الموسوعة الفقهية

المَطْلَبُ الثَّاني: إبهامُ الثَّمَنِ في البَيعِ على وَجهِ التَّخييرِ بَعدَ افتِراقِ المُتَبايِعَينِ دونَ أن يُحَدِّدا أحَدَ الثَّمَنَينِ كأن يقولَ: بِعْتُك هذا الثَّوبَ بعَشَرةٍ نَقْدًا، أو بعِشْرينَ نَسيئةً إلى شَهرٍ، ثمَّ يتفَرَّقُ البائِعُ والمُشتري من المجلِسِ دون أن يحدِّدا أحَدَ الثَّمَنينِ


اختَلَف العُلَماءُ في حُكمِ إبهامِ الثَّمَنِ في البَيعِ على وَجهِ التَّخييرِ بَعدَ افتِراقِ المُتَبايِعَينِ دونَ أن يُحَدِّدا أحَدَ الثَّمَنَينِ فإذا حُدِّدَ الثَّمَنُ ببَيانِ أحَدِهما في المجلِسِ ورَضِيَ الآخَرُ، صَحَّ البَيعُ. على قَولَينِ:
القَولُ الأوَّلُ: لا يَصِحُّ البَيْعُ، وهو مَذْهَبُ الجُمهورِ وذهب المالِكيَّةُ إلى أنَّه لا يجوزُ إذا كان على وَجهِ اللُّزومِ، ويجوزُ إن كان على وَجهِ الاختيارِ؛ بأن يكونَ له الخيارُ في الأخذِ والتَّركِ. ينظر: ((مواهب الجليل)) للحطَّاب (6/228)، ((منح الجليل)) لعُلَيش (5/37). : الحَنَفيَّةِ ((المبسوط)) للسَّرَخْسي (5/158)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (5/303). ، والشَّافِعيَّةِ ((المجموع)) للنووي (9/338)، ((روضة الطالبين)) للنَّوَوي (3/399). ، والحَنابِلةِ ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (3/373)، ((الإنصاف)) للمرداوي (4/225). ، وهو قَوْلُ طائفةٍ مِنَ السَّلَفِ رُوِيَ عن الزُّهْريِّ، وقتادةَ، والحكَمِ، وحَمَّادٍ، وإبراهيمَ النَّخَعيِّ، والثَّوريِّ. ينظر: ((مصنف عبد الرزاق)) (8/137)، ((مصنف ابن أبي شيبة)) (4/307). ، وحُكي الإجماعُ على ذلك قال النَّوَويُّ: (فسَّر الشَّافِعيُّ وغَيرُه مِنَ العُلَماءِ البيعَتَينِ في بيعةٍ تَفسيرَينِ أحَدُهما أن يَقولَ: بِعتُكَ هَذا بعَشَرةٍ نَقدًا أو بعِشرينَ نَسيئةٍ، والثَّاني أن يَقولَ: بِعْتُكَه بمِائةٍ مَثَلًا على أنَّ تَبيعَني دارَكَ بكَذا وكَذا، وقَد ذَكَرَ المُصَنِّفُ التَّفسيرَينِ في الفَصلِ الَّذي بَعدَ هَذا، وذَكرَهما أيضًا في التَّنبيهِ وذَكرَهما الأصحابُ وغَيرُهم، والأوَّلُ أشهَرُ، وعلى التَّقديرَينِ البَيعُ باطِلٌ بالإجماعِ) ((المجموع)) (9/338).
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن أبي هُرَيرةَ قال: ((نَهى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن بَيْعَتَينِ في بيعةٍ )) أخرجه الترمذي (1231)، والنسائي (4632)، وأحمد (9584). قال الترمذي: حسنٌ صحيح. وصَحَّحه ابنُ عبد البر في ((الاستذكار)) (5/458)، وابن العربي في ((القبس)) (2/842)، والنووي في ((المجموع)) (9/338)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (6/496)، وقال الألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (4632): حَسَنٌ صَحيحٌ، وحسَّنه الوادعي في ((الصحيح المسند)) (1383).
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ إبهامَ الثَّمَنِ يَدخُلُ في مَعنى بَيْعَتَينِ في بَيعةٍ، وهو مَنهيٌّ عنه ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (3/373).
ثانيًا: مِنَ الآثارِ
عنِ ابنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: (لا تَصلُحُ الصَّفقَتانِ في الصَّفقةِ؛ أن يَقولَ: هو بالنَّسيئةِ بكَذا وكَذا، وبِالنَّقدِ بكَذا وكَذا) أخرجه عبد الرزاق (14633) واللَّفظُ له، وابن أبي شيبة (20828) باختلاف يسير، والشاشي في ((المسند)) (294) مختصرًا. وأخرجه أحمد (3725) بلفظ: (لا تصلُحُ صَفقتانِ في صَفقةٍ)، والبزار (2016) بلفظ: "لا يصلُحُ"، وابن حبان (5025) بلفظ: "لا تَحِلُّ". صَحَّحه ابنُ حبان، وصَحَّحه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (3725)، وصَحَّح إسناده أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (5/274)، والألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (5/420).
ثالثًا: لأنَّ الثَّمنَ غَيرُ مَعلومٍ فلَم يَصِحَّ، كَما لو قال: بِعْتُك أحَدَ هَذَينِ ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (3/373، 374).
القَولُ الثَّاني: يَصِحُّ البَيْعُ، وهو وَجْهٌ مُخرَّجٌ للحَنابِلةِ نُسب تخريجه لأبي الخطاب، قال برهان الدين ابن مفلح: (وإن قال: بِعْتُك بعَشَرةٍ صِحاحًا، أو إحدى عَشْرةَ مُكسَّرة، أو بعشرةٍ نَقدًا، أو عشرينَ نَسيئةً، لم يصِحَّ... "ويحتمل أن يصِحَّ"، هذا تخريج لأبي الخطابِ) ((المبدع)) (4/34)، وينظر: ((الإنصاف)) للمرداوي (4/225). ، وهو اختيارُ ابنِ القَيِّمِ قال ابنُ القَيِّمِ: (قَد تَدعو الحاجةُ إلَى أن يَكونَ عَقْدُ الإجارةِ مُبهَمًا غَيرَ مُعَيَّنٍ، فمِثالُه أن يَقولَ لَه: إن رَكِبْتَ هذه الدَّابَّةَ إلَى أرضِ كذا فلَكَ عَشَرةٌ، وإنّْ رَكِبْتَها إلَى أرضِ كذا فلَكَ خَمسةَ عَشَرَ، أو يَقولَ: إنْ خِطْتَ هَذا القَميصَ اليَومَ فلَكَ دِرْهمٌ، وإنْ خِطْتَه غَدًا فنِصفُ دِرهَمٍ، وإنْ زَرَعْتَ هذه الأرضَ حِنْطةً فأُجرَتُها مِائةٌ، أو شَعيرًا فأُجرَتُها خَمسونَ، ونَحوَ ذلك؛ فهَذا كُلُّه جائِزٌ صَحيحٌ، لا يَدُلُّ على بُطلانِه كِتابٌ ولا سُنَّةٌ ولا إجماعٌ ولا قياسٌ، بَل هذه الأدِلَّةُ تَقتَضي صِحَّتَه، وإن كانَ فيه نِزاعٌ مُتَأخِّرٌ، فالثَّابِتُ عَنِ الصَّحابةِ الَّذي لا يُعلَمُ عَنهم فيه نِزاعٌ جَوازُه، كما ذَكَرَه البُخاريُّ في صَحيحِه عَن عُمرَ أنَّه دَفَعَ أرضَه إلَى مَن يَزرَعُها، وقال: إنْ جاءَ عُمَرُ بالبَذرِ مِن عِندِه فلَه كذا، وإن جاؤوا بالبَذرِ فلَهم كذا، ولَم يُخالِفْه صَحابيٌّ واحِدٌ، ولا مَحذورَ في ذلك، ولا خَطَرَ، ولا غَرَرَ، ولا أكْلَ مالٍ بالباطِلِ، ولا جَهالةَ تَعودُ إلَى العَمَلِ ولا إلَى العِوَضِ، فإنَّه لا يَقَعُ إلَّا مُعَيَّنًا، والخِيرةُ إلَى الأجيرِ؛ أيَّ ذلك أحَبَّ أن يَستَوفيَ فَعَلَ، فهوَ كما لو قال له: أيَّ ثوبٍ أخَذْتَه مِن هذه الثِّيابِ فقيمَتُه كذا، أو أيَّ دابَّةٍ رَكِبْتَها فأُجرَتُها كذا، أو أجرةُ هذه الفَرَسِ كذا وأجرةُ هَذا الحِمارِ كذا، فأيَّها شِئتَ فخُذْه، أو ثَمَنُ هَذا الثَّوبِ مِائةٌ وثَمنُ هَذا مِائَتانِ، ونَحوُ ذلك مِمَّا لَيسَ فيه غَرَرٌ ولا جَهالةً ولا رِبًا ولا ظُلمٌ) ((إعلام الموقعين)) (3/445). ، ومُقتَضى قَولِ ابنِ تَيمِيَّةَ في جَهالةِ الثَّمَنِ قال ابنُ تيميَّةَ: (لو باع ولم يُسَمِّ الثَّمَنَ، صَحَّ بثَمَنِ المِثْلِ كالنِّكاحِ) ((الفتاوى الكبرى)) (5/387)، وينظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّةَ (29/344) ((الإنصاف)) للمرداوي (4/223).
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((كُنَّا مَعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في سَفَرٍ، فكُنتُ على بَكرٍ صَعبٍ لعُمَرَ، فكانَ يَغلِبُني، فيَتَقدَّمُ أمامَ القَومِ، فيَزجُرُه عُمَرُ ويَرُدُّه، ثُمَّ يَتَقدَّمُ فيَزجُرُه عُمَرُ ويَرُدُّه، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لعُمَرَ: بِعْنِيه. قال: هو لكَ يا رَسولَ اللهِ. قال: بِعْنِيه، فباعَه مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هو لكَ يا عَبدَ اللهِ بنَ عُمَرَ تَصنَعُ به ما شِئْتَ )) أخرجه البخاري (2115).
وَجْهُ الدَّلالةِ:
في الحَديثِ دَلالةٌ على أنَّه باعَه مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَيعًا مُطلَقًا، ولَم يُعَيِّن ثَمَنًا؛ فدَلَّ على صِحَّةِ البَيعِ المُطلَقِ بدونِ تَعيينِ الثَّمنِ ((نظرية العقد)) لابن تيميَّةَ (ص: 236). ، ومِن بابِ أَولى صِحَّةُ البَيعِ في التَّخييرِ بَينَ ثَمَنَينِ دونَ تَحديدِ أحَدِهما.
ثانيًا: أنَّ البَيعَ بهَذِه الصِّفةِ لا غَرَرَ فيه ولا جَهالةً؛ فإنَّه لا يَقَعُ إلَّا مُعَيَّنًا ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (3/445).

انظر أيضا: