِ كأن يَبيعَ شَخصٌ سَيَّارَتَه ويَشتَرِطَ رُكوبَها إلَى مَكانٍ مُعَيَّنٍ، أو يَبيعَ شَخصٌ بيتَه ويَشتَرِطَ سُكناه مُدَّةً مَعلومةً، أو يَكونَ الِاشتِراطُ مِن قِبَلِ المُشتَري كأن يَشتَريَ حَطَبًا ويَشتَرِطَ على البائِعِ حَملَه إلَى بيتِه، أو يَشتَرِطَ تَكسيرَه


يَصِحُّ اشتراطُ مَنفَعةٍ لأحَدِ البائِعَينِ في البَيْعِ، وهو مَذهَبُ المالِكيَّةِ اشتَرَطَ المالِكيَّةُ مُدَّةً مُعَيَّنةً لِلمَنفَعةِ، بِحَيثُ لا تَتَجاوَزُ المُدَّةُ بِالنِّسبةِ لِلدَّارِ سَنةً، والأرضِ عَشْرَ سَنَواتٍ، والحَيَوانِ ثَلاثةَ أيَّامٍ. ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (4/13)، ((الكافي)) لابن عبد البر (2/682)، ((منح الجليل)) لعُلَيش (7/466). ، والحَنابِلةِ قَيَّدَ الحَنابِلةُ جَوازَ الشَّرطِ الَّذي فيه نَفعٌ بِأن يَكونَ النَّفعُ مُباحًا مَعلومًا. ((الإنصاف)) للمرداوي (4/ 248)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/79). ، ووَجْهٌ للشَّافِعيَّةِ ((المجموع)) للنووي (9/369). ، وهو قَوْلُ طائفةٍ مِنَ السَّلَفِ قال ابنُ المُنذِرِ: (اختَلَفوا في الرَّجُلِ يَبيعُ الدَّابَّةَ ويَشتَرِطُ ظَهرَها إلَى مَكانٍ مَعلومٍ، أو وقتًا مَعلومًا. فقالت طائِفةٌ: البَيعُ جائِزٌ، والِاستِثناءُ ثابِتٌ. ومِمَّن أجاز ذلك: الأوزاعيُّ، وأحمَدُ، وإسحاقُ، وأبو ثَورٍ، وابنُ نَصرٍ، وأهلُ الحَديثِ، واحتَجَّوا بِحَديثِ جابِرٍ) ((الأوسط)) (10/318).     ، واختيارُ البُخاريِّ قال البُخاريُّ: (بابُ إذا اشتَرَطَ البائِعُ ظَهرَ الدَّابَّةِ إلَى مَكانٍ مُسَمًّى جازَ). ((صحيح البخاري)) (3/189). ، وابنِ المُنذِرِ قال ابنُ المُنذِرِ: (بِالسُّنَّة الثَّابِتةِ أقولُ، فلا يَحِلُّ لِمُسلِمٍ تَصِحُّ عِندَه سُنَّةٌ ثابِتةٌ عَن رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيَتَخَلَّفَ عَنِ القَولِ بِها. وكَذلك الدَّارُ تُباعُ ويُستَثنَى سَكَنُها وقتًا مَعلومًا. والعَبدُ يُباعُ ويُستَثنَى مِنه خِدمةٌ مَعلومةٌ، وكُلُّ ما ذَكَرناه فهوَ استِثناءُ مَنفَعةٍ مَعلومةٍ مِن غَيرِ مَعروفٍ تَنعَقِدُ عليها الإجاراتُ. وكُلُّ ما ذَكَرناه داخِلٌ في مَعنى خَبَرِ جابِرِ بْنِ عَبدِ اللهِ) ((الأوسط)) (10/319)، وينظر: ((المجموع)) للنووي (9/369). ، وابنِ تَيمِيَّةَ قال ابنُ تيميَّةَ: (يَجوزُ لِلبائِعِ أن يَستَثنيَ بعضَ مَنفَعةِ المَبيعِ، كخِدمةِ العَبدِ وسُكنَى الدَّارِ ونَحوِ ذلك إذا كانَت تِلكَ المَنفَعةُ مِمَّا يَجوزُ استِبقاؤَها في مِلْكِ الغَيرِ، اتِّباعًا لِحَديثِ جابِرٍ لَمَّا باعَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جَمَلَه واستَثنَى ظَهْرَه إلَى المَدينةِ) ((مجموع الفتاوى)) (29/134)، وينظر: ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيميَّةَ (4/80). ، وابنِ القَيِّمِ قال ابنُ القَيِّمِ: (يَجوزُ لِكُلِّ بائِعٍ أن يَستَثنيَ مِن مَنفَعةِ المَبيعِ ما لَه فيه غَرَضٌ صَحيحٌ، كما إذا باعَ عقَارًا واستَثثَى سُكناه مُدَّةً، أو دابَّةً واستَثنَى ظَهْرَها، ولا يَختَصُّ ذلك بِالبَيعِ، بل لَو وهَبَه [شَيئًا] واستَثنَى نَفعَه مُدَّةً، أو أعتَقَ عَبدَه واستَثنَى خِدمَتَه مُدَّةً، أو وقفَ عَينًا واستَثنَى غَلَّتَها لِنَفسِه مُدَّةَ حَياتِه) ((إعلام الموقعين)) (3/ 209). ، والصَّنعانيِّ قال الصَّنعانيُّ: (أنَّه يَصِحُّ البَيعُ لِلدَّابَّةِ واستِثناءُ رُكوبِها... اختَلَفَ العُلَماءُ في ذلك على أقوالٍ: الأوَّلُ: لِأحمَدَ أنَّه يَصِحُّ ذلك... وأظهَرُ الأقوالِ الأوَّلُ، وهوَ صِحَّةُ مِثلِ هَذا الشَّرطِ، وكُلُّ شَرطٍ يَصِحُّ إفرادُه بِالعَقْدِ، كإيصالِ المَبيعِ إلَى المَنزِلِ وخياطةِ الثَّوبِ وسُكنَى الدَّارِ، وقَد رَوَى عُثمانُ أنَّه باعَ دارًا واستَثنَى سُكناها شَهرًا) ((سبل السلام)) (3/8). ، وابنِ عُثَيمين قال ابنُ عُثَيمين: («ونَحوُ أن يَشتَرِطَ البائِعُ سُكنَى الدَّارِ شَهرًا» أي: إذا اشتَرَطَ البائِعُ سُكنَى الدَّارِ شَهرًا، فإنَّ هَذا شَرطٌ صَحيحٌ. وقَولُه: «الدَّار» أل فيها لِلعَهدِ الذِّهنيِّ، أيِ: الدَّارِ المَبيعةِ شَهرًا. مِثالُه: أن يَقولَ: بِعْتُكَ داري هذه بِمِائةِ ألفِ دِرْهَمٍ، على أن أسكُنَها لِمُدَّةِ شَهرٍ، فيَصِحُّ البَيعُ، ويَصِحُّ الشَّرطُ، والدَّليلُ على ذلك عامٌّ وخاصٌّ) ((الشرح الممتع)) (8/231).
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن جابِرٍ رَضِيَ الله عنهُ: أنَّهُ كانَ يَسيرُ على جَمَلٍ لهُ قد أعيا، فمَرَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فضَربَه فدعا له، فسارَ بَسيرٍ ليسَ يَسيرُ مِثلَه، ثُمَّ قال: ((بِعْنِيه بوَقيَّةٍ، قُلتُ: لا، ثُمَّ قال: بِعْنِيه بوَقيَّةٍ، فبِعْتُه، فاستَثنَيتُ حُملانَه إلى أهلي، فلَمَّا قَدِمْنا أتَيتُه بالجَمَلِ ونَقَدَني ثَمَنَه، ثُمَّ انصَرَفْتُ، فأَرسَلَ على إِثْري، قال: ما كُنتُ لآخُذَ جَملَك، فخُذْ جَمَلَك ذلك، فهو مالُك )) قال شُعبةُ عن مُغِيرةَ عن عامِرٍ عن جابِرٍ: أفقَرَني رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ظَهرَه إلى المَدينةِ أخرجه البخاري (2718) واللَّفظُ له، ومسلم (715).
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ جابِرًا استَثنى حُملانَ الجَمَلِ له إلى أهلِه، وهو بَعضُ مَنفَعةِ المَبيعِ، فلَم يُنكِرْه، بَل أجازَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولَم يُبطِلِ البَيعَ ينظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّةَ (29/ 133)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (3/209).
ثانيًا: لأنَّ أكثَرَ ما فيه تَأخيرُ تَسليمِه مُدَّةً مَعلومةً، فصَحَّ، كَما لو باعَه دارًا مُؤَجَّرةً ((كشاف القناع)) للبهوتي (3/190).
ثالِثًا: كمَن باعَ نَخلًا عليها ثَمَرةٌ غَيرُ مُؤَبَّرةٍ، واستَثنى البائِعُ الثَّمَرةَ لهُ، فإنَّهُ يَصِحُّ البَيعُ وتَبقى الثَّمَرةُ على النَّخلِ إلى أوانِ الجَذاذِ، وهَذا استِثناءٌ لمَنفَعةِ البَيعِ ((المجموع)) للنووي (9/378)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّةَ (20/545).
رابعًا: أنَّ الأصلَ في العُقودِ والشُّروطِ: الجَوازُ والصِّحَّةُ، ولا يَحرُمُ مِنها ويَبطُلُ إلَّا ما دَلَّ الشَّرعُ على تَحريمِه وإبطالِه نَصًّا أو قياسًا عِندَ مَن يَقولُ به ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّةَ (29/ 132).

انظر أيضا: